أرشيف المقالات

تفسير قوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل...}

مدة قراءة المادة : 37 دقائق .
تفسير قوله تعالى:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ...

 
قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 264، 266].
 
قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.
 
هذه الآية أشبه بالتفسير والبيان للمضاعفة المذكورة في قوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]، وفيها مع الآيات بعدها عود على الحض على الإنفاق في سبيل الله، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 254].
 
قوله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾، «المثل» يطلق على «الشبه» ويطلق على «الصفة»، فإن ذُكر المماثِل فالمراد به الشبه، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17]، وقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِر ﴾ [آل عمران: 117].
 
وإن لم يذكر المماثِل فالمراد به الصفة، كما في قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ﴾ [محمد: 15].
 
وفي قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ﴾ الآية، تقدير إما في المبتدأ وهو المشبه، فيكون التقدير: مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة.
 
وإما في الخبر وهو المشبه به، فيكون التقدير: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل باذر حبة؛ ليطابق الممثَّلُ الممثَّل به، وفي هذا الطيِّ دليل على بلاغة القرآن الكريم ليكون المثل صالحًا للتمثيل بالمنفق وبالنفقة.
 
ومعنى ﴿ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾، أي: يبذلونها ويخرجونها، والأموال جمع مال، وهو كل ما يتمول من النقود والأعيان والمنافع.
 
﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ «سبيل الله»: شرعه وصراطه وطريقه المؤدي إليه وإلى مرضاته، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه ﴾ [الأنعام: 153]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الحجر: 41].
 
والمعنى: مثل الذين ينفقون أموالهم طاعة لله تعالى، خالصة لوجهه، وفقًا لشرعه، بكونها من الطيب الحلال، وفي مواضعها التي شرع الله تعالى الإنفاق فيها كالجهاد في سبيل الله وغير ذلك من سبل الخير، من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67].
 
﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ﴾ الكاف للتشبيه، والمثل: الشبه، أي: كشبه حبة، و«الحبة» واحدة الحَبِّ، وهو ما يزرع للاقتيات كالبر ونحوه.
 
﴿ أَنْبَتَتْ ﴾؛ أي: بذرت فأنبتت وأخرجت ﴿ سَبْعَ سَنَابِلَ ﴾، أي: تشعب منها سبعة سيقان في كل ساق سنبلة، فصارت سبع سنابل.
 
و«سنابل» جمع «سُنْبلة» وجمعت على «سنابل» جمع كثرة؛ لأن المقام مقام تكثير وتضعيف، بينما جمعت جمع قلة في قوله تعالى: ﴿ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْر ﴾ [يوسف: 43]؛ لأن السبعة قليلة، ولا مقتضى للتكثير.
 
﴿ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ﴾؛ أي: في كل سنبلة من هذه السنابل مائة حبة، فيكون مجموع حبوب هذه السنابل السبع سبعمائة حبة، وهكذا ثواب الإنفاق في سبيل الله ينميه اللهُ عز وجل ويضاعفه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به..».
 
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة»[1].
 
﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالتشديد مع حذف الألف هنا وفي جميع القرآن: «يُضَعِّفُ»، وقرأ الباقون بالإثبات والتخفيف ﴿ يُضَاعِفُ ﴾.
 
والمضاعفة الزيادة، أي: والله يضاعف لمن يشاء هذه المضاعفة إلى سبعمائة، وما هو فوق ذلك، إلى أضعاف كثيرة، حسب حكمته عز وجل، وحسب إخلاص المنفق في عمله وغير ذلك.
 
﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي: واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الفضل، واسع في جميع صفاته.
 
﴿ عَلِيمٌ﴾؛ أي: ذو علم واسع محيط بكل شيء؛ كما قال تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12].
 
ومن سعة علمه أنه يعلم من يستحق هذه المضاعفة، وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها.
 
قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.
 
بيَّن عز وجل في الآية السابقة مضاعفة أجر المنفقين في سبيله إلى سبعمائة ضعف، ثم أتبع ذلك بالتعريض بمن يُتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى مؤكدًا ما للمنفقين من الأجر عند ربهم وانتفاء الخوف والحزن عنهم.
 
قوله: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، كرر هذا تأكيدًا لوجوب الإخلاص في الإنفاق في سبيل الله، وأن تكون النفقة مما شرع الله تعالى، وفيما شرع عز وجل.
 
