المرابطون في بيوت الله [8] - فرضية الزكاة


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه, ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهدي الله فهو المهتد, ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين, شرع لنا ديناً قويماً, وهدانا صراطاً مستقيماً, وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله, ولك الملك كله, وبيدك الخير كله, وإليك يرجع الأمر كله, أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين, وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6], يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله, أرسله الله رحمة للعالمين, فشرح به الصدور, وأنار به العقول, وفتح به أعيناً عمياً, وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً, فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته, ورضي الله عن أصحابه الطيبين, وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102], يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71], أما بعد:

معشر الإخوة المسلمين! أشرف بقاع الأرض وأحبها إلى الله عز وجل المساجد, فهي بيوت الله في أرضه, وفيها نوره وهداه, وإليها يأوي المهتدون المؤمنون الموحدون, وقد نعت الله جل وعلا عباده المخلصين الذين يتواجدون في بيوت رب العالمين بأنهم رجال, ثم وصفهم بأطيب الخلال, فذكر من صفاتهم أنه لا تلهيهم هذه الدنيا عن الغاية التي خلقوا من أجلها, وهم يعظمون الله جل وعلا ويعبدونه, فيذكرونه ويصلون له, فهم يحسنون إلى عباد الله, ويشفقون عليهم, ويتصدقون عليهم ويساعدونهم ويواسونهم, وهم بعد ذلك يبذلون ما في وسعهم للاستعداد إلى اليوم الذي يلاقون فيه ربهم: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].

وقد مضى الكلام على الصفة الأولى, ثم عن الصفة الثانية إقام الصلاة, ووصلنا إلى الصفة الثالثة التي نعت الله بها هؤلاء الأبرار الذين يعمرون بيوت العزيز الغفار: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37], فهم يصلون وهم يزكون.

وقد يتساءل متسائل فيقول: علام قرن الله الزكاة بالصلاة؟ ولا يشترط لأداء الزكاة فعلها في بيوت الله, والحديث عن عباد الله الذين يعمرون بيوت الله فلا تلهيهم بيوعهم وتجاراتهم عن أداء الصلاة وعبادة الله في بيوت ربهم, فلم ذكر الزكاة؟

الجواب: إنما قرن الله الزكاة بالصلاة في هذه الآية الكريمة، مع أنه لا يشترط في فعل الزكاة تأديتها في بيوت الله, قرنها لأمرين معتبرين:

الأول: الزكاة قرينة الصلاة, ويتحقق هذا ويتجلى بأمرين معتبرين:

الأمر الأول: الزكاة قرينة الصلاة

الأمر الأول: الصلاة حق الله جل وعلا, والزكاة حق العباد, ودين الله جل وعلا يقوم على دعامتين اثنتين: تعظيم لله، وشفقة على خلق الله.

فالله جل وعلا عندما ذكر أن هؤلاء العباد يصلون أخبر أنهم يزكون, وقد قاموا بالدين بأكمله، فهم يعظمون الله ويشفقون على عباد الله, وكثيراً ما كان ينوه ربنا جل وعلا بهذا الأمر فيقرن بين الزكاة والصلاة في كثير من الآيات, ففي سورة الذاريات يقول رب الأرض والسماوات: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:15-18], وهذا تعظيم الحي القيوم.

ثم انتقل بعد ذلك إلى وصفهم في معاملتهم وإحسانهم إلى العباد فقال: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19].

ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا في سورة المعارج: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:19-25].

وقد جلى لنا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الصلة بين الزكاة والصلاة, فيما رواه عنه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند حسن -والأثر موقوف على هذا الصحابي الجليل من قوله- أنه قال: كتب علينا إقام الصلاة وإيتاء الزكاة, فمن صلى ولم يزك لم تقبل صلاته.

فقرن الله بين الزكاة والصلاة لهذا الأمر كما قلت: الصلاة حق الله, والزكاة حق العباد.

