المرابطون في بيوت الله [1] - صفات الرجال


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] .

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

أما بعد:

معشر الإخوة الكرام! إن أفضل البقاع عند ذي الجلال والإكرام وأكرمها عليه بيوته في الأرض ألا وهي المساجد، ففيها نوره وهداه، وقد أذن الله برفعها لإيقاع التسبيح وذكره فيها، وتقدم معنا الكلام على أمور ثلاثة وهي: رفع المساجد، والتسبيح فيها، وذكر الله جل وعلا فيها، وما في هذه الأمور الثلاثة من دلالات وإرشادات.

وسنتدارس أحوال من يدخلون بيوت الله ويرابطون فيها، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] .

فبعد أن ذكر ما يقع في بيوت الله انتقل إلى أحوال عمار بيوت الله جل وعلا، فذكر أعمالهم القلبية والقالبية، السرية والجلية، فهم رجال لا يلهيهم عرض الدنيا وزينتها وما فيها من بيع وشراء، وأخذ وعطاء، فلا يلهيهم ذلك عن تعظيم الله، والإحسان في عبادة الله من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم هم في أتم استعداد ليوم المعاد، يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] .

هذه الصفات الأربع للرجال: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] .

لا يلهيهم عرض الدنيا عن تعظيم الله من ذكره والصلاة له، ولا يلهيهم عرض الدنيا عن الإحسان إلى عباد الله، فهم في أتم استعداد ليوم الميعاد.

إخوتي الكرام! هذه الصفات الأربع لا بد من تدارسها والوقوف عندها، وقبل أن ندخل في تفصيل الكلام عليها ينبغي أن نقف عند قول الله جل وعلا: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37].

فلفظ الرجال فيه دلالتان معتبرتان، نتكلم على الدلالة الأولى ونتدارسها هنا، والدلالة التي يفيدها هذا اللفظ يأتي الكلام عليها لاحقاً إن شاء الله.

عباد الله! لفظ الرجال يدل على أمرين معتبرين:

الشهامة والفتوة والخصال الحميدة

الأمر الأول: رجال كرام، ذوو قدر ومنزلة عند ذي الجلال والإكرام، فلفظ الرجولة إذا أطلق يراد منه أحياناً الشهامة والكرم والفتوة والخصال الحميدة التي يتصف بها الإنسان، فرجال عظام، ورجال طيبون، ورجال مخلصون للحي القيوم، فهم الرجال وما عداهم أرذال أنذال، وهذا مستعمل في أسلوب العرب، يقول العرب في لغتهم: مررت برجل، ورجل أبوه، أي: مررت برجل كريم شهم صاحب مروءة وإحسان، وأبوه على هذه الخصال الحميدة، ولا يريد من الرجال هنا معنى الذكورة الذي يقابل الأنوثة، مررت برجل أبوه، برجل كريم فخيم عظيم، وأبوه كذلك، وعلى هذا يتنزل كلام سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه عندما قال: ثلاث أنا فيهن رجل، أي: وما سوى ذلك فأنا كسائر الناس، أول هذه الخصال التي هو فيها رجل، أي: هو فيها كامل الرجولة والمروءة والشهامة والفتوة والعقل والرزانة، يقول: ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق، وما كنت في صلاة فحدثت نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا تبعت جنازةً لا أحدث نفسي إلا فيما يقال لها وما تقول.

هذه الأمور الثلاثة أنا فيها رجل، فأضبط عقلي ووعيي، ولا يمكن أن يغيب عني رشدي، وما عدا ذلك فأنا بشر أخطئ وأسهو، فهذه ثلاث أنا فيهن رجل، وفيما عدا ذلك أنا كسائر الناس، فهؤلاء رجال عظام كرام لهم منزلة عظيمة عند ربنا الرحمن، فهم أصحاب العقول حقاً وصدقاً، وعلى هذا يتنزل قول الله جل وعلا عندما نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوم في مسجد الضرار الذي بناه الأرذال وأمره أن يقوم في المسجد الذي أسس على التقوى وهو مسجد قباء، ومسجد خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، فقال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ [التوبة:108] أي: رجال أبطال، فهم أهل عقول، وأهل مروءة، وأهل نجدة، وأهل نخوة، وأهل شرف وعزة، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].