وأيضًا ليبني عليه ما بعده، وهو قوله: ﴿ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ﴾.
 
«ثم»: للتراخي تدل على أن «المنّ» والأذى له أثره في إبطال الصدقة حتى ولو تراخى عن الصدقة، و«ما»: موصولة، أو مصدرية، أي: ثم لا يتبعون الذي أنفقوه، أو ثم لا يتبعون إنفاقهم.
 
﴿ مَنًّا ﴾: نكرة في سياق النفي، فتعم كل مَنٍّ، أي: لا يتبعون ما أنفقوا، أي شيء من المن قل أو كثر على من أنفقوا عليه.
 
و«المن» الاعتداد بالإحسان، وإظهار الترفع على المنفَق عليه، كأن يقول له: أما أعطيتك كذا وكذا، أو يعدد عليه أياديه.
 
وقد يكون المنُّ بالقلب بأن يعتقد المنفِق بأن له فضلًا على المنفَق عليه دون أن يصرح بذلك.
 
فكل هذا لا يجوز والفضل لله عز وجل، وما يخرجه الإنسان من ماله من نفقة واجبة أو مستحبة، فهو من حقوق المنفَق عليه، لا منة فيها للمنفِق ولا فضل، بل الفضل والمنة في ذلك لله وحده.
 
﴿ وَلَا أَذًى ﴾؛ أي: ولا أذى لمن أنفقوا عليه كأن يذكر المنفِق ذلك عند الناس، فيقول مثلًا: أنفقت على فلان كذا، وأعطيته كذا، أو يريد من المنفَق عليه أن يكافئه كأنه عمل إليه معروفًا، ونحو ذلك، أو يفعل معه مكروهًا يحبط ما سلف منه من إحسان، وقدَّم «المن»؛ لأنه أكثر.
 
﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ الأجر: ما يُعطاه العامل مقابل عمله، والمعنى هنا: لهم ثواب إنفاقهم وعملهم.
 
وقدم الخبر «لهم»: وسمى ثوابهم أجرًا؛ لضمانه عز وجل له وتكفله به، وأنه لا يضيع عنده.
 
كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30]، وقال تعالى: ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 171].
 
وجرد الخبر «لهم» من الفاء؛ لبيان أنهم المستحقون لهذا الأجر، دون غيرهم ممن ينفقون رياءً أو يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى.
 
﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ أي: عند ربهم في الجنة، وفي كون هذا الأجر عند ربهم، خالقهم ومالكهم ومدبرهم، دليل على عنايته عز وجل بهم، وأنهم بجواره، ودليل على عظمة هذا الأجر؛ لأنه من ربهم العظيم، والأجر والعطاء على قدر المعطي، وكما قيل:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم

﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ مما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة.
 
﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما خلفوا ولا على ما مضى وما فاتهم من الدنيا؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير من ذلك.
 
فاجتمع للمنفقين في سبيل الله تعالى المضاعفة إلى سبعمائة ضعف، والثواب العظيم عند ربهم، مع انتفاء الخوف مما يستقبلهم والحزن على ما مضى وفاتهم، نسأل الله تعالى من فضله.
 
قوله تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾، عرَّض عز وجل في الآية السابقة بمن يُتبعون ما أنفقوا بالمَن والأذى، ثم أتبع ذلك ببيان أن القول المعروف والمغفرة خير من صدقة يتبعها أذى.
 
قوله: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾ قول: مبتدأ، وجاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه وصف بقوله: ﴿ مَعْرُوفٌ ﴾ أي: قول طيب، ووعد حسن واعتذار جميل، أو دعاء لمن سأل النفقة بقوله: «الله يرزقك وييسر أمرك»، ونحو ذلك مما يجبر خاطر السائل.
 
ونكر ﴿ قَوْلٌ ﴾ للتقليل، أي: قول معروف وإن قل.
 
﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ لمن أساء بالستر عليه والتجاوز عنه، سواء كان سائلًا أو غيره ﴿ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].
 
و﴿ خَيْرٌ ﴾: خبر المبتدأ ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾، أي: خير مطلقًا للمسؤول وللسائل ﴿ مِنْ صَدَقَةٍ ﴾: الصدقة: ما يبذل تقربًا إلى الله تعالى من مال وغيره، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»[2].
 
