خطب ومحاضرات
المرابطون في بيوت الله [13] - الخوف والرجاء في حياة المؤمنين
الحلقة مفرغة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً, وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين, فشرح به الصدور, وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد: معشر الإخوة الكرام! كما أن الله فضل بعض الأزمان على بعض؛ فجعل يوم عرفة إذا وقع في يوم الجمعة من أفضل أيام العام -كما تقدم تقرير ذلك مفصلاً- فالله جل وعلا أيضاً فضل بعض الأمكنة على بعض، كما فضل أيضاً بعض الأشخاص على بعض، سبحانه! له خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، كما قرر ذلك أئمتنا الأخيار.
إخوتي الكرام! لقد فضل الله جل وعلا المساجد على غيرها من الأماكن والبقاع، كيف لا؟ وفيها ومنها نور الله وهداه، وإليها يفوج الموحدون المهتدون، وقد نعت الله جل وعلا الذين يعمرونها بأنهم رجال، ووصفهم بأربع صفات، يدل ذلك على بلوغهم رتبة الكمال؛ فهم الذين لا تلهيهم البيوع والتجارات عن الغاية التي خلقوا من أجلها؛ ألا وهي عبادة رب الأرض والسماوات، وهم الذين يسبحون الله جل وعلا ويصلون له، وهم الذين يشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم، وهم الذين يبذلون ما في وسعهم استعداداً للقاء ربهم قال تعالى فيهم: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].
نعم، إخوتي الكرام! هؤلاء الأخيار بعد أن عرفوا الغاية التي خلقوا من أجلها، وعبدوا الله وسبحوه، وأشفقوا على عباد الله وأحسنوا إليهم، خافوا منه واستعدوا للقائه، فهم أهل يقظة ووعي، يعلمون ما يستقبلهم، وماذا سيجدون أمامهم، وليس حالهم كحال البهائم التي تقاد إلى المجازر ولا تدري ما يراد بها؟ وكثير من الناس حاله كحالها.
مثل البهائم لا ترى آجالها حتى تساق إلى المجازر تنحر
فقوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]، هذه الصفة الرابعة من صفاتهم، وهي تدل على كياستهم وفطنتهم ووعيهم ويقظتهم. ورحمة الله على إمام المسلمين وسيدهم في وقته الإمام الحسن البصري عليه وعلى المسلمين جميعاً رحمة رب العالمين، عندما يقول كما في حلية الأولياء: ابن آدم السكين تشحذ، والتنور يسجر، والدابة تعتلف.
فقوله: (ابن آدم السكين تشحذ) ألا وهي الموت، الذي يقرب منا كل يوم. والتنور يسجر: وهي النار التي وقودها الناس والحجارة. وأنت كالبهيمة فارح في غفلتك فاعتبر.
ولما قيل لهذا العبد الصالح: إننا نحضر عند أناس فيخوفوننا حتى إن قلوبنا لتتقطع، ونحضر عند أناس فيأمنوننا، فقال لهم الحسن البصري عليه وعلى أئمتنا والمسلمين رحمات رب العالمين: لأن تصحبوا من يخوفكم حتى يدرككم الأمن، خير لكم من أن تصحبوا من يأمنكم حتى يلحقكم الخوف.
إذاً: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]، وخوفهم في مكانه يدل على وعيهم ويقظتهم وانتباههم واحتراسهم، فذلك اليوم يوم عصيب رهيب، وانظروا لحال المطيع فيه فضلاً عن غيره.
ثبت في مسند الإمام أحمد بسند جيد، كما نص على ذلك الإمام الهيثمي في المجمع، والحديث رواه البخاري في التاريخ الكبير، ورواه الطبراني في المعجم الكبير أيضاً، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، ورواه الإمام أبو نعيم رحمة الله عليهم جميعاً، والحديث صحيح من رواية عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه وأرضاه، وهو من أصحاب النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لو أن رجلاً يخر على وجهه في طاعة ربه من يوم ولادته إلى يوم يموت هرماً في طاعة الله لحقره في ذلك اليوم ) يعني: لو أنه من يوم الولادة إلى أن يموت وهو هرم مات من هرمه وكبر سنه وبلغ من العمر منتهاه، وهو خار على وجهه في طاعة ربه من ولادته إلى أن مات هرماً، إذا شهد الموقف فيوم القيامة حقر واستقل ما جرى منه في ذلك اليوم.