وأما في مسجد الضرار فيوجد الفجار والمنافقون الأشرار، وأما هنا فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] ، وعلى هذا يتنزل قول مؤمن آل فرعون عندما قال أعتى أهل الأرض في زمن فرعون: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] ، فقال العبد الصالح المؤمن من آل فرعون ويكتم إيمانه: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [غافر:28]؛ أي: رجل اكتملت فيه الرجولة والنخوة والمروءة والشرف والنجدة: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا [غافر:28] أي: رجلاً عظيماً لا يعادله ملء الأرض من الرجال، وهو نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28] .

هذا المعنى الأول في لفظ الرجال (فيه رجال)، أي: رجال كرام أصحاب عقول متينة ودين قويم.

الذكورة في مقابلة الأنوثة

والأمر الثاني: لفظ الرجال يطلق بما يقابل الأنوثة وهو الذكورة، والمعنيان هنا متقاربان، ففي بيوت الله، رجال اتصفوا بصفات المروءة، وعندهم عقول حصينة رزينة، وهم ذكور، فالمرأة لا تطالب بالحضور إلى بيوت العزيز الغفور في هذه الحياة، كما سيأتينا هذا في التنبيه الثاني إن شاء الله.

إخوتي الكرام! وإذا أطلق لفظ الرجل فهو يحتمل المعنيين، وقد يشملهما، ولا بد من قرينة تحدد ذلك، فقول الله جل وعلا: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]، فيراد منه خصوص الذكور فقط بغض النظر عن صفاتهم، أو فيهم صفات معتبرة أو لا، وأتقياء أو أشقياء، فليس هذا محل بحث، (للرجال) أي: للذكور، فلفظ الرجال يطلق على هذا.

وإذا كان في السياق لا يوجد ما يحدد المراد وقد يلتبس، فلا بد من اتباع هذا اللفظ بما يزيل الإيهام عنه، وعلى هذا يتنزل ما ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين وغيرهما، والحديث في أعلى مراتب الصحة من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر )، فقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) أي: أصحاب الفروض، والإرث على نوعين: إرث عن طريق الفروض المقدرة في كتاب الله، وإرث عن طريق التعصيب، وقوله: (ألحقوا الفرائص بأهلها)، أي: من له فرض محدد من نصف أو ربع أو ثمن أو ثلثان أو ثلث أو سدس أعطوه فرضه، ثم قال: (فما بقي فلأولى رجل)، قال بعد ذلك: (ذكر)، وإنما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الرجل هنا ونعته وأتبعه بلفظ الذكورة؛ لئلا يحصل إيهام عند السامعين؛ لأنه لو قال: (فلأولى رجل) وسكت عليه صلوات الله وسلامه لاحتمل الكلام أمرين: لاحتمل فلأولى ذكر الذي يقابل الأنثى، ولاحتمل فلأولى رجل من ورثته فيه نخوة ومروءة وشهامة ونجدة وقوة، وقد كان هذا المفهوم مستعملاً عند العرب في جاهليتهم، فلا يورثون الميت إلا أقوى ورثته، فكانوا لا يعطون مال الميت إلا لمن وثب على الخير، وضرب بالسيف، وطعن بالرمح، فقد يفهم بعض الناس هذا المعنى، (فلأولى رجل) أي: أقوى رجل، وأكرم رجل، وأنجد رجل، فلئلا يفهم هذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فلأولى رجل ذكر )، أي: فلرجل يتصف بصفة الذكورة هو أقرب إلى الميت من غيره، وهذا أحد تخريجات خمسة قيلت في وجه إتباع الذكورة للرجولة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فما بقي فلأولى رجل ذكر ).

إخوتي الكرام! خلاصة الكلام على هذه المقدمة الموجزة أن لفظ الرجل يطلق على أمرين: على ما في الإنسان من صفة العقل والشهامة والمروءة والكرم والنخوة، وعلى الذكورة التي تقابل الأنوثة، والأمران معتبران في قول الله: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37].

