المرابطون في بيوت الله [9] - تعريف الخوف ومنزلته


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهد الله فهو المهتدي, ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً, وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله, ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله, أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين, وخالق الخلق أجمعين ورازقهم, وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله, أرسله الله رحمةً للعالمين, فشرح به الصدور, وأنار به العقول, وفتح به أعيناً عمياً, وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً, فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

أما بعد: معشر الإخوة المؤمنين! إن أفضل بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد, ففيها نوره وهداه، وإليها يأوي الموحدون المهتدون, وقد نعت الله الذين يعمرونها بأنهم رجال لا تلهيهم البيوع والتجارات عن الغاية التي خلقهم من أجلها رب الأرض والسماوات, وهم الذين يصلون لله, ويذكرونه في الغدو والعشيات, وهم الذين يحسنون إلى عباد الله, ويشفقون على المخلوقات, وهم الذين يبذلون ما في وسعهم استعداداً للقاء ربهم.

قال الله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37] .

إخوتي الكرام! قد عشنا في نور هذه الآية الكريمة وقفات متعددة, وتدارسنا الصفات الثلاث الأولى من صفات هؤلاء الرجال الأبرار.

فتدارسنا الصفة الأولى وهي: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] .

وتدارسنا الصفة الثانية لهم وهي: يذكرون الله, عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37].

وتدارسنا الصفة الثالثة لهم وهي: وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37].

وبقيت الصفة الرابعة لهؤلاء العباد الطيبين وهي: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

فهذه الصفات التي نعت الله بها من يعمرون بيوته في هذه الحياة.

ذكر تفسير ومعاني تقلب القلوب والأبصار

إخوتي الكرام! الصفة الرابعة لهؤلاء الرجال: قوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], فتقلب القلوب هو: حركتها واضطرابها وتحولها من أماكنها.

نعم إن القلوب في ذلك اليوم العصيب الرهيب تصل إلى الحناجر, وتخرج من أماكنها فلا يستطيع الإنسان أن يخرجها من فيه ليستريح ويموت، ولا تعود هذه القلوب إلى أمكنتها ليستريح ويهدأ ويطمئن، كما قال الله جل وعلا مقرراً هذا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [غافر:18] أي: ممتلئين غيظاً وهماً وغماً، قال: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18].

فقوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], أي: أن الأبصار في ذلك الموقف لا تستطيع أن تغمض, ولا أن يطبق الجفن على الجفن، إنما هي شاخصة زائغة، تدور يمنةً ويسرةً, ولا تدري ماذا يفعل بها, كما قال الله جل وعلا: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42] فالأبصار لا تغمض, ولا يطبق الجفن على الجفن, ثم هي زائغة تدور, لا تعلم ماذا سيحل بها؟ ولا تعلم أين مصيرها إلى جنة أو إلى نار؟

فهؤلاء الأخيار الذين يعمرون بيوت الله في هذه الحياة يستعدون لهذا اليوم الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار, وهذا المعنى لتقلب القلوب والأبصار هو أرجح ما قيل في تفسير الآية من أقوال أربعة، وعليه اقتصر الإمام الجليل شيخ الإسلام الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية, فذكر هذا المعنى ولم يذكر سواه، وهو الذي رجحه الشيخ المبارك محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان عليهم رحمات ذي الجلال والإكرام.

وأما المعاني الثلاثة الأخرى لهذه الآية الكريمة: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], فالأول: قوله: (تتقلب فيه القلوب)، أي: انتقالها من حال لحال، فتارة تطمع في رحمة ذي العزة والجلال, وترجو النجاة في ذلك اليوم، وتارة تنقبض وتخاف، فالقلوب في ذلك اليوم ما بين رغبة ورهبة، ما بين أمل ووجل.

وهكذا الأبصار أيضاً، تتقلب وهي زائغة لا تعلم هل ستأخذ الكتب من اليمين أو من الشمال؟ ولا تعلم ماذا سيؤمر بها إلى جنة أو إلى نار؟ قال: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], فتقلب القلوب تحولها من حال لحال ما بين أمل ووجل، وهكذا تقلب الأبصار.