والمراد بالصدقة في الآية - والله أعلم - الصدقة بإنفاق المال بدلالة السياق.
 
والمعنى أن القول الطيب المعروف شرعًا وعرفًا من الاعتذار للمحتاج وتطييب خاطره ونحو ذلك ﴿ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾.
 
وقوله: ﴿ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾ في محل جر صفة لـ«صدقة»، أي: يتبعها أذى من المتصدِّق للمتصدق عليه؛ لأن ذلك يحبطها ويبطل أجرها، ويصير الإحسان إساءة.
 
ولم يذكر «المنّ»؛ لأن الأذى يشمله، فإذا لم تحصل الصدقة إلا مع الأذى، فالقول المعروف الطيب الحسن، والمغفرة بالستر لذنب من أساء والتجاوز عنه خير من تلك الصدقة.
 
بل إن القول المعروف يقوم مقام الصدقة عند عدم القدرة عليها، كما قيل:

لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال[3]

قال ابن القيم: «فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول، والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة، فهما نوعان من أنواع الإحسان، والصدقة المقرونة بالأذى، حسنة مقرونة بما يبطلها، ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة»[4].
 
﴿ وَاللَّهُ غَنِيٌّ ﴾ أي: والله غني بذاته غنًى مطلقًا، من جميع الوجوه عن جميع خلقه، لا يحتاج إلى أحد منهم، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 6].
 
والصدقة لا تناله ولا تنفعه، وإنما ينتفع بها صاحبها، كما قال تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37].
 
وقال عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها»[5].
 
﴿ حَلِيمٌ ﴾ أي: لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يمهله ولا يهمله، ويفسح له لعله يتوب، قال ابن القيم[6]:

وهو الحليم فلا يعاجل عبده
بعقوبة ليتوب من عصيان

ومن حلمه عز وجل ألا يعاجل من عصاه بإتباع الإنفاق بالمن والأذى ونحو ذلك بالعقوبة، فهو عز وجل غني عن خلقه، ويغني من أنفق وتصدق، وهو سبحانه حليم لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بمنع النفقة أو المن فيها أو الأذى، ويحب الحلم من عباده بالمغفرة والعفو عمن أساء.
 
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾.
 
عرَّض عز وجل في الآية السابقة بالذين يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى، ثم أتبع ذلك بالتصريح بنهي المؤمنين عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى، وتشبيه من يفعل ذلك بمن ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، وتشبيه هذا بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا ﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾.
 
قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾.
 
الإبطال للشيء إزالته وإذهابه بعد وجوده، قال تعالى: ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 118].
 
قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل

و(الصدقات) جمع صدقة، وهي ما يبذله الإنسان من النفقات الواجبة والمستحبة، قيل: سميت صدقات؛ لدلالتها على صدق إيمان باذلها، وفي الحديث: «والصدقة برهان»[7]، أي: برهان على صدق صاحبها وإيمانه.
 
﴿ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾ الباء للسببية، أي: بسبب المن على من تصدقوا عليه بالترفع والتعالي عليه، وإظهار أن لهم المنة والفضل عليه، علمًا أن الفضل لله عز وجل وحده، ولو كان هناك شيء من الفضل لأحدهما لكان للمتصدَّق عليه لقبوله الصدقة.
 
﴿ وَالْأَذَى ﴾ معطوف على «المن» أي: وبسبب الأذى للمتصدَّق عليه بذكر ذلك للناس، أو إلحاق مكروه به ونحو ذلك، فكل واحد من المنَّ والأذى مبطل للصدقة.
 
﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ الكاف للتشبيه، أي كإبطال الذي ينفقه ماله، فشبه الإبطال بالإبطال، أو لا تكونوا كالذي ينفق له، فشبه المنفق بالمنفق.
 
﴿ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ «رئاء»: مفعول لأجله، وهو مصدر راءى يرائي مرآءة ورياءً.
 
أي: كالذي ينفق ماله لرئاء الناس، أي: لأجل أن يراه الناس فيمدحوه على ذلك، ويصفوه بالكرم والصلاح، ونحو ذلك، وليس ذلك لوجه الله، ورجاء ثوابه وخوف عقابه.
 
والرياء مبطل للعمل، كما قال تعالى في الحديث القدسي: «من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»[8].
 
﴿ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ يُنْفِقُ ﴾، أي: ولا يؤمن بوجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وشرعه.
 
﴿ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾؛ أي: ولا يؤمن باليوم الآخر يوم القيامة الذي هو آخر الأيام وما فيه من البعث والمعاد والحساب والجزاء.
 
وكثيرًا ما يقرن الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله تعالى؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم ما يحمل ويحفز على العمل؛ لما فيه من الحساب والجزاء.
 
فشبه عز وجل المبطل لصدقته بالمن والأذى بالمنافق الذي ينفق ماله ليراه الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهو ينفق وهو كاره ولا تنفعه نفقته، قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54].
 
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142].
 
﴿ فَمَثَلُهُ ﴾؛ أي: كمثل هذا المنفق ماله رئاء الناس مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ﴿ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾، أي: كمثل حجر أملس ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ ﴾ يؤمل أن ينبت ﴿ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾؛ أي: مطر غزير، شديد الوقع، سريع التتابع.
 
﴿ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ﴾، أي: فترك الوابل هذا الصفوان «صلدًا»، أي: أجرد أملسًا لا شيء عليه من تراب ولا نبات ولا غير ذلك.
 
فشبه عز وجل الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، في بطلان عمله وزواله وذهابه بحجر أملس، ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ ﴾، فأصابه مطر شديد فأزال هذا التراب، فلم يُنبت شيئًا بل ذهب بذره ضائعًا لعدم إيمانه وإخلاصه.
 
وقد أحسن القائل:

ثوب الرياء يشف عما تحته
فإذا اكتسيت به فإنك عاري[9]

﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ واو الجماعة في «يقدرون» تعود على «الذي»؛ لأنه اسم موصول يفيد العموم، فلفظه مفرد ومعناه الجمع.
 
و«شيء»: نكرة في سياق النفي، فيعم أيّ شيء، مهما قل أو كثر صغر أو كبر.
 
و«ما» في قوله: ﴿ مما ﴾: موصولة أو مصدرية، أي: من الذي كسبوه وعملوه، أو من كسبهم وعملهم، أي: من ثوابه لبطلانه وزواله.
 
فشبه الله عز وجل المبطل صدقته بالمن والأذى بالمنافق المنفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، في عدم انتفاعه بما أنفق، ومثَّله بصفوان عليه تراب فأصابه مطر شديد، فتركه صلدًا أملسَ لا شيء عليه.
 
ووجه الشبه في هذا هو عدم قدرة المُتْبع صدقته بالمن والأذى والمنفق رياء مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر على شيء من ثواب ما عملوه؛ لبطلانه، كما قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23].
 
وقال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ [إبراهيم: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39].
 
﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾؛ كقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، أي: لا يوفق الله تعالى الكافرين بسبب كفرهم، كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96، 97].
 
قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
 
ذكر عز وجل في الآية السابقة مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم أتبعه بذكر مثل الذين ينفقون أموالهم بالإخلاص والصدق.
 
قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ هذه الآية كقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
 
قوله: ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ «ابتغاء»: مفعول لأجله، أي: طلب مرضاة الله تعالى، وإخلاصًا لله، أو حال، أي: طالبين بذلك مرضاة الله ومخلصين له.
 
﴿ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ معطوف على «ابتغاء»، أي: تصديقًا وتيقنًا من أنفسهم بأن الله تعالى شرع ذلك ويجازي عليه، ودليلًا على صدق إيمانهم.
 
كما في الحديث: «الصدقة برهان»، أي: برهان على إيمان وصدق مخرجها.
 
وأيضًا: احتسابًا من أنفسهم ذلك عند الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»[10].
 
قال ابن القيم[11]: «فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان، إن نجا منهما كان مثله ما ذكر في هذه الآية، أحدهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضًا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين، الآفة الثانية: ضعف نفسه وتقاعسها وترددها، هل يفعل أم لا؟ فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله تعالى، والآفة الثانية تزول بالتثبيت، فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل، وهذا هو صدقها».
 
﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا ﴾، أي: كمثل بستان كثير الأشجار، ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾.
 
قرأ عاصم وابن عامر بفتح الراء: ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾، وقرأ الباقون بضمها: «برُبوة».
 
أي: بمكان مرتفع تأخذ نصيبها من الشمس والهواء الطلق، و«الربوة»: المكان المرتفع، يقال ربا الشيء إذا زاد، كما قال تعالى: ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5].
 
﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ ﴾ أي: أصاب هذه الجنة وابل، و«الوابل»: المطر الغزير الكثير.
 
﴿ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: «أُكْلَها» بضم الهمزة وسكون الكاف، وقرأ الباقون بضمهما معًا: ﴿ أُكُلَهَا ﴾.
 
أي: أعطت وأنتجت ﴿ أُكُلَهَا ﴾: ثمرها، قال تعالى: ﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ﴾ [الرعد: 35]؛ أي: ثمرها الذي يؤكل.
 
﴿ ضِعْفَيْنِ﴾؛ أي: ضعفي ما كان يؤتي غيرها، أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ارتفاعها ونزول الوابل عليها، والمعنى: فآتت أكلها مثلين؛ كما قال تعالى: ﴿ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾ [الأحزاب: 31].

والمعنى: ومثل الذين ينفقون أموالهم طلب مرضاة الله تعالى وتثبيتًا من أنفسهم في مضاعفة ثواب نفقاتهم كمثل جنة بمكان مرتفع من الأرض بارزة للشمس والهواء نزل عليها مطر غزير كثير فجاء أكلها وثمرها ضعفين.
 
قال ابن القيم[12]: «فهذا حال السابقين المقربين»، فعمل هؤلاء المنفقين ضوعف بسبب صدقهم في طلب مرضاة الله تعالى والتثبيت، وأُكُل تلك الجنة وثمرها جاء مضاعفًا؛ لكونها في مكان مرتفع تأخذ كفايتها من الشمس والهواء، مع نزول المطر الغزير عليها».
 
﴿ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾ أي: فإن لم يصب هذه الجنة وينزل عليها ﴿ وَابِلٌ ﴾ أي: مطر كثير غزير ﴿ فَطَلٌّ ﴾: جواب الشرط «إن»، و«الطل»: المطر الخفيف.
 
والمعنى ﴿ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾؛ أي: فطل يصيبها أو فيصيبها طل، ويكفيها عن الوابل الكثير في إخراج بركتها.
 
لارتفاع مكانها وكرم منبتها وطيب مغرسها، وهكذا نفقات الذين ينفقون إخلاصًا لله تعالى وصدقًا يضاعفها الله تعالى لهم حتى وإن قلت.
 
قال ابن القيم: «وهذا حال الأبرار والمقتصدين في النفقة».
 
﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ «ما»: موصولة أو مصدرية، أي: والله بالذي تعملون، أو بعملكم بصير، أي: مطلع عليه لا تخفى عليه منه خافية؛ لأنه عز وجل مطلع على كل شيء لا تخفى عليه منه خافية، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5].
 
فهو عز وجل يعلم المنفق المتبع نفقته بالمن والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه، وسيحصي ذلك ويحاسبهم ويجازيهم عليه.
 
قوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾.
 
شبه عز وجل حال من يبطل صدقته بالمن والأذى بمن ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، ثم شبهه ثانيًا بحال صاحب جنة من نخيل وأعناب له فيها من كل الثمرات وقد أدركه الكبر وله ذرية ضعفاء، فأصاب هذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت مع شدة حاجته وذريته إليها، فماذا يكون حاله؟ تكون الدنيا عليه أضيق ما يكون ويتحسر على جنته أشد الحسرة، وفي هذا من التنفير من إتباع الصدقة بالمن والأذى ما لا يخفى.
 
قوله: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ﴾ الاستفهام للإنكار والنفي، و«يود» يحب، والمعنى: لا يود أحدكم هذا.
 
﴿ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾؛ أي: بستان كثير الأشجار والثمار، وجاء ﴿ أَيَوَدُّ ﴾ بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار والنفي العام، كما تقول: أيفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ في الإنكار من لو قال: «أتودون».
 
و﴿ أَيَوَدُّ ﴾ أبلغ في الإنكار والنفي من لو قيل: «أيريد»؛ لأن محبة هذه الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها.
 
﴿ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾: النخيل والأعناب من أفضل وأنفع الأشجار، وثمرها من أنفع الثمار، قوتًا وغذاءً، وفاكهةً وحلوى وشرابًا ودواءً، يؤكل رطبًا ويابسًا.
 