الأمر الأول: رجال كرام، ذوو قدر ومنزلة عند ذي الجلال والإكرام، فلفظ الرجولة إذا أطلق يراد منه أحياناً الشهامة والكرم والفتوة والخصال الحميدة التي يتصف بها الإنسان، فرجال عظام، ورجال طيبون، ورجال مخلصون للحي القيوم، فهم الرجال وما عداهم أرذال أنذال، وهذا مستعمل في أسلوب العرب، يقول العرب في لغتهم: مررت برجل، ورجل أبوه، أي: مررت برجل كريم شهم صاحب مروءة وإحسان، وأبوه على هذه الخصال الحميدة، ولا يريد من الرجال هنا معنى الذكورة الذي يقابل الأنوثة، مررت برجل أبوه، برجل كريم فخيم عظيم، وأبوه كذلك، وعلى هذا يتنزل كلام سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه عندما قال: ثلاث أنا فيهن رجل، أي: وما سوى ذلك فأنا كسائر الناس، أول هذه الخصال التي هو فيها رجل، أي: هو فيها كامل الرجولة والمروءة والشهامة والفتوة والعقل والرزانة، يقول: ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق، وما كنت في صلاة فحدثت نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا تبعت جنازةً لا أحدث نفسي إلا فيما يقال لها وما تقول.

هذه الأمور الثلاثة أنا فيها رجل، فأضبط عقلي ووعيي، ولا يمكن أن يغيب عني رشدي، وما عدا ذلك فأنا بشر أخطئ وأسهو، فهذه ثلاث أنا فيهن رجل، وفيما عدا ذلك أنا كسائر الناس، فهؤلاء رجال عظام كرام لهم منزلة عظيمة عند ربنا الرحمن، فهم أصحاب العقول حقاً وصدقاً، وعلى هذا يتنزل قول الله جل وعلا عندما نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوم في مسجد الضرار الذي بناه الأرذال وأمره أن يقوم في المسجد الذي أسس على التقوى وهو مسجد قباء، ومسجد خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، فقال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ [التوبة:108] أي: رجال أبطال، فهم أهل عقول، وأهل مروءة، وأهل نجدة، وأهل نخوة، وأهل شرف وعزة، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].

وأما في مسجد الضرار فيوجد الفجار والمنافقون الأشرار، وأما هنا فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] ، وعلى هذا يتنزل قول مؤمن آل فرعون عندما قال أعتى أهل الأرض في زمن فرعون: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] ، فقال العبد الصالح المؤمن من آل فرعون ويكتم إيمانه: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [غافر:28]؛ أي: رجل اكتملت فيه الرجولة والنخوة والمروءة والشرف والنجدة: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا [غافر:28] أي: رجلاً عظيماً لا يعادله ملء الأرض من الرجال، وهو نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28] .

هذا المعنى الأول في لفظ الرجال (فيه رجال)، أي: رجال كرام أصحاب عقول متينة ودين قويم.

والأمر الثاني: لفظ الرجال يطلق بما يقابل الأنوثة وهو الذكورة، والمعنيان هنا متقاربان، ففي بيوت الله، رجال اتصفوا بصفات المروءة، وعندهم عقول حصينة رزينة، وهم ذكور، فالمرأة لا تطالب بالحضور إلى بيوت العزيز الغفور في هذه الحياة، كما سيأتينا هذا في التنبيه الثاني إن شاء الله.

إخوتي الكرام! وإذا أطلق لفظ الرجل فهو يحتمل المعنيين، وقد يشملهما، ولا بد من قرينة تحدد ذلك، فقول الله جل وعلا: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]، فيراد منه خصوص الذكور فقط بغض النظر عن صفاتهم، أو فيهم صفات معتبرة أو لا، وأتقياء أو أشقياء، فليس هذا محل بحث، (للرجال) أي: للذكور، فلفظ الرجال يطلق على هذا.