وهذا الأثر المرفوع روي موقوفاً أيضاً عن محمد بن أبي عميرة المزني بفتح العين، رواه أهل الكتب المتقدمة، وزاد عليهم أيضاً في رواية هذا الأثر شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق، والأثر -كما قلت- موقوف عليه في هذه الرواية فله حكم الرفع، وإسناد هذا الأثر الموقوف على شرط الشيخين، كما نص على ذلك الإمام الهيتمي في المجمع، وقال الحافظ في الإصابة: إسناده قوي.
إخوتي الكرام! هذه الصفة الرابعة لهؤلاء العباد، الذين يعمرون بيوت الله في خير البقاع، يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]. وقد تقدم معنا أننا سنتدارسها ضمن مبحثين:
المبحث الأول: في صفة الخوف التي اتصفوا بها، والمبحث الثاني: في ذلك اليوم العصيب الرهيب الذي سيئول الخلائق إليه.
أما المبحث الأول فقلت: إنه يدور على أربعة أمور, مضى الكلام على ثلاثة منها: تعريف الخوف، ومنزلة الخوف في شريعة الله جل وعلا، وثمرات الخوف الطيبة في العاجل والآجل.
وشرعنا في مدارسة أسباب خوف المكلفين من رب العالمين، وقلت: هي على كثرتها يمكن أن تجمع في ثلاثة أسباب:
أولها: إجلال الله وتعظيمه.
ثانيها: الخوف من التفريط في جنب الله وحق الله جل وعلا؛ سواء تعلق ذلك بالتقصير بالطاعات أو بالوقوع في المحرمات.
والأمر الثالث: خشية سوء الخاتمة. نسأل الله حسن الخاتمة بمنه وفضله وكرمه وجوده، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
فالسبب الأول -وغالب ظني أننا تدارسناه في موعظتين اثنتين- إجلال الله وتعظيمه. أي: أننا نخاف منه إجلالاً له وتعظيماً له سبحانه وتعالى، وقلت: هذا السبب سببه ودافعه سيحصل في الإنسان إذا عرف الصلة بينه وبين ربه جل وعلا. ومن عرف نفسه عرف ربه، فالله جل وعلا عليم بكل شيء، خبير بكل شيء، غني عن كل شيء سبحانه وتعالى، فهو جواد كريم، وهو جميل عظيم، فمن استحضر هذا سيخاف رب العالمين ولا بد إجلالاً له وتعظيماً، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا المقام وإلى هذا السبب في مناجاته لربه جل وعلا، وفي عبادته لله عز وجل.
روى الإمام أحمد في المسند وأبو داود والنسائي في السنن بإسناد حسن، من رواية عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( قمت ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، -أي: في الصلاة وفي مناجاة الله- فقرأ في الركعة الأولى سورة البقرة، فكان عليه الصلاة والسلام إذا مر بآية رحمة وقف وسأل الله عز وجل، وإذا مر بآية عذاب وقف وتعوذ من العذاب ).
قال عوف بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: ( ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم فكان ركوعه قدر قيامه، فسمعته يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ) يشير إلى هذا السبب أن نخاف منه إجلالاً له وتعظيماً، فهو ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، سبحانه! لا إله غيره ولا رب سواه.
يقول عوف بن مالك: ( ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم وسجد، فكان سجوده أيضاً قدر قيامه عليه الصلاة والسلام، ثم قام إلى الركعة الثانية فقرأ سورة آل عمران، ثم قرأ سورة سورة في كل ركعة ) أي: في الركعة الثالثة بعد ذلك يقرأ سورة النساء، وفي الركعة الرابعة سورة المائدة.
والشاهد من هذا: ( سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ).
فإذاً: إجلال الله جل وعلا وتعظيمه من أسباب خوف المكلفين من رب العالمين سبحانه وتعالى.
إخوتي الكرام! وقد مر تقرير هذا بأدلته فيما مضى، وبينت أن هذا النوع من خوف الله جل وعلا، هو أعلى أنواع خوف الله عز وجل؛ أي أن نخاف إجلالاً وتعظيماً له سبحانه وتعالى.
وكان المفروض أن نتدارس هنا السبب الثاني من خوف المكلفين من رب العالمين، لكن كان في ذهني أمر أردت أن أتكلم عليه سابقاً حول هذا السبب، وما قدّر الله له وقتاً، ثم دار في ذهني أن أجري الحديث عنه لأنتقل إلى السبب الثاني، لكن عدداً من الإخوة الكرام سألوا عما في صدري، وعما أردت أن أتكلم عليه, ولم يتيسر وقت للكلام عليه سابقاً.
