المرابطون في بيوت الله [5] - الزهد في الدنيا وطلب الآخرة


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أشرف البقاع في الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد، فهي بيوته، وفيها نوره وهداه، وقد نعت الله عباده الطيبين الذين يعظمونه في هذه البيوت بأنهم رجال، ثم وصفهم بأربع خصال: لا تلهيهم البيوع ولا التجارات، ويقيمون الصلاة، ويذكرون الله، ويؤتون الزكاة، ويحسنون إلى عباد الله، ثم بعد ذلك يستعدون للقاء الله في يوم تشخص فيه الأبصار فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].

فالصفة الأولى من صفاتهم: أنهم لا يلتهون بعرض الدنيا، بما فيها من بيوع وتجارات، ولا يشغلون بذلك عن طاعة رب الأرض والسموات، وكيف يشغل هؤلاء الرجال هؤلاء الأخيار الأبرار بعرض من الدنيا حقير مهين لا يعدل عند الله جناح بعوضة؟

إن هؤلاء العباد يعلمون حق العلم أن الرزق مقسوم، كما أن العمر محتوم، ولا يمكن أن يزاد في شيء منهما ولا ينقص، ولذلك استراحت أبدان هؤلاء الرجال، وتعلقت قلوبهم بذي العزة والجلال، وأيقنوا أن ما قدر لهم سيأتيهم، كما أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى حالهم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام الترمذي ، وابن ماجه في السنن، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن الخليفة الراشد المهدي المهتدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً ).

والتوكل: هو ثقة القلب بالرب، وأن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فلما تعلقت قلوبهم بالله جل وعلا تبع ذلك راحة الأبدان، فمشوا في مناكب الأرض، وتعرضوا لنفحات الله وفضله دون إرهاق لأبدانهم، ودون غم في قلوبهم، ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً ) أي: تذهب في الصباح وهي جياع ضامرة البطون، ثم تعود بعد ذلك في المساء إلى أوكارها وقد امتلأت بطونها من فضل ربها، ( تغدو خماصاً وتروح بطاناً ).

عباد الله! فهؤلاء الأخيار الذين يعبدون الله في هذه المساجد بيوت الله في أرضه، هؤلاء لا تلهيهم تجارة ولا بيع، يتحقق عدم الالتهاء بما في الدنيا من بيوع وتجارات بأمور كثيرة سأجملها في خمسة أمور -بعد أن بينت أن هؤلاء الأخيار لا يلتهون بعرض الدنيا ولا يشتغلون به- وهي: وجود القناعة في قلوبهم.

ويتحقق هذا بعدم حب الدنيا والميل إليها.

ويتحقق هذا بعدم البخل بها بعد إحرازها وحيازتها.

ويتحقق هذا بعدم الحرص عليها.

ويتحقق هذا بأنهم لا يلتهون ولا يشتغلون بهذه الدنيا في حال من الأحوال، إنما يتقربون في كل وقت إلى ذي العزة والجلال، فمن اتصف بذلك فهو حقيق بأن يكون من أهل هذه الآية رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37].

الأمر الأول: القناعة في القلوب

أما الأمر الأول -وهو القناعة- فأحسن ما قيل -إخوتي الكرام- في بيان حد القناعة وضبطها: أن ترضى بما يكفيك، وألا تكثر من تطلعاتك وأمانيك، فما قدر لك سيأتيك، فإذا كنت في كفاية فاحمد الله جل وعلا ولا داعي للهم والحزن والغم والقلق والتطلع إلى ما لم يقدر لك.

وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحالة الحسنة الطيبة لهؤلاء العباد الأخيار الأبرار في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في سننه، ورواه الإمام ابن ماجه في سننه، ورواه الإمام البخاري في الأدب المفرد، والخطيب في تاريخ بغداد، وإسناد الحديث حسن، عن عبيد الله بن محصن ، ويقال: عبد الله بن محصن ، والتصغير أصح، وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ورواه ابن أبي الدنيا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، فالحديث من رواية عبيد الله بن محصن ، ومن رواية أبي الدرداء ، ومن رواية أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهم أجمعين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )، والحديث إسناده صحيح كالشمس ( من أصبح منكم آمناً في سربه ) أي: في نفسه، يقال: فلان واسع السرب، أي: مطمئن البال هادئ النفس، وضبط بفتح السين والراء، ( من أصبح منكم آمناً في سَرَبه ) أي: في مذهبه وطريقه ومسلكه، آمناً في نفسه، آمناً في طريقه، عنده بعد ذلك قوت يومه، وعنده صحته وعافيته فقد ملك الدنيا بأسرها، ( من أصبح منكم آمناً في سِرْبه --آمناً في سَرَبه- معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ).

إذاً: إذا كان يأتيك القوت والصحة والأمن، ثم أصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن، أنت في نعمة في بدنك، تأمن بعد ذلك في طريقك وفي نفسك، وأنت في كفاية وعندك ما يكفيك، فلا تحتاج إلى أحد من خلق الله.

إذاً: ينبغي أن تشكر الله على هذه النعمة، ( من أصبح منكم آمناً في سِرْبه -في سَرَبه- معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ).

وهذه الحالة هي التي كان يتطلع إليها نبينا عليه الصلاة والسلام، ويسألها الله لنفسه ولآل بيته، كما ثبت في الصحيحين والحديث في المسند، وسنن الترمذي ، وابن ماجه ، وهو في أعلى درجات الصحة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً ) على نبينا وآل بيته وأصحابه صلوات الله وسلامه.

وفي رواية: ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ). والقوت: هو مقدار الضرورة، بحيث لا تجوع ولا تفتر. والكفاف: هو ما كفك عن سؤال الناس، وكان بمقدار كفايتك وحاجتك، فإذا حصلت هذا فاحمد الله، فقد كان خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه يسأل هذا من ربه جل وعلا؛ لأن المال إذا زاد والغنى إذا كثر يؤدي إلى البطر؛ ولأن الحاجة إذا لم تتيسر يتشوش البال، فإذاً: إذا رزقت الكفاف، وكان عندك ما يكفيك فاحمد الله واقنع بما قسم الله.

هي القناعة فالزمها تعش ملكاً لو لم يكن فيها إلا راحة البدن

وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها سوى بالقطن والكفن

إذاً: هذا هو الأمر الأول في وصف هؤلاء العباد رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] ، فهم يقنعون، وترتبط قلوبهم بالحي القيوم، فلا يطمعون ولا يجشعون.

الأمر الثاني: عدم الميل للدنيا والتعلق بها

الأمر الثاني من صفاتهم التي يتحقق بها عدم الالتهاء والاشتغال بالبيوع والتجارات: أنهم لا يميلون ويحبون هذه الدنيا، ولا يتعلقون بها؛ لأن من أحبها صار أسيراً لها وعبداً لها، وسيزهد فيما يقابلها من الآخرة وفي رضوان الله عز وجل، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة، وأخبرنا أن من أحب الدنيا وتعلق قلبه بها فسيعرض بالتالي عن الآخرة ولا يفكر فيها.

كما ثبت في مسند الإمام أحمد ، وصحيح ابن حبان ، ومستدرك الحاكم ، والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير، والإمام البزار في مسنده، وإسناده حسن، من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى ).

والله لو كانت الدنيا دراً يفنى، وكانت الآخرة خزفاً يبقى، لآثر الإنسان الخزف على الدر، فكيف والآخرة در باق، والدنيا خزف فان.

إن في اكتساب الدنيا مذلة النفوس، وفي اكتساب الآخرة عز النفوس، فيا عجباً! ثم يا عجباً! لمن يؤثر الذل على العز، (فآثروا ما يبقى على ما يفنى).

إذاً: لا يحب هذه الدنيا ولا يتعلق بها ولا يميل إليها إلا خاسر مغبون، وهذا الحديث كما قلت: إسناده حسن.