وإذا كان في السياق لا يوجد ما يحدد المراد وقد يلتبس، فلا بد من اتباع هذا اللفظ بما يزيل الإيهام عنه، وعلى هذا يتنزل ما ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين وغيرهما، والحديث في أعلى مراتب الصحة من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر )، فقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) أي: أصحاب الفروض، والإرث على نوعين: إرث عن طريق الفروض المقدرة في كتاب الله، وإرث عن طريق التعصيب، وقوله: (ألحقوا الفرائص بأهلها)، أي: من له فرض محدد من نصف أو ربع أو ثمن أو ثلثان أو ثلث أو سدس أعطوه فرضه، ثم قال: (فما بقي فلأولى رجل)، قال بعد ذلك: (ذكر)، وإنما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الرجل هنا ونعته وأتبعه بلفظ الذكورة؛ لئلا يحصل إيهام عند السامعين؛ لأنه لو قال: (فلأولى رجل) وسكت عليه صلوات الله وسلامه لاحتمل الكلام أمرين: لاحتمل فلأولى ذكر الذي يقابل الأنثى، ولاحتمل فلأولى رجل من ورثته فيه نخوة ومروءة وشهامة ونجدة وقوة، وقد كان هذا المفهوم مستعملاً عند العرب في جاهليتهم، فلا يورثون الميت إلا أقوى ورثته، فكانوا لا يعطون مال الميت إلا لمن وثب على الخير، وضرب بالسيف، وطعن بالرمح، فقد يفهم بعض الناس هذا المعنى، (فلأولى رجل) أي: أقوى رجل، وأكرم رجل، وأنجد رجل، فلئلا يفهم هذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فلأولى رجل ذكر )، أي: فلرجل يتصف بصفة الذكورة هو أقرب إلى الميت من غيره، وهذا أحد تخريجات خمسة قيلت في وجه إتباع الذكورة للرجولة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فما بقي فلأولى رجل ذكر ).

إخوتي الكرام! خلاصة الكلام على هذه المقدمة الموجزة أن لفظ الرجل يطلق على أمرين: على ما في الإنسان من صفة العقل والشهامة والمروءة والكرم والنخوة، وعلى الذكورة التي تقابل الأنوثة، والأمران معتبران في قول الله: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37].

فلنتدارس الأمر الأول، ولنقرره، ولنبين وجه كون الذين يدخلون بيوت الله رجال أحرار أشراف عقلاء، ومن عداهم أشباه الرجال ولا رجال، قد يقول قائل: هل الدخول في بيوت الله وتسبيح الله فيها، وإقام الصلاة فيها يدل على عظم الإنسان ومكانته ونبل أخلاقه، ورسوخ قدمه، ورجحان عقله؟ والجواب: نعم، وإذا لم يدل دخول المسجد على هذه الأمور فلا يوجد دليل معتبر على وجه الأرض، وإذا أردت أن تتحقق من هذه القضية، وأن تعلم أن أعقل الناس هم المرابطون في بيوت الله، وأن أعقل الناس هم أعبد الناس لله، فاسمع لهذه الدلالة المعتبرة التي أشار إليها رب العالمين، وتطرب لها عقول المتقين، يقول الله جل وعلا: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83-84].

ويقول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [ص:41-43] .

فقال في سورة الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]، وقال في سورة ص: وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [ص:43] .

وفي ذلك إشارة -كما قال أئمتنا المفسرون- إلى أن العابدين هم أصحاب العقول الصريحة، وأن أصحاب العقول هم من يعبدون ربهم جل وعلا، فلا عبادة من غير عقل ولا عقل من غير عبادة، فكل من لم يعبد الله جل وعلا فهو سفيه جاهل ضال، وكل من عبد الله جل وعلا فهو كريم عاقل، وقد قرر أئمتنا الكرام أن من أوصى بوصية لأعقل أهل مصر من الأمصار وأهل بلدة من البلاد فتصرف لأشدهم اجتهاداً في طاعة الله وعبادته.

فهذا أعقل الناس، وأكيس الناس، وأفضل الناس، فهذا هو الرجل المقصود بقوله: فِيهِ رِجَالٌ [التوبة:108]، فإن عبادة الله وتسبيحه وإقامة الصلاة في بيوت الله، وتعلم العلم علامة على الفتوة وكمال العقل في الرجل لأن الله يقول: فِيهِ رِجَالٌ [التوبة:108]، وقد كان سلفنا رضوان الله عليهم يقررون هذا المعنى.

