المرابطون في بيوت الله [6] - فضل الصلاة وذكر الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] .

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: معشر الإخوة المؤمنين! إن أشرف بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد، ففيها نور الله وهداه، وإليها يأوي المؤمنون المهتدون، وهؤلاء المؤمنون الذين يأوون إلى بيوت الحي القيوم في هذه الأرض وهي المساجد وصفهم الله جل وعلا بأنهم رجال، ثم نعتهم بأربع خصال:

الخصلة الأولى فيهم: أنه لا تلهيهم الدنيا عن طاعة الله جل وعلا وعما أوجبه الله عليهم فهم -وهي الخصلة الثانية-: يعظمون الله ويعبدونه، يذكرونه ويوحدونه، يقيمون الصلاة، وهم يشفقون على خلق الله فيؤتون الزكاة، ثم يستعدون بعد ذلك للقاء ربهم جل وعلا، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37] .

وقد مضى الكلام -إخوتي الكرام- عن الصفة الأولى وهي أن هذه الدنيا لا تلهي عباد الله المؤمنين الذين يعمرون هذه المساجد في هذه الحياة.

وأما الصفة الثانية: فهم يذكرون الله جل وعلا ويصلون له، نعم! هؤلاء عرفوا الغاية التي من أجلها خلقوا، وعرفوا الغاية التي من أجلها وجدت بيوت الله في الأرض؛ وجدت لذكر الله وعبادته، وللتفقه في دينه جل وعلا، وللخضوع له والتواضع لعظمته جل وعلا، فهم يذكرون الله في هذه البيوت، ويصلون له سبحانه وتعالى.

أما الذكر فقد تكلمت عليه بشيء من التفصيل عند قول الله جل وعلا: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] ، وبينت مكانة الذكر، والمعاني التي يحتملها الذكر في شريعة الله جل وعلا، وأقول ما تقدم على وجه الاختصار بشرط أن أذكر كلاماً غير الكلام الذي تقدم عند تفسير أول الآية.

إخوتي الكرام! أما الذكر فإنه للإنسان كالماء للسمك، فلا يمكن للإنسان أن يحيا بدون ذكر الله جل وعلا بقلبه ولسانه، وقد وضح لنا نبينا صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت )، هذا حي كحال السمك في الماء عنده بهجة وحياة، وذاك ميت قلبه خرب.

ولفظ الإمام مسلم : ( مثل البيت الذي يذكر فيه الله والبيت الذي لا يذكر فيه الله كمثل الحي والميت ).

إذاً هذا الذكر فيه حياة لقلوب المؤمنين الموحدين، فهذه الدنيا لا تلهيهم عن ذكر رب العالمين.

وهذا الذكر -إخوتي الكرام- هو رأس الطاعات، وروح العبادات، فمن أجله شرع الله العبادات من أجل أن نذكره بها، وأن نعظمه جل وعلا.

قال جل وعلا: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45] .

ولذكر الله الذي يحصل في الصلاة عند التلذذ بمناجاته أكبر فائدةً وأعظم منزلةً من كون الصلاة تنهانا عن الفحشاء والمنكر.

فالمصلي يحصل فائدتين في صلاته:

الفائدة الأولى -وهي المقصودة أصالةً-: أن قلبه يبتهج، ونفسه تنشرح، وصدره يتنور بمناجاة الله جل وعلا، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. ثم يترتب على هذا أثر آخر أن هذه الصلاة تحصنه بعد ذلك من المنكر والفحشاء، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، أي: أكبر أثراً ومنزلةً وفائدةً من كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

والآية تحتمل أيضاً احتمالاً آخراً وهو حق منقول عن سلفنا الكرام وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، أي: أكبر من سائر الطاعات، وأفضل من جميع القربات، فهو روح كل عبادة، فكل عبادة روحها الذكر كما أن الروح التي تحيا بها البدن في هذه الحياة روح للبدن، فروح العبادات بأسرها ذكر الله ومناجاته والتلذذ بالثناء عليه ومخاطبته ومناجاته سبحانه وتعالى، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، أكبر من كل طاعة، وهذا على أن المصدر مضاف إلى المفعول، وَلَذِكْرُ اللَّهِ [العنكبوت:45]، أي: ذكرنا لربنا أعظم من كون الصلاة تنهانا عن الفحشاء والمنكر، وأكبر من كل طاعة.