وقد كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين يحذرون من جاء بعدهم من التابعين من الركون إلى الدنيا والانهماك فيها. ففي مسند الإمام أحمد أيضاً، والحديث في صحيح ابن حبان ، ومستدرك الحاكم ، ومعجم الطبراني الكبير، ورواه بدل الإمام البزار في الرواية المتقدمة الإمام أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال للتابعين الذين جاءوا بعد الصحابة الطيبين: ( ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد شيء في الدنيا، وأنتم أحرص شيء عليها ).

وهذا العبد الصالح إبراهيم التيمي الذي توفي سنة اثنتين وتسعين للهجرة، وهو من أئمة التابعين، ومن أهل الخير الطيبين، كان يقول: إذا كان الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يدك منه. أي: لا يسارع إلى تكبيرة الإحرام، يقول هذا العبد الصالح للتابعين الذين عاصرهم: إن من قبلكم كانوا يفرون من الدنيا وهي مقبلة عليهم ولهم من المنزلة ما لهم، وأنتم تقبلون عليها وهي مدبرة عنكم وعندكم من الأحداث ما عندكم، فقيسوا أمركم إلى أمر من سبقكم.

إذاً: الصفة الثانية من صفاتهم التي يتحقق بها عدم الالتهاء والاشتغال: أنهم لا يحبون هذه الدنيا، ولا تسكن في قلوبهم، إنما هي عرض بين أيديهم للاستعانة به على طاعة ربهم جل وعلا.

الأمر الثالث: عدم البخل بالدنيا بعد إحرازها

الأمر الثالث: إذا جاءت الدنيا إليهم واكتسبوها من طريق حلال وضعوها في مصارفها الشرعية، وما بخلوا بها، فلا يبخلون بهذا المال، والله جل وعلا حذرنا من البخل بالمال، ومن عدم إعطاء الحق من المال، وأخبرنا أن فريقاً من الناس عاهدوا الله أنه إذا جاءتهم الأموال فسيخرجون منها ذات اليمين وذات الشمال، ثم بخلوا فأعقبهم الله نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، قال جل وعلا: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة:75-78].

فهذا المال ينبغي أن تخرج الحق الواجب منه، وأن تنفق منه في سبيل الله في كل جهة من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، وهذا المال إذا أنفقت شيئاً منه فهو الذي يبقى لك، وما تتركه فلن تملكه.

أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك.

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم في صحيحه، والحديث في سنن الترمذي ، وابن ماجه من رواية عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قول الله: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك يا ابن آدم! إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت -أي أمضيته وقدمته بين يديك ليبقى عند ربك جل وعلا-، وما سوى ذلك فأنت ذاهب وتاركه ).

وفي رواية في المسند وصحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول العبد: مالي.. مالي، وهل له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى ) أي: اتخذه قنيةً له ومدخراً له عند الله -جل وعلا- ليس لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، فما أمضيته يذهب من بين يديك لتجده عند ربك جل وعلا، ليس لك من مالك إلا ما أعطيته لمن يستحقه في هذه الحياة في سبيل الله وتقرباً إليه، ليكون لك قنيةً ومدخراً عند الله جل وعلا.

عباد الله! فهؤلاء لا يبخلون، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينزل ملكان في كل يوم تطلع فيه الشمس فيدعوان للمنفق بالخَلَف، وللمسك بالتلف، ثبت الحديث بذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينزل ملكان من السماء فيناديان فيقولان: اللهم أعط ممسكاً تلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط منفقاً خلفاً ).

والحديث -إخوتي الكرام- رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والإمام البيهقي من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان فيقولان: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وما من يوم تغرب فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان فيقولان: اللهم عجل لمنفق خلفاً، وعجل لممسك تلفاً ).