وهذا ما سنتدارسه إن شاء الله هنا وبعد ذلك نبدأ في السبب الثاني إن شاء الله من أسباب خوف العباد من الله عز وجل.
إخوتي الكرام! هذا الأمر يتعلق بشيء نقل عن النساك والعباد والصالحين في هذه الأمة المباركة المرحومة، فلا بد من بيان قيمة هذا القول، ووزنه بميزان الشرع المطهر؛ وهو ما أثر عن عدد من الصالحين المتقين أنه قال: (ما عبدنا الله جل وعلا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره جل وعلا، إنما عبدنا الله جل وعلا تعظيماً له)، فهو إله جليل عظيم يستحق منا أن نعبده فقمنا بواجبنا نحوه، لا طمعاً في الثواب ولا خشية من العقاب.
لكن هذا الكلام ما وزنه؟ ثم بعد ذلك ما حال قائله؟
هذا ما سنتدارسه إخوتي الكرام؛ لأنه كثر القيل والقال والجدال والخصام حول هذه الجملة، فلا بد من وضع الأمر في ميزان الشرع؛ لنكون على بصيرة من أمرنا، ولئلا نكون أسرى التقليد للذين ينطقون بما لا يعلمون.
إخوتي الكرام! هذه المقولة حق وصدق لا شك فيها، فالله جل وعلا لو لم يخلق جنة ولا ناراً لوجب له علينا أن نعبده جل وعلا، فهو الذي يستحق ذلك منا، فينبغي أن نعظمه وأن نشكره على ما أنعم به علينا سبحانه وتعالى, وشكر المنعم واجب، وينبغي أن نجله حياءً منه سبحانه وتعالى، فالحياء هو فعل المليح وترك القبيح، وخلق يمنع المستقصر في حق ذي الحق، وأي حق أعظم من حق الله على عباده جل وعلا؟
فواجب علينا أن نعبده، فلو لم يخلق جنة ولا ناراً ولم يتفضل على الطائعين في جنة النعيم، ولم يعاقب العاصين في نار الجحيم لوجب علينا أن نعبده في كل حين، فهو إله جليل عظيم سبحانه وتعالى.
وإلى هذا الأمر نشير إلى حال نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام, فقد ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث في الكتب الستة إلا سنن أبي داود من رواية المغيرة بن شداد رضي الله عنه وأرضاه قال: ( قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: يا رسول الله! إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكوراً ).
والمعنى: أن شكر المنعم واجب، وأن الحياء من الله واجب، فإذا من علي بالمغفرة وأنا من أهل الجنة أفلا أكون عبداً شكوراً.
والحديث في المسند والصحيحين أيضاً من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، فقلت له: يا رسول الله! لم تصنع ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا
إذاً: فعبادة الله جل وعلا إجلالاً له وتعظيماً بمعنى: أنه لو لم يخلق جنة ولا ناراً لوجب علينا أن نجله وأن نعبده وأن نعظمه، فهذا حقه علينا سبحانه وتعالى، فهذا حق الخالق ينبغي أن يقوم به المخلوق، وإذا عبدنا الله لهذه الغاية وبهذا الدافع لا نجعل العبادة وسيلة لغرض من أغراضنا، وإذا عبدنا الله بهذه الغاية وبهذا الدافع فإن عبادتنا ستكون سليمة قويمة مستنيرة لا يعتريها علة، فلو قدر أننا بشرنا بجنة الله وبالنجاة من عذاب الله، لبقينا على عبادة الله جل وعلا كحال رسول الله عليه صلوات الله وسلامه، فهذا حق وصدق.
إخوتي الكرام! ويقرر هذه المقولة: (إن عبادة الله جل وعلا ينبغي أن تكون تعظيماً لشأنه لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره)، وسيأتينا تعليل هذا وتفصيله.
وهنا أقرر صحة هذه القاعدة التي اتفق عليها أهل النهى، ولا يماري فيها صاحب حجا: أن شكر المنعم واجب، سواء أثابك أو عاقبك، ينبغي أن تشكره جل وعلا، سواء بعد ذلك جعل للطاعة ثواباً وللمعصية عقاباً أم لا، شكر المنعم واجب سواء كان هناك بعث وقيامة، وجنة ونار أم لا، فالله خلقنا وأنعم علينا وتفضل علينا وسخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، فله علينا حق العبادة، والذي لا يقوم بهذا فقد فرط وقصر في حق خالقه سواء كان هناك يوم يجتمع فيه الناس, ويوفون أجورهم على ما عملوا، أو لم يكن هناك ذلك.