والمعنى الثاني من المعاني الثلاثة الأخرى سوى المعنى الأول: أن قوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] أي: تتقلب القلوب يوم القيامة إلى يقين بعد شك، فالكفار الذين شكوا في هذه الحياة يوقنون بالحقيقة في ذلك الوقت على التمام، لكن ذلك الإيقان لا ينفعهم, تقلبت قلوبهم أي: بعد أن كفروا آمنوا، لكن الإيمان لا ينفعهم في ذلك الوقت، فتقلبت القلوب وتغيرت.

وأما الأبصار فهذه الأبصار التي كانت فيها حدة وشدة في هذه الحياة, وتلمز المؤمنين وتغمزهم, هذه الأبصار تنكسر في ذلك الوقت وتتقلب وتكون ذليلة مطرقة خائفة.

وآخر المعاني وهو الثالث -ويكون الرابع مع المعنى الأول- أن قوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] أي: تقلب القلوب والأبصار عندما تكون في النار؛ كما قال العزيز الغفار: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا [الأحزاب:64-66].

وقال جل وعلا: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] هذا على معنىً من المعاني التي تحتمله هذه الآية الكريمة, كما هو مقرر في كتب التفسير, وعليه: (نقلب أفئدتهم) أي: عقولهم وقلوبهم وأبصارهم في النار؛ لأنهم لم يؤمنوا بهذا, أي: لم يؤمنوا بالقرآن وبالرحمن وبنبينا عليه الصلاة والسلام في الحياة.

وقوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [الأنعام:110] أي: على النار وفي النار كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].

وكما قلت: هذا على أحد المعاني الذي تحتمله هذه الآية في سورة الأنعام.

وأرجح المعاني ما قدمته وهو: أن القلوب في ذلك الوقت تضطرب وتخفق خوفاً وفزعاً من هول ذلك اليوم، وتتحول من أماكنها, وتصل إلى الحناجر, فلا تخرج ولا تعود إلى مكانها, وهكذا الأبصار تدور وتزيغ, قال الله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

حقيقة الخوف ومعناه عند علماء الإسلام

إخوتي الكرام! إذا أردنا أن نستوعب الكلام على وجه الاختصار على الصفة الرابعة من صفات من نعتهم الله بأنهم يعمرون بيوته في هذه الحياة فسيكون الكلام عليها ضمن مقامين وأمرين ومبحثين: أولهما: في الخوف الذي اتصفوا به: (يخافون).

والثاني: في بيان يوم القيامة وما يتعلق به.

أما الخوف فسأقصر الكلام عليه ضمن أربعة أمور:

أولها: في تعريف الخوف.

وثانيها: في منزلة الخوف.

وثالث الأمور المتعلقة بالخوف: ثمرة الخوف.

ورابع الأمور: في أسباب الخوف.

وأما ما يتعلق بيوم القيامة يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] فالبحث في ذلك طويل, سيأخذ معنا وقفات متعددة, نسأل الله أن يمنَّ علينا بالفقه في دينه ومعرفة معنى كلامه, إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! أما ما سنتدارسه في هذه الوقفة من الأمور المتعلقة بالخوف أمران هما: بيان معنى الخوف، وبيان منزلة الخوف.

إخوتي الكرام! إن حقيقة الخوف كما قرر علماء الإسلام هو: احتراق القلب، وتألُّمه لتوقع مكروه في المستقبل عن أمارة, -أي: عن علامة- مظنونة أو معلومة.

فمن توقع مكروهاً سينزل به في المستقبل في هذه الحياة أو بعد الممات فإنه يعتري قلبه حالة، هذه الحالة هي حالة الخوف.. هي حالة الوجل.. هي حالة الإشفاق، هذا هو الخوف.

إذاً: الخوف احتراق القلب، وتألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل عن أمارة مظنونة أو معلومة.

