شرح سنن أبي داود [458]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة ... )

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء في إسبال الإزار.

حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن أبي غفار قال: حدثنا أبو تميمة الهجيميأبو تميمة اسمه: طريف بن مجالد - عن أبي جري جابر بن سليم قال: (رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: عليك السلام يا رسول الله! مرتين. قال: لا تقل: عليك السلام، فإن (عليك السلام) تحية الميت، قل: السلام عليك. قال: قلت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفراء -أو فلاة- فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك، قال: قلت: اعهد إلي. قال: لا تسبن أحداً. قال: فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة. قال: ولا تحقرن شيئاً من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك؛ إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه) ].

أورد أبو داود حادثة جابر بن سليم رضي الله عنه، وهي أنه رأى رجلاً يصدر الناس عن رأيه، أي يقومون بما يأمرهم به وبما يرشدهم إليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فجاء إليه حتى وصل إليه وقال: (عليك السلام يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقل: عليك السلام، فإن (عليك السلام) تحية الميت) والسلام يقدم على المدعو له، فيقال: السلام عليك، ولا يقال: عليك السلام.

وقوله: (تحية الميت) يعني: أن هذا هو الذي اعتادوه في أشعارهم؛ فإنهم يقدمون (عليك) على الدعاء بالسلام، فيقولون مثلاً: عليك سلام الله، أو عليك مني السلام وليس المعنى أن هذا هو المشروع في السلام على الأموات، بل السلام على الأموات كالسلام على الأحياء، يقدم الدعاء أولاً، ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (السلام عليكم أهل الديار)، عندما يذهب إلى البقيع، ولا يقول: عليكم السلام أهل الديار، فالسلام على الحي والميت فيه تقديم الدعاء على المُسَلَّم عليه.

فمعنى قوله: (عليك السلام تحية الموتى) أن هذا هو الذي اعتادوه وكانوا يفعلونه لا أنه سنة، أو مشروع في حق الأموات بل لقد جاءت السنة بتقديم الدعاء على المُسَلَّم عليه: (السلام عليكم أهل الديار)، (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) عندما يسلم الإنسان على الأحياء، ويسلم على الأموات كما يسلم على الأحياء.

فقوله: (إنها تحية الموتى) لا يدل على أن هذه سنة، وإنما هو إخبار بالذي قد حصل منهم وألفوه، في أشعارهم ومنها ما رثى به عبدة بن الطبيب قيس بن عاصم التميمي المنقري وهو من الصحابة المشهورين، وكان من عظماء الرجال، وقد قال فيه:

عليك سلام الله قيس بن عاصم

ورحمته ما شاء أن يترحما

ومنه قوله:

وما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدما

وهذا البيت الثاني عظيم يعني: يدل على عظم شأن الذي فُقِد، وقد صار هذا البيت كالمثل يتمثل به عندما يفقد شخص له شأن وله منزلة، ويكون موته خسارة كبيرة فادحة، فإنه يقال:

وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما

مثل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، ومثل الشيخ محمد بن عثيمين رحمة الله عليه، مثلها يصلح أن يقال فيه مثل هذا البيت؛ لأن موتهما مصيبة وخسارة كبيرة ونقص، وبه يتبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء).

قوله: [ (قلت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك) ].

لما سأله: (أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله) الذي من شأنه كذا وكذا، وذكر شيئاً من صفات الله عز وجل، فذكر أنه (إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك)؛ لأنه لا يكشف الضر إلا هو أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].

قوله: [ (وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك) ].

(عام سنة) يعني: جدب وقحط، فإذا كانت سنة مجدبة ودعي الله عز وجل فإنه هو الذي ينزل المطر وينبت النبات وهو الذي يستغاث به، وهو الذي يرجى، وهو الذي يدعى، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء وبيده كل الخير سبحانه وتعالى.

وإذا كنت بأرض فلاة أو قفراء يعني: مجدبة.

(فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك) يعني: أن كل شيء بيد الله عز وجل، فهو الذي يدعى، وهو الذي يرجى، والدعاء عبادة، والعبادة من حق الله عز وجل قال الله عز وجل: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدَاً [الجن:18]، وقال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وغير ذلك من الآيات التي فيها أن الدعاء إنما يكون لله عز وجل، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الدعاء هو العبادة).

قوله: (اعهد إلي) يعني: أوصني بوصية أستفيد منها وأعتمد عليها.

(قال: لا تسب أحداً) يعني: احفظ لسانك من السباب.

قوله: [ (قال: فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة) ].

أي أنه بعد هذا العهد وهذه الوصية ما سب إنساناً ولا حيواناً، وإنما حفظ لسانه، وهذا يدلنا على ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم من الانصياع لما يأتي عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، والاستسلام والانقياد وتنفيذ الشيء الذي يؤمرون به، فهم أحرص الناس على كل خير وأسبق الناس إلى كل خير، وهم القدوة وهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما عرف الناس حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.

قوله: (ولا تحقرن شيئاً من المعروف) ].

يعني: ولو كان يسيراً، فإن الشيء اليسير في موضعه وفي الحاجة الداعية إليه يكون كبيراً وعظيماً، وهذا فيه إشارة وحث على بذل الإحسان وبذل المعروف وألا يتقالَّ الإنسان الشيء الذي يخرجه وينفقه، فإن الشيء القليل ممن لا يملك الكثير يقع موقعه في حق من هو بحاجة إلى ذلك الشيء القليل، فلا يتهاون الإنسان، ويستسهل النفقة أو الصدقة ولو كان بالشيء اليسير؛ لأن الشيء اليسير ينفع الفقير الذي ليس بيده شيء، وليس عنده شيء، فالإنسان لا يتهاون في ذلك ولا يستهين بالشيء القليل ويقول: إن هذا لا يكفي؛ فالشيء القليل خير من لا شيء.

قوله: [ (وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك؛ إن ذلك من المعروف) ].

المعروف لا يكون خاصاً بإعطاء المال، وإنما يكون -أيضاً- بالمعاملة الطيبة؛ فكون الإنسان يكلم غيره وهو منطلق الوجه هذا من المعروف، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والكلمة الطيبة صدقة) يعني: صدقة من الإنسان على نفسه، وصدقة منه على غيره، فهي صدقة على نفسه؛ لأنه تكلم بكلام طيب، وصدقة منه على غيره؛ لأنه قابل غيره بكلام حسن طيب، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، يعني: يعطي ما تيسر، وإن لم يجد يرد بكلام طيب وبكلام حسن.

قوله: [ (وارفع إزارك إلى نصف الساق) ].

أي: أن الإزار لا يرفع مطلقاً، وإنما يكون حده الأعلى نصف الساق، ولا بأس بنزوله إلى ما فوق الكعبين، ولا يجوز نزوله عن الكعبين، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (ما أسفل من الكعبين فهو في النار).

قوله: [ (فإن أبيت فإلى الكعبين) ].

يعني: إلى ما دونهما، فلا يغطيهما بحيث يصل إليهما، بل يكونان مكشوفين، وقد وردت الأحاديث في النهي عن الإسبال، وكذلك ورد ما يدل على الكيفية المشروعة التي ينبغي أن يكون عليها الإزار أكثر مما جاء في القمص، وذلك لأن الإزار قد يسترخي، فإذا جعل إلى نصف الساق فذلك يعني أنه إذا نزل ينزل إلى منطقة سائغة، ولو جعل قريباً جداً من الكعبين فيمكن أن ينزل إذا استرخى فيغطي الكعبين ويقع في المحذور، بخلاف القميص؛ فإن الأصل في القميص أنه لا يسترخي لكونه مشدوداً بالكتفين، وإنما الذي قد ينزل الإزار.

