تفسير سورتي التين والعلق


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم من المقبولين، هذا الدرس في تفسير سورة التين، وهي سورة مكية، وقد اشتملت على ثمان آيات في أربع وثلاثين كلمة في مائة وخمسين حرفاً، يعني عدد حروف سورة التين عدد حروف سورة الشرح، فمن وفقه الله إلى قراءة هذه السورة المباركة فله من الحسنات ألف وخمسمائة حسنة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.

وهذه السورة افتتحت بالقسم، فأقسم ربنا جل جلاله فيها بأربعة من مخلوقاته، أقسم بالتين، وبالزيتون، وبطور سينين، وبالبلد الأمين.

وتقدم معنا أن سورة الشمس افتتحت بالقسم، وأقسم ربنا جل جلاله فيها بسبعة أشياء، وسورة الليل أقسم فيها ربنا بثلاثة أشياء: بالليل والنهار، وخلق الذكر والأنثى، وسورة الضحى أقسم ربنا جل جلاله فيها بشيئين: بالضحى، وبالليل.

فالله عز وجل يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس لنا معشر المخلوقات إلا أن نقسم بالله جل في علاه؛ لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) .

وهذه السورة المباركة شأنها شأن السور المكية التي تناولت الحديث عن نعم الله عز وجل في الكون والآفاق وخلق الإنسان، والاستدلال بهذا كله على أن البعث والجزاء حق.

قال الله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ[التين:1].

قال ابن عباس و مجاهد و عكرمة و إبراهيم النخعي و جابر بن زيد و مقاتل و الكلبي وغيرهم من أهل التفسير: قوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ[التين:1] هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي منه تعصرون.

يعني: الله عز وجل أقسم بهاتين الثمرتين: التين، والزيتون.

قال أهل التفسير: أقسم ربنا جل جلاله بالتين؛ لأنه فاكهة حسنة المظهر طيبة المخبر، سهلة الجنى، وتؤكل قوتاً وأدماً وفاكهة، وهي بمقدار المضغة، ونعمة الله عز وجل فيها ظاهرة.

قال ابن القيم رحمه الله: والتين أقسم به ربنا جل جلاله لظهور العزة فيه؛ فإنه يستعمل قوتاً، يمكن للإنسان أن يستغني به، ويستعمل أدماً، يمكن أن يؤتدم به ويؤكل بالخبز، ويستعمل كذلك فاكهة يمكن للإنسان أن يتفكه به بعد الطعام.

ثم قال: وهو فاكهة لا عجم لها. يعني: ليس فيها نوى كالعنب مثلاً والتمر، وإنما تؤكل كلها سهلة دون أن يخشى الإنسان غائلتها، ثم إن التين يستعمل في صنع كثير من الأدوية.

قوله: وَالزَّيْتُونِ[التين:1]، الزيتون أيها الإخوة الكرام الآية فيه ظاهرة؛ فإن الله عز وجل جعله ثمرة تؤكل، وجعل منه الزيت الذي يُعصر، فيدهن ويستصبح به، أي: يجعل في المصابيح، ويتداوى به، وسماه الله عز وجل نوراً كما بين في كتابه الكريم قال تعالى: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ[النور:35]، فضرب الله عز وجل المثل بهذه الثمرة.

ونبهنا ربنا جل جلاله على هذه الآية في كثير من آيات كتابه، فقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ[الأنعام:99].

فأقسم الله عز وجل بالتين والزيتون، والمراد: القسم بمنبتهما ومكانهما وهي الأرض المباركة فلسطين، كما قال بعض أهل التفسير، وليس المراد كما قال ابن عباس ومن معه: إن التين هو تينكم الذي تأكلون، والزيتون زيتونكم الذي تعصرون، وإنما المقصود منبتهما وهي الأرض المباركة، واستدلوا على ذلك بأن الله أتبعها بذكر طور سينين الذي كلم عليه موسى، والبلد الأمين الذي ولد فيه محمد صلى الله عليه وسلم، فذكر أماكن هؤلاء الأنبياء الكبار أصحاب الشرائع صلوات الله وسلامه عليهم.

قال الله تعالى: وَطُورِ سِينِينَ[التين:2].

يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: الطور: هو الجبل بلغة النبط ولغة الحبش، وقد ذكره ربنا جل جلاله في كثير من آيات القرآن كقوله سبحانه: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا[مريم:52].