وتحتمل الآية معنىً ثالثاً على أن المصدر مضاف إلى الفاعل، والمعاني كلها حق ثابتة، ولذكر الله لنا عندما نذكره أكبر، فالله جل وعلا تعهد وتكفل بذكر من يذكره، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، لذكر الله لنا عندما نذكره أكبر وأعلى من ذكرنا له، فهو يذكرنا إذا ذكرناه، ونحن عندما نذكره فهذا أعظم طاعاتنا، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45] .

وإذا أردت أن تعرف حقيقة هذا الأمر فاسمع شيئاً لم يتقدم ذكره.

أخرج الطبراني في معجمه الأوسط بسند رجاله وثقوا كما قال الحافظ الهيثمي في المجمع، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لو أن رجلاً في حجره دراهم يقسمها، وآخر يذكر الله لكان الذاكر لله أفضل منه )، فقوله: ( لو أن رجلاً في حجره دراهم يقسمها ) جمع في حجره الدراهم والدنانير وجلس يقسمها ويوزعها على عباد الله المحتاجين وآخر جلس يذكر الله ويناجيه لكان الذاكر لله أفضل منه؛ وما ذلك إلا لأن القلب لا يحيا إلا بذكر الله، لا خير في صدقة ليس معها ذكر وتعظيم لله جل وعلا، لا بد إذاً من حياة القلب، فإذا حيي القلب يتصدق الإنسان بعد ذلك ويحسن إلى عباد الله، ويجاهد في سبيل الله، ويحافظ على طاعاته فلا يدخلها رياء ولا عجب.

وفي معجم الطبراني الأوسط بسند رجاله وثقوا أيضاً كما قال الحافظ الهيثمي في المجمع، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من صدقة أفضل من ذكر الله ).

نعم! عندما تذكر الله جل وعلا تتصدق على نفسك، وتحيي قلبك، فهذا الذكر لقلبك كالماء للسمك، ( فما من صدقة أفضل من ذكر الله )، أفضل الصدقة ما تنفقها على نفسك، ثم على من تعول، ثم على عباد الله المحتاجين الآخرين، فأنت بالذكر تتصدق على نفسك، وتحيي قلبك، ( ما من صدقة أفضل من ذكر الله ).

ولذلك أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بالإكثار من هذه العبادة من أجل أن يحيا قلب الإنسان، فهذه العبادة ينبغي أن نكثر منها على الدوام.

ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، ورواه الإمام ابن السني في عمل ليوم والليلة، ورواه عبد بن حميد في مسنده وغيرهم، من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أكثروا من ذكر الله، حتى يقولوا مجنون )، أي: حتى يقول المنافقون عن الذاكر: إنه مجنون، وقد قيل هذا لأعقل وأذكى الخليقة خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، وقالوا: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6] ، وقالوا هذا عن أول رسل الله إلى أهل الأرض بعد ما حصل فيها الشرك، وهو أول أولي العزم نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر:9] ، (مجنون)، اذكروا الله، أكثروا من ذكر الله حتى يقول المنافقون عن الذاكر: إنه مجنون، والحديث حسنه الحافظ ابن حجر ، وليس في إسناده من حوله شيء من الكلام إلا دراج أبو السمح وهو من رجال السنن الأربع، وأخرج حديثه الإمام البخاري في الأدب المفرد، وحكم عليه الحافظ في التقريب بأنه صدوق، وحديثه إن شاء الله حسن، نعم في روايته عن أبي الهيثم شيء من الضعف والكلام، وكما قلت: نص على تحسين الحديث شيخ الإسلام الإمام أبو الفضل ابن حجر العسقلاني عليهم جميعاً رحمة الله.