ولذلك خشي علينا نبينا صلى الله عليه وسلم إمساك المال والبخل والشح به وعدم الإنفاق منه، ثبت في مسند الإمام أحمد ، وصحيح ابن حبان ، ومستدرك الحاكم ، والحديث صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا أخشى عليكم الفقر، إنما أخشى عليكم التكاثر )، أي: أن تتكاثروا في الأموال، وألا تخرجوا منها في سبيل ذي العزة والجلال، ( لا أخشى عليكم الفقر، إنما أخشى عليكم التكاثر، ولا أخشى عليكم الخطأ، إنما أخشى عليكم التعمد ).

فهؤلاء العباد يقنعون، ولا يحبون هذا المال ولا يتعلقون به، ولا يبخلون به إذا صار عندهم.

الأمر الرابع: عدم الحرص على الدنيا والمال

الأمر الرابع: أنهم لا يحرصون على الدنيا والمال، فالحرص على المال يذهب دين الإنسان، ويجعل الإنسان عبداً لهذا المال، لهذا العرض الفاني الذي لا يساوي عند الله جناح بعوضة.

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن أثر الحرص على المال وما يخلفه هذا الأثر من آثار سيئة في نفس الإنسان، ففي مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه الترمذي في سننه، والإمام الدارمي في مسنده من رواية كعب بن مالك رضي الله عنه، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط، ورواه الإمام أبو نعيم في الحلية، وابن حبان في صحيحه من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وروي الحديث عن عدة من الصحابة الكرام، روي عن ابن عباس ، وعن ابن عمر ، وعن أسامة بن زيد ، وعن أبي سعيد الخدري ، وعن عاصم بن عدي رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما ذئبان جائعان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ).

ومعنى الحديث: إذا حرص الإنسان على المال، وبذل ما في وسعه لجمعه، ثم بعد ذلك منع الحق الواجب منه، فإنه يفسد دينه أشد من إفساد الذئبين الضاريين الجائعين في زريبة غنم أرسلا فيها فأفسدا، فمن يحرص على المال وعلى الشرف: وهو الجاه والمنزلة بين الناس، من يجعل هذا همه في الحياة يفسد دينه أشد من إفساد الذئبين الضاريين الجائعين في زريبة الغنم، ( ما ذئبان جائعان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف -أي الجاه والمنزلة- لدينه )، فمن حرص على هذا يفسد دينه. وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحريص على المال الذي يتفانى في جمعه ويعبده سماه بأنه عبد له.

ثبت في صحيح البخاري ، وسنن ابن ماجه ، والحديث صحيح، فهو في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش ).

فقوله: (تعس عبد الدينار) سماه عبداً، ولم يقل: تعس مالك المال، ولم يقل: تعس جامع المال، ليس في ملك المال منقصة، وليس في جمع المال منقصة، وليس في إحراز المال منقصة إنما المنقصة أن تكون أسيراً له، أن تكون عبداً له، ألا تتصرف إلا من أجل هذا المال وهذا الريال.

ثم قال: (عبد الخميصة) وهي الثياب الحسنة المزركشة الملونة، تعس بمعنى: سقط، أو: هلك، أو: بعد، أو: أصابه شر، بفتح العين وكسرها تعس: تعس عبد الدينار وعبد الدرهم، وعبد الخميصة.

قوله: (تعس وانتكس)، أي: عاوده السقوط مرةً بعد أخرى، (تعس وانتكس) أي: سقط على رأسه بعد أن يسقط في أول الأمر سقوطاً عادياً، يدعو عليه بهذه الأمور الشنيعة التي تناسب حال هذا العبد الذي جعل نفسه عرضاً لمال حقير ليس له عند الله جل وعلا أي وزن وتقدير.

قوله: (وإذا شيك فلا انتقش) أي: إذا دخلت شوكة في بدنه، دعي عليه من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام بألا يتسهل عليه إخراج هذه الشوكة بالمنقاش، أي: بالملقط الذي تخرج به هذه الشوكة، ( تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش )، هذا عبد ذليل حقير، وضع نفسه عندما عبد المال من دون ذي العزة والجلال، وإذا دعي عليه بألا تخرج الشوكة من بدنه إذا دخلت فيه فإن الدعاء إذاً لما هو أعظم من باب أولى، أي: هذا الأمر اليسير إن أصابه يسأل النبي عليه الصلاة والسلام ربه ألا يخرج هذا الأمر اليسير من بدن عابد الدنيا وعابد المال ومحب المال، وإذا وقع في ورطات أخرى فهذا من باب أولى لا يخرج منها، ولا يتيسر له الفرج عنها.

والحديث رواه الإمام الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ( لعن عبد الدينار وعبد الدرهم )، وتقدم معنا حديث: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها ).

فهؤلاء إذاً: لا يحرصون على هذا المال، ولا يكونون عبيداً له.

وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن كثيراً من أفراد هذه الأمة سيهلكهم الدرهم والدينار، وسيبعدهم جمع الريال عن ذي العزة والجلال.

ثبت الحديث بذلك في معجم الطبراني الكبير، ومسند البزار ، والحديث رواه أبو نعيم في الحلية، وإسناده صحيح جيد عن عبد الله بن مسعود ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أهلك من كان قبلكم الدرهم والدينار، وهما مهلكاكم ).

وفي رواية مسند البزار : ( أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما كان أميراً على الكوفة من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين جاءه بعض الناس فأعطاه في الشهر ألف درهم ثم قال له: خذ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنما أهلك من كان قبلكم الدرهم والدينار، وهما مهلكاكم ).

فهؤلاء العباد الذين يعمرون بيوت الله في الأرض لا تلهيهم تجارة ولا بيع، لا يلهيهم عرض الدنيا، فيقنعون بما قسم الحي القيوم، ولا يحبون الدنيا، ولا يبخلون بها، ولا يحرصون عليها.

الأمر الخامس: عدم انشغالهم بالدنيا عن الله تعالى

الأمر الخامس: أن هذه الدنيا إذا جاءتهم لا تشغلهم عن الله جل وعلا في حال من الأحوال، بل يتقربون بهذا المال إلى ذي العزة والجلال، فقلوبهم مع الله وهي واثقة بأن ما قسم لهم سيأتيهم.

ثبت في مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه الحاكم في مستدركه، وابن حبان في صحيحه، ورواه البيهقي في الزهد، وإسناده صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فتلا قول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك ). فقوله: (ابن آدم! تفرغ لعبادتي) فهذه الدنيا لا تلهيهم عن الله طرفة عين في حال من الأحوال.

والحديث رواه الحاكم في مستدركه، والإمام الطبراني في معجمه الكبير عن معقل بن يسار ، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( قال الرب عز وجل: ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً، وأملأ يديك رزقاً، وإلا تفعل ملأت صدرك فقراً، وملأت يديك شغلاً )، فيتعب وهو فقير القلب، وينصب، وكلما حصل عرضاً من الدنيا كلما ازداد حرصاً وجشعاً وطمعاً، ومحب الدنيا كمن يشرب من البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، و(الغنى غنى النفس).

فهؤلاء العباد إذا جاءتهم هذه الدنيا لا تلهيهم عن الله جل وعلا، فقلوبهم متعلقة بالله، وإذا حلت الدنيا في أيديهم أنفقوا من جميع جهاتهم. كما ثبت في المسند والصحيحين، والحديث رواه الإمام ابن ماجه في سننه من رواية أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا ) أي: عن يمينه وعن شماله ومن خلفه كما وضح هذا نبينا صلى الله عليه وسلم، والحديث روي عن ابن عباس وابن مسعود ، وعن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين بزيادة الجهة الأمامية ( إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا وهكذا ) من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، وأنفق من جميع جهاته، فمن فعل في المال هذا الفعل فقد حقق قول الله جل وعلا: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] .