والأمر الثاني: الصلاة حق على البدن ينبغي أن يقوم به الإنسان, والزكاة حق في ماله ينبغي أن يخرجه الإنسان, والحقوق إما أن تكون حقوقاً بدنية أو حقوقاً مالية, فقرن الله بين الزكاة والصلاة ليشير إلى أن هؤلاء العباد الطيبين المخلصين عبدوا الله بأبدانهم وعبدوه بأموالهم, وقاموا بحق العبودية على وجه التمام لربهم جل وعلا.

إن الزكاة حق المال كما أن الصلاة حق البدن, وقد جلى هذا الأمر ووضحه خليفة النبي عليه الصلاة والسلام وأفضل هذه الأمة بعد نبيها صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه, والأثر ثابت في المسند والكتب الستة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, واستخلف أبو بكر , وكفر الناس -أي: حصلت ردة بعد موت إمام الناس وأفضل الأسياد نبينا عليه الصلاة والسلام- قال عمر بن الخطاب لـأبي بكر رضي الله عنهما: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة؛ إن الزكاة حق المال).

ولذلك قرن الله بين هذين الحقين: حق الأبدان وحق الأموال, فيقاتل من ترك الزكاة كما يقاتل من امتنع عن فعل الصلاة, وتقدم معنا الحديث الثابت في الكتب الستة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله, ويشهدوا أني رسول الله, فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحق الإسلام, وحسابهم على الله تعالى ).

فقد تقدم معنا الحديث عند الخصلة الثانية من صفات عباد الرحمن؛ ألا وهي إقامة الصلاة, تقدم معنا هذا الحديث برواياته, وروايته الثانية في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله, ويقيموا الصلاة, ويؤتوا الزكاة, فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام, وحسابهم على الله تعالى).

وفي رواية في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله, ويؤمنوا بي وبما جئت به, فمن فعل ذلك فقد عصم دمه وماله, وحسابه على الله جل وعلا ).

إذاً: الزكاة قرينة الصلاة, ويظهر هذا -كما قلت- بأمرين معتبرين: الصلاة حق الله, والزكاة حق العباد, والصلاة حق على البدن, والزكاة حق في المال.

الأمر الثاني: التنويه بمحاسن أولئك الرجال

وأما الأمر الثاني الذي من أجله ذكر الله الزكاة هنا بعد إقامة الصلاة في بيوت الله, ولا يشترط لأداء الزكاة فعلها في بيوت الله فهو: لينوه الله جل وعلا بمحاسن هؤلاء الرجال, وليذكر صفاتهم, ولينعتهم بأطيب الخلال, وكأن الله عز وعلا يقول: ما أذهبتكم البيوع والتجارات عن طاعة رب الأرض والسموات في البيوت التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

ثم ليس هذا هو وصفهم فحسب, بل لهم -أيضاً- صفات جليلة شريفة نبيلة, كما عبدوا الله في بيوت الله تفقدوا عباد الله وأحسنوا إليهم.

فالزكاة من الأمور التي يمدح بها الإنسان في الحياة وبعد الممات, ويثاب عليها عند رب الأرض والسموات.

ثبت في معجم الطبراني الكبير بسند صحيح عن زر بن حبيش رضي الله عنه قال: كنا جلوساً مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, فدخل داخل، وقال: أبا عبد الرحمن ! أخبرني عن أفضل خصال الإسلام؟ قال: إقامة الصلاة, قال: ثم أي؟ قال: إيتاء الزكاة.

فالله جل وعلا ذكر هؤلاء العباد؛ لأنه لا تلهيهم البيوع والتجارات عن أداء الصلوات في الجماعات, ثم لابد من أن ينبه أنهم يقومون بسائر الخلال الكريمات, فهم يؤدون الزكاة ويحسنون إلى المخلوقات: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37].