قيل: النخيل أنفع وأفضل ولهذا قدَّمه، وقيل: العنب، وقيل: كل منهما في أرضه وموضعه أفضل من الآخر.
 
﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾؛ أي: تجري من تحت أشجارها الأنهار العذبة، وهذا أكمل لها وأعظم في قدرها.
 
﴿ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾؛ أي: من جودة هذه الجنة ونخيلها وأعنابها إنتاجها لصاحبها من كل الثمرات المتنوعة الأشكال والألوان والطعوم من النخيل والأعناب وغيرها، كما قال تعالى في سورة الكهف: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 32، 33].
 
قوله تعالى: ﴿ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ﴾ الواو: حالية، أو عاطفة، أي: وأصاب صاحب هذه الجنة الكبر، فعجز عن القيام عليها مع شدة حاجته إليها وتعلق قلبه بها.
 
﴿ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ ﴾ لا يستطيعون القيام عليها لصغرهم وعجزهم.
والذرية: هم أولاد الرجل وأولاد بنيه وإن نزلوا بمحض الذكور.
 
وإنما جعل الله عز وجل «عيسى ابن مريم» من ذرية إبراهيم في قوله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 84، 85]، وهو ابن بنت؛ لأنه لا أب له، وأمه بمنزلة أبيه.
 
قال ابن القيم[13]: «وأصابه الكبر» هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه: أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها، الثاني: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه، الثالث: أن له ذرية، فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته، الرابع: أنهم ضعفاء، فهم كل عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم، الخامس: أن نفقتهم عليه؛ لضعفهم وعجزهم.
 
وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة؛ لخطرها في نفسها، وشدة حاجته وذريته لها، فإذا تصورت هذا الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار».
 
قوله: ﴿ فَأَصَابَهَا﴾ أي: فأصاب هذه الجنة ﴿ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ ﴾، وهو الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيها نار، وقيل: هي الريح الشديدة السموم.
 
﴿ فاحترقت ﴾؛ أي: فاحترقت هذه الجنة، وتساقطت أوراقها وثمارها وصارت رمادًا، كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 117]، وقال تعالى: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ﴾ [الكهف: 42، 43].
 
عن عبيد بن عمير قال: قال عمر رضي الله عنه يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «فيم ترون هذه الآية نزلت: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر، فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم.
فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا ابن أخي، قل، ولا تحقر بنفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلًا لعمل.
قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل.
قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله»[14].
 
وعن الحسن قال: «هذا مثل قل والله من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا»[15].
 
﴿ كَذَلِكَ ﴾؛ أي: مثل ذلك البيان ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات ﴾؛ أي: يوضح ويفصل لكم الآيات الكونية والشرعية، ﴿ لعلكم تتفكرون ﴾ «لعل»: للتعليل، أي: لأجل أن تتفكروا، والتفكر: إعمال الفكر والعقل والنظر في آيات الله الكونية والشرعية، والحذر من مبطلات الأعمال، ومن إبطال الصدقات بالمن والأذى، فيخسرها المنفق أحوج ما يكون إليها كصاحب هذه الجنة.

[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1892)، والنسائي في الجهاد (3187).

[2] أخرجه البخاري في الأذان- من جلس في المسجد ينتظر الصلاة (660)، ومسلم في الزكاة- فضل إخفاء الصدقة (1031)، وأبو داود في آداب القضاة (5380)، والترمذي في الزهد (2391).

[3] البيت للمتنبي؛ انظر: «ديوانه» بشرح العكبري» (2/ 276).

[4] انظر: «بدائع الفوائد» (1/ 420).

[5]أخرجه مسلم في الزكاة (1006)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

[6]«النونية» (ص148).

[7] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

[8] سبق تخريجه.

[9] البيت للتهامي؛ انظر «ديوانه» (ص47).

[10] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760)، وأبو داود في الصلاة (1372)، والنسائي في الصيام (2203)، والترمذي في الصوم (683) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[11]انظر: «بدائع التفسير» (1/ 423).

[12] انظر: بدائع التفسير (1/ 423- 424).

[13] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 427).

[14] أخرجه البخاري في تفسير قوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾ (4538)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 183 – 184)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 522).

[15]انظر: «بدائع التفسير» (1/ 425).

شارك الخبر

المرئيات-١