وعلى هذا: فإن الإزار وكذلك القميص يكون في حدود هذه المسافة التي فوق الكعبين إلى نصف الساق.

قوله: [ (وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة) ].

الإسبال هو نزول الثوب عن الكعبين، والمخيلة: هي الخيلاء، وكون الإسبال من الخيلاء ليس بلازم ألا يصدق عليه النهي إلا مع الخيلاء، ولكنه من أسبابه الخيلاء، أو قد يحصل بسببه الخيلاء، وإلا فإنه قد يقع من إنسان بأن يسترخي إزاره مثلما حصل لـأبي بكر رضي الله عنه من غير قصد منه، ويتعاهده كلما نزل رفعه، ولكن لا يقال: إنه لا ينهى عنه إلا إذا كان القصد منه الخيلاء ويقول أحدهم: أنا ما أريد الخيلاء، إذاً: لا بأس أن أنزل عن الكعبين وأسبل في ثيابي!

فإن النهي عام، وأما ذكر المخيلة فمعناه أن ذلك مظنة الخيلاء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أسفل من الكعبين فهو في النار) وهذا يدلنا على أنه متى حصل الإسبال فسواء قصد الخيلاء أو لم يقصد ما دام أنه نازل عن الكعبين؛ فهو محرم وصاحبه آثم، لكنه يتفاوت فمن عنده هذا القصد السيئ أعظم جرماً ممن ليس عنده ذلك القصد، مع كونهما مشتركين في مطلق المخالفة.

والرسول صلى الله عليه وسلم عندما وجد رجلاً نزل إزاره قال له: (ارفع إزارك) ولم يقل: أنت تقصد الخيلاء أم لا؟ وهذا على يدل أنه كله حرام، وأنه لا يجوز، مع أنه متفاوت، فمن كان عنده قصد الخيلاء أخطر وأعظم وأشد ممن لم يقصد ذلك.

وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه في مرض موته كان الناس يأتونه ويعودونه، وجاءه شاب من الذين يعودونه فأثنى عليه وقال: هنيئاً لك يا أمير المؤمنين! صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم صحبت أبا بكر ، ثم وليت فعدلت.. وجعل يعدد مناقبه، فقال رضي الله عنه: وددت أن يكون ذلك كفافاً لا عليَّ ولا لي.

هو يعلم أنه من أهل الجنة، وله بيت في بشره أخبره به رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقول هذا الكلام، وهذا شأن أولياء الله الذين جمعوا بين الإحسان والخوف، أحسنوا ومع ذلك يخافون الله عز وجل، وقد قال الله عز وجل عن أوليائه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، فهم مع إحسانهم خائفون وجلون، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: وددت أن يكون ذلك كفافاً لا عليَّ ولا لي.

ثم إن الغلام ذهب وإذا ثوبه يمس الأرض، فقال: ردوا علي الغلام، ثم قال له: ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأبقى لثوبك. فأرشده إلى أن يرفع ثوبه وأخبره أن هناك فائدتين من وراء ذلك:

إحداهما: دنيوية، وهي كون الثوب يبقى ولا يتعرض للوسخ.

والثانية: دنيوية وأخروية، وهي التقوى؛ وتقوى الله عز وجل ثمراتها تكون في الدنيا والآخرة وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].

فأرشده إلى هذين الأمرين رضي الله عنه وأرضاه.

ثم إن هذا الإرشاد كان من عمر وهو في شدة وفي ضرر كبير، فما شغله ما هو فيه من الشدة عن أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا فيه رد على بعض الناس الذين إذا نبهوا إلى هذا -أو تحدث أحد بمثل هذا- صار يتكلم بكلمة غير حسنة مشهورة عند الناس، يقول: لباب وقشور! يعني: أن هذا من القشور وليس بمهم! وهذا غلط؛ فليس في الإسلام قشور، بل كله لباب، ولكنه متفاوت، والأوامر متفاوتة والنواهي متفاوتة؛ ولكن كل ذلك يعتبر لباباً مع حصول التفاوت، ولا يجوز أن يوصف شيء من الدين بأنه قشور، ومن جراء هذه المقولة السيئة تجد من الناس من إذا نبه على أمر قال: العبرة باللباب، وليس بالقشور!

