أرشيف المقالات

أهل الحق بين الغابط والحاسد

مدة قراءة المادة : 27 دقائق .
أهل الحق بين الغابط والحاسد

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، والصلاة والسلام على سيد البشر، وشفيعهم في المحشر، وعلى آله وصحبه السادة الغرر.
 
أما بعد:
فوالله ما سمعت يومًا بعالم أو مُفتٍ، أو داعية أو مصلح، أو خطيب أو معلم، أو مثقف أو كاتب، قد جعل دينه عدته، وعقيدته زاده، في حله وترحاله، وقد يمم شطر الدعوة إلى الدين الحق والمنهج القويم براحلته، يلتمس نفع الخلق وهدايتهم، بكل ما أوتي من سبيل أو وجد من طريقة، باذلاً في ذلك الوسع كله، لا يلقي بالاً إلا لها، ولا ينتمي إلا إليها - إلا وغمرتني فرحة عارمة، واعترتني غبطة جامحة، له ولما حباه الله من نعمه العظيمة، فلا والله ما أدري أهذا شعور أنفردُ به أم أنه يشاركني فيه غيري، بل إنني أرى من نفسي أني لا أغبطه فحسب، بل إني لأغبط كل مكان ينزله، وكل حي يقطنه، وكل بيت يسكنه، بل وكل ركب يمر بهم، أو ثلة من الناس يعرج عليهم، وأتمنى لو أني وُلدت وعشت فيها، وأن فيها موتي ومدفني، وذهاب نفسي ومصرعي.
 
ولست بهذا القول أؤسس لمنهج التقديس، أو التقليد التعيس، كما أنني مع هذا لم آتِ ببدع من القول أو الفعل، لكن هدفي من هذا أمران اثنان، وأن أرسل رسالتين.
 
التمهيد:
وقبل أن أشرع في بيان ذَينِ الأمرين، وإرسال تَينِك الرسالتين، لا بد من مقدمة يسيرة، تمهيدية لطيفة، نستفتحها مع الرسول الكريم، والمبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وآله وسلم، وأعني بذلك: ما رواه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها))[1].
 
ولك أن تتأمل معي - يا رعاك الله عز وجل - هذا الحديث جيدًا، وأن تعيد النظر فيه مليًّا، بنظر ثاقب، وعقل واعٍ.






فألقِ نحو ما أقول السمعا
واجمع حواشي الكلمات جمعا






 
الحسد:
من المعلوم والمتقرر أن من الذنوب العظيمة، والمآثم الكبيرة، التي تأتي على الحسنات فتذرها قاعًا صفصفًا: الحسد.
 
قال بعض الحكماء[2]: بارَز الحاسد ربَّه من خمسة أوجه:
أحدها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره.
ثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة؟!
ثالثها: أنه ضادَّ فعل الله عز وجل؛ أي: إن فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله عز وجل.
ورابعها: أنه خذل أولياء الله عز وجل، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم.
وخامسها: أنه أعان عدوه إبليس.
 
وهو والله داء وبيل، ومرض من أمراض النفس خطير، وغالب فلا يكاد يخلص منه إلا القليل من الناس؛ ولذلك قيل قديمًا[3]: ما خلا جسد من حسد، ولكن اللئيم يبديه، والكريم يخفيه.
 
وقال الحسن البصري: "ليس أحد من ولد آدم إلا وقد خلق معه الحسد، فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء"[4].
 
لفتة لطيفة:
ولهذا كان المعافى من الحسد على خير عظيم، وجانب من الفضل كبير، ألا ترى أن الرسول لما قال للصحابة رضي الله عنهم: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة))[5]، قال ذلك الصحابي رضي الله عنه - وهو يبين ما يراه سببًا لذلك -: "...
ما هو إلا ما رأيت، غير إني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّا - وفي رواية: غلاًّ - ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه"، ووافقه على ذلك عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما بل علق عليه بقوله: "هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نُطيق".
 
يقول ابن تيمية رحمه الله - عقب الحديث -: "فقول عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما له: "هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق" يشير إلى خلوه وسلامته من جميع أنواع الحسد"[6].
 
