البطولة وهل ندرت؟
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
للأستاذ فتحي رضوان
يحلو لي أن ادخل في المناقشة التي أدارها الكاتبان (النابغان) عباس العقاد وأحمد أمين حول النبوغ والبطولة. يحلو لي أن ادخل في هذه المناقشة خصماً ثالثاً، وإن كنت أكره لفظة (خصم) ولكن ما حيلتي وقد علمنيها القانون.
! لقد طالعت مقال الكاتب (النابغ) أحمد أمين، وأدركت نظريته التي بناها على أن النبوغ هو سبق النابغ لمعاصريه، حتى ليعجزوا عن اللحاق به، إلا بعد زمن قد يطول، وذلك حين يكون النبوغ عالياً ورفيعاً، وقد يقصر، وذلك حين لا يكون النابغ ممتازاً إلا بقدر.
ولقد ساقته هذه النظرية إلى نتيجة آمن بها، ودافع عنها، وضرب الأمثال العديدة على صحتها وسلامتها.
والنتيجة هي التي استوقفتني، فدفعتني إلى التأمل فيما جاء بهذا المقال، ثم هي التي حفزتني على كتابة هذا الرد فالأستاذ أحمد أمين يرى أن نوابغ هذا العصر قلة، لأن أساليب التربية الحديثة، ونظام المجتمع الذي نعيش في ظله أشاع العلم، وأضعف الفوارق بين الخاصة والعامة، وأتاح فرصة التحصيل والتفوق للفقراء وذوي الثراء.
وقد بلغ اقتناع الأستاذ أحمد أمين بهذه النظرية وبنتيجتها مبلغاً حمله على أن يضرب لنا الأمثال بالتلميذ في المدارس الثانوية، فهو بنظر إليه كل يوم، فيراه يطالع كتب الطبيعة التي تشرح قواعد الضوء والصوت، والحرارة والكهرباء، فيقول: (إنه يعرف ما يعرفه نيوتن، وأكثر مما يعرفه)، ثم يراه يقرأ كتب النحو والصرف، والبلاغة فيقوى يقينه بأن ما وصل إليه من نتيجة صحيح جداً فيقول: (إنه يدري من النحو ما لا يدريه سيبويه) ثم يطمئن إلى هذا الاستقراء فيقول لنا إذا كان محصول علمه يفوق علم جهابذة العلوم والآداب، وهو بعد تلميذ في المدارس، يخطئ ويصيب، وينجح ويتعرض للسقوط، ويذاكر ويشكو قسوة الامتحان، فكيف تظنون أن عهد النبوغ لم ينصرم بعد؟.
وأين مجال التفوق أمام الموهوبين وذوي الجد ما دامت المدارس قد ذللت المعرفة وفتحت أبوابها على المصاريع؟ قد كان التفوق والنبوغ بالأمس ممكناً، لأن النابغة كان مبصراً وسط عمى، وصاحياً وسط مغفلين ومدركاً بين جهال، أما اليوم فأصغر علماء الطبيعة كأكبرهم، يعرفان من أمر هذا العلم وقواعده قدراً يكاد يكون متساوياً، فإذا وجد الفارق بين العالم الصغير والعالم الكبي فليس هو بالفارق الذي يضفي على الكبير منها صفة النبوغ والتفوق.
وقد سألنا الأستاذ أحمد أن ندله على السياسي الذي يفوق أقرانه ويبذهم، وقد نبهنا إلى استنارة الشعوب وبصرها الآن بأساليب الحكم وفقهها لطرائق الإدارة؛ ثم سألنا أن ندله على العالم الذي يسبق جيله أو معاصريه، ونبهنا إلى أن العلوم اليوم والفنون كذلك قائمة على سنة التخصص، وأفهمنا أنه لا يوجد طبيب، وإنما يوجد أخصائيون في كل فرع من فروع الطب، ولا يوجد قانونيون، بل مطبقون لناحية واحدة من نواحي القانون.
والحق أننا نشكر للأستاذ هذا التنبيه، لأننا نستطيع بعده أن ندله على النابغين المتفوقين الذين يسبقون معاصريهم بالسنين ويفوتونهم بالمراحل، فالتاريخ لم يعرف حاكماً كموسوليني ينبعث من خنادق الحرب، ثم يشتغل سنين معدودة في الصحافة، ثم تدين له الدولة والأمة بالطاعة والانصياع، ويصبح البون بينه وبين أكبر رجال أمته شاسعاً، حتى لا يكاد يوجد في إيطاليا إلا موسوليني، الكلمة كلمته، وكلمته قانون، وقانونه مقدس أسمى من أن يشوبه خطاْ، ثم تتحالف عليه الدول وتطوق بلاده بحصار لا يرحم، فيجرح شجاعته، ويواجه العاصفة بسيل من الخطب ودنيا من التدابير.
فالتخصص ومجانية المدارس وتذليل أساليب التحصيل، كلها لم تحل دون بروز شخصية سياسية طاغية في إيطاليا.
وهذا البروز، هو النبوغ على الأقل كما وضح لنا الأستاذ أحمد أمين مقياسه - ولكن الأستاذ يريد أن ندله على نوابغ كثيرين وإلا كان محقاً فيما ذهب إليه من أن العصر الحديث لا يعتبر عصر النوابغ، بل عصر ارتقاء الجماعة الإنسانية ارتقاء لا يسمح بإيجاد الفوارق الواسعة بين العامة والخاصة، وبين الكبار والصغار، ولكن حسب الأستاذ الكبير أن يدير بصره في العالم بأسره ليعلم أننا نعيش في عصر النابغين فألمانيا يحكمها رجل واحد يتصرف في أمورها كما يحلو له، أو على الأقل كما يحلو له ومستشاروه الذين من حوله. وروسيا على رأسها رجل يضع دستورها، وينفذ قانونها ويشرف على جيشها، والذين من حوله أقزام ينظرون إليه ولا يقوون على مقاومة إرادته.
وعلى الأستاذ الكبير أن يسأل من اليوم صاحب النفوذ الذي لا يحد في تركيا، وفي بولندا - قبل وفاة سلسودسكي - وفي النمسا وفي تشكوسلوفاكيا في عهد مازاريك ليعرف أننا محكومون بالنابغين والمتفوقين في عالم السياسة وليدرك أن بصر الشعوب بأساليب الحكم، وفطنتها الدستورية، لم تحل دون ظهور هذه الكثرة من ذوي السلطان المطلق.
. فإذا رجعنا إلى التاريخ القديم، وجدنا أن روما التي احتملت موسوليني أربع عشرة سنة متوالية، لم تستطع أن تحمل يوليوس قيصر مثل هذه المدة. قد يعترض الأستاذ فيقول: ولكن من قال عن هؤلاء الحكام نابغون؟ وهو لا يحرجني بهذا السؤال، لأنه هو الذي ضرب لنا المثل (بنابليون) ولا أحسب أن نابليون من حيث معدن العظمة يبذ واحداً من هؤلاء الذين ذكرت أسمائهم فإذا أدرنا وجهنا إلى ميدان العلوم والفنون ألفيناه ميدان العمالقة والأقزام، ميدان الذين تلامس هاماتهم السماء والذين تلاصق أسماؤهم التراب، على الرغم من أن هؤلاء وأولئك، حصلوا على نصيب واحد من العلم المدرسي، فالأستاذ أحمد أمين يصيب كثيراً من العناء إذا هو أراد أن يجد قريناً لرجل ككارل ماركس ألف كتاباً فثل هذا الكتاب عروشاً، وأزال دولا، وقلب وجهة التاريخ، ورجل كداروين لا يشابهه في ميدان الطبيعة أكثر الذين حوله، ولا نستطيع أن نقول إن كارل ماركس هو وحده النابغة في ميدان الاقتصاد، ولا أن داروين هو وحده المتفوق في ميدان الطبيعة، فإلى جانب ماركس برودون وبلاخانوف ويوخارين وغيرهم وغيرهم ممن كانوا إلى جانب طلاب الاقتصاد وأساتذته وكتابه والمشتغلين به نوابغ بل عباقرة.
وفي الأدب يكتب الآن الكثيرون، والمطابع لا تنفك تخرج المؤلفات والمصنفات، ولكن ألا يوجد الكاتب الذي كلمته في حساب المادة عشرات الجنيهات، والكاتب الذي لا تساوي كتبه شروى نقير.
ثم ألا يوجد الكاتب الذي تفعل بدائعه في النفوس وفي الشعوب فعلا تارة يدفع بها إلى العنف، وأخرى يميل بها إلى الرضا.
فكثرة الكتاب في أوربا وفي العالم، وكثرة الموسيقيين وكثرة الاقتصاديين لم تحل دون النابغين، ولكن الأستاذ أحمد أمين يريد أن يرى هؤلاء النوابغ، ويريد أن يسألنا عن الفرق الكبير بين كاتب إنجليزي وكاتب إنجليزي آخر.
والحق أننا لا نتعب كثيراً في أن ندله عليهم، لا بذكر الأسماء بل بوضع قاعدة تغير الموقف. فالأستاذ لا يرى موسيقياً كالموصلي ولا كبتهوفن.
ولا شاعراً كشكسبير، ولا كالمتنبي.
ولا كاتباً كعبد الحميد ولا كابن المقفع ولا كما كولي، فيقول: لا نبوغ في هذا الأيام وينسى أن الذين يتحدث عنهم جميعاً طواهم الموت وأحاطهم القدم بجلاله، ومحا أسماء منافسيهم الذين كانوا يعيشون معهم وبقيت أسمائهم وحدهم، وأن المعاصرين يعيشون معنا، ونحن نقرأ أسماء النوابغ وأسماء العامة، أقصد العاديين من الكتاب والفنانين، ولكن غداً سيموت الجميع، والأجيال القادمة هي وحدها التي ستدون أسماء المتفوقين الذين عاشت بدائعهم، وخلدت مؤلفاتهم، وظهرت آثارهم، عظيمة ومؤثرة وجليلة وستقول هذه الأجيال كما يقول اليوم الأستاذ أحمد أمين إن جيلها يخلو من النوابغ وإن الأجيال السابقة هي عهد المتفوقين والمبرزين. فمثلنا مثل الذي يقف إلى جانب الجبل، لا يرى قممه، ولا سوافله، إنما يرى جسماً مسطحاً لا تضاريس فيه، فإذا بعد عنه ظهرت معالمه وبانت خطوطه واتضح له أنه عال في ناحية ومنخفض في ثانية، أو قل إن مثلنا مثل الوالد يعيش مع بنيه فلا يدري أنهم يزدادون طولاً مع مرور الزمن، فإذا غاب عنهم شهراً وعاد أدرك أن هذا أطول من ذاك، وأن أكبرهم أشد سمرة من أصغرهم، لأن طول النظر إلى الصورة لا يبرز معالمها. المدارس انتشرت، والمعارف رخصت، ولكن النفس البشرية هي هي باستعدادها، سيبقى النبوغ فيها استعداداً لا يضعفه نظام، ولا يقويه نظام، إنما يغير فيه قليلاً. لقد طرنا في السماء، وغصنا في الماء، ولكن لا يزال الواحد منا إذا ما خلا إلى نفسه في القمر، ثارت شجونه، وتحركت في عيونه شؤونه، تماماً كما يفعل أبن الصحراء وراكب الجمل. وأحفادنا سيقولون - حينما يقرءون مقالنا - إننا تعجلنا الزمن، فقلنا عن عهدنا إنه عهد لا نبوغ فيه، وإنهم سيرونه عهداً ككل العهود، فيه النوابغ وفيه العاديون، فيه العمالقة وفيه الأقزام. فتحي رضوان