أقسام ما يعتري الإنسان في الحياة من خير وشر

وقد قرر علماؤنا الكرام أن ما يعتري الإنسان في هذه الحياة من خير وشر.. من محمودٍ ومذمومٍ.. من شيءٍ يحبه أو شيءٍ يكرهه، ما يعتريه ينقسم إلى ثلاثة أقسام بالنسبة في حلوله عليه وشعوره به.

إما أن يكون هذا الذي في الإنسان شيءٌ مضى وانقضى، إنما يتذكره في هذه الأيام، من خير أو شر.. من محمود أو مذموم، أي: حالة مرت عليه في الزمن الماضي، فإذا تذكرها يقال لهذه الحالة: ذكر وتذكر للماضي، فإن كانت في أمر محمود فرح، وإن كانت في أمر مذموم حزن، أي: حزن على شيءٍ فاته مما يحبه, أو فرح بأمرٍ فاته مما يكرهه، فهذه الحالة الأولى، حالة ماضية تتذكرها الآن فيقال لها: ذكر وتذكر.

وإما شيء آخر يقع عليك مما تحبه أو تكرهه، لكنه يقع عليك في الزمن الحاضر فهو يباشرك، فهذه الحالة التي تكون في الزمن الحاضر يقال لها: ذوق وإدراك ووجد؛ لأنك تجد هذا, وتذوقه في هذا الوقت، وهذا الذي ينزل عليك إن كان محبوباً يعقبه الرضا، وإن كان مكروهاً يعقبه السخط، فتشعر بحالة الرضا وبحالة السخط، فتذوق هذا، وتتلذذه، وتكره ذاك وتبغضه، كل هذا في هذا الوقت، بينما هناك في الأولى حزن أو فرح، وأما هنا فرضاً أو سخطاً.

والحالة الثالثة التي تعتري الإنسان ولا تخرج أحوال الإنسان عن ذلك, حالة مستقبلة ستنزل به يفكر فيها, فيقال لها: توقع وانتظار، فإن كانت في محمود ومحبوب سميت تلك الحالة: رجاءً وأملاً، وإن كانت تلك الحالة المتوقعة في مذموم ومكروهٍ سميت: خوفاً وإشفاقاً ووجلاً.

وهذا ما قررته في تعريف الخوف: تألم القلب، واحتراق القلب بسبب توقع مكروه سينزل عليك في المستقبل عن أمارة يقينية معلومة أو مظنونة, وعليه هنا ما تتوقع أنه سينزل بك إن كان محموداً يسرك فرحت، وهذا يقال له: أمل ويقال له: رجاء، وإن كان سينزل بك وهو مكروه تخافه وتحذره يقال: هذا خوف، وإشفاق، ووجل.

تذكر الموت والآخرة سبب في استحضار الخوف من الله

وهؤلاء العباد الذين يعمرون بيوت الله في الأرض, يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] فلنطبق تعريف الخوف على حالتهم, كل واحد منا إخوتي الكرام! يوقن يقيناً أنه سيموت, وبعد الموت سيبعث, وسيأتينا تقرير البعث بأدلته التي لا يماري فيها عاقل في المبحث الثاني من هذه المباحث إن شاء الله، وإذا كان الأمر كذلك فسنبعث كما نستيقظ، وسنموت كما ننام، إذا كان الأمر كذلك فسنموت ونبعث، ولا يخلو واحد منا من تفريط وتقصير في حق الله جل وعلا, وما يعلم هل سيغفر له أم لا؟ وإذا علم أنه سيئول إلى الله وهو صاحب تفريط وتقصير وعصيان، ماذا سيكون حاله؟ إذا توقع عقوبة من الله وغضباً من الله سيعتري قلبه في هذه الحياة الحالة التي ذكرتها وهي الخوف والوجل والإشفاق من الله عز وجل.

نعم، من علم هذا سيخاف ولا بد، فرضي الله عن الحسن البصري عندما يقول -كما في حلية الأولياء- من علم أن الموت مورده, وأن الساعة موعده, وأن الوقوف بين يدي الله مشهده, حقيق به أن يطول حزنه في هذه الحياة، وأن يخاف من رب الأرض والسماوات, فالموت مورده ولا شك في ذلك، والقيامة موعده لا شك في ذلك، وسيجمع الله الناس ليومٍ لا ريب فيه، ويحصي عليهم مثاقيل الذر, قال الله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، وقال: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

فالموت موردنا, والقيامة موعدنا, والوقوف بين يدي الله مشهدنا؛ ليحاسبنا على النقير والقطمير، وعلى القليل والكثير، فمن استحضر هذا سيخاف ولا شك من الله الجليل, قال الله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

أضواء على قول الحسن البصري: الإنسان بين خوفين لا ينفك عنهما

يقول سيد المسلمين الحسن البصري عليه رحمة الله كما في الحلية: الإنسان بين خوفين لا ينفك عنهما وإن كان محسناً، إذا كان عاقلاً مهما وصل في درجة الإحسان وطاعة الرحمن فهو بين خوفين لا ينفك عنهما، ولا يفارقان قلبه طرفة عين، قيل له: ما هما؟

قال: ذنب مضى ما تدري ما الله صانع فيه؛ هل سيغفر لك أو سيعاقبك عليه؟ -ذنوب عملتها في ما مضى, ونحن نخطئ في الليل والنهار، فنسأل الله أن يدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه، إنه واسع الفضل والمغفرة-، قال: ذنب مضى لا تدري ما الله صانع فيه؟ وأجل بقي -أي: من حياتك- لا تدري ما أنت عامل فيه.

يا عبد الله! إذا كنت الآن في نعمة الإيمان, هل تعلم أن هذه النعمة ستثبت لك على الدوام. أم لا؟ نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه, وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

ولذلك إذا كان الأمر كذلك فحقيقة الإنسان بين خوفين لا ينفك عنهما, فهو لا يعلم ماذا سيعمل في المستقبل؟ ولا يعلم بأي شيء سيعامله فيما جرى منه في الماضي؟ ولذلك كان الحسن البصري عندما يقال له: أمؤمن أنت؟ فيقول: أرجو، قيل له: أشك يا أبا سعيد ؟! أتشك في إيمانك؟ قال ليس بشك، لكن ما يدريني أن الله اطلع على ذنب من ذنوبي فقال: يا حسن ! اعمل ما شئت فلن أقبل منك، ما يدريني أن الله اطلع على عمل من أعمالي السيئة, وعلى ذنب من ذنوبي, وعيب من عيوبي فمقتني، فقال: اعمل ما شئت فلن أقبل منك، ما يدريني بأي شيءٍ سيختم لي.

وبما أنك لا تدري ما جرى منك وما حالك عند الله، فأنت بين خوفين لا ينبغي أن يفارقا قلبك طرفة عين، قال الله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

إخوتي الكرام! الصفة الرابعة لهؤلاء الرجال: قوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], فتقلب القلوب هو: حركتها واضطرابها وتحولها من أماكنها.

نعم إن القلوب في ذلك اليوم العصيب الرهيب تصل إلى الحناجر, وتخرج من أماكنها فلا يستطيع الإنسان أن يخرجها من فيه ليستريح ويموت، ولا تعود هذه القلوب إلى أمكنتها ليستريح ويهدأ ويطمئن، كما قال الله جل وعلا مقرراً هذا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [غافر:18] أي: ممتلئين غيظاً وهماً وغماً، قال: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18].

فقوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], أي: أن الأبصار في ذلك الموقف لا تستطيع أن تغمض, ولا أن يطبق الجفن على الجفن، إنما هي شاخصة زائغة، تدور يمنةً ويسرةً, ولا تدري ماذا يفعل بها, كما قال الله جل وعلا: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42] فالأبصار لا تغمض, ولا يطبق الجفن على الجفن, ثم هي زائغة تدور, لا تعلم ماذا سيحل بها؟ ولا تعلم أين مصيرها إلى جنة أو إلى نار؟

فهؤلاء الأخيار الذين يعمرون بيوت الله في هذه الحياة يستعدون لهذا اليوم الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار, وهذا المعنى لتقلب القلوب والأبصار هو أرجح ما قيل في تفسير الآية من أقوال أربعة، وعليه اقتصر الإمام الجليل شيخ الإسلام الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية, فذكر هذا المعنى ولم يذكر سواه، وهو الذي رجحه الشيخ المبارك محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان عليهم رحمات ذي الجلال والإكرام.

وأما المعاني الثلاثة الأخرى لهذه الآية الكريمة: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], فالأول: قوله: (تتقلب فيه القلوب)، أي: انتقالها من حال لحال، فتارة تطمع في رحمة ذي العزة والجلال, وترجو النجاة في ذلك اليوم، وتارة تنقبض وتخاف، فالقلوب في ذلك اليوم ما بين رغبة ورهبة، ما بين أمل ووجل.

وهكذا الأبصار أيضاً، تتقلب وهي زائغة لا تعلم هل ستأخذ الكتب من اليمين أو من الشمال؟ ولا تعلم ماذا سيؤمر بها إلى جنة أو إلى نار؟ قال: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], فتقلب القلوب تحولها من حال لحال ما بين أمل ووجل، وهكذا تقلب الأبصار.

والمعنى الثاني من المعاني الثلاثة الأخرى سوى المعنى الأول: أن قوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] أي: تتقلب القلوب يوم القيامة إلى يقين بعد شك، فالكفار الذين شكوا في هذه الحياة يوقنون بالحقيقة في ذلك الوقت على التمام، لكن ذلك الإيقان لا ينفعهم, تقلبت قلوبهم أي: بعد أن كفروا آمنوا، لكن الإيمان لا ينفعهم في ذلك الوقت، فتقلبت القلوب وتغيرت.

وأما الأبصار فهذه الأبصار التي كانت فيها حدة وشدة في هذه الحياة, وتلمز المؤمنين وتغمزهم, هذه الأبصار تنكسر في ذلك الوقت وتتقلب وتكون ذليلة مطرقة خائفة.

وآخر المعاني وهو الثالث -ويكون الرابع مع المعنى الأول- أن قوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] أي: تقلب القلوب والأبصار عندما تكون في النار؛ كما قال العزيز الغفار: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا [الأحزاب:64-66].

وقال جل وعلا: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] هذا على معنىً من المعاني التي تحتمله هذه الآية الكريمة, كما هو مقرر في كتب التفسير, وعليه: (نقلب أفئدتهم) أي: عقولهم وقلوبهم وأبصارهم في النار؛ لأنهم لم يؤمنوا بهذا, أي: لم يؤمنوا بالقرآن وبالرحمن وبنبينا عليه الصلاة والسلام في الحياة.

وقوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [الأنعام:110] أي: على النار وفي النار كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].

وكما قلت: هذا على أحد المعاني الذي تحتمله هذه الآية في سورة الأنعام.

وأرجح المعاني ما قدمته وهو: أن القلوب في ذلك الوقت تضطرب وتخفق خوفاً وفزعاً من هول ذلك اليوم، وتتحول من أماكنها, وتصل إلى الحناجر, فلا تخرج ولا تعود إلى مكانها, وهكذا الأبصار تدور وتزيغ, قال الله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

إخوتي الكرام! إذا أردنا أن نستوعب الكلام على وجه الاختصار على الصفة الرابعة من صفات من نعتهم الله بأنهم يعمرون بيوته في هذه الحياة فسيكون الكلام عليها ضمن مقامين وأمرين ومبحثين: أولهما: في الخوف الذي اتصفوا به: (يخافون).

والثاني: في بيان يوم القيامة وما يتعلق به.

أما الخوف فسأقصر الكلام عليه ضمن أربعة أمور:

أولها: في تعريف الخوف.

وثانيها: في منزلة الخوف.

وثالث الأمور المتعلقة بالخوف: ثمرة الخوف.

ورابع الأمور: في أسباب الخوف.

وأما ما يتعلق بيوم القيامة يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] فالبحث في ذلك طويل, سيأخذ معنا وقفات متعددة, نسأل الله أن يمنَّ علينا بالفقه في دينه ومعرفة معنى كلامه, إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! أما ما سنتدارسه في هذه الوقفة من الأمور المتعلقة بالخوف أمران هما: بيان معنى الخوف، وبيان منزلة الخوف.

إخوتي الكرام! إن حقيقة الخوف كما قرر علماء الإسلام هو: احتراق القلب، وتألُّمه لتوقع مكروه في المستقبل عن أمارة, -أي: عن علامة- مظنونة أو معلومة.

فمن توقع مكروهاً سينزل به في المستقبل في هذه الحياة أو بعد الممات فإنه يعتري قلبه حالة، هذه الحالة هي حالة الخوف.. هي حالة الوجل.. هي حالة الإشفاق، هذا هو الخوف.

إذاً: الخوف احتراق القلب، وتألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل عن أمارة مظنونة أو معلومة.

وقد قرر علماؤنا الكرام أن ما يعتري الإنسان في هذه الحياة من خير وشر.. من محمودٍ ومذمومٍ.. من شيءٍ يحبه أو شيءٍ يكرهه، ما يعتريه ينقسم إلى ثلاثة أقسام بالنسبة في حلوله عليه وشعوره به.

إما أن يكون هذا الذي في الإنسان شيءٌ مضى وانقضى، إنما يتذكره في هذه الأيام، من خير أو شر.. من محمود أو مذموم، أي: حالة مرت عليه في الزمن الماضي، فإذا تذكرها يقال لهذه الحالة: ذكر وتذكر للماضي، فإن كانت في أمر محمود فرح، وإن كانت في أمر مذموم حزن، أي: حزن على شيءٍ فاته مما يحبه, أو فرح بأمرٍ فاته مما يكرهه، فهذه الحالة الأولى، حالة ماضية تتذكرها الآن فيقال لها: ذكر وتذكر.

وإما شيء آخر يقع عليك مما تحبه أو تكرهه، لكنه يقع عليك في الزمن الحاضر فهو يباشرك، فهذه الحالة التي تكون في الزمن الحاضر يقال لها: ذوق وإدراك ووجد؛ لأنك تجد هذا, وتذوقه في هذا الوقت، وهذا الذي ينزل عليك إن كان محبوباً يعقبه الرضا، وإن كان مكروهاً يعقبه السخط، فتشعر بحالة الرضا وبحالة السخط، فتذوق هذا، وتتلذذه، وتكره ذاك وتبغضه، كل هذا في هذا الوقت، بينما هناك في الأولى حزن أو فرح، وأما هنا فرضاً أو سخطاً.

والحالة الثالثة التي تعتري الإنسان ولا تخرج أحوال الإنسان عن ذلك, حالة مستقبلة ستنزل به يفكر فيها, فيقال لها: توقع وانتظار، فإن كانت في محمود ومحبوب سميت تلك الحالة: رجاءً وأملاً، وإن كانت تلك الحالة المتوقعة في مذموم ومكروهٍ سميت: خوفاً وإشفاقاً ووجلاً.

وهذا ما قررته في تعريف الخوف: تألم القلب، واحتراق القلب بسبب توقع مكروه سينزل عليك في المستقبل عن أمارة يقينية معلومة أو مظنونة, وعليه هنا ما تتوقع أنه سينزل بك إن كان محموداً يسرك فرحت، وهذا يقال له: أمل ويقال له: رجاء، وإن كان سينزل بك وهو مكروه تخافه وتحذره يقال: هذا خوف، وإشفاق، ووجل.

وهؤلاء العباد الذين يعمرون بيوت الله في الأرض, يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] فلنطبق تعريف الخوف على حالتهم, كل واحد منا إخوتي الكرام! يوقن يقيناً أنه سيموت, وبعد الموت سيبعث, وسيأتينا تقرير البعث بأدلته التي لا يماري فيها عاقل في المبحث الثاني من هذه المباحث إن شاء الله، وإذا كان الأمر كذلك فسنبعث كما نستيقظ، وسنموت كما ننام، إذا كان الأمر كذلك فسنموت ونبعث، ولا يخلو واحد منا من تفريط وتقصير في حق الله جل وعلا, وما يعلم هل سيغفر له أم لا؟ وإذا علم أنه سيئول إلى الله وهو صاحب تفريط وتقصير وعصيان، ماذا سيكون حاله؟ إذا توقع عقوبة من الله وغضباً من الله سيعتري قلبه في هذه الحياة الحالة التي ذكرتها وهي الخوف والوجل والإشفاق من الله عز وجل.

نعم، من علم هذا سيخاف ولا بد، فرضي الله عن الحسن البصري عندما يقول -كما في حلية الأولياء- من علم أن الموت مورده, وأن الساعة موعده, وأن الوقوف بين يدي الله مشهده, حقيق به أن يطول حزنه في هذه الحياة، وأن يخاف من رب الأرض والسماوات, فالموت مورده ولا شك في ذلك، والقيامة موعده لا شك في ذلك، وسيجمع الله الناس ليومٍ لا ريب فيه، ويحصي عليهم مثاقيل الذر, قال الله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، وقال: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

فالموت موردنا, والقيامة موعدنا, والوقوف بين يدي الله مشهدنا؛ ليحاسبنا على النقير والقطمير، وعلى القليل والكثير، فمن استحضر هذا سيخاف ولا شك من الله الجليل, قال الله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

يقول سيد المسلمين الحسن البصري عليه رحمة الله كما في الحلية: الإنسان بين خوفين لا ينفك عنهما وإن كان محسناً، إذا كان عاقلاً مهما وصل في درجة الإحسان وطاعة الرحمن فهو بين خوفين لا ينفك عنهما، ولا يفارقان قلبه طرفة عين، قيل له: ما هما؟

قال: ذنب مضى ما تدري ما الله صانع فيه؛ هل سيغفر لك أو سيعاقبك عليه؟ -ذنوب عملتها في ما مضى, ونحن نخطئ في الليل والنهار، فنسأل الله أن يدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه، إنه واسع الفضل والمغفرة-، قال: ذنب مضى لا تدري ما الله صانع فيه؟ وأجل بقي -أي: من حياتك- لا تدري ما أنت عامل فيه.

يا عبد الله! إذا كنت الآن في نعمة الإيمان, هل تعلم أن هذه النعمة ستثبت لك على الدوام. أم لا؟ نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه, وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

ولذلك إذا كان الأمر كذلك فحقيقة الإنسان بين خوفين لا ينفك عنهما, فهو لا يعلم ماذا سيعمل في المستقبل؟ ولا يعلم بأي شيء سيعامله فيما جرى منه في الماضي؟ ولذلك كان الحسن البصري عندما يقال له: أمؤمن أنت؟ فيقول: أرجو، قيل له: أشك يا أبا سعيد ؟! أتشك في إيمانك؟ قال ليس بشك، لكن ما يدريني أن الله اطلع على ذنب من ذنوبي فقال: يا حسن ! اعمل ما شئت فلن أقبل منك، ما يدريني أن الله اطلع على عمل من أعمالي السيئة, وعلى ذنب من ذنوبي, وعيب من عيوبي فمقتني، فقال: اعمل ما شئت فلن أقبل منك، ما يدريني بأي شيءٍ سيختم لي.

وبما أنك لا تدري ما جرى منك وما حالك عند الله، فأنت بين خوفين لا ينبغي أن يفارقا قلبك طرفة عين، قال الله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].