إن إخراج المال شاق شديد على النفس, من أجل هذا ينبغي أن ينعت هؤلاء الأبرار به بعد إقام الصلاة, وقد أخبرنا نبينا صلي الله عليه وسلم عن الجرأة والعزيمة والقوة والثبات التي تكون في قلب الإنسان عندما يخرج أمواله إحساناً إلى عباد الرحمن, وطلباً للأجر عند ذي الجلال والإكرام.

واسمعوا لهذا الحديث الذي يصور لنا هذا المشهد من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام.

ثبت في مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومعجم الطبراني الكبير, والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه, والحاكم في مستدركه, ورواه الإمام البيهقي في السنن, ورواه أبو داود الطيالسي في سننه أيضاً.

ولفظ الحديث عن بريدة رضي الله عنه الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يخرج أحد صدقة حتى يفك لحييه سبعون شيطاناً ), واللحيان هما: الفكان, فيجتمع حول عباد الرحمن عندما يريدون أن يتصدقوا سبعون شيطاناً, كل شيطان يوسوس له ويزين له عدم الصدقة: أنت ستحتاج, اترك هذا لأولادك, لعل الحياة تطول بك فتحتاج إلى هذا المال، سبعون شيطاناً يوكلون من أجل تثبيط همة الإنسان عن التقرب بالصدقة إلى ذي الجلال والإكرام.

فهذا المؤمن يفك ويخرص ويقطع شدقيه سبعون شيطاناً عندما يتصدق في سبيل الله طلباً للتقرب عند الله.

إذاً: هذه الطاعة الجليلة الفخيمة ينبغي أن تذكر في صفاتهم عقيب الإخبار عنهم بصلاتهم لربهم, فهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة, وهم أيضاً لا يبالون بهذه الأموال, وينفقونها آناء الليل وأطراف النهار؛ مساعدة لعباد الله وطلباً للأجر عند الله جل وعلا.

لهذين الأمرين المعتبرين قرن الله بين الزكاة والصلاة.

الرد على من جعل سبب الاقتران هو الإشارة بأن عباد الله المخلصين يتصدقون حال ركوعهم

وأما ما توهمه بعض الضالين من أن الله جل وعلا قرن بين الزكاة والصلاة في هذه الآية إشارة إلى أن عباد الله المخلصين يتصدقون في بيوت رب العالمين على كيفية خاصة عندما يكونون راكعين, وقرروا هذا -على زعمهم- لقول الله جل وعلا في سورة المائدة: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55], فقالوا: إنما ذكرت الزكاة هنا للإشارة إلى نعت هؤلاء, وأنهم يصلون لله في بيوته, ثم يتصدقون على عباد الله وهم يصلون, وهم راكعون.

وقد غلا بعض أهل الفرق الضالة وافترى وكذب في تفسير هذه الآية فقال -ما خلاصته-: إن مسكيناً دخل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في حياة النبي عليه الصلاة والسلام, فقال: هل من متصدق؟ هل من متصدق؟ هل من متصدق؟ فما أجابه أحد, ولا أعطاه أحد, فكان علي رضي الله عنه راكعاً, فخلع خاتمه ونبذ به إلى هذا السائل.

وبعضهم يغلو -وهذا موجود في كتبهم الباطلة الضالة- فقالوا: كان علي رضي الله عنه الله عنه يلبس جبة بألف دينار, فبينا هو راكع ودخل السائل, ولم يعطه أحد من الصحابة الأبرار, خلع جبته في حال ركوعه, ثم أومأ إلى السائل بأخذها فأخذها.

وعليه فـعلي رضي الله عنه هو ولي المؤمنين, وهكذا -على تعبيرهم- أولاده وأحفاده والأئمة من بعده إلى يوم الدين من شروط ولايتهم عندهم, أن يتصدقوا وهم راكعون.