وهذا الحديث وجد ما يشهد له من طرق أخرى، ففي حلية الأولياء ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق من رواية ابن عباس رضي الله عنهما -والرواية الأولى من رواية أبي سعيد رضي الله عنهم أجمعين- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اذكروا الله ذكراً حتى يقول المنافقون: إنكم مراءون )، فقوله: (اذكروا الله ذكراً) أي: ذكراً كثيراً، مستمراً طويلاً.

والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان، والإمام أحمد في الزهد، ورواه سعيد بن منصور في سننه لكن من رواية أبي الجوزاء مرفوعاً إلى خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، وأبو الجوزاء من التابعين، والحديث على هذا مرسل.

وخلاصة الكلام: أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن أكثروا من ذكر الله، اذكروا الله ذكراً كثيراً، (أكثروا من الذكر حتى يقول المنافقون: إنكم مراءون) وحتى يقول المنافقون عن الذاكر: إنه مجنون، فهؤلاء العباد لا تلهيهم الدنيا بما فيها من بيوع وتجارات عن ذكر رب الأرض والسموات.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أن لفظ الذكر يطلق على أمرين: على ذكر الله باللسان وبالقلب، وهو الأوراد والأذكار، ويطلق على ما هو أعم من ذلك على القيام بكل طاعة لله، فمن أطاع الله فهو ذاكر؛ لأن كل طاعة فيها ذكر لله جل وعلا، واستحضار بالقلب لعظمة الله جل وعلا، وتلفظ باللسان بهذه العبادات التي يقوم بها، فكل مطيع لله فهو ذاكر لله، وعليه فقول الله جل وعلا: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37].

إقامة الصلاة تدخل في ذكر الله قطعاً وجزماً؛ فهي خصوص بعد عموم، إنما خصها الله بالذكر لمنزلتها ولأهميتها في شريعة الله جل وعلا، ففيها الذكر بجميع أنواعه وألوانه ففي الصلاة من أفضل الأذكار ألا وهو تلاوة العزيز الغفار، ثم من تسبيح وتحميد وصلاة على نبينا عليه الصلاة والسلام كل هذا يحصل في هذه العبادة، ففيها الذكر الكامل التام بجميع أنواعه وأشكاله، ولذلك خص الله هذه العبادة بالذكر فقال: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37].

أما الصلاة فالبحث فيها سيكون على مراحل:

معنى الصلاة

المرحلة الأولى في بيان معناها اللغوي: اختلف علماؤنا الكرام من الفقهاء واللغويين عليهم جميعاً رحمة الله هل لفظ الصلاة مشتق أو هو اسم علم وضع على هذه العبادة لم يشتق من شيء؟ على قولين اثنين.

وعلى القول بالاشتقاق فاختلف أئمتنا في هذا الاشتقاق أيضا على أربعة أقوال، أظهرها:

أولها: وهو أن لفظ الصلاة مأخوذ من صلى يصلي صلاةً إذا دعا، فالصلاة بمعنى الدعاء، وإنما سميت الصلاة الشرعية التي هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة، إنما سميت صلاةً بمعنى الدعاء؛ لأن الدعاء جزء منها، وبعض منها، وركن من أركانها، فأنت عندما تقرأ الفاتحة تدعو الله، وتسأل الله، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:5-7] .

وهكذا تثني على الله وتدعوه بعد ذلك بغيرها، فبما أنه يحصل في الصلاة دعاء لرب الأرض والسماء فقيل لها: إنها صلاة.

