المرابطون في بيوت الله [2] - صفة خروج المرأة إلى بيت الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] .

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

أما بعد: معشر الإخوة الكرام! تقدم معنا أن أحب البلاد وأفضلها بيوت الله جل وعلا المساجد، ففيها نوره وهداه، أذن الله برفعها ليسبح ويذكر فيها، وقد نعت الله الرجال الذين يعمرون بيوته في هذه الحياة نعتهم بأربع خصال، هي أطيب الخلال: لا تلهيهم البيوع والتجارات، ويعظمون رب الأرض والسموات، ويحسنون إلى المخلوقات، ويستعدون للقاء الله جل وعلا في جميع الحالات.

قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37] .

وهذه الخلال التي نعت بها هؤلاء الكمل من الرجال ينبغي قبل أن ندخل في شرحها وتفصيل الكلام عليها، أن نتدارس ما في قول الله جل وعلا: (رجال) من إشارات معتبرة.

تقدم معنا أن هذا اللفظ الجليل الذي نعت الله به عباده الذين يعمرون بيوته في هذه الحياة يحتمل أمرين اثنين كل منهما مراد:

الأمر الأول: رجال كاملو الرجولة، فيهم مروءة وشهامة، فهم الرجال حقاً، وعيب أن يقال لمن لم يتصف بهذه المعان أن يوصف بالرجولة.

نعم، إن الرجولة كل الرجولة أن يتذلل المخلوق لخالقه، وأن يعبد العبد ربه، وإن الوضاعة كل الوضاعة أن يتذلل المخلوق لمخلوق مثله، وأن يعبد العباد بعضهم بعضاً.

(رجال) هؤلاء هم الرجال، ومن عداهم أهل ضلال وخبال، فهم الأنذال.

وأما الدلالة الثانية في لفظ رجال فيراد منها ما يقابل الأنوثة، فالرجال هم الذكور الذين يعمرون بيوت الله جل وعلا في هذه الحياة.

ولفظ الرجال كما قال أئمتنا في أصول الفقه: إنه اسم جنس جامد، وعليه فهو اسم لقب، وليس له مفهوم مخالفة، فلا يفيد أن النساء لسن كذلك بناءً على هذا الاصطلاح وهذا التعبير، فالرجال اسم جنس جامد، وإذا كان كذلك فلا يدل على أن ما يقابل الرجال ليس لهن هذا الوصف، لكن قال أئمتنا الكرام: إن لفظ الرجال وإن كان اسم جنس جامد فما في الرجال من معنى الذكورة صالح لإناطة الحكم به، والتفريق بين الرجال والنساء في ذلك، وعليه فلفظ الرجال هو صفة وليس بلقب، ومفهوم الصفة معتبر عند أئمتنا الكرام؛ الشافعية والمالكية والحنابلة، وهذا المفهوم أن الرجال يسبحون ويذكرون الله في بيوت الله جل وعلا، يفيد أن النساء لسن كالرجال في هذا الحكم، وهذا ما دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة بأن النساء لا يطالبن بالجماعة التي طولب بها الرجال الذكور، فالجماعة لا تجب إلا على من كان ذكراً، عاقلاً، بالغاً، حراً، صحيحاً، مقيماً، كما هو الحال في الجمعة تماماً، وعليه فلا تجب الجماعة على صنفين؛ لا تجب على ما يقابل الذكور وهن الإناث، ولا تجب على الذكر إن كان فيه عذر من مرض أو سفر أو غير ذلك.

(رجال) أي: هم رجال يسبحون الله ويذكرونه في هذه البيوت، طولبوا بذلك على سبيل الوجوب، والنساء لسن كذلك، وهذا ما صرحت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن خزيمة وابن حبان ، والحديث إسناده صحيح، ونص الحافظ في الفتح على تحسين إسناده، وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود في صحيح ابن خزيمة ، وسنن أبي داود ، وسأذكر الشاهد بعد رواية الحديث الأول الذي رواه الإمام أحمد كما قلت في المسند، وابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، عن أم حميد رضي الله عنها: أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ( يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك. فقال عليه الصلاة والسلام: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك معي، فأمرت رضي الله عنها أن يبنى لها مسجد في أقصى بيت لها وأظلم، فكانت تعبد الله فيه حتى ماتت -رضي الله عنها وأرضاها- ).

