أرشيف المقالات

حديث: ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
حديث
مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

 
 
عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما- قال: «مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَهُ شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ، بَعِيدُ مَا بَيْنَ المَنْكِبَيْنِ لَمْ يَكُنْ بِالقَصِيرِ وَلَا بِالطَّوِيلِ».
 
قوله: (ما رأيت من ذي لمة)؛ قال في الصحاح: الوفرة في الشعر إلى شحمة الأذنين، ثم الجمة ثم اللمة، وهي التي ألمت بالمنكبين.
 
قوله: (في حُلة حمراء أحسن منه)، وفي رواية: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مربوعًا وقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئًا أحسن منه.
 
وقد اختلف العلماء في لُبس الثوب الأحمر سبعة مذاهب:
الأول: الجواز مطلقًا.
 
والثاني: المنع مطلقًا.
 
الثالث: يُكره لُبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما صبغه خفيفًا.
 
الرابع: يكره لبس الأحمر مطلقًا لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في البيوت والمهنة.
 
الخامس: يجوز لبس ما كان صُبغ غزلُه ثم نُسج، ويمنع ما صُبغ بعد النسج، جنح إلى ذلك الخطابي، واحتج بأن الحلة الواردة في الأخبار الواردة في لبسه - صلى الله عليه وسلم - الحلة الحمراء إحدى حلل اليمن، وكذلك البرد الأحمر وبرود اليمن، يصبغ غزلها ثم ينسج.
 
القول السادس: اختصاص النهي بما يصبغ بالعصفر.
 
السابع: تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله، وأما ما فيه لون آخر غير الأحمر من بياض وسواد وغيرهما، فلا، وعلى ذلك تُحمل الأحاديث الواردة في الحلة الحمراء، وقال الطبري بعد أن ذكر غالب هذه الأقوال الذي أراه جواز لبس الثياب المصبغة بكل لون، إلا أني لا أحب لبس ما كان مشبعًا بالحمرة، ولا لبس الأحمر مطلقًا ظاهرًا فوق الثياب، لكونه ليس من لباس أهل المروءة في زماننا، فإن مراعاة زي الزمان من المروءة ما لم يكن إثمًا، وفي مخالفة الزي ضرب من الشهرة.
 
قال الحافظ: والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار، فالقول فيه كالقول في الميثرة الحمراء، وإن كان من أجل أنه زي النساء، فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء، فيكون النهي عنه لا لذاته، وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة، فيمنع حيث يقع ذلك، وإلا فيقوي ما ذهب إليه مالك من التفرقة بين المحافل والبيوت[1].
 
قوله: (له شعر يضرب إلى منكبيه)، وفي رواية: إن جمته لتضرب قريبًا من منكبيه، وفي رواية: له شعر يبلغ شحمة أذنيه إلى منكبيه.
 
قال الحافظ: وحاصله أن الطويل منه يصل إلى المنكبين وغيره إلى شحمة الأذن، قال: وروى أبو داود والترمذي من حديث أم هانئ قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله أربع غدائر ورجاله ثقات[2].
 
قوله: (بعيد ما بين المنكبين)؛ أي عريض أعلى الظهر، ووقع في حديث أبي هريرة عند ابن سعد رحب الصدر، وعن ابن عباس جميل دوائر الوجه قد ملأت لحيته من هذه إلى هذه، حتى كادت تملأ نحرَه.
 
قوله: (ليس بالقصير ولا بالطويل)، وفي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه سمعه يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق، وليس بالآدم وليس بالجَعْد القطط، ولا بالسبط، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين، فتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
 
قال الحافظ: قوله: فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه مقتضي هذا أنه عاش ستين سنة، وأخرج مسلم من وجه آخر عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - عاش ثلاثًا وستين، وهو موافق لحديث عائشة أن رسول الله توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، وبه قال الجمهور، وفي رواية هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس لبث بمكة ثلاث عشرة وبعث لأربعين ومات وهو ابن ثلاث وستين، وهذا موافق لقول الجمهور، وفي حديث البراء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجهًا وأحسنه خلقًا، وفي رواية: سُئل البراء أكان وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل السيف، قال: بل مثل القمر، وعن أنس قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس.
 
قال الحافظ: فجمع صفات القوي الثلاث العقلية والغضبية والشهوانية، فالشجاعة تدل على الغضبية، والجود يدل على الشهوية، والحسن تابع لاعتدال المزاج المستتبع لصفاء النفس الذي به جودة القريحة الدال على العقل، فوصف بالأحسنية في الجميع، وفي حديث جبير بن مطعم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذوبًا ولا جبانًا.
 
قال الحافظ: فأشار بعدم الجبن إلى كمال القوة الغضبية وهي الشجاعة، وبعدم الكذب إلى كمال القوة العقلية وهي الحكمة، وبعدم البخل إلى كمال القوة الشهوانية وهو الجود.
 
وفي حديث الربيع بنت معوذ: لو رأيته لرأيت الشمس طالعة؛ أخرجه الطبراني والدارمي، وروى الذهلي في الزهريات من حديث أبي هريرة في صفته - صلى الله عليه وسلم - كان أسيل الخدين شديد سواد الشعر، أكحل العينين أهدب الأشفار؛ الحديث.
 
قال الحافظ: وكان قوله: أسيل الخدين، هو الحامل على من سال أكان وجهه مثل السيف، ووقع في حديث علي عند أبي عبيد في الغريب: وكان في وجهه تدوير؛ قال أبو عبيد في شرحه: يريد أنه لم يكن في غاية من التدوير، بل كان فيه سهولة، وهي أحلى عند العرب.
 
وفي حديث أبي جحيفة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضَّأ، فذكر الحديث، قال: وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه، فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك.
 
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، فكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيءٍ، ثم فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه.
 
قوله: يسدل شعره.
 
قال النووي: قال العلماء: المراد إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة؛ أي بضم القاف، قوله: ثم فرق؛ أي ألقى شعر رأسه إلى جانبي رأسه، فلم يترك منه شيئًا على جبهته.
 
قوله: وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء.
 
قال الحافظ: أي فيما لم يخالف شرعه؛ لأن أهل الكتاب في زمانه كانوا متمسكين ببقايا من شرائع الرسل، فكانت موافقتهم أحب إليه من موافقة عباد الأوثان، فلما أسلم غالب عباد الأوثان أحب - صلى الله عليه وسلم - حينئذ مخالفة أهل الكتاب؛ انتهى، وبالجملة فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلقًا وخَلقًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]؛ يقول ناعته: لم أرَ قبله ولا بعده مثله - صلى الله عليه وسلم[3]، وبالله التوفيق.



[1] فتح الباري: (10/ 306).


[2] فتح الباري: (10/358).


[3] فتح الباري: (6/ 570- 574).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