وخلاصة الكلام إخوتي الكرام! أن هؤلاء العباد، هم عباد الرحمن الذين يكونون في بيوت ذي الجلال والإكرام، يقنعون بما قسم لهم، ولا يحبون الدنيا، ولا يبخلون بها، ولا يحرصون عليها، وإذا جاءتهم لا تشغلهم عن الله طرفة عين، وينفقون منها في جميع جهاتهم.

أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرزقنا من فضله، وأن يجعل ذلك عوناً لنا على طاعته، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، أقول هذا القول وأستغفر الله.

أما الأمر الأول -وهو القناعة- فأحسن ما قيل -إخوتي الكرام- في بيان حد القناعة وضبطها: أن ترضى بما يكفيك، وألا تكثر من تطلعاتك وأمانيك، فما قدر لك سيأتيك، فإذا كنت في كفاية فاحمد الله جل وعلا ولا داعي للهم والحزن والغم والقلق والتطلع إلى ما لم يقدر لك.

وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحالة الحسنة الطيبة لهؤلاء العباد الأخيار الأبرار في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في سننه، ورواه الإمام ابن ماجه في سننه، ورواه الإمام البخاري في الأدب المفرد، والخطيب في تاريخ بغداد، وإسناد الحديث حسن، عن عبيد الله بن محصن ، ويقال: عبد الله بن محصن ، والتصغير أصح، وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ورواه ابن أبي الدنيا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، فالحديث من رواية عبيد الله بن محصن ، ومن رواية أبي الدرداء ، ومن رواية أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهم أجمعين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )، والحديث إسناده صحيح كالشمس ( من أصبح منكم آمناً في سربه ) أي: في نفسه، يقال: فلان واسع السرب، أي: مطمئن البال هادئ النفس، وضبط بفتح السين والراء، ( من أصبح منكم آمناً في سَرَبه ) أي: في مذهبه وطريقه ومسلكه، آمناً في نفسه، آمناً في طريقه، عنده بعد ذلك قوت يومه، وعنده صحته وعافيته فقد ملك الدنيا بأسرها، ( من أصبح منكم آمناً في سِرْبه --آمناً في سَرَبه- معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ).

إذاً: إذا كان يأتيك القوت والصحة والأمن، ثم أصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن، أنت في نعمة في بدنك، تأمن بعد ذلك في طريقك وفي نفسك، وأنت في كفاية وعندك ما يكفيك، فلا تحتاج إلى أحد من خلق الله.

إذاً: ينبغي أن تشكر الله على هذه النعمة، ( من أصبح منكم آمناً في سِرْبه -في سَرَبه- معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ).

وهذه الحالة هي التي كان يتطلع إليها نبينا عليه الصلاة والسلام، ويسألها الله لنفسه ولآل بيته، كما ثبت في الصحيحين والحديث في المسند، وسنن الترمذي ، وابن ماجه ، وهو في أعلى درجات الصحة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً ) على نبينا وآل بيته وأصحابه صلوات الله وسلامه.

وفي رواية: ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ). والقوت: هو مقدار الضرورة، بحيث لا تجوع ولا تفتر. والكفاف: هو ما كفك عن سؤال الناس، وكان بمقدار كفايتك وحاجتك، فإذا حصلت هذا فاحمد الله، فقد كان خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه يسأل هذا من ربه جل وعلا؛ لأن المال إذا زاد والغنى إذا كثر يؤدي إلى البطر؛ ولأن الحاجة إذا لم تتيسر يتشوش البال، فإذاً: إذا رزقت الكفاف، وكان عندك ما يكفيك فاحمد الله واقنع بما قسم الله.

هي القناعة فالزمها تعش ملكاً لو لم يكن فيها إلا راحة البدن

وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها سوى بالقطن والكفن

إذاً: هذا هو الأمر الأول في وصف هؤلاء العباد رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] ، فهم يقنعون، وترتبط قلوبهم بالحي القيوم، فلا يطمعون ولا يجشعون.