قوله: ( صلاتك في بيتك ) وهو البيت الداخلي، ( خير من صلاتك في حجرتك ) وهو البيت العام كالصالة وغيرها التي يدخلها الذكور والنساء، والصلاة في الحجرة خير من الصلاة في الدار وفي فنائها وفي بقعتها إذا لم تجاوز المرأة سورها، والصلاة في الدار خير من الصلاة في مسجد الحي، والصلاة في مسجد الحي -بالنسبة للمرأة- خير من أن تشهد الصلاة جماعةً في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي عليه الصلاة والسلام، والتزاماً بهذا التوجيه النبوي أمرت هذه المرأة الصالحة القانتة أن يبنى لها مصلى في أظلم مكان وأبعده من بيتها، فلزمته حتى فارقت هذه الحياة.

والحديث صحيح، وكما قلت: حسنه الحافظ، وله شاهد من رواية أبي داود وصحيح ابن خزيمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها خير من صلاتها في بيتها ). والمخدع بتثليث الميم كما قال أئمتنا: مِخْدَعٌ، ومُخْدَعٌ، ومَخْدَعٌ: وهو البيت الذي يكون داخل بيت، فبيت المرأة خاص فيها، فإذا جعلت شيئاً فيه تستتر فيه عن غيرها يقال له: مَخْدَعْ، أخْدَعْتُ الشيء إذا فبأته وأخفيته، وهذا المخدع إذا صلت المرأة فيه فهو خير من أن تصلي في بيتها الداخلي، وإذا صلت في بيتها فهذا خير لها من أن تصلي في دارها وفي حجرتها، كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

وعليه فمعنى (رجال) أي: ذكور ليسوا بإناث، وهذا الأمر أعني أن المرأة لا تطالب بالجماعة ولا الجمعة، ولا تكلف بالحضور إلى بيوت الله، وملازمتها لبيتها أفضل لها عند ربها، تواتر بذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام، والأحاديث في ذلك كثيرة، ففي مسند الإمام أحمد ، وسنن الدارمي ، ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه ابن خزيمة ، والحاكم في المستدرك، وإسناده حسن، عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير مساجد النساء قعر بيوتهن ).

وقد ذهب أئمتنا الكرام إلى أن تفضيل الصلاة في الحرمين الشريفين وفي بيت المقدس -نسأل الله أن ينصر المسلمين على أعدائهم في كل مكان وزمان- الصلاة في هذه المساجد المشرفة المباركة تضاعف في حق الرجال، وهذا في خصوص صلوات الرجال، وأما المرأة فصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في بيت الله الحرام بالنسبة للرجل، وأفضل من صلاتها في مسجد النبي عليه الصلاة السلام بالنسبة للرجل، فإذا كانت صلاتنا تضاعف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام بألف صلاة، وفي بيت الله الحرام بمائة ألف، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة، فالمرأة تضاعف صلاتها أكثر من ذلك إذا صلت في بيتها.

ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام مسلم من رواية عبد الله بن عمر وأمنا ميمونة رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة في مسجدي هذا خير -وفي رواية: أفضل- من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ).

قال إمام الأئمة الإمام ابن خزيمة في صحيحه: هذا الحديث محمول على أن هذا في صلاة الرجال للأحاديث المتقدمة، كحديث أم حميد وغيرها بأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام مع النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا في صلاة الرجال؛ فالرجل إذا صلى في مسجد الله الحرام تضاعف صلاته بمائة ألف وهكذا، أما المرأة فصلاتها في بيتها تزيد على هذا، وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

قد يقول قائل: لم كان هذا الحال والحكم في النساء ولم يسو النساء بالرجال في حضور الجمعة والجماعات؟

ولم كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، أو في بيت الله الحرام، لم كان الأمر كذلك؟

والجواب عن هذا إخوتي الكرام! أن المرأة فيها أمران معتبران من أجلهما جعل لها هذا الحكم الخاص بها، مخالفة للرجل في هذا الأمر أعني: حضور الجماعات والجمعات.