وهذا الأمر إخوتي الكرام! قرره أئمتنا الكرام انظروه في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في الجزء السادس عشر صفحة ثلاث وخمسين ومائتين فما بعدها، وانظروه أيضاً في كتاب الإمام ابن القيم مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة في الجزء الثاني صفحة ثمان وثمانين وما بعدها، وفي الكتابين عند تقرير هذا القول أنشد بيتين من الشعر كان كثيراً ما ينشدُهما شيخ الإسلام الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في مجالس وعظه فيقول:
هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحِقِّ حياء العباد من المنعم
أليس من الواجب المستحقِّ طاعة رب الورى الأكرم
ومعنى كلامه رحمه الله: هب أن البعث ما أتت به رسل الله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وأنه ليس هناك بعث، وأنه ليس هناك نار تضطرم ويلقى فيها العصاة، هب أن الأمر كذلك، أليس من الواجب عليك الذي ينبغي أن تقوم به الاستحياء من ربك جل وعلا؟ حياء العباد من المنعم, طاعة رب الورى الأكرم، بلى وعزة ربنا يجب علينا أن نستحي منه في جميع أحوالنا, وأن نفرده بتعظيمنا وعبادتنا، لا إله غيره ولا رب سواه.
الجانب الحق في مقولة: ما عبدنا الله طمعاً في جنته وخوفاً من ناره وإنما تعظيماً له
الحالة الأولى: أنه يقول: إنني أخاف من الله إجلالاً له وتعظيماً وأعبده؛ لأنه إله عظيم يستحق العبادة في كل حين، وغاية ما أريد من عبادته أن أنال رضاه، وأن أسعد برؤيته ولقائه، سواء بعد ذلك هناك جنة أو نار أو لا؟ هذا ما يجب علينا وينبغي أن نقوم به.
لكن أنا مع ذلك أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار؛ لأن الجنة هي دار كرامة الله جل وعلا وتحصل فيها رؤيته ومشاهدته، والنار هي دار سخط الله جل وعلا، ولا يحصل لمن هو فيها رؤية الله جل وعلا ومشاهدته، وعليه أنا أرغب فيما رغبنا الله فيه، وأرهب مما رهبنا الله منه تعظيماً لله جل وعلا، ومع ذلك أسأله الجنة, وأعوذ به من النار؛ لأنه أمرني بذلك سبحانه وتعالى، فهذا هو الطريق القويم، وهذا هو حال نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، فهو أعبد الخلق للحق جل وعلا، وهو الذي كان يعظم الله جل وعلا ويعبده إجلالاً له، وكان يكثر عليه الصلاة والسلام من سؤال الله الجنة ومن الاستعاذة به من النار.
فكوننا نقرر أن عبادة الله جل وعلا ينبغي أن تكون تعظيماً له، وإجلالاً له، وأن الخوف إذا كان منه لهذا السبب، فهذا أجل أنواع الخوف، لا يعني: أننا لا نسأل الله جنة ولا نعوذ به من النار، ولا يعني: أنه إذا عبدنا الله لأنه إله عظيم، له علينا حق العبادة، لا نسأله الجنة ولا نستعيذ به من النار، لا ثم لا، إنما نقول: هذا الحق له علينا، لو لم يخلق جنة ولا ناراً لوجب علينا أن نعبده إجلالاً له وتعظيماً لشأنه سبحانه وتعالى.
وأما بعد ذلك تفضل علينا بما يجب علينا بالثواب, وحذرنا إذا فرطنا بما يجب علينا بالعقاب هذا أمر آخر، لكن العبادة تجب علينا لربنا سواء كان هناك ثواب وعقاب أو لا؟ نعم، إننا نعبد الله تعظيماً له, ونخاف منه إجلالاً له وحياءً منه سبحانه وتعالى، ومع ذلك نرجو رحمته ونخشى عذابه، نطلب جنته ونعوذ به من النار كما هو حال نبينا المختار عليه وعلى أنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه.