زقوله سبحانه: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى[طه:80].

وقوله عز وجل: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا[القصص:46].

وقول الله عز وجل: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ[الطور:1-2] يعني: أقسم بهذا الجبل في أول سورة الطور، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى، وطمع موسى فيما هو أكثر من الكلام فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا[الأعراف:143]، وهو الجبل الذي دفن عنده موسى عليه السلام، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن موسى عليه السلام لما جاءه ملك الموت سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة مقدار رمية حجر، قال عليه الصلاة والسلام: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر) والكثيب هو مجتمع الرمل.

فأقسم ربنا بطور سينين، وسينين قالوا: هو المكان الذي تجتمع فيه الشجر، أيضاً بلغة الحبشة، وهذا كله على مذهب من يقول بأن في القرآن كلمات أعجمية.

قال الله تعالى: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ[التين:3].

إن الله عز وجل تدرج في القسم من الفاضل إلى ما هو أفضل، فأقسم بالتين والزيتون وهو المكان الذي ولد فيه المسيح عيسى بن مريم، ثم بطور سينين، وهو المكان الذي كلم الله فيه موسى، ثم أقسم بالبلد الأمين موطن محمد صلى الله عليه وسلم.

ولا تعارض -أيها الفضلاء- بين هذه الآية وبين قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ[البلد:1] فقد تقدم معنا أن المفسرين قالوا فيها: (لا) هنا زائدة، كما في قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا[الأنعام:151] والمعنى: حرم عليكم أن تشركوا به شيئاً. وفي قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ[فصلت:34] أي: ولا تستوي الحسنة والسيئة.

وقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ[الحديد:29] أي: ليعلم أهل الكتاب.

وقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ[النساء:65] المعنى: فوربك لا يؤمنون حتى يحكموك، فـ(لا) هنا زائدة على عادة العرب في كلامهم، أو يكون المعنى: لأقسم بهذا البلد، وتكون اللام للتوكيد، لكن أشبعت فتحتها حتى عادت ألفاً، كما في قول بعض العرب:

وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي أسيراً يمانيا

وقول الآخر:

إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضّاها ولا تملق

أي: لا ترضّها، لكن أشبع الفتحة فأثبت الألف.

فالله عز وجل أقسم بالتين والزيتون، وطور سينين، وأقسم بالبلد الأمين، والمقسم عليه، قوله عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[التين:4] أي: يقسم الله جل جلاله أنه خلق هذا الإنسان في أحسن صورة وأكمل هيئة.

قال الإمام القاضي أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله: ثبت بهذه الآية أن الإنسان أحسن شيء خلقه الله قط: جمال صورة، وبديع تركيب، له لسان ذلق، وعينان بصيرتان، وأذنان سميعتان، والرأس بما وعى، والبطن بما حوى، واليدان بما بطشتا، والرجلان بما مشتا، ثم جعله الله عز وجل سميعاً بصيراً مدبراً مريداً متكلماً حكيماً.

هذه الصفات كلها وضعها الله عز وجل في هذا الإنسان، خلقه الله عز وجل طويل القامة، لا يمشي مكباً على وجهه كسائر الحيوانات، وخلقه الله عز وجل يأكل بيديه ونوع له المطاعم والمشارب، ثم كساه بهذا اللباس الذي زاده جمالاً، قال عز وجل: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا[الأعراف:26] فهل رأيتم حماراً أو بقرة تلبس عباية أو بنطالاً أو قميصاً؟ لا، وإنما تمشي كما خلقها الله، لكن الإنسان خلقه الله عز وجل باللباس الذي يستر سوأته.

ثم خلق له الريش الذي يزيده جمالاً، عمامة أو شالاً، ويلبس عباءة، وينتعل في رجليه جوارب، وهذه كلها مكملات بعدما ستر العورة.

قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[التين:4].