ثم ألا ترى معي أن الله عز وجل أثنى على الأنصار وزكّاهم، وبيّن عظيم ما امتن به عليهم من أعمالهم، فقال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]؟
 
ومعنى قوله عز وجل: ﴿ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً ﴾ [الحشر: 9]؛ أي: حسدًا وغيظًا[7].
 
فهذه - بالجملة - شهادة لهم على سلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، وكريم الطباع، وأنه لا يخامر نفوسهم، ولا يخالج صدورهم، تشوف إلى أخذ شيء مما أوتيه المهاجرون - قاله جماعة من السلف[8]، وجملة من المفسرين - كما أن فيها لهم شهادة أخرى يوحي إليها ظاهر النص، ويدل بمفهومه عليها، وهي أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات.
 
فانظر كيف نُهي عنه في كل حال، وذم في كل مقام، وحذر منه أيما تحذير، إلا أنه لما كان الأمر يتعلق بذين الأمرين كان القول مختلفًا تمامًا.
 
الحسد وأقسامه:
وللتحقيق في هذه المسألة، وزيادة التقرير؛ للخروج برؤية واضحة جلية، أقول:
لقد ذكر المحققون من أهل العلم أن الحسد هو: البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود[9]، أو تمني زوال النعمة عن مستحق لها - كما قال الحافظ ابن حجر[10]، والنووي[11] - سواء كانت نعمة دين أو دنيا[12]، وهو نوعان[13]:
النوع الأول: كراهة النعمة مطلقًا على الغير، وهذا هو الحسد المذموم، وهو معصية عظيمة، وكبيرة محرمة[14]، وهو مذموم شرعًا وعرفًا[15]، وبقدر تملّكه من صاحبه بقدر ما يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه في غيره، حتى يتمكن منه هذا الداء، الذي قد يستفحل معه، حتى إنه ليلتذ بزوال النعمة عنه، وهنا ومع أن هذا الحاسد الظالم يتمنى هذا الزوال، فإنه - وعند التأمل - لا يحصل له نفع مطلقًا بزوالها، بل لربما يعود الضرر إليه، إذ ﴿ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: 43]، ويعجبني هنا ما قاله عمر بن عبدالعزيز: "لم أرَ ظالمًا أشبه بالمظلوم من حاسد"، وقد نظم الشاعر هذا المعنى فقال:






قل للحسود إذا تنفّس طعنة
يا ظالمًا وكأنه مظلوم[16]






 
وهذا النوع هو الذي يعبر عنه بعض الناس بالحقيقي[17].
 
النوع الثاني: وهو الذي سماه بعض المحققين من أهل العلم بالغبطة، وهذا النوع هو الذي يعبر عنه بعضهم بالمجازي[18]، والذي قال القرطبي[19]: إنه يسمى - أيضًا - منافسة، مع أنه في نظري لا مشاحة في هذا والعبرة بالحقائق، ولقد سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسدًا كما نرى في الحديث المتقدم؛ ولذلك قال بعض أهل العلم[20]: إنه قد يوضع الحسد موضع الغبطة؛ لتقاربهما.
 
وهذا النوع عند التحقيق - وهو الشاهد في مقدمتنا تلك - حسد منافسة، وغبطة، الحامل عليه: علو همة صاحبه، وكبر نفسه، وحبه لخصال الخير، وطلبه للتشبه بأهل الفضل، والدخول في جملتهم، وأن يكون من السبّاقين إلى ذلك، وقد تُحدث له هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة، وهذه الغبطة في الخير محمودة محبوبة وجائزة[21]، مع ملاحظة أمر مهم - هنا - وهو: أن هذا الحاسد - من هذا النوع - يتمنى في نفسه أن يكون مثل المحسود – المغبوط - أو يفوقه، دون أن يتمنى زوال النعمة عن المحسود – المغبوط - بل إنه لربما كان محبًّا لمن يغبطه عارفًا لفضله، متمنيًا دوام نعمة الله عليه، بل لربما دعا له بظهر الغيب، وشتان بين الأمرين، وفرق كبير بين النوعين، والبون شاسع بين الفريقين[22].
 