العلة الأولى: كون المرأة عورة

الأمر الأول: المرأة عورة بجميع جسمها من رأسها إلى رجليها، فلا يجوز أن يرى منها بشرة، ولا شعرة، ولا شيء من ظفر، وإذا كانت كذلك فأستر ما يكون لها عندما تكون في قعر بيتها بينها وبين ربها جل وعلا، كما ثبت هذا في سنن الترمذي بإسناد حسن صحيح من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان )، أي: تطلع إليها وفرح بها، واغتنم خروجها ليوسوس لها وللناس بها، فهي سهمه الذي يضرب به فلا يخيب.

والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك، والطبراني في معجمه الكبير، وهؤلاء الثلاثة زادوا في الرواية ( وما عبدت المرأة ربها بمثل أن تعبده في جوف بيتها ). أي: في قعر بيتها.

وفي معجم الطبراني بإسناد حسن من رواية عبد الله بن مسعود مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد في أوله، ورواه أيضاً في صحيحه لكن موقوفاً على عبد الله بن مسعود ، وله حكم الرفع إلى نبينا المحمود عليه صلوات الله وسلامه، ولفظ الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن النساء عورة، وإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس ) أي: ليس فيها فتنة، وليس فيها شبهة، وليس فيها منكر ولا بلية، ( وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، ولا يزال يوسوس إليها فيقول: إنك لا تمرين برجل إلا أعجبتيه، وإن المرأة إذا لبست جلبابها قيل لها: إلى أين يا أمة الله؟ فتقول: لأصل رحماً، أو أشهد جنازةً، أو أصلي في المسجد، وما عبدت المرأة ربها بمثل أن تعبده في جوف بيتها ).

إذاً: قول الله جل وعلا: فِيهِ رِجَالٌ [التوبة:108] أي ذكور، فالذين طولبوا بهذه الجماعات وهذه الجمعات هم الذكور الذين اكتملت فيهم الذكورة، وهم العقلاء الكرام الفضلاء (رجال)، وأما المرأة فلا تطالب بذلك لهذا الاعتبار الأول الذي فيها؛ ألا وهو أنها عورة.

العلة الثانية: التجاذب والميل بين الرجال والنساء

وأما الاعتبار الثاني: فإن هذا الخلق هو خلق الخالق جل وعلا، والله جل وعلا يعلم طبيعة خلقه ذكوراً وإناثاً، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] ، ويعلم الله جل وعلا أن النساء هن فرع الرجال، وأن الرجال هم أصول النساء، وإذا كان الأمر كذلك فالأصل يميل إلى فرعه ويحبه ويريده، والفرع يتعلق بأصله، ولا يستقر بدونه، ولا يستريح إلا به، وعليه فإن بين الذكور والنساء انجذاب وترابط وميل لا يوجد بين مخلوقين على وجه الأرض من التجاذب والميل كما بين الذكور والإناث.

إن انجذاب الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل أعظم بكثير من انجذاب الحديد إلى المغناطيس، وهذا أشار إليه ربنا جل وعلا في كتابه بقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189].

فلا يحصل السكن للرجل إلا بأن ينضم إلى المرأة، والمرأة فرع للرجل لا تستقر إلا بأن تأوي إليه، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21] .

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن المرأة بعض من الرجل وجزء منه، ولأجل هذا الترابط بين الصنفين ينبغي أن يحال بينهما، إلا في الاجتماع على خير وطهر، إلا في النكاح الحلال، وما عدا هذا فيستحسن ألا ترى المرأة رجلاً، وألا يرى الرجل امرأةً.

ثبت في كتاب الرد على الجهمية للإمام ابن منده ، والحديث إسناده حسن، وهو في صفحة خمسين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله لما خلق آدم مسح ظهره -سبحانه وتعالى- فجرى من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة، ثم أخذ الله ضلعاً من أضلاع آدم فخلق منه حواء ، ثم أشهدهم على أنفسهم، وأخذ عليهم العهد والميثاق ألست بربكم؟ قالوا: بلى )، وهذا كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173] .