يذكر الإمام القرطبي رحمه الله قصة في هذا الموطن فيقول: كان هناك شخص اسمه عيسى بن موسى الهاشمي ، وكان يحب زوجته حباً جماً، في أيام خلافة هارون الرشيد رحمه الله الخليفة الصالح العادل، فهذا الرجل كان يتكلم مع زوجته يؤنسها، فقال لها: أنت طالق ثلاثاً إن لم تكوني أجمل من القمر، فالمرأة كانت ورعة وصاحبة دين فاعتزلته، فوجد الرجل وجداً شديداً، وندم ندماً شديداً على ما قال، وذهب إلى هارون فقال له: أنا بالله ثم بك أوجد لي مخرجاً، فهارون جمع الفقهاء، فكلهم أفتوا بأن المرأة قد بانت منه، غير فقيه واحد كان ساكتاً، فطلب منه الخليفة أن يتكلم فقال: يا أمير المؤمنين اقرأ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ[التين:1] فقرأ هارون -وكان رجلاً عالماً- حتى بلغ: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[التين:4] فقال الفقيه: حسبك، فإن الله عز وجل قد أفتى، فالإنسان أجمل من القمر، فهارون رحمه الله قال لذلك الرجل الذي طلق زوجته ثلاثاً: قم ولا تعد لمثل ذلك، ثم أرسل الخليفة إلى زوجته أن أطيعي زوجك فأنت حلال له.

فقول الله عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[التين:4] أي: في أحسن صورة وأجمل هيئة.

قال الله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ[التين:5-6].

هنا للمفسرين قولان: الأول: قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيره: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ[التين:5]، قالوا: أي: إلى أرذل العمر، واستدلوا على ذلك بالآيات التي تناولت تلك الحال، كقول الله عز وجل: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ[يس:68].

وقول الله عز وجل: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا[النحل:70].

وقول الله عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ[الروم:54] لكن الإشكال في الاستثناء، وذلك أن الله عز وجل قال: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ[التين:5] أي: إلى أرذل العمر، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا[التين:6] فهل الذين آمنوا مستثنون؟

يقول الشيخ العلامة عطية رحمة الله عليه في أضواء البيان: فيكون الاستثناء راجعاً إلى حال المؤمنين الذين إذا تقدم بهم العمر فإنهم لا يعانون خرفاً ولا هذياناً. قال: وقد تواتر عند الخاصة والعامة أن حافظ القرآن المداوم على تلاوته لا يصيبه الخرف.

هذا شائع حقيقة بين الناس، وإن لم يكن هناك نص يؤيده، لكن عندنا الصالحون من عباد الله بلغوا من الكبر عتياً وبلغوا من العمر أرذله وهم في كامل قواهم العقلية.

فهذه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين رضي الله عنها زاد عمرها على المائة وما سقط لها سن، ودخل عليها الحجاج الطاغية وهي في ذلك العمر وقد صلب ولدها عبد الله بن الزبير الصالح القانت العابد رضي الله عنه، فقال لها: إنك امرأة عجوز قد خرفت، قالت له: لا والله ما خرفت، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج في ثقيف كذاب ومبير -أي: سفاح- أما الكذاب فقد عرفناه -وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي - وأما المبير فما إخاله إلا أنت)، تقول هذا الكلام وهي فوق المائة، ثم أمر الحجاج بأن ينزل ولدها وأن يُسلم إليها، فقامت بتغسيله بنفسها وهي فوق المائة من عمرها، وحنطته وما عاشت بعده إلا أياماً رضي الله عنها وأرضاها.

وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه الذي بلغ من العمر تسعاً وتسعين سنة، وقيل: بل بلغ مائة سنة وسنة، ومع ذلك كان في كامل حضور ذهنه واستحضاره للأحكام، وكان يفتي الناس رضي الله عنه، وقس على ذلك خلقاً كثيرين.

والآن يوجد أناس طاعنون في السن قد صار لأولادهم أحفاد، ومع ذلك الواحد منهم في كل يوم يقرأ من القرآن عشرة أجزاء، لكنه يأكل ويشرب قليلاً، وليس له عمل يشغله إلا القرآن يعكف عليه، وينتظر أن يأتيه النداء من ربه فيجيب، فنسأل الله أن يحسن لنا الختام.

فالتفسير الأول لقوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ[التين:5] أي: إلى أرذل العمر.

أما التفسير الثاني لقوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ[التين:5] أي: النار، والعياذ بالله. قال ابن القيم رحمه الله: وهذا التفسير هو الصحيح من وجوه:

الوجه الأول: أن من يرد إلى أرذل العمر قليل من الناس، وأكثرهم يموت قبل ذلك.

الوجه الثاني: أن المؤمنين والكفار سواء في الرد إلى أرذل العمر.

الوجه الثالث: هذه الآية لها نظائر في القرآن، كقول الله عز وجل: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ[الانشقاق:24-25].