روى الإمام أبو محمد عبد الغني المقدسي بإسناد حسن عن زر بن حبيش رحمه الله ورضي عنه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال لابن أخيه: يا ابن أخي! ترى الناس ما أكثرهم؟ قال: نعم، قال: لا خير فيهم إلا تائب أو تقي، ثم قال له: يا ابن أخي! ترى الناس ما أكثرهم؟ قال: نعم، قال: لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم.

نعم، إن كل ما في هذه الحياة ملعون إلا ما أريد به وجه الحي القيوم.

وقد ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً )، فهؤلاء الذين يسلمون من اللعن، وهؤلاء الذين يسلمون من الخسارة كما قال الله: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

ولا خير في الذكاء إذا لم يصحبه زكاء، وقد قال كثير من أئمتنا الأتقياء في تراجم عددٍ من العلماء الأشقياء: كان ذكياً؛ ولم يكن زكياً، أي: عنده ألمعية في عقله، لكنه ليس عنده استقامة في دينه وخلقه، ولا يضع الأمر في موضعه، فذكاؤه لا يزيد على ذكاء الثعالب والقرود، فكان ذكياً ولم يكن زكياً، فكل من لم يعبد الله في بيت الله فليس برجل، وإنما هو رويجل، وهو من أشباه الرجال وليس من الرجال؛ لأن الله يقول: فِيهِ رِجَالٌ [التوبة:108]، فدخول بيوت الله جل وعلا علامة على الشهامة والمروءة والفتوة والرجولة، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37].

الدليل الأول: (من سره أن يلقى الله غداً سالماً...)

ففي صحيح مسلم والسنن الأربعة عدا سنن الإمام الترمذي ، والحديث صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات -يعني الخمس- المفروضات حيث ينادى بهن -يعني في جماعة في بيوت الله- فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، ولو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف -أي رجل تأخر عن الجماعة- في بيته لتركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم )، وفي رواية أبي داود : ( ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم ).

نعم، إن ترك الصلوات في جماعة كفر إن استحل تاركها ذلك، واستهزأ بأداء الصلوات في جماعة فلا شك في كفره، وإذا لم يستحل فهو كافر كفراً أصغر؛ أي: كفر النعمة لا كفر المنعم، وهذا هو النفاق العملي، وهو معصية عظيمة جليلة كبيرة شنيعة، ( ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم ).

إن هذا يؤدي به إلى الكفر، إن هذا اللفظ مقرون للتغليظ والتشنيع والردع بما تقشعر منه الجلود، وتخاف منه القلوب، ( ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم -لكفرتم- ولقد كان الرجل يؤتى به بين الرجلين يهادى حتى يقام في الصف ) أي: كنا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في الإنسان مرض وعلة، وبإمكانه أن يتحمل الحضور يسنده رجلان وهو يتهادى بينهما، أي: يميل على هذا مرةً وعلى هذا مرةً حتى يقام في الصف، حتى يبرأ من وزر النفاق، ووصفه به، ( ولقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق )، وهل المنافقون من الرجال؟ لا، إنهم من الأشرار الأنذال الأرذال.

الدليل الثاني: (ليس أثقل على المنافقين من...)

أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن من الأمارات التي لا تتخلف في المنافق -كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح: يعني النفاق العملي-: عدم أداء الصلوات المكتوبات في بيوت رب الأرض والسموات، لا سيما صلاتي الفجر والعشاء.

ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً )؛ أي: يزحفون على أيديهم وأرجلهم وركبهم، وقد كان السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين يعتبرون حضور صلاة الفجر في جماعة وحضور صلاة العشاء في جماعة، من العلامات التي تدل على أن الإنسان ليس بمنافق، وعدم الحضور مما يدل على أنه منافق مصداقاً لهذا الحديث ولأحاديث غيره كثيرة، منها: ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وسعيد بن منصور في مصنفه، وأثر الإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومته من الأنصار رضوان الله عليهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يشهد الفجر وصلاة العشاء منافق )، ولذلك ثبت في معجم الطبراني الكبير والبزار ، والأثر رواه الإمام ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه، وإسناده صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( كنا إذا رأينا الرجل يتخلف عن صلاة العشاء وعن صلاة الفجر ظننا به سوءاً )، أي: أنه من المنافقين، ومن الأرذال، وليس من عباد الله الرجال، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37].