والسائل الذي سأل في زمن النبي عليه الصلاة والسلام يزعمون أنه كان من الملائكة, وهكذا ينبغي أن تأتي الملائكة إلى كل إمام من هؤلاء الأئمة إلى يوم القيامة؛ لتسأل هذا الإمام وهو راكع في صلاته؛ ليتحقق فيه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهو راكع.

وهذا الأثر كذب مفترى لا وجود له ولا صحة له, حقق ذلك أئمتنا الكرام كالإمام ابن كثير في تفسيره وفي البداية والنهاية, وشيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمات رب البرية في كتابه منهاج السنة النبوية, وأبطل هذا التفسير من تسعة عشر وجهاً, ولا أريد أن أفيض في ذكر هذه الوجوه وتعدادها, إنما سأذكر بعض الأمور التي تبين بطلان هذا التفسير مع عدم ثبوت إسناده وعدم روايته عمن يعتبر ويعول عليه.

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55].

(وهم راكعون) ليست جملة حالية لقوله: (يؤتون الزكاة), فليست هذه الجملة قيد لإيتائهم الزكاة, أي: ليس المراد يؤتون الزكاة في حال ركوعهم، لا, إنما هذه جملة اسمية يخبر الله فيها عن حال هؤلاء العباد, ويثني عليهم كما أثنى عليهم بالصفات المتقدمة: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [المائدة:55], وهم يديمون الركوع لله جل وعلا, يخشعون له ويعبدونه في جميع أحوالهم, فبعد أن نعتهم بجملتين فعليتين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، والجملة الفعلية -كما يقول علماؤنا في كتب اللغة والبلاغة- تفيد التجدد والحدوث.

فنعتهم ربنا جل وعلا بصفة اسمية تفيد الثبات والاستقرار والرسوخ, فهذا وصفهم, وهذا ديدنهم, لا ينفكون عن طاعة ربهم جل وعلا، بل ثابتون, ويتجدد منهم الإحسان إلى عباد الله، والخشوع لله جل وعلا, هذا هو معنى الآية.

فليست الجملة حالية من قولهم: يؤتون الزكاة في حال ركوعهم, ويدل على هذا أمر آخر معتبر، ألا وهو: أن مدح الإنسان يكون بما هو واجب أو مستحب على أقل أحواله, ولم يستحب أحد من خلق الله أداء الزكاة في حال الركوع؛ إذا كان راكعاً يؤدي زكاته، ما ذكر هذا أحد من أئمتنا, ولا يعرف هذا في ديننا.

الأمر الثالث: لو كانت الزكاة تشرع عند فعل الصلاة وأثناء القيام بها لما كان هناك داع لذكر الركوع فقط, بل لو قيل: لو أدى الزكاة وتزكى وهو قائم أو قاعد لكان أحسن, وكان هذا للفقير أتم وأمكن؛ ليأخذ الزكاة على وجه مطمئن, أما أن يكون الإنسان راكعاً بهذه الهيئة, ثم يمد بعد ذلك يده إلى السائل ليعطيه, فهذا فيه صعوبة على السائل والمسئول, ومثل هذا يتنزه عنه الشارع العزيز الغفور.

الأمر الرابع: هذه الآية مسوقة لبيان ولاية المؤمنين للمؤمنين, وانقطاع ولايتهم عن الكافرين, فبعد أن حذرنا الله من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء, وأخبرنا أنه من يرتد عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه, ذكر ربنا جل وعلا أولياءنا الذي ينبغي أن نواليهم في حياتنا وبعد مماتنا, فقال: هم المؤمنون الذين يصلون ويزكون, ولله في جميع أحوالهم يركعون, فلو كان هذا الأمر, أعني: أداء الزكاة في الصلاة، لو كان هذا يشترط في هؤلاء لما صح أن نوالي أحداً من خلق الله إلا إذا زكى وهو راكع, وما قال بهذا أحد وهذا فهم أعجمي قاله من لا يعرف الذوق العربي, بل لا يعرف دين الله القوي.

إلى الآية التي قبل هذه الآية, وفيها يقول ذو الجلال والإكرام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:54-55], فمن صفاتهم أنهم يصلون ويزكون ويديمون الركوع للحي القيوم, هذا هو معنى الآية, ولا يصح أن تفسر الآية بغير ذلك, كما بين هذا أئمتنا الكرام.

وخلاصة الكلام! قرن الله بين الزكاة والصلاة للأمرين:

الأمر الأول: الصلاة قرينة الزكاة, والزكاة قرينة الصلاة, يتجلى في أمرين اثنين كما وضحت.

والأمر الثاني: لينوه الله بمحاسن هؤلاء العباد الذين يعمرون بيوته في أرضه, فهم يطيعون الله؛ فيصلون له, وهم يحسنون إلى عباده.

الأمر الأول: الصلاة حق الله جل وعلا, والزكاة حق العباد, ودين الله جل وعلا يقوم على دعامتين اثنتين: تعظيم لله، وشفقة على خلق الله.

فالله جل وعلا عندما ذكر أن هؤلاء العباد يصلون أخبر أنهم يزكون, وقد قاموا بالدين بأكمله، فهم يعظمون الله ويشفقون على عباد الله, وكثيراً ما كان ينوه ربنا جل وعلا بهذا الأمر فيقرن بين الزكاة والصلاة في كثير من الآيات, ففي سورة الذاريات يقول رب الأرض والسماوات: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:15-18], وهذا تعظيم الحي القيوم.

ثم انتقل بعد ذلك إلى وصفهم في معاملتهم وإحسانهم إلى العباد فقال: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19].

ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا في سورة المعارج: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:19-25].

وقد جلى لنا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الصلة بين الزكاة والصلاة, فيما رواه عنه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند حسن -والأثر موقوف على هذا الصحابي الجليل من قوله- أنه قال: كتب علينا إقام الصلاة وإيتاء الزكاة, فمن صلى ولم يزك لم تقبل صلاته.

فقرن الله بين الزكاة والصلاة لهذا الأمر كما قلت: الصلاة حق الله, والزكاة حق العباد.

والأمر الثاني: الصلاة حق على البدن ينبغي أن يقوم به الإنسان, والزكاة حق في ماله ينبغي أن يخرجه الإنسان, والحقوق إما أن تكون حقوقاً بدنية أو حقوقاً مالية, فقرن الله بين الزكاة والصلاة ليشير إلى أن هؤلاء العباد الطيبين المخلصين عبدوا الله بأبدانهم وعبدوه بأموالهم, وقاموا بحق العبودية على وجه التمام لربهم جل وعلا.

إن الزكاة حق المال كما أن الصلاة حق البدن, وقد جلى هذا الأمر ووضحه خليفة النبي عليه الصلاة والسلام وأفضل هذه الأمة بعد نبيها صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه, والأثر ثابت في المسند والكتب الستة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, واستخلف أبو بكر , وكفر الناس -أي: حصلت ردة بعد موت إمام الناس وأفضل الأسياد نبينا عليه الصلاة والسلام- قال عمر بن الخطاب لـأبي بكر رضي الله عنهما: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة؛ إن الزكاة حق المال).

ولذلك قرن الله بين هذين الحقين: حق الأبدان وحق الأموال, فيقاتل من ترك الزكاة كما يقاتل من امتنع عن فعل الصلاة, وتقدم معنا الحديث الثابت في الكتب الستة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله, ويشهدوا أني رسول الله, فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحق الإسلام, وحسابهم على الله تعالى ).

فقد تقدم معنا الحديث عند الخصلة الثانية من صفات عباد الرحمن؛ ألا وهي إقامة الصلاة, تقدم معنا هذا الحديث برواياته, وروايته الثانية في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله, ويقيموا الصلاة, ويؤتوا الزكاة, فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام, وحسابهم على الله تعالى).

وفي رواية في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله, ويؤمنوا بي وبما جئت به, فمن فعل ذلك فقد عصم دمه وماله, وحسابه على الله جل وعلا ).

إذاً: الزكاة قرينة الصلاة, ويظهر هذا -كما قلت- بأمرين معتبرين: الصلاة حق الله, والزكاة حق العباد, والصلاة حق على البدن, والزكاة حق في المال.

وأما الأمر الثاني الذي من أجله ذكر الله الزكاة هنا بعد إقامة الصلاة في بيوت الله, ولا يشترط لأداء الزكاة فعلها في بيوت الله فهو: لينوه الله جل وعلا بمحاسن هؤلاء الرجال, وليذكر صفاتهم, ولينعتهم بأطيب الخلال, وكأن الله عز وعلا يقول: ما أذهبتكم البيوع والتجارات عن طاعة رب الأرض والسموات في البيوت التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

ثم ليس هذا هو وصفهم فحسب, بل لهم -أيضاً- صفات جليلة شريفة نبيلة, كما عبدوا الله في بيوت الله تفقدوا عباد الله وأحسنوا إليهم.

فالزكاة من الأمور التي يمدح بها الإنسان في الحياة وبعد الممات, ويثاب عليها عند رب الأرض والسموات.

ثبت في معجم الطبراني الكبير بسند صحيح عن زر بن حبيش رضي الله عنه قال: كنا جلوساً مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, فدخل داخل، وقال: أبا عبد الرحمن ! أخبرني عن أفضل خصال الإسلام؟ قال: إقامة الصلاة, قال: ثم أي؟ قال: إيتاء الزكاة.

فالله جل وعلا ذكر هؤلاء العباد؛ لأنه لا تلهيهم البيوع والتجارات عن أداء الصلوات في الجماعات, ثم لابد من أن ينبه أنهم يقومون بسائر الخلال الكريمات, فهم يؤدون الزكاة ويحسنون إلى المخلوقات: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37].

إن إخراج المال شاق شديد على النفس, من أجل هذا ينبغي أن ينعت هؤلاء الأبرار به بعد إقام الصلاة, وقد أخبرنا نبينا صلي الله عليه وسلم عن الجرأة والعزيمة والقوة والثبات التي تكون في قلب الإنسان عندما يخرج أمواله إحساناً إلى عباد الرحمن, وطلباً للأجر عند ذي الجلال والإكرام.

واسمعوا لهذا الحديث الذي يصور لنا هذا المشهد من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام.

ثبت في مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومعجم الطبراني الكبير, والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه, والحاكم في مستدركه, ورواه الإمام البيهقي في السنن, ورواه أبو داود الطيالسي في سننه أيضاً.

ولفظ الحديث عن بريدة رضي الله عنه الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يخرج أحد صدقة حتى يفك لحييه سبعون شيطاناً ), واللحيان هما: الفكان, فيجتمع حول عباد الرحمن عندما يريدون أن يتصدقوا سبعون شيطاناً, كل شيطان يوسوس له ويزين له عدم الصدقة: أنت ستحتاج, اترك هذا لأولادك, لعل الحياة تطول بك فتحتاج إلى هذا المال، سبعون شيطاناً يوكلون من أجل تثبيط همة الإنسان عن التقرب بالصدقة إلى ذي الجلال والإكرام.

فهذا المؤمن يفك ويخرص ويقطع شدقيه سبعون شيطاناً عندما يتصدق في سبيل الله طلباً للتقرب عند الله.

إذاً: هذه الطاعة الجليلة الفخيمة ينبغي أن تذكر في صفاتهم عقيب الإخبار عنهم بصلاتهم لربهم, فهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة, وهم أيضاً لا يبالون بهذه الأموال, وينفقونها آناء الليل وأطراف النهار؛ مساعدة لعباد الله وطلباً للأجر عند الله جل وعلا.

لهذين الأمرين المعتبرين قرن الله بين الزكاة والصلاة.