وقد جاء لفظ الصلاة بمعنى الدعاء في آيات القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] أي: ادع لهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعطيت له الزكاة والصدقة ليصرفها في مصارفها يدعو للمتصدق وللمزكي، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] أي: ادع لهم، ومنه قول الأعشى :

تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا

عندما احتضر فبدأت ابنته تدعو له: يا رب! جنب أبي الأوصاب والوجعا، عليك مثل الذي صليت، أي: مثل الذي دعيت لي، فأسأل الله أن يجنبك الأوصاب والألم والأوجاع:

وقد ثبت هذا المعنى عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث أخرجه أهل السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليصل ). (إذا دعي أحدكم -إلى طعام ووليمة- فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل وليطعم، وإن كان صائماً فليصل)، أي: فليدع لأهل البيت بالخير والبركة، أجاب دعاءهم لكن ما أفطر فدعا لهم فحصل بوجوده الأنس والسرور.

والمراد من الصلاة الدعاء لأهل البيت بالخير والبركة، وليس المراد من الصلاة الصلاة الشرعية كما فهم بعض العلماء، فقال: (فليصل) أي: فليذهب إلى البيت الذي فيه الوليمة ثم ليصل ركعتين ولينصرف، ليس المراد هذا كما وضحت رواية الطبراني في المعجم الكبير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليدع بالبركة ). فقوله: ( وإن كان صائماً فليدع بالبركة ) هذا هو معنى (فليصل) أي: فليدع لأهل البيت بالخير والبركة.

وكما قلت إخوتي الكرام: هذا أرجح الأقوال -على القول بالاشتقاق- أن الصلاة بمعنى الدعاء صلى يصلي صلاةً، دعا يدعو دعاءً. وهناك ثلاثة أقوال أخر قيلت في الاشتقاق أذكرها على وجه الإيجاز، وفيها -كما قال أئمتنا- ضعف والعلم عند الله جل وعلا.

قيل: إن لفظ الصلاة مأخوذ من الصلا وهو عرق يكون في وسط الظهر، ويفترق عند عجب الذنب، فيكتنف ويحيط بعجب الذنب الذي هو عظمة صغيرة، وعجب الذنب قيل: تكون في رأس العصعص من الإنسان في هذا المكان عظمة صغيرة، وكل ما في الإنسان إذا مات يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب.

والصلا باللام بعدها ألف بدون همزة هو هذا العرق يمتد إلى أن يصل إلى عجب الذنب فيفترق ثم يكتنف عجب الذنب ويحيط به.

ومنه قول العرب للمصلي في الحلبة، أي: حلبة السباق بين الخيل، فتقول العرب للذي يأتي بالدرجة الثانية: مصلي، والذي يسبق يقال له: مجلي، قال أئمة اللغة: سمي الثاني التالي للمجلي سمي مصلياً؛ لأن رأسه ورأس فرسه يكون عند صلوي المجلي، أي: يأتي وراءه، يكون تالياً له، ذاك سبق وهذا وراءه، فرأسه عند صلوي المجلي، أي: عند ظهر المجلي السابق، وعليه فالصلاة مأخوذة من الصلا.

قال الإمام القرطبي : وهذا الاشتقاق يفيد معنيين:

المعنى الأول: من الصلا، بمعنى المصلي الذي يأتي بعد المجلي أي: هي تالية للإيمان، وهي أعظم الواجبات بعد توحيد الرحمن، كالمصلي والمجلي، فعندنا أعظم حقوق الله على عباده توحيده، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويلي التوحيد مباشرةً الصلاة له سبحانه وتعالى. فالصلاة إذاً كأنها مصلي لذلك الأمر الأول الذي هو مجلي وهو توحيد الله جل وعلا، وفي الاشتقاق -كما قال الإمام الألوسي- غرابة وبعد، وقبله الإمام الرازي ، وحقيقةً إن القول فيه خفاء وبعد.