إخوتي الكرام! إن صلاة الجماعة واجبة، والذي يفرط فيها فقد غبن وخسر وضيع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ثبت في أصح الكتب بعد كتاب الله في صحيح الإمام البخاري في كتاب الأذان باباً يشير به إلى هذه القضية، فقال الإمام البخاري عليه رحمات رب البرية: باب وجوب أداء الصلاة في جماعة. ثم ذكر أثرين: أحدهما مرفوعاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم متصلاً، والآخر أورده بسند معلق مجزومٍ به إلى إمام من أئمة التابعين.

الدليل الثالث: (لقد هممت أن آمر بالصلاة...)

ثبت في صحيح البخاري وهو في مسلم وغير ذلك من الكتب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق إلى رجال يتخلفون فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء )، وقوله: (عرقاً سميناً) أي: عظماً عليه بقية لحم، (أو مرماتين حسنتين) تثنية مرماة، وهي إما ما بين ظلفي الشاة من لحم رقيق، وإما شيء كان يلعب فيه كالهدف الذي يرمى إليه كخشبتين تنصبان ثم بعد ذلك يجري الناس بينهما، فيكون المعنى: لو علموا هؤلاء أنهم إذا جاءوا إلى صلاة العشاء حصلوا أكلاً ولعباً لصلوا لله من أجل بطونهم ومن أجل متعتهم، أما الصلاة تقرباً إلى ربهم فليسوا من أهل ذلك.

والحديث كما ترون إخوتي الكرام! نص صريح صحيح في وجوب أداء الصلوات المفروضات في جماعة، وإلى هذا ذهب جم غفير من أئمة الإسلام منهم الإمام المبجل أحمد بن حنبل وعطاء بن أبي رباح والإمام الأوزاعي وغيرهم، وذهب إليه جم غفير من المحدثين من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم كـابن المنذر ، وأبي ثور ، وابن خزيمة ، وابن حبان رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين، فكل هؤلاء قالوا: بأن أداء الصلوات المفروضات في الجماعة واجب.

الدليل الرابع: أثر الحسن البصري فيمن منعته أمه من صلاة الجماعة

أورد الإمام البخاري في صحيحه فقال: وقال الحسن -أي الحسن البصري عليه رحمة الله- في من منعته أمه من أداء صلاة العشاء في جماعة شفقةً عليه، تقول له: لا أصبر عن فراقك، أريد أن أستأنس بك، لا أريد أن تفارقني في هذا الوقت، هل نطيعها؟ قال: لا، صلاة الجماعة واجبة.

وهكذا قال الإمام الأوزاعي عليه رحمة الله: لا طاعة للوالدين في ترك الجمعة والجماعة.

فالذين لا يؤدون الصلوات المفروضات في بيوت رب الأرض والسماوات ليسوا برجال، وإنما هم أهل ضلال وخبال، وهم أشرار أرذال، وهذا الذي قرره الإمام البخاري ، وتبعه عليه وقال به كثير من أئمتنا الكرام.

الدليل الخامس: (من سمع النداء فلم يجب...)

وقد وردت أدلة كثيرة تشهد له وتقرره وتقويه، فمن هذه الأدلة: ما ثبت في سنن ابن ماجه ، والحديث رواه ابن حبان والحاكم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، والحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر )، والعذر أن تكون مريضاً، أو أن تكون مسافراً، أو أن يكون هناك مطر وما شاكل هذا.

وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، واختلف في وقف الأثر وفي رفعه إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وقد أورده الحاكم مرفوعاً وصححه وأقره عليه الذهبي ، ويشهد له الأثر المتقدم عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سمع النداء فلم يجب وهو صحيح فارغ فلا صلاة له )، أي: ليس في أخرى بدنه مرض وآفة، وهو ليس مشتغلاً بأمر يسقط عنه حضور الجماعة.

آثار أخرى في وجوب صلاة الجماعة

والآثار والأحاديث في ذلك كثيرة وفيرة.

