أرشيف المقالات

تفاوت الصحابة في الفضل ومراتبهم فيه

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
تفاوت الصحابة رضوان الله عليهم في الفضل ومراتبهم فيه
 
من الثابت لدى أهل العلم والإيمان أنَّ الصحابة رضي الله عنهم ليسوا على درجة واحدة في الفضْل، بل للواحد منهم - والطائفةِ - من الفضائل والمراتب بحسب سَبْقهم للإسلام والهجرة والإيواء، والنُّصرة والجهاد، وبحسبِ ما قاموا به من أعمال تجاه دينهم ونبيِّهم صلى الله عليه وسلم.
 
أ‌- فأفضلهم جملة من أنْفَقَ من قبل صُلْح الْحُديبية الذي سَمَّاه الله فتْحًا وقاتَلَ؛ فإنهم أفضلُ مِن الذين أنفقوا من بعده وقاتَلوا، والدليل على التفضيل قوله تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10].
 
وهؤلاء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
 
ب‌- ودلَّتِ النصوص على تقديم جملة المهاجرين على جملة الأنصار من الصحابة، فمِن ذلك قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117]، وقوله جلَّ وعلا في الفَيء: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
 
فأثْنَى الله سبحانه وتعالى على الجميع، وقدَّم المهاجرين على الأنصار في الذِّكْر والتقديم في الذِّكْر يدلُّ على التقدُّم في الفضْل والمنْزِلة فذلك يدلُّ على تقدُّمهم في المرتَبة والفضْل رضي الله عنهم وذلك لِمَا اخْتُصوا به من ترْك الأوطان والأموال، والأهل والأولاد، والهجرة إلى الله ورسوله؛ فرارًا بالدين، ونصرة لله ورسوله، وطلبًا للجهاد في سبيله، وإعلاء كَلمته.
 
فضل أهل بدر على غيرهم:
وقد اخْتُص أهْلُ بدر من المهاجرين والأنصار بفضيلة أنَّ الله اطَّلعَ عليهم، فقال: (اعملوا ما شئتُم؛ فقد غَفَرتُ لكم)، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر؛ كما جاء في الصحيحين وغيرهما.
 
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وهذا والله أعلم لأنَّ الله سبحانه وتعالى عَلِم أنهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وما قد يقارفونه أي: يرتكبونه من الذنوب كما يكون من غيرهم، فإنه سبحانه يوفِّقهم للتوبة النصوح، والاستغفار الصادق، والحسنات الماحِيَات التي يَغفر الله لهم بموجبها.
 
فضل أهل أحد والأحزاب وغيرهم:
ولأهل أُحُد والأحزاب وغيرهما من البلاء والجهاد والصبر ما فاقوا به مَن لَم يَشْهد تلك المشاهد ممن بعدهم، وفضلُ الله عظيم.
 
فضْل أهْل بيعة الرضوان:
ومما خَصَّ الله به أهْل بيعة الرضوان التي جَرَتْ في الحديبية من المهاجرين والأنصار، أنَّ الله تعالى رَضِي عنهم، وأنه لا يُدخِل النار أحدًا بايَع تحت الشجرة، وكانوا أكثرَ من ألفٍ وأربعمائة، وجاء ذلك صريحًا في القرآن في قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]، وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل النار أحدٌ بايَع تحت الشجرة».
 
فمَذْهب أهْل السُّنة والجماعة أنَّ أهْل بدر، وأهل بيعة الرضوان يُشْهَد لهم بالجنة والنجاة من النار على وجْهٍ أخصَّ من الشهادة بذلك لجميع الصحابة الذين يعمُّهم قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 95].
 
فضل العشرة المبشَّرين بالجنة:
ومن أعظم الفضائل التي اختُصَّ بها العشرة المبشَّرون بالجنة تخصيصُ النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة لهم بالجنة وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوَّام، وسعد بن أبي وقَّاص، وسعيد بن زيد، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجرَّاح.
 
فضل أعيان من الصحابة غير العشرة:
وهكذا غير هؤلاء من الصحابة ممن شَهِد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، مثل: ثابت بن قيس بن شَمَّاس، وعكَّاشة بن مِحْصَن، وعبدالله بن سلام، والحسن والحسين، وأُمَّهات المؤمنين وغيرهم رضي الله عن الجميع.
 
فشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء بالجنة فضيلةٌ خُصُّوا بها دون غيرهم، وهي من أعظم الفضائل.
 
والشهادة لهؤلاء المعينين من جُملة براهين رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإن جميع مَن عيَّنهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة لهم بالجنة لَم يزالوا مستقيمين على الإيمان؛ حتى وصلوا إلى ما وُعِدوا به، فأهْل السُّنة والجماعة يَشْهدون لهؤلاء بالجنة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شَهِد لهم بذلك على وجْه التحديد والتعيين، فإنَّ الشهادة لأحد بالجنة أو النار مما ليس للعقْل فيها مدخل، بل هي موقوفة على الشَّرْع.
 
والشرْع قد جاء بالشهادة لأولئك، فيُشْهَد لهم بما شَهِد لهم به الشرع، وأمَّا مَن لَم يَشْهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلا يُشْهَد له بالجنة؛ لأنَّ في ذلك تقوُّلاً على الله عزَّ وجلَّ ولكن يُرْجَى للمحسنين من أهْل الإسلام الثواب، ويُخاف على المسيئين منهم العقاب.
 
فضْل الخلفاء الراشدين وترتيبهم فيه:
اتَّفق أهل السُّنة والجماعة على أنَّ الخلفاء الراشدين الأربعة المهديين هم أفضل المهاجرين، فهم أفضلُ الأُمَّة بعد نبيِّها صلى الله عليه وسلم فهم وزراء النبي صلى الله عليه وسلم وأصْهاره، وثبَتَ لكلِّ واحدٍ منهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فضائلُ اختُصَّ بها دون غيره، ولَم يلحقْهم فيها غيرهم رضي الله عن الجميع.
 
وقد أجمع أهْلُ السُّنة والجماعة على ما تواتَر به النقْلُ عن علي رضي الله عنه وغيره أن خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر ثم عمر، واختلفوا في عثمان وعلي: أيُّهما أفضلُ؟ فقدَّم قومٌ عثمانَ وسكتوا وربَّعوا بعلي، وقدَّم قومٌ عليًّا، وقومٌ توقَّفوا، وأشارَ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله إلى ترجيح الرأْي الأول وهو تقديم عثمان على عَلِي في الأَفْضليَّة؛ لأمور، منها:
1- أنَّه الذي دلَّتْ عليه الآثار الواردة في مناقب عثمان رضي الله عنه.
 
2- إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة بالخلافة، وما ذلك إلا لأنه أفضلُ في نظرِهم، فترتيبُهم في الأفضليَّة كترتيبهم في الخلافة؛ روى البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما: كنَّا نُخيِّر بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنُخَيِّر أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم، وعند أبي داود: كنَّا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضلُ أُمَّة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان.
 
3- أنه استقرَّ أمرُ أهْل السُّنة على تقديم عثمان ثم علي، كما قدَّموه في البيعة؛ قال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: إني نظرتُ في أمر الناس، فلم أَرَهم يَعْدِلون بعثمان، قال غيرُ واحدٍ من السلف: مَن لَم يقدِّمْ عثمان على عَلِي، فقد أزْرَى بالمهاجرين والأنصار، فهذا دليلٌ على تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما أو أنه أفضلُ؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم قدَّموه باختيارهم بعد تشاورهم، وكان علي رضي الله عنه مِن جملة مَن بايَعه، وكان يُقيم الحدودَ بين يَديه.
 
واتِّفاقهم على تقديم عثمان على علي رضي الله عنهم يدلُّ على أنَّ عَليًّا رضي الله عنه هو الأفضلُ بعد عثمان والأحقُّ بالخلافة بعده؛ فإنه رضي الله عنه كان أفضلَ أهْل زمانه، وذلك هو الذي كان، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
 
وخلاصة مذْهَب أهْل السُّنة والجماعة في المفاضَلة بين الصحابة بعد الاعتراف بفضْل الجميع أنَّ أفضل الصحابة أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتَضَى، ثم بقيَّة العشرة المشهود لهم بالجنة، ثم أهْل بدر، ثم أهْل بيعة الرضوان، ثم بقيَّة الصحابة ممن أسْلَم قبل الفتْح، ثم مَن أسلمَ من بعد الفتْح وقَاتَل.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