وكقول الله عز وجل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[العصر:1-3].

إذاً: فرددناه أسفل سافلين، أي: إلى النار في أسفل سافلين، ومعلوم أن الجنة في أعلى عليين، ولعل هذا التفسير هو الصواب، والعلم عند الله تعالى.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: لما وصف الله الإنسان بهذه الصفات الزاكيات طغى وعلا حتى قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى[النازعات:24] فجعله الله عز وجل مشحوناً قذراً مملوء النجاسة، وجعلها تخرج على ظاهره خروجاً منكراً على وجه الاختيار تارة وعلى وجه الغلبة تارة؛ من أجل أن يعرف قدره. يعني: أن الإنسان يتعظ بما يخرج منه في الحمام من النجاسة، ولذلك قال القائل:

يا مظهر الكبر إعجاباً بصورته انظر خلاك فإن النتن تثريب

لو فكر الناس فيما في بطونهم ما استشعر الكبر شبان ولا شيب

وكما قيل: إن المهلب الذي كان قائداً من القواد العظام، جاء يمشي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب خز يتبختر، فقام له الناس إلا ابن أبي ذئب -وكان من نظراء مالك - كان جالساً ماداً رجليه، فجاء المهلب فقال له: أما عرفتني؟ قال: بلى عرفتك. قال له: فلم لم تقم؟ قال له: لأني عرفتك. قال له: فمن أنا؟ قال له: أنت أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل في جوفك العذرة.

فالله عز وجل جعل الإنسان سميعاً بصيراً متكلماً مريداً مدبراً مفكراً ناطقاً، لكن جعل في جوفه النجاسة من أجل أن لا يعدو قدره ويتكبر.

قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[التين:6] فهؤلاء الذين استثناهم ربنا. قوله: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ[التين:6] أي: غير مقطوع، وهذه بشرى عظيمة.

قال ابن عباس : من واظب على عمل صالح في شبابه ثم عجز عنه عند الهرم أجرى عليه الله الأجر والثواب. وليستبشر بذلك كبار السن الذين تعودوا على صلاة الجماعة وألفوا بيوت الله، وتعودوا صيام التطوع، وتعودوا كثيراً من الأعمال الصالحة، وعجزوا وما استطاعوا أن يأتوا إلى المسجد، وما استطاعوا أن يصوموا تطوعاً، بل ربما ما استطاعوا أن يصوموا رمضان، فإن الله يكتب لهم الجر والثواب، ولا ينقطع عنهم حتى يموتوا.

قال الله تعالى: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ[التين:7] أي: ما الذي يحملك يا عبد الله على التكذيب بالجزاء والحساب والجنة والنار؟! ألم يخلقك ربك في أحسن تقويم؟!

وذكر الله عز وجل هذه الآية من أجل أن يستدل بها على البعث والنشور، كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ[غافر:64].

كقوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ[التغابن:3].

كقوله: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[الجاثية:4].

فإذا كنت أيها الإنسان مكرماً بأن الله قد خلقك وأنشأك النشأة الأولى فينبغي أن تقر بأنه قادر على أن يعيدك مرة ثانية، قال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ[الروم:27].

قال الله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ[التين:8].

روى الإمام الترمذي أن عبد الله بن عباس و علي بن أبي طالب رضوان الله عليهما كانا إذا قرأا هذه الآية قالا: (بلى ونحن على ذلك من الشاهدين).

فحكمة الله عز وجل ظاهرة في أمرين اثنين: في خلقه، وفي قضائه، أما في خلقه فقد قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[التين:4] وأما في قضائه فإنه لا يسوي جل جلاله بين مختلفين، قال عز وجل: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ[الجاثية:21].

وقال عز وجل: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ[ص:28].

هذه السورة أيها الإخوة الكرام جدير بنا أن نتأملها وأن نكثر من تلاوتها، وأن ننظر في عظمة خلق الله عز وجل، خاصة في زماننا هذا بعدما تقدمت العلوم وتطورت الفنون، واكتشف الناس ما لم يكونوا يعرفون، فنستدل بذلك على أن الخالق الأعظم جل جلاله قادر على أن يعيدنا كما بدأنا، أسأل الله أن يجعلنا من المتعظين.

بسم الله الرحمن الرحيم.