فالمرأة إذاً هي بعض من الرجل، وهي ضلع من أضلاعه، وثبت في تفسير ابن أبي حاتم ، وتفسير الإمام ابن المنذر وشعب الإيمان للإمام البيهقي بسند صحيح كالشمس، عن حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنه موقوفاً عليه، وللأثر حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( خلقت المرأة من الرجل، فجعلت نهمتها فيه، وخلق الرجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم )، وقوله: (فاحبسوا نساءكم)؛ لأنها تتعلق بالرجل، وتتفنن في إغوائه وإغرائه، وإذا كان الأمر كذلك فالأولى ألا تشهد جمعةً ولا جماعةً، وصلاتها في بيتها خير من صلاتها في بيت ربها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

عباد الله! وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المرأة خلقت من ضلع )، وهذا يقرر الحديث الذي رواه الإمام ابن منده ، ويقرر كلام ابن عباس رضي الله عنهما، ففي الصحيحين وموطأ الإمام مالك وسنن الترمذي ، والحديث في أعلى درجات الصحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والنسائي في السنن، ورواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه الإمام الدارمي من رواية أبي ذر رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، ورواه ابن حبان والحاكم في مستدركه من رواية سمرة بن جندب ، فالحديث عن ثلاثة: من رواية أبي هريرة وأبي ذر وسمرة رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً ).

وقوله: (المرأة خلقت من ضلع) أي: من ضلع آدم القصير أو الأيسر، كما وضحت هذا رواية الإمام ابن منده في كتاب الرد على الجهمية.

المرأة خلقت من ضلع، والفرع يحن إلى أصله، ولا يستقر بدونه.

إذاً: ينبغي أن نحول بين الصنفين ما أمكن، ولذلك شرع للمرأة أن تصلي في بيتها، وندبت إلى ذلك، وهذا أفضل من أن تصلي في بيت ربها في المساجد.

الأمر الأول: المرأة عورة بجميع جسمها من رأسها إلى رجليها، فلا يجوز أن يرى منها بشرة، ولا شعرة، ولا شيء من ظفر، وإذا كانت كذلك فأستر ما يكون لها عندما تكون في قعر بيتها بينها وبين ربها جل وعلا، كما ثبت هذا في سنن الترمذي بإسناد حسن صحيح من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان )، أي: تطلع إليها وفرح بها، واغتنم خروجها ليوسوس لها وللناس بها، فهي سهمه الذي يضرب به فلا يخيب.

والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك، والطبراني في معجمه الكبير، وهؤلاء الثلاثة زادوا في الرواية ( وما عبدت المرأة ربها بمثل أن تعبده في جوف بيتها ). أي: في قعر بيتها.

وفي معجم الطبراني بإسناد حسن من رواية عبد الله بن مسعود مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد في أوله، ورواه أيضاً في صحيحه لكن موقوفاً على عبد الله بن مسعود ، وله حكم الرفع إلى نبينا المحمود عليه صلوات الله وسلامه، ولفظ الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن النساء عورة، وإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس ) أي: ليس فيها فتنة، وليس فيها شبهة، وليس فيها منكر ولا بلية، ( وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، ولا يزال يوسوس إليها فيقول: إنك لا تمرين برجل إلا أعجبتيه، وإن المرأة إذا لبست جلبابها قيل لها: إلى أين يا أمة الله؟ فتقول: لأصل رحماً، أو أشهد جنازةً، أو أصلي في المسجد، وما عبدت المرأة ربها بمثل أن تعبده في جوف بيتها ).

إذاً: قول الله جل وعلا: فِيهِ رِجَالٌ [التوبة:108] أي ذكور، فالذين طولبوا بهذه الجماعات وهذه الجمعات هم الذكور الذين اكتملت فيهم الذكورة، وهم العقلاء الكرام الفضلاء (رجال)، وأما المرأة فلا تطالب بذلك لهذا الاعتبار الأول الذي فيها؛ ألا وهو أنها عورة.