ففي معجم الطبراني الأوسط بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: ما تقول فيمن سمع الأذان فلم يجب؟ فقال: من سمع حي على الفلاح فلم يجب فقد ترك سنة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي سنن الترمذي في الأثر الذي رواه عن ليث بن أبي ليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين: أن ابن عباس سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، لكنه لا يشهد جمعة ولا جماعة؟ قال: هو في النار.

وإن كان في أحد الرواة وهو ليث كلام، وهو من رجال مسلم ، وهو صدوق لكن طرأ عليه اختلاط، والأثر صححه الشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله في تعليقه على سنن الترمذي ، وقال: إن الأثر له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن لصحابي رضي الله عنه أن يقول هذا الحكم عن طريق عقله وعن طريق رأيه، فمن صام النهار وقام الليل، ولم يشهد جمعة ولا جماعة فهو في النار.

إخوتي الكرام! إن إيقاع الصلوات المفروضات في بيوت رب الأرض والسموات في هذه الحياة واجب، وإذا اتصف الذكر بذلك، فهو صاحب عقل ومروءة وشهامة وكرامة.

ففي صحيح مسلم والسنن الأربعة عدا سنن الإمام الترمذي ، والحديث صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات -يعني الخمس- المفروضات حيث ينادى بهن -يعني في جماعة في بيوت الله- فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، ولو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف -أي رجل تأخر عن الجماعة- في بيته لتركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم )، وفي رواية أبي داود : ( ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم ).

نعم، إن ترك الصلوات في جماعة كفر إن استحل تاركها ذلك، واستهزأ بأداء الصلوات في جماعة فلا شك في كفره، وإذا لم يستحل فهو كافر كفراً أصغر؛ أي: كفر النعمة لا كفر المنعم، وهذا هو النفاق العملي، وهو معصية عظيمة جليلة كبيرة شنيعة، ( ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم ).

إن هذا يؤدي به إلى الكفر، إن هذا اللفظ مقرون للتغليظ والتشنيع والردع بما تقشعر منه الجلود، وتخاف منه القلوب، ( ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم -لكفرتم- ولقد كان الرجل يؤتى به بين الرجلين يهادى حتى يقام في الصف ) أي: كنا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في الإنسان مرض وعلة، وبإمكانه أن يتحمل الحضور يسنده رجلان وهو يتهادى بينهما، أي: يميل على هذا مرةً وعلى هذا مرةً حتى يقام في الصف، حتى يبرأ من وزر النفاق، ووصفه به، ( ولقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق )، وهل المنافقون من الرجال؟ لا، إنهم من الأشرار الأنذال الأرذال.

أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن من الأمارات التي لا تتخلف في المنافق -كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح: يعني النفاق العملي-: عدم أداء الصلوات المكتوبات في بيوت رب الأرض والسموات، لا سيما صلاتي الفجر والعشاء.

ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً )؛ أي: يزحفون على أيديهم وأرجلهم وركبهم، وقد كان السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين يعتبرون حضور صلاة الفجر في جماعة وحضور صلاة العشاء في جماعة، من العلامات التي تدل على أن الإنسان ليس بمنافق، وعدم الحضور مما يدل على أنه منافق مصداقاً لهذا الحديث ولأحاديث غيره كثيرة، منها: ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وسعيد بن منصور في مصنفه، وأثر الإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومته من الأنصار رضوان الله عليهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يشهد الفجر وصلاة العشاء منافق )، ولذلك ثبت في معجم الطبراني الكبير والبزار ، والأثر رواه الإمام ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه، وإسناده صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( كنا إذا رأينا الرجل يتخلف عن صلاة العشاء وعن صلاة الفجر ظننا به سوءاً )، أي: أنه من المنافقين، ومن الأرذال، وليس من عباد الله الرجال، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37].

إخوتي الكرام! إن صلاة الجماعة واجبة، والذي يفرط فيها فقد غبن وخسر وضيع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ثبت في أصح الكتب بعد كتاب الله في صحيح الإمام البخاري في كتاب الأذان باباً يشير به إلى هذه القضية، فقال الإمام البخاري عليه رحمات رب البرية: باب وجوب أداء الصلاة في جماعة. ثم ذكر أثرين: أحدهما مرفوعاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم متصلاً، والآخر أورده بسند معلق مجزومٍ به إلى إمام من أئمة التابعين.