معنا في هذا الدرس تفسير سورة العلق، وهذه السورة المباركة هي إحدى ست سور في القرآن افتتحت بالأمر، فقال سبحانه هنا: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العلق:1]، ثم القواقل الخمس: الكافرون، والإخلاص، والفلق، والناس، والجن، هذه السور الست افتتحت بالأمر الموجه لرسول صلى الله عليه وسلم.

وسورة العلق مكية بإجماع المفسرين، وقد اشتملت على تسع عشرة آية، واثنتين وتسعين كلمة، في مائتين وثمانين حرفاً، من وفقه الله لقراءتها فله من الحسنات ثمانمائة وألفا حسنة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.

هذه السورة عند جمهور أهل العلم هي أول ما نزل من القرآن، أي: الآيات الخمس الأولى منها هي أول ما نزل من القرآن، ويدل على ذلك حديث أمنا عائشة رضي الله عنها في الصحيحين قالت: (أول ما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي أنه كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح).

قال أهل الحديث: واستمر ذلك لمدة ستة أشهر، وهذا تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصادقة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة) ؛ لأن النبوة استمرت ثلاثاً وعشرين سنة، فالرؤيا الصادقة كانت ستة أشهر، يعني: جزءاً من ست وأربعين جزءاً، فأول ما بدأ به صلى الله عليه وسلم من الوحي أنه كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتعبد ويتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ثم يرجع لـخديجة فيتزود لمثلها حتى فجعه الوحي وهو في الغار، فقال: (اقرأ، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم قال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، ثم قرأ عليه الخمس الآيات الأول من سورة العلق، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده، وقال: لقد خشيت على نفسي، فطمأنته رضي الله عنها وجزاها الله عن نبي الإسلام خيراً، قالت: كلا والله يا ابن عم ما يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، ثم صحبته إلى ابن عمها ورقة) إلى آخر القصة المعروفة.

فالله عز وجل نبأ محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات، وأرسله بـ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ[المدثر:1-2].

قال الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العلق:1].

القراءة في اللغة: إبراز الشيء وإظهاره، ومنه قول القائل في وصف الناقة: لم تقرأ جنيناً، أي: لم تنتج ولم تبرز جنيناً، أي: ولم تلد.

قوله: اقْرَأْ )) هنا سؤال طرحه أهل التفسير: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً؟ الجواب: نعم، فكيف يوجه إليه الأمر بالقراءة؟ قالوا: القراءة على نوعين: إما أن تكون قراءة من شيء مكتوب، وإما أن تكون قراءة من متلو، وهاهنا قراءة من متلو، فجبريل عليه السلام يتلو ويأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بأمر الله أن يردد، هذه هي القراءة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك بعض الناس يستغرب إذا سمع أحد العلماء وقد كُف بصره، يقول: أنا قرأت في كتاب كذا، أو قرأت في جريدة كذا، يقولون: هذا الرجل يكذب، كيف قرأ وهو أعمى؟! نقول: لا، القراءة إما أن تكون من مكتوب أو متلو.

قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العلق:1] أي: اقرأ مفتتحاً ومبتدئاً ومنشئاً باسم الله، فالله هو الذي أرسلك، وهذا الوحي والرسالة منه، والأمر منه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ[المائدة:67].

فقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ذكر ربنا جل جلاله هنا صفة من صفاته أو فعلاً من أفعاله وهو الخلق، وما قال: اقرأ باسم ربك الذي أوحى، أو: اقرأ باسم ربك الذي أرسل، وإنما قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العلق:1]، قالوا: لسببين اثنين:

السبب الأول: أن الخلق هو ألزم أوصاف الربوبية، فالرب عز وجل هو الخالق، ثم يأتي بعد ذلك كونه رازقاً، وكونه نافعاً، قال الله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الروم:40].

السبب الثاني: أن المشركين كانوا مقرين بأن الله هو الذي خلقهم، قال عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[لقمان:25].

وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[الزخرف:87].

وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ[الزخرف:9].

فمن أجل هذا ذكر ربنا جل جلاله هذه الصفة، وكأن إنساناً سأل: لم أقرأ: باسم الله؟ فجاء الجواب: لأنه الذي خلق، كما في أول أمر في القرآن، قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ[البقرة:21] لم؟ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ[البقرة:21] يعني: ما دام هو الخالق جل جلاله فينبغي أن يكون هو المعبود.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2545 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2534 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2506 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2377 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2368 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2295 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2262 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2127 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2087 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2048 استماع