ثبت في سنن أبي داود وابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعليهم وسلم تسليماً كثيراً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الصحابة الكرام: ( ماذا تقول في صلاتك؟ فقال: يا رسول الله! أتشهد ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة
فعبادة الله تعظيماً له وإجلالاً لحقه أعلى أنواع العبادات وهذا حق الله علينا، ولا يمنع ذلك أن نسأله الجنة لما تفضل به علينا، وأن نعوذ به من النار لما تفضل به علينا، فمن وعى هذا الأمر فهذا مسلك سبيل شرعي رشيد قرره أئمة الإسلام الكرام؛ أننا نعبد الله تعظيماً لشأنه وإجلالاً له وحياءً منه سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك نطلب منه الجنة ونعوذ به من النار؛ لينصب فضل الله علينا في جميع الأوقات والأحوال، ولو قدر أنه ليس هناك جنة ولا نار, وليس هناك بعث ولا حشر ولا نشر لوجب علينا أن نعبده تعظيماً لشأنه سبحانه وتعالى.
الجانب الباطل في المقولة: ترك سؤال الله الجنة والاستعاذة من النار
لكنهم قالوا: ولا يتحقق هذا في العابد بهذه الصورة إلا أن يترك سؤال الجنة والاستعاذة بالله من النار. فقال رويب، وهو من العباد الصالحين -وألتمس له ولغيره عذراً كما سيأتينا- وهو رويب بن أحمد وقيل: ابن محمد أبي الحسن، كما نعته بذلك الإمام الذهبي في سير العلماء فقال: هو الإمام العابد القانت الخاشع المقرئ شيخ الصوفية في زمنه، وتوفي سنة ثلاث وثلاثمائة للهجرة.
ومن جيد كلامه ولا اعتراض عليه في هذه الكلمة كما في السير يقول: (من علامة الصبر ترك الشكوى، ومن علامة الرضا التلذذ في البلوى), فهذا كلام حق وصدق، وهو من العلماء الربانيين ينطق بالحكمة، لكن ينبغي أن نعي أمراً لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا؛ كل أحد يخطئ ويصيب، وقد لا يدل لفظه على ما في مراده فيقع في خطأ، وكل واحد يحسن ويسيء، ويؤخذ من قوله ويترك إلا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، وعندنا شريعة مطهرة يحاكم إليها الكبير والصغير، والمتقدم والمتأخر، فمن أحسن فهو محسن, ومن قصر بعد ذلك فهو مقصر، وإن أراد خيراً التمسنا له عذراً ورددنا تقصيره عليه فلا يقتدى به فيه.
إخوتي الكرام! وهذه المقولة التي هي حق وصدق قائلها له حالتان:
الحالة الأولى: أنه يقول: إنني أخاف من الله إجلالاً له وتعظيماً وأعبده؛ لأنه إله عظيم يستحق العبادة في كل حين، وغاية ما أريد من عبادته أن أنال رضاه، وأن أسعد برؤيته ولقائه، سواء بعد ذلك هناك جنة أو نار أو لا؟ هذا ما يجب علينا وينبغي أن نقوم به.
لكن أنا مع ذلك أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار؛ لأن الجنة هي دار كرامة الله جل وعلا وتحصل فيها رؤيته ومشاهدته، والنار هي دار سخط الله جل وعلا، ولا يحصل لمن هو فيها رؤية الله جل وعلا ومشاهدته، وعليه أنا أرغب فيما رغبنا الله فيه، وأرهب مما رهبنا الله منه تعظيماً لله جل وعلا، ومع ذلك أسأله الجنة, وأعوذ به من النار؛ لأنه أمرني بذلك سبحانه وتعالى، فهذا هو الطريق القويم، وهذا هو حال نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، فهو أعبد الخلق للحق جل وعلا، وهو الذي كان يعظم الله جل وعلا ويعبده إجلالاً له، وكان يكثر عليه الصلاة والسلام من سؤال الله الجنة ومن الاستعاذة به من النار.
فكوننا نقرر أن عبادة الله جل وعلا ينبغي أن تكون تعظيماً له، وإجلالاً له، وأن الخوف إذا كان منه لهذا السبب، فهذا أجل أنواع الخوف، لا يعني: أننا لا نسأل الله جنة ولا نعوذ به من النار، ولا يعني: أنه إذا عبدنا الله لأنه إله عظيم، له علينا حق العبادة، لا نسأله الجنة ولا نستعيذ به من النار، لا ثم لا، إنما نقول: هذا الحق له علينا، لو لم يخلق جنة ولا ناراً لوجب علينا أن نعبده إجلالاً له وتعظيماً لشأنه سبحانه وتعالى.