وأما الاعتبار الثاني: فإن هذا الخلق هو خلق الخالق جل وعلا، والله جل وعلا يعلم طبيعة خلقه ذكوراً وإناثاً، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] ، ويعلم الله جل وعلا أن النساء هن فرع الرجال، وأن الرجال هم أصول النساء، وإذا كان الأمر كذلك فالأصل يميل إلى فرعه ويحبه ويريده، والفرع يتعلق بأصله، ولا يستقر بدونه، ولا يستريح إلا به، وعليه فإن بين الذكور والنساء انجذاب وترابط وميل لا يوجد بين مخلوقين على وجه الأرض من التجاذب والميل كما بين الذكور والإناث.

إن انجذاب الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل أعظم بكثير من انجذاب الحديد إلى المغناطيس، وهذا أشار إليه ربنا جل وعلا في كتابه بقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189].

فلا يحصل السكن للرجل إلا بأن ينضم إلى المرأة، والمرأة فرع للرجل لا تستقر إلا بأن تأوي إليه، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21] .

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن المرأة بعض من الرجل وجزء منه، ولأجل هذا الترابط بين الصنفين ينبغي أن يحال بينهما، إلا في الاجتماع على خير وطهر، إلا في النكاح الحلال، وما عدا هذا فيستحسن ألا ترى المرأة رجلاً، وألا يرى الرجل امرأةً.

ثبت في كتاب الرد على الجهمية للإمام ابن منده ، والحديث إسناده حسن، وهو في صفحة خمسين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله لما خلق آدم مسح ظهره -سبحانه وتعالى- فجرى من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة، ثم أخذ الله ضلعاً من أضلاع آدم فخلق منه حواء ، ثم أشهدهم على أنفسهم، وأخذ عليهم العهد والميثاق ألست بربكم؟ قالوا: بلى )، وهذا كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173] .

فالمرأة إذاً هي بعض من الرجل، وهي ضلع من أضلاعه، وثبت في تفسير ابن أبي حاتم ، وتفسير الإمام ابن المنذر وشعب الإيمان للإمام البيهقي بسند صحيح كالشمس، عن حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنه موقوفاً عليه، وللأثر حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( خلقت المرأة من الرجل، فجعلت نهمتها فيه، وخلق الرجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم )، وقوله: (فاحبسوا نساءكم)؛ لأنها تتعلق بالرجل، وتتفنن في إغوائه وإغرائه، وإذا كان الأمر كذلك فالأولى ألا تشهد جمعةً ولا جماعةً، وصلاتها في بيتها خير من صلاتها في بيت ربها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

عباد الله! وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المرأة خلقت من ضلع )، وهذا يقرر الحديث الذي رواه الإمام ابن منده ، ويقرر كلام ابن عباس رضي الله عنهما، ففي الصحيحين وموطأ الإمام مالك وسنن الترمذي ، والحديث في أعلى درجات الصحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والنسائي في السنن، ورواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه الإمام الدارمي من رواية أبي ذر رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، ورواه ابن حبان والحاكم في مستدركه من رواية سمرة بن جندب ، فالحديث عن ثلاثة: من رواية أبي هريرة وأبي ذر وسمرة رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً ).

وقوله: (المرأة خلقت من ضلع) أي: من ضلع آدم القصير أو الأيسر، كما وضحت هذا رواية الإمام ابن منده في كتاب الرد على الجهمية.

المرأة خلقت من ضلع، والفرع يحن إلى أصله، ولا يستقر بدونه.

إذاً: ينبغي أن نحول بين الصنفين ما أمكن، ولذلك شرع للمرأة أن تصلي في بيتها، وندبت إلى ذلك، وهذا أفضل من أن تصلي في بيت ربها في المساجد.

إخوتي الكرام! لأجل العلة التي أشار إليها نبينا صلى الله عليه وسلم: أن المرأة بعض من الرجل، وأن الرجل مخلوق في الأصل من الطين، لأجل هذه العلة استنبط إمام الفقهاء وسيد المحدثين الإمام أبو عبد الله الشافعي رحمه الله ونور قبره وقبور المسلمين أجمعين، استنبط تعليلاً لحديث نبينا عليه الصلاة والسلام الثابت في المسند، والحديث روي في السنن الأربع باستثناء سنن الترمذي ، فهو في سنن أبي داود ، وابن ماجه ، والنسائي ، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، ورواه الحاكم في المستدرك، عن أبي السمح خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: اسمه إياد ، وليس له إلا هذا الحديث عن المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، والحديث صحيح، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام ) وفي لفظ: ( يغسل بول الجارية، ويرش بول الغلام )، والحديث رواه أبو داود ، وابن ماجه ، ورواه الحاكم في المستدرك ، وابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، عن علي رضي الله عنه، وروي من رواية لبابة بنت الحارث رضي الله عنها: ( يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام )، فإذا بالت الجارية قبل أن تطعم وقبل أن تأكل فبولها نجس لا بد من غسله، وإذا بال الغلام قبل أن يطعم وقبل أن يأكل إذا كان يرضع من ثدي أمه يكفي بأن ترش عليه ماءً أو أن تنضحه، وهذا الذي أخذ به الشافعي والإمام أحمد ، وجماهير المحدثين رضوان الله عليهم أجمعين، أنه يكفي في بول الغلام قبل أن يطعم -أي قبل أن يأكل شيئاً- غير لبن أمه أن يرش إذا بال على الشيء وعلى الثياب.

فالإمام الشافعي عليه رحمة الله استنبط تعليلاً لهذا، كما في سنن ابن ماجه في كتاب الطهارة عندما سأله أبو اليمان المصري ، وقال الحافظ في التقريب: هكذا وقع في سنن ابن ماجه أبو اليمان ، وإنما هو أبو لقمان ، وهو محمد بن عبد الله الخراساني ، إمام مستور كما قال الحافظ في التقريب، فقال أبو لقمان الخراساني للإمام الشافعي : ورد في الحديث ( يغسل من بول الجارية، ويرش -ينضح- من بول الغلام ) والماءان ماء واحد فعلام؟ فقال له أبو عبد الله الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله: إن بول الغلام من الماء والطين، وإن بول الجارية من اللحم والدم، فهمت؟ لقنت؟ يعني: وعيت هذا؟ فقال أبو اليمان الذي هو أبو لقمان قلت: لا، وضح لي كيف يكون بول الغلام من الماء والطين، وبول الجارية من اللحم والدم؟ فقال أبو عبد الله الشافعي عليه رحمة الله: إن الله لما خلق آدم خلق حواء من ضلعه القصير، فصار بول الغلام من الماء والطين؛ لأنه يرجع إلى أبيه الذي خلق من الماء والطين وهو آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وصار بول الجارية من اللحم والدم؛ لأنها خلقت من لحم ودم.

إذاً: المرأة تميل إلى الرجل، والرجل يميل إليها، فلا بد من الفصل بينهما ما أمكن، وإذا أردت أن تتحقق وأن تتأكد وأن تعلم مدى تعلق كل من الصنفين بالآخر، لا سيما تعلق النساء (الفرع) بالرجال بـ(الأصل) فاسمع إلى قول الله جل وعلا عندما تحدث عن النساء وأمرهن بالحجاب في سورة النور فختم الآية بقوله: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] .

وقد قرر أئمتنا الكرام عند تفسير هذه الآية أن طبيعة كل من الصنفين أن تتعرض للصنف الآخر، فما شعر رجل بأن امرأةً تسمعه أو تراه إلا أحدث كلمةً، أو حركةً، أو همهمةً هو في غنية عنها، إنما من أجل أن تصل هذه الحركة إلى المرأة، وما علمت المرأة أن رجلاً يراها أو يسمعها إلا أحدثت حركةً، أو همهمة، أو أسلوباً من الأساليب لتصل إلى قلب الرجل، هي في غنية عن تلك الحركة والكلمة والهيئة، وهذا قول الله الذي يعلم السر وأخفى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31] .