والمعنى الثاني: سميت الصلاة صلاةً إذا كانت مأخوذة من الصلا، قالوا: لأن المصلي عندما يركع ويسجد ينثني صلواه، أي: العرقان اللذان صارا اثنين عند عجب الذنب وأحاطا به واكتنفاه ينثنيان في حال الركوع والسجود، فقيل للصلاة: صلاةً؛ لأن الإنسان يثني صلويه، أي: هذا العرق الذي تفرق إلى عرقين عند عجب الذنب.

وكما قلت: الاشتقاق فيه بعد.

وقيل: إن لفظ الصلاة مأخوذ من الملازمة، ومنه صلي بالنار إذا لازمها واحترق بها، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:4] ، تقاسي هذه النار مقاساةً لا خروج منها، وعليه فيجب على الإنسان أن يلازم الصلاة، وأن لا يهملها طرفة عين.

وقيل: إنها مأخوذة من التعديل، ومنه صليت العود بالنار إذا لينته بالصلاء، وهو لهب النار وحرها، فهكذا إذاً ينبغي أن يعدل الإنسان نفسه بالصلاة، وأن يلازم الصلاة، والصلاة تالية للإيمان، وإذا سجد الإنسان ينثني صلواه، ثم في الصلاة دعاء والتجاء إلى الله جل وعلا.

وهذه الأقوال الأربعة أظهرها -كما قلت- من حيث الاشتقاق اللغوي أولها والعلم عند الله جل وعلا، وللأقوال الأخرى شواهد من كلام العرب، وبسط هذا في كتب اللغة وكتب الفقه.

القول الثاني: الصلاة ليست مشتقة من شيء لا بمعنى الدعاء ولا الاشتقاقات الأخرى، إنما هي اسم علم على عبادة معروفة، ذهب إلى هذا الإمام أبو نصر القشيري ، وتبعه عدد من أئمة الإسلام، ووجه تعليل هذا القول: أنه لم يخل زمان من شريعة، فما من أمة إلا وأرسل الله فيها نذيراً، وما خلا تشريع لأمة من الأمم من الصلاة، وعليه هذا اللفظ اسم لهذه العبادة التي فرضها الله جل وعلا على الأولين والآخرين من عباده المكلفين، فالصلاة علم مرتجل غير مشتقة من شيء كلفظ الحجر والشجر وغير ذلك.

وهذا البحث اللغوي بقسميه سواء كانت مشتقة أو أنها اسم علم مرتجل ليست مشتقةً من شيء لا يعنينا كثيراً، إنما يحسن بنا أن نعرف أصل اللفظ من حيث اللغة.

أما المعنى الشرعي للصلاة بلا خلاف بين أئمتنا: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة، فمفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم.

أدلة وجوب الصلاة من القرآن الكريم

هذه الصلاة -إخوتي الكرام- فريضة محكمة يكفر جاحدها، قرر الله وجوبها في آيات القرآن، وقرر وجوبها نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الصحيحة الحسان، وأجمع على ذلك أئمة الإسلام، فمن آيات القرآن التي تقرر وجوب الصلاة: قول الله جل وعلا في سورة البينة: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

ومن ذلك قول الله جل وعلا في سورة النساء: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: فرضاً مؤقتاً محدداً في أوقات ينبغي أن تفعل هذه الصلاة فيها.

ومن الآيات أيضاً قول الله جل وعلا في سورة هود: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، فقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [هود:114] والأمر للوجوب، فما أمرنا إلا بالإخلاص لله وتوحيده وتعظيمه عن طريق الصلاة، والإحسان إلى عباده والشفقة عليهم عن طريق إيتاء الزكاة، فالصلاة فرض مكتوب علينا، ولها أوقات محددة ينبغي أن نفعلها فيها.

أدلة وجوب الصلاة من السنة النبوية

وقد تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بوجوب الصلاة وفرضيتها، ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين، والحديث في سنن الترمذي والنسائي ، وهو في أعلى درجات الصحة من وراية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ).

وقد وردت الأحاديث الكثيرة في تبين فرضية الصلاة ووجوبها، وأن من تركها يقاتل حتى يأتي بها، فثبت في الكتب الستة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث متواتر روي عن عدة من الصحابة الكرام عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ).