ونحن نقول: الدين كله لباب ولا يوجد فيه قشور، ونسأله: عمر رضي الله عنه قال هذه المقالة متى؟ وهم يسقونه اللبن فيخرج من جوفه، ويسقونه الماء فيخرج من جوفه، أمعاؤه مقطعة رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك ما ثناه ما هو فيه من الشدة عن أن يأمر بمعروف وينهى عن منكر، وقال هذا لرجل أثنى عليه الثناء العظيم.

فالإسبال لا يجوز مطلقاً، لا بقصد الخيلاء ولا بدون قصد الخيلاء؛ ولكنه يتفاوت فالذي مع الخيلاء أشد، والذي بدون خيلاء لا شك أنه حرام وصاحبه آثم، ولكنه دون من يفعل ذلك خيلاء.

قوله: [ (وإن الله لا يحب المخيلة) ].

يعني: أنه لا يحب الخيلاء، ويكرهها ويبغضها.

قوله: [ (وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه) ].

أي: هو الذي يأثم مع أنه يحق لك أن تقتص منه وتقول له كلاماً يناسبه دون أن تزيد، لقول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126] فأشار إلى جواز الاقتصاص، وأرشد بعد ذلك إلى ما هو أولى من الاقتصاص وهو الصبر وعدم الاقتصاص، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشد هنا - فوافق معنى الآية- إلى ما هو الأولى وإلى ما هو الأفضل؛ ولكن كون الإنسان يعاقب بمثل ما عوقب به جاءت الشريعة بإباحته وأنه لا بأس به، ولكن تركه أولى، والإنسان إذا صفح وتجاوز وصبر يكون بذلك قد أحسن إلى نفسه وأحسن إلى غيره، فقد يرتدع الشاتم إذا سُكت عنه ولم يقابل، وإذا قوبل بشيء ليس فيه اعتداء؛ فإن ذلك سائغ.

تراجم رجال إسناد حديث ( وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة ... )

قوله: [ حدثنا مسدد ].

هو مسدد بن مسرهد البصري ، ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ حدثنا يحيى ].

هو يحيى بن سعيد القطان البصري ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي غفار ].

هو مثنى بن سعد ليس به بأس -يعني: صدوق-، أخرج له البخاري في الأدب المفرد أبو داود والترمذي والنسائي .

[ حدثنا أبو تميمة الهجيمي -واسمه ].

الشيخ: عن أبي تميمة الهجيمي -واسمه طريف بن مجالد - ].

وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ عن أبي جري جابر بن سليم ].

أبو جري جابر بن سليم رضي الله عنه صحابي أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي .

تحريم الإسبال في القميص والإزار

والقميص كالإزار لحديث ابن عمر موقوفاً: [ (ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص) ] ولكن الأحاديث وردت في الإزار أكثر؛ لأن فيه مجالاً للاسترخاء.

شرح حديث ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة .. )

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن أحد جانبي إزاري يسترخي، إني لأتعاهد ذلك منه. قال: لست ممن يفعله خيلاء) ].

أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة).

قوله: (ثوبه) لفظ الثوب واسع، يشمل الإزار وغير الإزار، والإزار: هو القطعة الواحدة تشد على وسط الجسد وتستر من وسط الجسد حتى قرب الكعبين، ويقال لها -أيضاً- ثوب، وكذلك القميص يقال له ثوب، وكلها مجموعة يقال لها: ثياب، سواءً كانت قميصاً أو إزاراً أو قطعة واحدة ليست إزاراً ولا رداءً.

وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) يدل على أن إسبال الثياب من الكبائر، وأنه خطير، وأنه إذا كان موصوفاً بهذا الوصف الذي هو الخيلاء فهو في غاية الخطورة، وإذا لم يكن بوصف الخيلاء -أو قصد الخيلاء- فإن ذلك حرام.

والأحاديث جاءت في النهي عن الإسبال على سبيل العموم؛ لكن جاء في بعضها بيان خطورة الإسبال مع الخيلاء، فدل ذلك على أن الإسبال بقصد الخيلاء فيه وعيد شديد، وأن الإسبال بدون قصد الخيلاء فيه وعيد، ولكنه دون الشيء الذي جاء فيه الخيلاء، وجاء في بعض الأحاديث العموم من غير تقييد، يعني: أن المسبل ذنبه كبير وجرمه عظيم، ولكن يشمل ما كان بخيلاء وما كان بغير خيلاء، وما كان فيه تقييد بالخيلاء يكون أخطر وأشد، وحديث ابن عمر فيه تقييد بالخيلاء.

وقوله: (لم ينظر الله إليه يوم القيامة) المقصود به أنه لا ينظر إليه نظر رحمة وإحسان، بل نظر غضب وسخط، فهذا من جنس الكلام الذي يأتي مضافاً أو منفياً عن بعض الناس يوم القيامة ويكون مثبتاً لهم في بعض المواضع، والمثبت غير المنفي كما في قوله: (ثلاثة لا يكلمهم يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم) فإن قوله: (لا يكلمهم) هذا نفي للتكليم الذي فيه رحمة وإحسان إليهم، وأما التكليم الذي فيه توبيخ وتقريع فهو ثابت في حقهم كما في قوله عز وجل: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فإن هذا كلام ولكنه كلام توبيخ وتقريع، وعلى هذا فالمنفي هو الذي يعود عليهم بالخير وهو الذي فيه إحسان إليهم ورحمة بهم، والذي فيه الإثبات هو الذي فيه توبيخ وتقريع لهم، فيكون النظر من هذا القبيل، فالنظر الذي فيه إحسان ورحمة بهم هو المنفي، ولا ينفي وجود نظر مع سخط وغضب، وعلى هذا فالمنفي المراد به ما كان من جنس الكلام المنفي.

قوله: (قال أبو بكر رضي الله عنه: إن أحد شقي إزاري يسترخي فأتعاهده) أبو بكر رضي الله عنه كان إزاره يسترخي من غير قصد منه، ومع ذلك فإنه يجذبه ويرفعه ويتعاهده بالرفع كلما نزل، وقد خشي أبو بكر أن يكون ممن يعنيهم هذا الكلام، فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: (أنت لست ممن يفعله خيلاء) أي: أنه يحصل منه بغير قصد سيئ، وليست فيه تلك النية السيئة.

تراجم رجال إسناد حديث ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة )

قوله: [ حدثنا النفيلي ].

هو عبد الله بن محمد النفيلي ، ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ حدثنا زهير ].

هو زهير بن معاوية ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا موسى بن عقبة ].

هو موسى بن عقبة المدني ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سالم بن عبد الله ].

هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبيه ].

هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله ( لم ينظر الله إليه )

أما تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (لم ينظر الله إليه) بـ(لم يرحمه) كما قال الحافظ ابن حجر فلا يقال: إن النفي يراد به نفي الرحمة؛ ولكنه من نتائجه ومن لوازمه عدم الرحمة.

النهي عن الإسبال خاص بالرجال دون النساء

وقوله: (من جر ثوبه ..) الحديث؛ لا يشمل النساء، فقد ورد في حقهن أنهن يرخين ثيابهن ويطلنها وراءهن، فدل ذلك على أن هذا خاص بالرجال، وليس ذلك في حق النساء؛ لأن المطلوب في حقهن الستر والتستر، ولهذا جاء الإذن لهن بإرخاء ذيولهن.

