كثيرا ما أسأل نفسي (1)
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
كثيرًا ما أسأل نفسي الحمد الله رب العالمين، الذي وسِع كرسيه السموات والأرض وكان عرشه على الماء، وخلق كل شيء في تناغُم تام، وانسجامٍ عام، فانطلَق الحب يسري في جميع المخلوقات.
والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي جسَّد هذا الحب معانيَ يحبها الله - سبحانه وتعالى.
يَذكر الله في كتابه العزيز أنه - سبحانه - يحب المتطهِّرين، ويحب التوابين، ويحب الصابرين، ويحب المقسطين، ويحب المتَّقين، ويحب المحسنين، ويحب المتوكلين، وهؤلاء هم السبعة المحبوبون المذكورون صراحةً بأنه - سبحانه وتعالى - يحبُّهم، وإلا فإنه يحبُّ الشاكرين، ويحب الوجلين، ويحب المستغفرين، ويحب الصادقين، ويحب القانتين، ويحب الصائمين، ويحب المُنفقين، ويحب المؤمنين، ويحب المقاتلين في سبيله، وهكذا فإنه - سبحانه وتعالى - يحب عبادَه الذين يتعايشون بشُعَب الإيمان وصفاتِ الإحسان.
والسبعة المحبوبون من وِجهة نظرنا هم السبعة الكبار؛ لأننا لو نظرنا إلى هؤلاء السبعة، فسوف نجد أن صفاتهم تَجمع جميع شُعَب الإيمان وصفات الإحسان؛ فمثلاً لو تكلَّمنا عن المتطهرين، فالله يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، ويقول - سبحانه -: ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108].
والطهارة:هي أصل صحة العبادات فلا تصحُّ أبدًا أيُّ عبادة بدون طهارة البدن واللباس والمكان، هذا من ناحية الطهارة الحِسيَّة، أما من ناحية الطهارة المعنوية كاللسان الذي سيقف بين يدَي الله يتلو آياته وهو ما زال مُتلبِّسًا بالخوض في سيرة فلان وغِيبة فلان، والوقوع في عِرض فلان، وتتبُّع آثار فلان؛ حتى يعرف أسرارَه عَنوةً بالتقصي والتحري، ثم يفضحه بين الناس بما علِم من أسرار، أو ينقُلها لمن له علاقة به؛ ليوقِع بينهما ثم يجلس يتفرَّج عليهما، ويسعَد لما وقَع بينهما من شِقاق.
أو الذي يأكل الحرام، وينبت لحمه من حرام، وملبسه من حرام، ثم يتهيأ إلى الوقوف بين يديه - سبحانه - فكيف تكون هذه طهارة معنويَّة؟ فهي ليست طهارة بالمرة.
والطهارة بهذا المعنى هي طهارتان:
طهارة شكليَّة خارجية، وهي التي لا تصح العبادات إلا بها، وطهارة موضوعيَّة داخلية مَوكولٌ أمرها إلى الله، وهي التي تتعلَّق بالحلال والحرام، وهو باب واسع جدًّا من أبواب الإسلام، وهل الشرع إلا حلال وحرام، ويتفرَّع منهما مستحبٌّ ومكروه، وبينهما مباح؟ ولهذه الأهمية الكبرى لموضوع الطهارة كانت من صفات السبعة المحبوبين الكبار.
أما التوابون، فذكرهم ضِمن السبعة الكبار؛ وذلك لأن التوبة صِفة ملازِمة لعباد الله؛ فإنهم يتوبون في كل وقت قبل العمل وبعد العمل وأثناء العمل، انظر إلى حبيبِنا رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يستغفر في اليومِ والليلة أكثرَ من سبعين مرة، وفي رواية أكثر من مائة مرة، وانظر إلى أمر الله لعباده الذين يؤدُّون عبادة من أعظم عبادات الإسلام، وهي الحج، العبادة التي قال عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حَجَّ ولم يَرفُث ولم يَفسُق، رجَع كيوم ولدتْه أمُّه))، فهي عبادة تمحو الذنوب، ولكن انظر إلى قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، فيأمرهم - سبحانه وتعالى - بالاستغفار وهم راجعون من عبادةٍ محت ذنوبَهم، فلماذا يأمرهم بالاستغفار؟ لأنه يحبهم ويُريد لهم الخير، فالاستغفار في هذا الموقف وصفحاتهم ما زالت بيضاء هو بمثابة الشكر على الغُفران والتوفيق لإتمام هذه العبادة، ولماذا عَدَل عـن الشكر إلى الاستغفار؟ لأن الشكر في هذا المقام لا يُناسب هذه النعمة العظيمة؛ فطلَب منهم الاستغفار للعجزِ عن الشكر.
وهذا النوعُ من الاستغفارِ والتوبة يُحاكي استغفـارَ رسـول الله - صلى الله عليه وسـلم - عندما كان يستغفر في اليوم والليلة أكثرَ من سبعين مرة، فهو استغفار للعجز عن الشكر، فكلما شكر الله أراد أن يشكره مرة أخرى؛ لتوفيق الله له على الشكر الأول، وهكذا لا ينتهي الشكر، فكان لا بد من الاستغفار من العجز عن الشكر.
ومرتبة الشكر فيها كلام كثير، ولطائف خفيَّة، سنُفرِد لها مقالاً خاصًّا - إن شاء الله.
أما الصابرون، فهم من السبعة الكبار؛ لأن الصبر أيضًا مع المؤمن في جميع حالاته، فالله يقول: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، ويقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابتْه ضراءُ صبَرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابتْه سراءُ شكَر، فكان خيرًا له))؛ وذلك لأن الصابرين من أهل العزم، والعزم أن يأخذ الإنسان نفسَه بالشدة فيكون عمله ضد هوى نفسه، انظر إلى قوله تعالى: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43]، فالنفس تريد الانتقام، والصبر عكس ذلك فهو يجمح هواها، كأنه يحبسها في سجن تئنُّ من سجنها، ويسمع أنينها، ويصبر على ذلك مع وقْع هذا الأنين في أذنه وفؤاده، ومع ذلك هو ما زال صابرًا، وهذا هو الذي حدث لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند استشهاد سيدنا حمزة - رضي الله عنه - فكان وقْعُ هذا الخبر عليه شديدًا مؤلمًا، ولكنه مع شدَّة هذا الألمِ كانت استجابته لأمر ربِّه فورية؛ عندما قـال له: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل: 126، 127].
وأيضًا لأن الصابرين في معيَّة الله، ومن كان الله معه، فهو موفَّق منصور ظاهرٌ على عدوه؛ فالله يقول: ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، ويقول تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، وقد ذكَر الله الصبرَ في كتابه بالجميل، وأمر به رسوله فقال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]، وهو الصبر الذي لا شكوى فيه ولا معه.
والكلام عن الصبر وأنواعه يملأ القرآن، وكذلك الأمر به والحث عليه، وهو لا يُفارِق المؤمن في جميع حالاتِه: من الصبر على الطاعة، والصبر على المعصية، والصبر على البلاء.
وقد ذكر الله أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لسيدنا أبي بكر - رضي الله عنه - في الغار في الهجرة: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40].
وهذه هي معيَّة الحفظ والتأييد والنصر والظهور على الأعداء.
ولهذه الأسباب وغيرها مما ذكره القرآن؛ كان الصابرون من السبعة الكبار.
أما المُقسطون، فقد قال الله عنهم: ﴿ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].
وقال - سبحـانه -: ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42]، وقال: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، ولقد نالوا هذا الحب؛ لأنهم قاموا بما أمرهم الله به في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]، وفي قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].
وما أرسَل الله الرُّسلَ بالبينات وأنزل معهم الكتاب إلا ليقوم الناس بالقسط، وفي هذا يقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25]، وفي هذه الآيات كفاية عن زيادةِ البيان.
أما المتقون، فقد قال - سبحانه - عنهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4].
والقرآن مملوء بالأمر بالتقوى؛ ففي كثيرٍ من الآياتِ يأتي الأمرُ المباشر للمؤمنين ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾، بل أكثر من ذلك يأمر الله رسوله بالتقوى، ويقول له: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الأحزاب: 1]، بل يأمر الناس جميعًا المؤمنَ والكافر ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾ [الحج: 1].
والتقوى اسمٌ جامعٌ لوجوه الخيرِ والحق والعدل، وهي عبادة شامِلة، إن شاء الله وفَّق عبادَه لها، وإن لم يشأ توفيقهم ترَكهم لأنفسهم، ونعوذ بالله أن يتركنا لأنفسنا طَرْفة عين، فنهلك ونضِل، والله هو الموفِّق لكل خير.
أما المحسنون، فمعلوم أن الإحسان مقامٌ رفيع من مقاماتِ المؤمنين، فهو قلب الإيمان النابض، وهو إذا أُطلِق يدخل فيه الإيمان، وإذا خُصِّص فهو ثمرة الإيمان ونتيجته الطبيعية.
وكل ما ذكِر من قبل في هذا المقال وما لم يُذكر من شُعب الإيمان - يدخل في هذا المقامِ الرفيع، وهو الإحسان؛ فإن الله يقول في كتابه العزيز: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، ويقول: ﴿ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين ﴾ [آل عمران: 148]، ويقول: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 39]، ويقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، ويقول: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].
وكفى بهذا المقام شرفًا أن يقول الرسولُ الكريم عنه: ((أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، جزء من حديث عمر بن الخطاب الطويل الذي رواه مسلم والذي أمَّنَ فيه سيدنا جبريلُ على كلامِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويقول: صدقتَ.
والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - يُعرِّف الإحسان في هذا الحديث تعريفًا خطيرًا؛ إذ يقول ((كأنك تراه))، آه لو استشعَر المؤمنُ هذه العبارة وهو يعبدُ ربّه! سواء كانت عبادات محضة أو عبادات معاملات، كيف ستكون عبادة هذا المؤمن أو معاملاته، وهو موقِنٌ ومُستشعِر أن الله ينظر إليه ويراه؟ لا شكَّ أنها ستكون على أحسن حالٍ، وهذه هي الوسيلة التي سيصل بها المؤمن إلى غايته، الغاية الأعلى، وهي لقاء ربه وهو - سبحانه - راضٍ عنه.
فكل شُعَب الإيمان وتعاليم الإسلام وفرائضه ما هي إلا وسيلة لهذه الغاية، والوسائل تُوصِّل بعضها إلى بعض، فأنت عندما تنتقل من بيتك لتسافر سفرًا طويلاً، فسوف تنتقل بين الوسائل لكي تصل إلى غايتك، وهي مثلاً السيارة ثم الطيارة وهكذا، وممكن وسيلة واحدة تجمع لك كل الوسائل، تمامًا مِثل مقام الإحسان، فهو يجمع كل المقامات الإيمانية، وسأكتفي بهذه النكتة اليسيرة عن الإحسان حتى لا أُطيل، وإلا فهو مَقامٌ يقال فيه المقالات.
أما المتوكلون عليه سبحانه، فيكفي المتوكلَ أن الله جعل نفسه - سبحانه وتعالى - كفاية لهذا المتوكِّل عليه؛ فقال: ﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3]، ولم يجعل هــذا لغيره، والقــرآن يذكُر في مواضعَ كثيرةٍ جدًّا جزاء المتوكِّلين على الله وحبه لهم، وأنه معهم، ويَحُثهم عليه، فيقول: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81]، ويقول: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، ويقول: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
وفي كثيرٍ من أدعية الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((وعليك توكَّلت))، والتوكُّل عبادة عظيمة جدًّا يحبها الله - سبحانه وتعالى - ولا تَصِح للمؤمن تَمام هذه العبادة إلا إذا كان مؤمنًا بالغيب وبأسماء الله وصفاته، وأن جميع الأمورِ صادرة عن قدرته ومشيئته، مع إيمانه الكامل في الأخذ بالأسباب، ولكنه لا يتعلَّق بالسبب أبدًا؛ وإنما تَعلُّقه ورجاؤه في ربِّ الأسباب ومُسبِّبها.
ولذلك كان قلب المتوكل على الله حقًّا مُعلَّقًا بربه، أما الجوارح، فهي تعمل بالأسباب وتعمل فيها، وفي ذلك يذكر المولى - عز وجل - عن رسله قولهم لقومهم: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [إبراهيم: 12].
والمتوكل على الله راضٍ بقضاء الله وقدره، وبما قسَمه الله له، والرضا ثمرةٌ طبعيَّة للتوكل، وفي دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الاستخارة في نهايته يقول: ((واقدُر لي الخيرَ حيث كان، ثم رضِّني به))، فــإن لم يرض العبد مـــع ادعـــائه التوكلَ، فليعلم أن توكُّله فاسد، وهو ليس متوكلاً على الله؛ بل متوكلاً على الأسباب وهو لا يدري.
والحق أن هذه الصفات التي ذكرناها - وهي صفات المحبوبين - هي صفات متلازِمة متعانِقة، لا يصح إيمانٌ إلا بها كلها، ولكن يَصِح أن تأتي متدرِّجة؛ لأنها بمثابة درجات السُّلم لا يصعَد العبدُ على السلم إلا إذا صعِد الدرجات واحدة تِلو الأخرى، ولا ينال ما في نهاية السلم إلا إذا صعِد السلم كله.
فهذا هو حال هذه الصفات وحال أصحابها، فهلا سعينا أنا وأنت لنكون من هؤلاء الكبار المحبوبين لله، الذي ذكر أنه معهم معيَّة التأييد والحفظ والرعاية والنصر، ولماذا ترضى لنفسك ألا تكون منهم؟ فإن النجاح يتبعه نجاح، والعمل الصادق الدؤوب يعقُبه فلاح، جعلنا الله وقارئ هذه السطور من المفلحين.