والحديث أخرجه الشيخان من رواية ابن عمر رضي الله عنهم بزيادة: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ).

وتخصيص الصلاة بالذكر لأنها أعظم حقوق الله، وتخصيص الزكاة بالذكر؛ لأنها أعظم حقوق العباد، وعليه ينبغي أن تقوم بكل حق واجب لله أو للعباد، وإلا تقاتل عليه، كما ثبت في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ).

فهذه فريضة ثابتة محكمة يكفر جاحدها كما دلت على ذلك آيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.

فضل الصلاة والمحافظة عليها

وهذه الصلاة مع أنها فريضة محكمة هي أفضل الطاعات وأعظم القربات نتقرب بها إلى رب الأرض والسموات، وقد وضح هذا الأمر وقرره خير البريات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، والإمام الدارمي ، والحديث إسناده صحيح عن ثوبان مولى نبينا عليه الصلاة والسلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ).

فقوله: ( استقيموا ولن تحصوا ) أي: لن تطيقوا الاستقامة كما يريد الله منكم، إنما ابذلوا ما في وسعكم والله غفور رحيم، ولا يمكن للعبد أن يؤدي حق الرب، ونحن نخطئ في الليل والنهار، ولا يسعنا إلا عفو العزيز الغفار سبحانه وتعالى.

والمعنى الثاني وهو حق ( استقيموا ولن تحصوا ): لن تستطيعوا إحصاء ثواب الاستقامة إن استقمتم، فلذلك أجر لا يخطر على بال أحد منكم، استقيموا فإن استقمتم لا يعلم أحد مقدار ثوابكم إلا الله.

وقوله: ( واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ) أي: خير الأعمال التي نتقرب بها إلى ذي العزة والجلال الصلاة، ( ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ).

وهذا الحديث -الثابت من رواية ثوبان عن نبينا عليه وعلى آله وأصحابه ومواليه الصلاة والسلام- روي عن عدة من الصحابة الكرام أيضاً وهو حديث صحيح -كما قلت- رواه الإمام ابن ماجه والطبراني في معجمه الكبير من رواية أبي أمامة الباهلي ، ورواه ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير أيضاً، وفي معجمه الأوسط عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنهم أجمعين، وعن عبد الله بن قرظ ، ولفظ حديث معجم الطبراني الأوسط: ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة )، فهذه الصلاة مع أنها فريضة محكمة هي أفضل عمل نتقرب به إلى الله جل وعلا.

ولذلك أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذه الصلاة إذا وقعت على الكيفية المطلوبة، وأقامها الإنسان كما اشترط الله فيها: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37]. إذا أقامها كما أراد الله فهنيئاً له؛ فصلاح الصلاة يستلزم صلاح سائر الأعمال، وفساد الصلاة يترتب عليه فساد سائر الأعمال، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة، وبين لنا أن أول ما نحاسب عليه يوم القيامة من أعمالنا الصلاة، فهنيئاً لمن صلحت صلاته، وشقاءً لمن فسدت صلاته.

ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه أهل السنن الأربعة، ورواه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن، وإسناده صحيح، والحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وروي عن أبي قتادة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر )، وفي رواية: ( فإن صلحت صلح عمله كله، وإن فسدت فسد عمله كله ).

والحديث -إخوتي الكرام- كما قلت: روي عن غير أبي هريرة رضي الله عنه، فروي عن أنس أيضاً، وعن تميم الداري ، وروي عن عبد الله بن مسعود وعن عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وفي بعض روايات عبد الله بن مسعود : ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، وإن أول ما يقضى به بين الناس يوم القيامة في الدماء )، وكنت وجهت هذا الحديث سابقاً، فقلت: أول ما يحاسب عليه العباد من حقوق الله الصلاة، وأول ما يحاسبون عليه من حقوق العباد الدماء، فنسأل الله أن يسلمنا من الدماء ومن شرها، وأن يجعلنا ممن يقيمون الصلاة حق الإقامة، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

المرحلة الأولى في بيان معناها اللغوي: اختلف علماؤنا الكرام من الفقهاء واللغويين عليهم جميعاً رحمة الله هل لفظ الصلاة مشتق أو هو اسم علم وضع على هذه العبادة لم يشتق من شيء؟ على قولين اثنين.