وأما بعد ذلك تفضل علينا بما يجب علينا بالثواب, وحذرنا إذا فرطنا بما يجب علينا بالعقاب هذا أمر آخر، لكن العبادة تجب علينا لربنا سواء كان هناك ثواب وعقاب أو لا؟ نعم، إننا نعبد الله تعظيماً له, ونخاف منه إجلالاً له وحياءً منه سبحانه وتعالى، ومع ذلك نرجو رحمته ونخشى عذابه، نطلب جنته ونعوذ به من النار كما هو حال نبينا المختار عليه وعلى أنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه.
ثبت في سنن أبي داود وابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعليهم وسلم تسليماً كثيراً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الصحابة الكرام: ( ماذا تقول في صلاتك؟ فقال: يا رسول الله! أتشهد ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة
فعبادة الله تعظيماً له وإجلالاً لحقه أعلى أنواع العبادات وهذا حق الله علينا، ولا يمنع ذلك أن نسأله الجنة لما تفضل به علينا، وأن نعوذ به من النار لما تفضل به علينا، فمن وعى هذا الأمر فهذا مسلك سبيل شرعي رشيد قرره أئمة الإسلام الكرام؛ أننا نعبد الله تعظيماً لشأنه وإجلالاً له وحياءً منه سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك نطلب منه الجنة ونعوذ به من النار؛ لينصب فضل الله علينا في جميع الأوقات والأحوال، ولو قدر أنه ليس هناك جنة ولا نار, وليس هناك بعث ولا حشر ولا نشر لوجب علينا أن نعبده تعظيماً لشأنه سبحانه وتعالى.
الحالة الثانية: هي التي أخطأ فيها بعض النساك، قالوا: إننا نعبد الله تعظيماً لشأنه سبحانه وتعالى وقياماً لحقه، وغرضه من تلك العبادة أن نعظم ربنا جل وعلا إجلالاً له وحياءً منه. ثم قالوا بعد ذلك: أمنيتنا أن نسعد بلقاء الله جل وعلا, وأن نفوز بالنظر إلى وجه الله الكريم. وهذا كله حق كما تقدم معنا، وليتهم وقفوا عند هذا وما زادوا.
لكنهم قالوا: ولا يتحقق هذا في العابد بهذه الصورة إلا أن يترك سؤال الجنة والاستعاذة بالله من النار. فقال رويب، وهو من العباد الصالحين -وألتمس له ولغيره عذراً كما سيأتينا- وهو رويب بن أحمد وقيل: ابن محمد أبي الحسن، كما نعته بذلك الإمام الذهبي في سير العلماء فقال: هو الإمام العابد القانت الخاشع المقرئ شيخ الصوفية في زمنه، وتوفي سنة ثلاث وثلاثمائة للهجرة.
ومن جيد كلامه ولا اعتراض عليه في هذه الكلمة كما في السير يقول: (من علامة الصبر ترك الشكوى، ومن علامة الرضا التلذذ في البلوى), فهذا كلام حق وصدق، وهو من العلماء الربانيين ينطق بالحكمة، لكن ينبغي أن نعي أمراً لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا؛ كل أحد يخطئ ويصيب، وقد لا يدل لفظه على ما في مراده فيقع في خطأ، وكل واحد يحسن ويسيء، ويؤخذ من قوله ويترك إلا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، وعندنا شريعة مطهرة يحاكم إليها الكبير والصغير، والمتقدم والمتأخر، فمن أحسن فهو محسن, ومن قصر بعد ذلك فهو مقصر، وإن أراد خيراً التمسنا له عذراً ورددنا تقصيره عليه فلا يقتدى به فيه.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المرابطون في بيوت الله [1] - صفات الرجال | 3497 استماع |
المرابطون في بيوت الله [7] - الخشوع في الصلاة | 3056 استماع |
المرابطون في بيوت الله [5] - الزهد في الدنيا وطلب الآخرة | 2897 استماع |
المرابطون في بيوت الله [14] - التفريط في جنب الله في باب المأمورات | 2772 استماع |
المرابطون في بيوت الله [9] - تعريف الخوف ومنزلته | 2748 استماع |
المرابطون في بيوت الله [3] - شروط خروج المرأة إلى بيت الله | 2640 استماع |
المرابطون في بيوت الله [2] - صفة خروج المرأة إلى بيت الله | 2638 استماع |
المرابطون في بيوت الله [11] - إجلال الله وتعظيمه | 2584 استماع |
المرابطون في بيوت الله [6] - فضل الصلاة وذكر الله | 2441 استماع |
المرابطون في بيوت الله [8] - فرضية الزكاة | 2405 استماع |