حكم القول بجواز الإسبال إذا كان بدون خيلاء

هناك من يقول: إن المذاهب الأربعة على جواز الإسبال من غير خيلاء، ولا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، فنقول:

أولاً: لا نعلم أن هذا الكلام الذي قيل صحيح، وأن هذا في المذاهب الأربعة؛ ولكن المسلم عليه أن يعول على الدليل، ومعلوم أن الدليل واضح في تحريم الإسبال، والأئمة الأربعة يوصون باتباع الدليل، ويحثون على اتباع الأدلة والأخذ بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام ما ذكر فرقاً بين أن يكون بقصد الخيلاء أو من غير قصد له، هناك فرق من ناحية شدة الجرم والذنب، لا أنه شيء سائغ بدون خيلاء غير سائغ معها.

والنبي صلى الله عليه وسلم عندما أرشد رجلاً إلى رفع ثوبه ما قال له: أنت تفعله خيلاء أو ما تفعله خيلاء؟! وإنما أرشد إلى رفع الثوب، وفي قصة عمر رضي الله عنه مع قصة الشاب الذي جاء يعوده في مرض موته وقد امتدحه وأثنى عليه، أنه لما ذهب الشاب إذا ثوبه يمس الأرض، فقال: ردوا علي الغلام، ثم قال له: ارفع ثوبك، فإنه أتقى لربك وأبقى لثوبك، ما قال له: هل أنت تريد الإسبال خيلاء أو ما تريده خيلاء؟ إن كنت تريد خيلاء فهو حرام وعليك أن ترفعه، وإن كنت لا تريد خيلاء فما في ذلك بأس!

ليس هناك إلا: ارفع ثوبك، ليس هناك سؤال واستفسار، وإنما هناك: ارفع ثوبك، وأرشده إلى فائدتين تعود مصلحتهما على المنصوح:

إحداهما: دنيوية بحتة، وهي كون الإنسان يبقي على ثوبه، وأنه لا يتعرض للوسخ ولا يتعرض للبلى.

والثانية: دنيوية وأخروية، وهي تقوى الله.

وهذا من جنس ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) فائدة دنيوية بحتة، وهي طهارة الفم، وفائدة أخروية ودنيوية وهي: مرضاة الله عز وجل، ومعلوم أن مرضاة الله عز وجل تحصل فوائدها في الدنيا وفي الآخرة.

الإسبال دون قصد وتعمد الخيلاء من الكبائر

إسبال الإزار بغير قصد الخيلاء من الكبائر؛ لأن النهي عنه جاء مطلقاً يشمل ما كان بخيلاء وما كان بغير خيلاء، والكبائر تتفاوت، فليست على حد سواء؛ والأحاديث في تحريم الإسبال وردت على سبيل الإطلاق، فلا يقال: إنه يحمل على الخيلاء فقط، وإنه يجوز في غير الخيلاء، وإنما الراجح أن الإسبال يحرم وهو من الكبائر وإن انضاف إليه قصد الخيلاء فهو أعظم إثماً..

شرح حديث (لا يقبل الله صلاة رجل مسبل )

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى عن أبي جعفر عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: (بينما رجل يصلي مسبلاً إزاره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ. فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال: اذهب فتوضأ. فقال له رجل: يا رسول الله! ما لك أمرته أن يتوضأ؟ ثم سكت عنه. قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل) ].

هذا الحديث يدل على خطورة إسبال الإزار، وأن الله تعالى لا يقبل صلاة المسبل.

ولكن الحديث ضعيف؛ لأن فيه رجلاً لا يحتج به، وأيضاً المتن فيه نكارة من ناحية كون صلاة الإنسان لا تصح ولا يصح وضوءه إن صلى مسبلاً، وأن عليه أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة؛ فقد جاءت نصوص أخرى تدل على أن الله لا يقبل صلاة بعض الناس بسبب المعاصي، ومع ذلك لا يقال إن عليهم أن يعيدوها، مثلما جاء في الذي يأتي ساحراً أو كاهناً أنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وليس معنى ذلك أنه يعيد الصلاة؛ ولكنه يحرم ثوابها، ويحال بينه وبين ثوابها، وهذا الحديث الذي معنا فيه أن الوضوء يعاد، وبعض أهل العلم قال: إن هذه معصية، والمعصية فيها خطورة، والإنسان إذا توضأ وصلى يكون في ذلك جهاد للنفس، وإغاظة للشيطان، وقد جاء في بعض الأحاديث أن الإنسان يتوضأ عند الغضب ويصلي، لكن القول بأن صلاته تبطل فيه نظر.

والراجح أن الصلاة صحيحة والإسبال حرام، فيعاقب على إساءته ويثاب على صلاته، مثلاً: لو أن إنساناً صلى في ثوب حرير، فإنه مطيع عاص، ولو صلى في أرض مغصوبة فهو مطيع عاص؛ فصلاته صحيحة وهو آثم لفعله المعصية، فكذلك الذي يصلي وهو مسبل إزاره، صلاته صحيحة وهو آثم في الإسبال، أما كون وضوئه ينتقض أو أنه يحتاج إلى إعادة الوضوء ثم إعادة الصلاة فهذا مشكل وفيه نكارة، ومع ذلك فالإسناد فيه أبو جعفر وهو لا يحتج به.

تراجم رجال إسناد حديث ( إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل )

قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ].

هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا أبان ].

هو أبان بن يزيد العطار ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ حدثنا يحيى ].

هو يحيى بن أبي كثير اليمامي ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي جعفر ].

أبو جعفر وهو المدني الأنصاري ، وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة .

[ عن عطاء بن يسار ].

عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.

شرح حديث (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم.. وذكر منهم المسبل)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن مدرك عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن خرشة بن الحر عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. قلت: من هم يا رسول الله؟ قد خابوا وخسروا! فأعادها ثلاثاً قلت: من هم يا رسول الله؟ خابوا وخسروا! فقال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أو الفاجر) ].

أورد أبو داود حديث أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. فقالوا: خابوا وخسروا يا رسول الله! من هم؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أو الفاجر).

قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) هذا يدل على أن تلك الأعمال من الكبائر، وهي الإسبال والمن بالعطية وكذلك الحلف كذباً في السلع لتنفيقها وترويجها وترغيب الناس في الشراء منها.

وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الثلاث بالعدد، ثم وصفها بهذه الأوصاف قبل أن يذكرها؛ من كمال بيانه عليه الصلاة والسلام، وذلك أن النفوس عندما تذكر لها هذه الصفات الثلاث فإنها تتشوق وتتشوف وتكون متهيئة لمعرفة هذه الثلاث التي وصفت بهذه الأوصاف الدالة على خطورتها؛ فهذا من كمال بيانه صلى الله عليه وسلم ونصحه لأمته عليه الصلاة والسلام.

أيضاً ذكر العدد فيه فائدة وهي أن الإنسان يطالب نفسه بالعدد، وأن العدد اكتمل أو لم يكتمل، فإما أن يستوفي وإما أن يكون هناك نقص حصل فيبحث عنه، فهذه فائدة العدد وفائدة ذكر الأوصاف، فهذا التقديم لأجل الاهتمام وتحفيز النفوس على الاستعداد والتهيؤ لاستيعاب الشيء الذي سيذكر؛ لأن مثل ذلك دال على أهميته، وهذا من بيانه عليه الصلاة والسلام والطريقة التي يتبعها في بيان الأحكام، ومن كمال نصحه لأمته عليه الصلاة والسلام.

ولذلك نظائر كثيرة منها ما يكون بالعدد الذي هو (ثلاثة) ومنها ما يكون أكثر، ومنها ما هو أقل من ذلك، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري في آخر صحيحه من حديث أبي هريرة : (<