سبحان الله! عليها الجلباب والحجاب وتمشي، لكن إذا شعرت برجل دقت الأرض برجلها لتجلب انتباهه إليها، وإذا كان الأمر كذلك فيستحسن أن نفصل بينهما ما أمكن.

إذاً: قوله: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37]، أي: اكتملت فيهم الرجولة، هم أهل الشهامة والكمال، وهؤلاء الرجال ليسوا بإناث ولا نساء، فالجماعة مطالب بها الذكور العقلاء.

إخوتي الكرام! وقد يقول قائل: هل حصل شيء من الفساد عند ذهاب النساء إلى بيوت رب العباد؟

والجواب: نعم، وحصل هذا في كل عصر في الأمم الماضية وفي هذه الأمة، ولذلك ندب النساء أن يصلين في بيوتهن، وسأذكر حادثتين فقط: حادثة وقعت في الأمم السابقة، ومن أجلها حرم الله على النساء من بني إسرائيل أن يدخلن بيوته في هذه الحياة، وحادثة وقعت في هذه الأمة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام.

حادثة في بني إسرائيل

أما الحادثة الأولى فرواها الإمام عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود ، ورواها عن أمنا عائشة -رضي الله عنها- بألفاظ مختلفة، والأثر رواه أيضاً الإمام الطبراني في معجمه الكبير، ولفظ أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه وله حكم الرفع؛ لأنه لا يدرك من قبل الرأي يقول: ( كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعاً -أي في بيوت الله مجتمعين- فكانت المرأة إذا كان لها خليل تلبس القالبين ) تثنية قالب بفتح اللام، وقيل بكسرها قالب، والفتح أظهر وأوجه، وهو حذاء خشبي، يعرف في بلاد الشام في هذه الأيام بالقبقاب، وهو حذاء مرتفع من خشب تلبسه المرأة قال: (إذا كان لها خليل تلبس القالبين) أي: حذاءً خشبياً مرتفعاً تطول به ليراها خليلها في بيت ربها جل وعلا، هذا كان في بني إسرائيل. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( فأخروهن من حيث أخرهن الله، فلما عمل نساء بني إسرائيل ذلك ألقى الله عليهن الحيض ).

وأثر أمنا عائشة رضي الله عنها وهو صحيح أيضاً قالت: ( كان النساء من بني إسرائيل يلبسن الأرجل من الخشب -أي: يلبسن أرجلاً خشبيةً أو نعالاً من الخشب في أرجلهن- وكانت المرأة تذهب إلى الرجل -تتشرف للرجال، تتطلع إليهم- لأجل أن تظهر مرتفعةً بارزة عالية، فلما فعلن ذلك منعن من المساجد وألقى الله عليهن الحيض ).

وقول أمنا عائشة وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين: (وألقى الله عليهن الحيض) لا ينبغي أن يستشكله أحد منا، فيقول: الحيض موجود قبل بني إسرائيل في النساء، فلا إشكال كما حقق هذا الإمام ابن حجر في فتح الباري عند كتاب الحيض من صحيح البخاري كيف كان بدء الحيض؟ وتوهم بعض العلماء فظن أن بدء الحيض كان في بني إسرائيل، عندما فعل النساء ما فعلن من لبس الأرجل الخشبية، فألقى الله عليهن الحيض ليجلسن في بيوتهن فترة طويلة، ثم منعن من دخول بيوت الله، توهم بعض العلماء ذلك وليس هذا بمراد، فالحيض موجود قبل بني إسرائيل، وقد قال الله في كتابه: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] ، قال: (فضحكت)، وقد ذكر أئمتنا ثلاثة معاني للفظ الضحك هنا:

أولها: ما رواه الطبري بإسناد صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (ضحكت) حاضت، وزوجة خليل الرحمن إبراهيم -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- سارة هي قبل بني إسرائيل، وخليل الرحمن إبراهيم -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- قبل بني إسرائيل مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67].

ثانيها: (ضحكت) بمعنى تعجبت.

ثالثها: ضحكت الضحك المعروف.

وثبت في مستدرك الحاكم وتفسير ابن المنذر بإسناد صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن حواء بعد أن أخرجت من الجنة كتب الله عليها الحيض ) فكانت تحيض، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها ( عندما كانت مع النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، وجاءها الحيض وبدأت تبكي دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام فقال لها: أنفست؟ قالت: نعم، قال: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم )، فبنات حواء من بنات آدم، فكن يحضن، وأمهن كانت تحيض، لكن الفارق بين الحيضين أنه قبل بني إسرائيل كان الحيض قليلاً لا يزيد على يوم، فالمرأة تحيض ثم تطهر بعد ذلك، ولما عمل نساء بني إسرائيل ما عملن ابتلى الله النساء بزيادة في أيام الحيض، بحيث كانت المرأة تحيض عشرة أيام، أو خمسة عشر يوماً وما شاكل هذا، ثم استمر بعد ذلك في من بعدهن.

إذاً: كانت مدة الحيض قليلة قبلهن، فلما فعلن ما فعلن ليحبسهن الله في البيوت كتب عليهن الحيض، وسلط عليهن الحيض، ثم بعد ذلك منعهن من دخول المساجد.

إذاً بهذين الأمرين: المرأة عورة.

والأمر الثاني: هي بعض من الرجل، فتميل إليه، ويحن ويميل إليها، إذا كان الأمر كذلك فلا بد من الفصل بينهما، فإذا حصل اتصال حصل اختلاط، وحصل قرب، وكل واحد سيتطلع إلى الآخر، وبعد ذلك تتكدر أحوال الناس في بيوت رب الناس.

هذه الحادثة الأولى في بني إسرائيل.

حادثة في زمن سيد المرسلين

والحادثة الثانية جرت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا تخلو أمة من شوائب، لكن العبرة للخط العام، فالحياة العامة في حياة نبينا عليه الصلاة والسلام حياة نقية طيبة، ولا يعني أنه لا يوجد فيها شوائب فالناس يعيشون في الأرض ولا يعيشون في السماء، وأما حياتنا هذه الأيام فالخط العام فساد واعوجاج، والخير قليل ويسير، فالعبرة دائماً للخط العام والأمور الغالبة، وتقع الشوائب في كل عصر وفي كل مصر.

ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه أهل السنن الأربع باستثناء أبي داود ، وهو مروي في صحيح ابن خزيمة وابن حبان ومستدرك الحاكم ، وصححه الحاكم ، وأقره عليه الذهبي ، وصححه عدد من أئمتنا عن ابن عباس رضي الله عنهما، والذي مال إليه الإمام ابن كثير في تفسيره عند قول الله جل وعلا: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [الحجر:24] مال إلى أن الأثر من رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس موقوفاً على أبي الجوزاء ولم يرفعه إلى ابن عباس ، ورفعه كما قلت: صحيح ثابت، ولفظ الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( كانت امرأة وضيئة تشهد الصلاة مع النبي عليه الصلاة والسلام في مسجده -وهذا قبل أن يفرض الحجاب، فكان الصحابة الكرام يتقدمون إلى الصفوف الأولى لئلا يروها، ولئلا يقتربوا ويقربوا منها، وكان بعض الناس يتأخر فيصلي في مؤخرة الصفوف، فإذا سجد نظر إليها من تحت إبطيه، وهو في سجوده مع النبي عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [الحجر:24] )، أي: علم الله من يتقدم، ومن يتأخر، من يتقدم لئلا يقرب من هذه المرأة، ومن يتأخر من أجل غرض خسيس خبيث، ولعله كان يفعل هذا بعض المنافقين والعلم عند رب العالمين.

إذاً: إذا حصل اقتراب بين الصنفين يحصل ما يوجد في الطبيعة البشرية من تطلع كل صنف إلى الآخر، ومن أجل هذين الأمرين أمر الله جل وعلا النساء أن يصلين في بيوتهن، وهذا خير لهن من صلاة الرجال في بيوت ربهم، فلهن أجر يعدل صلاة الرجال في جماعة، بل هو خير من ذلك كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أم حميد .