وهنا آتي معكم لبيان الأمرين:
إذا تقرر هذا أقول: لا شك أن العالم أو المفتي أو الداعية أو المصلح أو الخطيب أو المعلم، ...
كل هؤلاء - جميعًا - هم الذين يمثلون صمام الأمان للأمة، وخطوط الدفاع الأولى ضد المعتدي، وهم أمنة للناس من الضلال والانحراف، وهم جميعًا - مجتمعين على الحق - باب موصد بين الناس والفتن، وهم التيجان على رأس الأمة، وهم قادتها وقدواتها، وهم أنفع الناس للناس، ولا تقوم الدنيا إلا بهم، ولا يعمر العالم إلا بمثلهم، وهم نقاوة الخلق، وأهل الحق، وهم أولياء الله المتقون، وجنده المفلحون، وحزبه الغالبون، الذين يميزون بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشاد والغي...
إلخ.
 
فالناس ينظرون إليهم من حولهم، ويرمقونهم بأبصارهم، بإحدى تلك النظرتين: إما نظرة الحاسد أو الغابط.
فالقسم الأول: (الحاسدون): وهم أولئك أصحاب القلوب المريضة، والنفوس العليلة، والنظرة السوداوية، أهل الغل والحسد، والمكر والحقد، والذين يبذلون الغالي رخيصًا للوقيعة بهم، والنيل منهم، وأذيتهم، وإظهار الشماتة بهم، ويتربصون بهم الدوائر، ودُّوا لو يغفلون؛ ليقرضوهم بألسنتهم قرضًا، ويفروهم بها فريًا.
 
وهم إلى ذلك يتفننون في حياكة المؤامرات، ونشر الشائعات، وجمع الصفوف، وتأليب الحشود، وضم كل ما يستطيعون من آلات التضليل، القديمة والحديثة، المرئية والمسموعة، والمقروءة إليهم، داعمين ذلك كله بكل التكنولوجيا المعاصرة التي تطولها أيديهم – وما أكثرها! - ويحلونه بالحقد الدفين الذي توارثوه من جدودهم وأسلافهم، وتواصوا به؛ السابق للاحق، ويدعمهم فيه كل منافق رعديد مسخ، فيتداعون جميعًا عليهم كأكلة حول قصعة، وهم ليس لهم بهم حاجة، إلا أن يخرسوهم ببتر ألسنتهم فيسكتون، أو القضاء عليهم لو يستطيعون.
 
وإني على يقين أن بعض من يقرأ عباراتي أو يجول بنظره في كلماتي، قد يقول بلسان حاله - ولربما مقاله -: إنها مبالغة وإرجاف، وتعدٍّ وإسفاف، لكني أقول أيها الأخ الفاضل، وأنت أيتها الأخت الفاضلة، إن كل هذه العبارات وهذه الكلمات – التي هي فيض من غيض، وقطرة من مطرة - لتقف واجمة عاجزة، عيية فاهية، أمام وصف وتجلية ما يصرحون به في كلماتهم، ويرشقونهم به من ألسنتهم، ويحيكون في مؤتمراتهم، ويبثّونه في إعلامهم، فكيف بما يخفونه في صدورهم، ويضمرونه في قلوبهم؟ والله إنه لأكبر، فيا رب سلِّم سلِّم، اللهم اكشف أسرارهم، واهتك أستارهم، والله حسيبهم، وحسيب أمثالهم.
 
والقسم الثاني: (الغابطون): وهم أولئك - جعلنا الله عز وجل وإياكم منهم - أصحاب القوب السليمة، والنفوس العلية، والهمم الأبية، أهل الوفاء الذين يعرفون لأهل الفضل فضلهم، وأهل الحق حقهم، يفرحون لفرحهم، ويحزنون لحزنهم، ولا يبالون بسخط مخالفيهم ومعانديهم؛ لأنهم يستعملون العفو والصفح فيما كان لنفوسهم، ويستعملون الانتصار والعقوبة فيما كان حقًّا لله عز وجل، وهذا كان خلق نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.
 
إذًا فنحن أمام أمرين اثنين:
الأول: أن من ذكرنا من العلماء وغيرهم قد اختاروا لأنفسهم سبيلاً، والتزموا طريقًا، وصاروا على منهج هم فيه ورثة لمن سبقهم من الأنبياء والصديقين والشهداء، فهل يظن ظانٌّ أو يتخيل متخيل أن يُستقبلوا وما جاؤوا به بالأحضان؟!
لا والله، لكن الأمر كما قال ورقة[23]، حين انطلقت خديجة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتت به ورقة بن نوفل - ابن عم خديجة - وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عمِّ، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزله الله عز وجل على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أومخرجيَّ هم؟! قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي[24].
 
وشاهدنا هنا قول ورقة: "لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي".
 
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في هذا ونحوه: "هذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة"[25].
 
إذًا فبقدر تمام الصدق والمتابعة والعمل منهم والإخلاص لما يعتقدونه ويدعون إليه، يكون العداء ويعظم الإيذاء.
 
الثاني: هناك في المقابل - وأنعم بهم وأكرم! - من يرمقونهم بعيونهم، فيتابعون حركاتهم وسكناتهم، وأقوالهم وأفعالهم، ويسعون إلى مجالسهم، ويحفدون إلى لقائهم، ويفرحون بكلامهم، وهم يدعون لهم في صلاتهم وسجودهم، وحتى في جوف الليل.
 
وهنا نبعث برسالتين اثنتين:
الرسالة الأولى: إلى أصحاب القسم الأول (الحاسدين):
لئن كنتم فرحتم بأفعالكم وأقوالكم، فلا تبالغوا في الفرحة؛ فإنها فرحة أيام، والأمر بعدها – ولا بد - إلى انقضاء، فأفيقوا من الوهم، وأحسنوا الإصغاء، فوالله وبالله وتالله إنَّ أحزانكم من بعدها ستطول؛ لأن الله عز وجل يقول – في الحديث القدسي -: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب))[26]، فهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، فأبشروا[27] وأمّلوا، فقريبًا: ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]، وأيَّ مرجع يرجعون، وإلى أي مصير يصيرون، فارتقبوا الغد، إنَّا وإياكم على موعد، وإنا مرتقبون.
 
وإياكم أن تَأمُلوا في آلهتكم الباطلة، وأزلامكم الكاذبة، وتطمئنوا إليها وإلى وعودها ومشروعاتها، فتغرقوا في الأحلام والأوهام، وانظروا لتعلموا، واذهبوا - لتحسسوا صدق الخبر - إلى أخبار أسلافكم من القرون السالفة، وقصص أمثالكم من الأمم الماضية.
 
الرسالة الثانية: إلى أصحاب القسم الثاني (الغابطين):
أتباع أصحاب أهل الحق والفضل من أولياء الله عز وجل المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، ورسالتي إليهم ليست تعليمًا - معاذ الله - ولئن قصدت هذا فقد ضللت وما أنا من المهتدين، ورحم الله عز وجل امرأ عرَف قدر نفسه[28]، وما هلك امرؤ عرف قدر نفسه، ولكنها رد جزء لما لهم من الحق علينا، وشد أزر في هذا الزمن الذي انقلبت فيه الرايات، وتبدلت الأحوال، والله المستعان، وستكون في جملة من العبارات:
الأولى: إياكم أن تخافوهم، ولو أجلبوا عليكم بخيلهم ورجلهم؛ فإن من أعظم ثمرات ولايته عز وجل إذهاب الخوف والحزن عن أوليائه؛ يقول عز وجل: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 62 - 64]، ويقول عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾ [فصلت: 30].
 
الثانية: أن من عظيم لطف الله عز وجل أن اقتضت حكمته - الكونية والشرعية - أن يقيض لهذه الأمة في كل زمان ومكان مَن يُجَدِّد لها دينها، ويعيدها إلى نبعها الصافي، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها))[29]، فهم يَنفُون عن كتاب الله تحريفَ الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
 
ولقد قيَّض الله لهذه الأمَّة كثيرًا من المُصلِحين والمجدِّدين الذين كان لهم أثَرٌ قويٌّ - بعدَ توفيق الله تعالى - في إحياء السنة وقمْع البدعة، ومحاربة الباطل وأهله، وهم الذين قصدهم الإمام المُبجَّل أحمد بن حنبل رحمه الله بقوله: "يدعون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويَصبِرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه! وكم من ضالٍّ تائهٍ قد هدَوْه! فما أحسن أثرَهُم على الناس، وأقبح أثرَ الناس عليهم!".
 
الثالثة: أن الله عز وجل جعَل الأسوة والقُدوة في خَلقه بعد الأنبياء والرسل رضي الله عنهم أتباعَهم من بعدهم، المخلصين للدِّين والرسالة، والطائعين لله عز وجل ولرسوله في المنشط والمكره، فهم مَصابيح الدُّجى إذا أظلمت الدنيا بالشُّبهات والشَّهوات، وهم دُعاة الحقِّ وأعداء الباطل، وسِيرتهم في الجهاد والنِّضال من أجْل إعلاء كلمة التوحيد في حياة الأمَّة معلومة، وهم من يُظهِرهم الله تعالى للحياة على حين فتور الإيمانِ ونُقصانه في قُلوب العباد، واستِيلاء الغفلة عليها، فيُجدِّد اللهُ بهم ما اندَثَرَ من الدِّين، ويصحِّح بهم المعتقد والإيمان في الله ورسوله واليوم الآخِر؛ حتى يتحقَّق في الناس توحيدُ الألوهيَّة لله عز وجل.
 
الرابعة: أن من توفيق الله عز وجل أنْ ييسِّر لأحد من خلقه الالتحاقَ بهم، واللحوق بركبهم، للتفقه في أشرف العلوم قدرًا، وأعظمها أجرًا، وأعمها فائدة، وأعلاها مرتبة؛ كي تملأ العيون نورًا، والقلوب سرورًا، والصدور انشراحًا.
 
ولقد كانت طريقة الرسل - من أوَّلهم نوح عليه السلام إلى آخِرهم محمد بن عبدالله صلَّى الله عليه وسلَّم - الدعوةَ إلى الله، وإخلاص العبادة له دون ما سواه، وكانوا في جدالٍ مرير مع قومهم، يَدعُونهم إلى الإيمان به وحدَه، وإلى دينه الخالص، ويُحذِّرونهم من عبادة الأصنام والأوثان، وكلٌّ منهم يقول لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].
 
الخامسة: أن المجتمع الإسلامي قد ابتُلِي - في الوقت الحاضر – بالكثير من الأمراض الاجتماعية والأخلاقية، والاقتصادية والسياسية، وفي الوقوف صفًّا واحدًا، وجنبًا إلى جنب، إلى جانب المعلمين والمصلحين دورٌ كبير في دفعها وردعها، والتقليل من انتشارها وتفاقُمها، وما نراه اليوم من معاداتهم جهل من المسلمين بدينهم، وتشبه منهم بالنُّظم والمبادئ والأفكار غير الإسلامية.
 
السادسة: إن مسؤوليات الإعلام الإسلامي كثيرة، وواجباته تحتِّم عليه أن يرتقي؛ ليأتي بكل ما ينفع المجتمع الإسلامي المعاصر ويأخذ بيده، ولن يتحقَّق ذلك إلاَّ إذا قامَت وسائل الإعلام الإسلامي بواجبها خير قيام، جنبًا إلى جنب مع العلماء والدعاة والمصلحين.
 
وختامًا: لقد تعرضت أمتنا الإسلامية عبر القرون - وما زالت - لغارات كثيرة من أعدائها؛ بقصد تشكيك أبنائها في عقيدتهم، ومسخ هويتهم، وحملهم على الانسلاخ من مبادئهم وقيمهم، وزعزعة ثقتهم بعلمائهم ودعاتهم، ولقد جاء الوقت الذي نفوت عليهم فيه ما يتمنون ويسعون إليه قبل فوات الأوان.
 
أسأل الله عز وجل أن يوفق المجتمعات المسلمة إلى ما يحب ويرضى من نصرة الحق والوقوف إلى صف أهله.
 
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



[1] رواه البخاري رقم: (1343،6722،6886) وبوب عليه - في بعضها -: باب: الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم رقم: (816).


[2] شرح النووي (6/ 97)، وفيض القدير للمناوي (3/ 125).


[3] ولا يصح حديثًا مرفوعًا، كما نص على ذلك غير واحد من علماء الحديث، ولا أعلم من هو قائله، وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 125)، فإنه ذكره ولم ينسبه لأحد.