وعلى القول بالاشتقاق فاختلف أئمتنا في هذا الاشتقاق أيضا على أربعة أقوال، أظهرها:

أولها: وهو أن لفظ الصلاة مأخوذ من صلى يصلي صلاةً إذا دعا، فالصلاة بمعنى الدعاء، وإنما سميت الصلاة الشرعية التي هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة، إنما سميت صلاةً بمعنى الدعاء؛ لأن الدعاء جزء منها، وبعض منها، وركن من أركانها، فأنت عندما تقرأ الفاتحة تدعو الله، وتسأل الله، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:5-7] .

وهكذا تثني على الله وتدعوه بعد ذلك بغيرها، فبما أنه يحصل في الصلاة دعاء لرب الأرض والسماء فقيل لها: إنها صلاة.

وقد جاء لفظ الصلاة بمعنى الدعاء في آيات القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] أي: ادع لهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعطيت له الزكاة والصدقة ليصرفها في مصارفها يدعو للمتصدق وللمزكي، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] أي: ادع لهم، ومنه قول الأعشى :

تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا

عندما احتضر فبدأت ابنته تدعو له: يا رب! جنب أبي الأوصاب والوجعا، عليك مثل الذي صليت، أي: مثل الذي دعيت لي، فأسأل الله أن يجنبك الأوصاب والألم والأوجاع:

وقد ثبت هذا المعنى عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث أخرجه أهل السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليصل ). (إذا دعي أحدكم -إلى طعام ووليمة- فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل وليطعم، وإن كان صائماً فليصل)، أي: فليدع لأهل البيت بالخير والبركة، أجاب دعاءهم لكن ما أفطر فدعا لهم فحصل بوجوده الأنس والسرور.

والمراد من الصلاة الدعاء لأهل البيت بالخير والبركة، وليس المراد من الصلاة الصلاة الشرعية كما فهم بعض العلماء، فقال: (فليصل) أي: فليذهب إلى البيت الذي فيه الوليمة ثم ليصل ركعتين ولينصرف، ليس المراد هذا كما وضحت رواية الطبراني في المعجم الكبير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليدع بالبركة ). فقوله: ( وإن كان صائماً فليدع بالبركة ) هذا هو معنى (فليصل) أي: فليدع لأهل البيت بالخير والبركة.

وكما قلت إخوتي الكرام: هذا أرجح الأقوال -على القول بالاشتقاق- أن الصلاة بمعنى الدعاء صلى يصلي صلاةً، دعا يدعو دعاءً. وهناك ثلاثة أقوال أخر قيلت في الاشتقاق أذكرها على وجه الإيجاز، وفيها -كما قال أئمتنا- ضعف والعلم عند الله جل وعلا.

قيل: إن لفظ الصلاة مأخوذ من الصلا وهو عرق يكون في وسط الظهر، ويفترق عند عجب الذنب، فيكتنف ويحيط بعجب الذنب الذي هو عظمة صغيرة، وعجب الذنب قيل: تكون في رأس العصعص من الإنسان في هذا المكان عظمة صغيرة، وكل ما في الإنسان إذا مات يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب.

والصلا باللام بعدها ألف بدون همزة هو هذا العرق يمتد إلى أن يصل إلى عجب الذنب فيفترق ثم يكتنف عجب الذنب ويحيط به.