[4] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (6/ 124)، والاستذكار (8/ 290) لابن عبد البر، وانظر: صيد الخاطر (ص: 548 - 549).


[5] رواه أحمد (3/ 166)، وغيره، قال المنذري: "وإسناده صحيح على شرط الشيخين؛ كما في الترغيب (4/ 13)، ووافقه الألباني.


[6] الفتاوى (10/ 119).


[7] انظر: التسهيل لعلوم التنزيل (3/ 157)، لابن جزي، الكشف والبيان (9/ 278)، لأبي إسحاق الثعلبي، وأيسر التفاسير لكلام العلي الكبير (5/ 308) للجزائري، وبحر العلوم (3/ 406)، للسمرقندي الحنفي، وتفسير الماوردي (5/ 505)، وتفسير القرطبي (18/ 23)، وتفسير القرآن العظيم (2/ 401)، لابن كثير، وتفسير الواحدي (1/ 1083)، والتفسير الميسر (10/ 84) لعدد من أساتذة التفسير تحت إشراف الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، وغيرها كثير.


[8] ومنهم الحسن البصري، وانظر: الفتاوى (31/ 156)، وأيسر التفاسير لكلام العلي الكبير (5/ 308) للجزائري.


[9] مجموع الفتاوى (10/ 111).


[10] فتح الباري (10/ 481).


[11] إلا أنه قال: "عن صاحبها"، بدلاً عن قول الحافظ: "عن مستحق لها"، رياض الصالحين (ص: 466).


[12] رياض الصالحين (ص: 466).


[13] إحياء علوم الدين (3/ 189)، وشرح النووي لمسلم (6/ 97).


[14] وأجمع على ذلك أهل العلم؛ كما في شرح مسلم (6/ 97) وغيره.


[15] إكمال المعلم شرح صحيح مسلم (3/ 103) للقاضي عياض.


[16] فتح القدير (5/ 742) للشوكاني، ونقله عنه - كالعادة - صديق خان في فتح البيان في مقاصد القرآن (5/ 461).


[17] كما فعل النووي في شرح مسلم (6/ 97).


[18] كما فعل النووي في شرح مسلم (6/ 97).


[19] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (7/ 77).


[20] هو ابن دقيق العيد.


[21] كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم، ومنهم: البغوي في معالم التنزيل (2/ 205)، والنووي في التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 104).


[22] انظر: بدائع الفوائد (3/ 344)، ومفتاح دار السعادة (1/ 62)، والفوائد (ص: 140)، والروح (252).


[23] وهو ممن نهينا عن سبه، ولي رسالة في السباب والشتام، ذكرت فيها من نهينا عن سبه، ومنهم: ورقة بن نوفل.


[24] رواه البخاري رقم: (3212، 4670، 4672، 4674، 6581)، ومسلم رقم: (160).


[25] الفتوى الحموية الكبرى (5/ 115 - الفتاوى).


[26] أخرجه البخاري (6137) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وللفائدة انظر: الصحيحة (4/ رقم: 1640).


[27] البشارة الإخبار بما يسوء، أمر معروف، قال الشنقيطي: "قد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، ومنه قول الشاعر:






وبشرتني يا سعد أن أحبتي
جفوني وقالوا الود موعده الحشر






وقول الآخر:






يبشرني الغراب ببين أهلي
فقلت له ثكلْتُك من بشير






والتحقيق أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء أسلوب من أساليب اللغة العربية، ومعلوم أن علماء البلاغة يجعلون مثل ذلك مجازًا، ويسمونه استعارة عنادية، ويقسمونها إلى تهكمية، وتمليحية، كما هو معروف في محله"؛ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 195 - 196).


[28] قال الشيخ محمد عمرو عبداللطيف رحمه الله: "ولا أعلم له أصلاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل هو أثر عن عمر بن عبدالعزيز لم أتحقق من صحته"؛ تكميل النفع بما لم يثبت به وقف ولا رفع (1/ 5).


[29] أخرجه أبو داود رقم: (4291)، والحاكم (4/ 522)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسكت عنه الحاكم، والذهبي، وقال الألباني: "السند صحيح رجاله ثقات رجال مسلم"، السلسلة الصحيحة (2/ 150) رقم: (599).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