ومنه قول العرب للمصلي في الحلبة، أي: حلبة السباق بين الخيل، فتقول العرب للذي يأتي بالدرجة الثانية: مصلي، والذي يسبق يقال له: مجلي، قال أئمة اللغة: سمي الثاني التالي للمجلي سمي مصلياً؛ لأن رأسه ورأس فرسه يكون عند صلوي المجلي، أي: يأتي وراءه، يكون تالياً له، ذاك سبق وهذا وراءه، فرأسه عند صلوي المجلي، أي: عند ظهر المجلي السابق، وعليه فالصلاة مأخوذة من الصلا.

قال الإمام القرطبي : وهذا الاشتقاق يفيد معنيين:

المعنى الأول: من الصلا، بمعنى المصلي الذي يأتي بعد المجلي أي: هي تالية للإيمان، وهي أعظم الواجبات بعد توحيد الرحمن، كالمصلي والمجلي، فعندنا أعظم حقوق الله على عباده توحيده، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويلي التوحيد مباشرةً الصلاة له سبحانه وتعالى. فالصلاة إذاً كأنها مصلي لذلك الأمر الأول الذي هو مجلي وهو توحيد الله جل وعلا، وفي الاشتقاق -كما قال الإمام الألوسي- غرابة وبعد، وقبله الإمام الرازي ، وحقيقةً إن القول فيه خفاء وبعد.

والمعنى الثاني: سميت الصلاة صلاةً إذا كانت مأخوذة من الصلا، قالوا: لأن المصلي عندما يركع ويسجد ينثني صلواه، أي: العرقان اللذان صارا اثنين عند عجب الذنب وأحاطا به واكتنفاه ينثنيان في حال الركوع والسجود، فقيل للصلاة: صلاةً؛ لأن الإنسان يثني صلويه، أي: هذا العرق الذي تفرق إلى عرقين عند عجب الذنب.

وكما قلت: الاشتقاق فيه بعد.

وقيل: إن لفظ الصلاة مأخوذ من الملازمة، ومنه صلي بالنار إذا لازمها واحترق بها، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:4] ، تقاسي هذه النار مقاساةً لا خروج منها، وعليه فيجب على الإنسان أن يلازم الصلاة، وأن لا يهملها طرفة عين.

وقيل: إنها مأخوذة من التعديل، ومنه صليت العود بالنار إذا لينته بالصلاء، وهو لهب النار وحرها، فهكذا إذاً ينبغي أن يعدل الإنسان نفسه بالصلاة، وأن يلازم الصلاة، والصلاة تالية للإيمان، وإذا سجد الإنسان ينثني صلواه، ثم في الصلاة دعاء والتجاء إلى الله جل وعلا.

وهذه الأقوال الأربعة أظهرها -كما قلت- من حيث الاشتقاق اللغوي أولها والعلم عند الله جل وعلا، وللأقوال الأخرى شواهد من كلام العرب، وبسط هذا في كتب اللغة وكتب الفقه.

القول الثاني: الصلاة ليست مشتقة من شيء لا بمعنى الدعاء ولا الاشتقاقات الأخرى، إنما هي اسم علم على عبادة معروفة، ذهب إلى هذا الإمام أبو نصر القشيري ، وتبعه عدد من أئمة الإسلام، ووجه تعليل هذا القول: أنه لم يخل زمان من شريعة، فما من أمة إلا وأرسل الله فيها نذيراً، وما خلا تشريع لأمة من الأمم من الصلاة، وعليه هذا اللفظ اسم لهذه العبادة التي فرضها الله جل وعلا على الأولين والآخرين من عباده المكلفين، فالصلاة علم مرتجل غير مشتقة من شيء كلفظ الحجر والشجر وغير ذلك.

وهذا البحث اللغوي بقسميه سواء كانت مشتقة أو أنها اسم علم مرتجل ليست مشتقةً من شيء لا يعنينا كثيراً، إنما يحسن بنا أن نعرف أصل اللفظ من حيث اللغة.

أما المعنى الشرعي للصلاة بلا خلاف بين أئمتنا: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة، فمفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم.