المرابطون في بيوت الله [7] - الخشوع في الصلاة


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: معشر الإخوة الكرام! خير بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد؛ فهي محل نور رب العالمين, وهي موطن عباد الله المهتدين, وقد نعت الله جل وعلا من يعمرونها ويتواجدون فيها بأنهم رجال, ثم وصفهم بأربع خصال: لا تلهيهم هذه الدنيا عن طاعة ذي العزة والجلال, يعظمون الله جل وعلا فيذكرونه ويصلون له, يشفقون على عباد الله ويُحسنون إليهم, فيعطونهم قسطاً من أموالهم, ثم هم على أتم الاستعداد ليوم المعاد: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].

إخوتي الكرام! وكنا نتدارس الصفة الثانية من صفات عباد الرحمن الذين يعمرون بيوت ذي الجلال والإكرام في الأرض؛ ألا وهي إقامة الصلاة, وقد مضى الكلام على هذه الصفة في موعظتين اثنتين.

تلذذ النبي عليه السلام بالصلاة

إن المراد من إقامة الصلاة توفية الصلاة حقها علماً وعملاً, فإذا قام الإنسان بذلك قرت عينه وابتهجت نفسه وذاق للصلاة حلاوة تتضاءل بجانبها جميع الحلوات واللذائذ والمشتهيات, ويستعين الإنسان بعد ذلك بهذه الصلاة على شدائد الحياة, وهذا ما كان يشير إليه نبينا صلى الله عليه وسلم عندما كان يخبرنا عن منزلة هذه الصلاة في نفسه وفي نفوس أتباعه, ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح عن بعض الأنصار الأبرار رضوان الله عنهم جميعاً، والحديث رواه الإمام الدارقطني في العلل عن بلال رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا بلال! أقم الصلاة, أرحنا بها ). أقم هذه الصلاة لنستريح فيها ولنتلذذ بها, فنحن نناجي الحي القيوم عندما نصلي له. إن الراحة تحصل بالصلاة على خلاف الكسالى والمنافقين الذين يستريحون من الصلاة, وشتان بين من يستريح بها وبين من يريد أن يستريح منها, فيراها كأنها ضريبة, وإذا قام إليها يقوم وهو متثاقل, فيريد أن يستريح منها وأن يتخلص من عنائها, وكأنه ما فهم من الصلاة إلا هذه الحركات المتتابعات, فهو يريد الراحة منها, وحال المتقين يستريحون بها. تحصل الراحة بالصلاة, فهي قرة العين كما تقدم معنا.

إخوتي الكرام! وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام إذا اعتراه هم ودهاه حزن يفزع إلى الصلاة, ويشرع لنا ذلك؛ لنستعين بهذه الصلاة على كل شدة في هذه الحياة, ثبت في المسند أيضاً وسنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ).

أي: نزل به أمر مهم وشدة وحزن وكرب وغم فزع عليه صلوات الله وسلامه إلى الصلاة. فالصلاة هي مفزع المؤمنين, كيف لا؟ وبها يناجون رب العالمين. قال الله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].

تلذذ الصحابة بالصلاة

لقد كان السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين عندما كانوا يقيمون هذه الصلاة كما يريد ربنا جل وعلا وكما أمر، كانوا يتلذذون بها، وكانوا يتسلون بها عن كل شدة تطرأ على أبدانهم وأجسامهم, فقد أخرج أبو داود في سننه، والحديث رواه الإمام ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما، ورواه الحاكم في المستدرك، ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى ودلائل النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه، وعلقه الإمام البخاري في صحيحه, والحديث صحيح نص على تحسينه الإمام النووي ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والإمام الحاكم والذهبي عليهم جميعاً رحمة الله, ولفظ الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( غزونا مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة ذات الرقاع ). وسميت بذلك لأمور كثيرة, أبرزها أمران؛ أولها: أنهم وضعوا الخرق على أرجلهم من شدة وعورة الطريق وعناء السفر, فتنقبت أرجلهم, فلفوا عليها الخرق. وثانيها: راياتهم تمزقت أيضاً وتقطعت فرقعوها.

يقول: ( فلما دخل الليل قال النبي صلى الله عليه وسلم: هل من رجل يكلؤنا )؟ أي: يحفظنا ويحرسنا في هذه الليلة. ( فانتدب لذلك صحابيان: أنصاري عباد بن بشر ، ومهاجري عمار بن ياسر ), رضي الله عن الصحابة أجمعين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذين الصحابيين المباركين عباد بن بشر وعمار بن ياسر : ( كونا بفم الشعب ), أي: في هذا المنفتح والطريق بين الجبلين, كونا في أوله؛ ( حتى إذا جاءنا طلب من المشركين تخبروننا ), فهذا هو الطريق الذي يأتون منه. ( وأخذ النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام بعد ذلك مضاجعهم؛ ليستريحوا في الليل, فقال عمار بن ياسر لـعباد بن بشر : تريد أن أكفيك أول الليل وتكفيني آخره, أو أنت تكفيني أول الليل وأكفيك آخره )؟ أي: نتناوب في الحراسة, فقال عباد بن بشر : ( أنا أحرس أول الليل, فقام يحرس وبجواره عمار بن ياسر رضي الله عنه مضجع نائم, فجاء بعض المشركين, فلما نظر إلى هذا الرجل وهو عباد بن بشر وجده قائماً يصلي, فعلم أنه هو ربيئة القوم) أي: هو حارسهم وهو الذي يحفظهم ويكلؤهم ويراقب لهم ويراقب الأعداء إذا جاءوا عليهم, ( فضربه بسهم وقع في صدره, وعباد بن بشر يصلي), وورد أنه كان يقرأ سورة الكهف رضي الله عنه ورحم الصحابة والمسلمين أجمعين, (فنزع عباد بن بشر هذا السهم وما التفت ولا قطع صلاته وبدأ في صلاته, فسدد إليه ذاك الرجل سهماً آخر فوقع في صدره أيضاً، والدماء تنزف منه رضي الله عنه وأرضاه, فنزع هذا السهم وما قطع صلاته, فسدد إليه سهماً ثالثاً فوقع في صدره فنزعه, فلما أثخنته الجراح ) وخشي أن يسقط على الأرض ميتاً وبعد ذلك يكشف المسلمون ولا يوجد من يحرسهم ولا من يوقظهم إذا داهمهم المشركون ( أيقظ عمار بن ياسر وجراحاته تنزف من صدره رضي الله عنهم أجمعين, فقال له عمار: هلا أنبهتني في أول الأمر )؟ أي: عندما شعرت بهذا العدو لم لم تنبهني ولم لم تخبرني ولم لم توقظني؟ ( فقال عباد بن بشر رضي الله عنهم أجمعين: كنت في سورة فكرهت أن أقطعها -سبحان الله! كنت في سورة, أنا أناجي الله وأتلذذ بحلاوة كلامه, كيف أقطعها؟ وهذه الجراحات لا نشعر بشدائدها في صلاتنا- ثم قال: ووالله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي أو أنفذها ). اعلم يا عمار! ما أيقظتك من أجلي ولا من أجل هذا المشرك لتطارده, ما أيقظتك إلا لأنني مؤتمن على هذا الثغر, ولولا هذه الأمانة لما قطعت صلاتي حتى أنهي هذه السورة بتمامها أو أن أقتل وأنا في الصلاة. وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].

إن الفائدة التي نحصلها من صلاتنا بذكر الله -عندما نذكره- أكبر من كل شيء.. أكبر من كون الصلاة تنهانا عن الفحشاء والمنكر, وأكبر من كل طاعة ومن كل لذة, وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].

إخوتي الكرام! إذا أقام الإنسان الصلاة ووفاها حقها علماً وعملاً نال بها الراحة وقرة العين، وحصل بهجة النفس وانشراح الصدر وطمأنينة القلب.

إن المراد من إقامة الصلاة توفية الصلاة حقها علماً وعملاً, فإذا قام الإنسان بذلك قرت عينه وابتهجت نفسه وذاق للصلاة حلاوة تتضاءل بجانبها جميع الحلوات واللذائذ والمشتهيات, ويستعين الإنسان بعد ذلك بهذه الصلاة على شدائد الحياة, وهذا ما كان يشير إليه نبينا صلى الله عليه وسلم عندما كان يخبرنا عن منزلة هذه الصلاة في نفسه وفي نفوس أتباعه, ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح عن بعض الأنصار الأبرار رضوان الله عنهم جميعاً، والحديث رواه الإمام الدارقطني في العلل عن بلال رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا بلال! أقم الصلاة, أرحنا بها ). أقم هذه الصلاة لنستريح فيها ولنتلذذ بها, فنحن نناجي الحي القيوم عندما نصلي له. إن الراحة تحصل بالصلاة على خلاف الكسالى والمنافقين الذين يستريحون من الصلاة, وشتان بين من يستريح بها وبين من يريد أن يستريح منها, فيراها كأنها ضريبة, وإذا قام إليها يقوم وهو متثاقل, فيريد أن يستريح منها وأن يتخلص من عنائها, وكأنه ما فهم من الصلاة إلا هذه الحركات المتتابعات, فهو يريد الراحة منها, وحال المتقين يستريحون بها. تحصل الراحة بالصلاة, فهي قرة العين كما تقدم معنا.

إخوتي الكرام! وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام إذا اعتراه هم ودهاه حزن يفزع إلى الصلاة, ويشرع لنا ذلك؛ لنستعين بهذه الصلاة على كل شدة في هذه الحياة, ثبت في المسند أيضاً وسنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ).

أي: نزل به أمر مهم وشدة وحزن وكرب وغم فزع عليه صلوات الله وسلامه إلى الصلاة. فالصلاة هي مفزع المؤمنين, كيف لا؟ وبها يناجون رب العالمين. قال الله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].

لقد كان السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين عندما كانوا يقيمون هذه الصلاة كما يريد ربنا جل وعلا وكما أمر، كانوا يتلذذون بها، وكانوا يتسلون بها عن كل شدة تطرأ على أبدانهم وأجسامهم, فقد أخرج أبو داود في سننه، والحديث رواه الإمام ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما، ورواه الحاكم في المستدرك، ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى ودلائل النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه، وعلقه الإمام البخاري في صحيحه, والحديث صحيح نص على تحسينه الإمام النووي ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والإمام الحاكم والذهبي عليهم جميعاً رحمة الله, ولفظ الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( غزونا مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة ذات الرقاع ). وسميت بذلك لأمور كثيرة, أبرزها أمران؛ أولها: أنهم وضعوا الخرق على أرجلهم من شدة وعورة الطريق وعناء السفر, فتنقبت أرجلهم, فلفوا عليها الخرق. وثانيها: راياتهم تمزقت أيضاً وتقطعت فرقعوها.

يقول: ( فلما دخل الليل قال النبي صلى الله عليه وسلم: هل من رجل يكلؤنا )؟ أي: يحفظنا ويحرسنا في هذه الليلة. ( فانتدب لذلك صحابيان: أنصاري عباد بن بشر ، ومهاجري عمار بن ياسر ), رضي الله عن الصحابة أجمعين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذين الصحابيين المباركين عباد بن بشر وعمار بن ياسر : ( كونا بفم الشعب ), أي: في هذا المنفتح والطريق بين الجبلين, كونا في أوله؛ ( حتى إذا جاءنا طلب من المشركين تخبروننا ), فهذا هو الطريق الذي يأتون منه. ( وأخذ النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام بعد ذلك مضاجعهم؛ ليستريحوا في الليل, فقال عمار بن ياسر لـعباد بن بشر : تريد أن أكفيك أول الليل وتكفيني آخره, أو أنت تكفيني أول الليل وأكفيك آخره )؟ أي: نتناوب في الحراسة, فقال عباد بن بشر : ( أنا أحرس أول الليل, فقام يحرس وبجواره عمار بن ياسر رضي الله عنه مضجع نائم, فجاء بعض المشركين, فلما نظر إلى هذا الرجل وهو عباد بن بشر وجده قائماً يصلي, فعلم أنه هو ربيئة القوم) أي: هو حارسهم وهو الذي يحفظهم ويكلؤهم ويراقب لهم ويراقب الأعداء إذا جاءوا عليهم, ( فضربه بسهم وقع في صدره, وعباد بن بشر يصلي), وورد أنه كان يقرأ سورة الكهف رضي الله عنه ورحم الصحابة والمسلمين أجمعين, (فنزع عباد بن بشر هذا السهم وما التفت ولا قطع صلاته وبدأ في صلاته, فسدد إليه ذاك الرجل سهماً آخر فوقع في صدره أيضاً، والدماء تنزف منه رضي الله عنه وأرضاه, فنزع هذا السهم وما قطع صلاته, فسدد إليه سهماً ثالثاً فوقع في صدره فنزعه, فلما أثخنته الجراح ) وخشي أن يسقط على الأرض ميتاً وبعد ذلك يكشف المسلمون ولا يوجد من يحرسهم ولا من يوقظهم إذا داهمهم المشركون ( أيقظ عمار بن ياسر وجراحاته تنزف من صدره رضي الله عنهم أجمعين, فقال له عمار: هلا أنبهتني في أول الأمر )؟ أي: عندما شعرت بهذا العدو لم لم تنبهني ولم لم تخبرني ولم لم توقظني؟ ( فقال عباد بن بشر رضي الله عنهم أجمعين: كنت في سورة فكرهت أن أقطعها -سبحان الله! كنت في سورة, أنا أناجي الله وأتلذذ بحلاوة كلامه, كيف أقطعها؟ وهذه الجراحات لا نشعر بشدائدها في صلاتنا- ثم قال: ووالله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي أو أنفذها ). اعلم يا عمار! ما أيقظتك من أجلي ولا من أجل هذا المشرك لتطارده, ما أيقظتك إلا لأنني مؤتمن على هذا الثغر, ولولا هذه الأمانة لما قطعت صلاتي حتى أنهي هذه السورة بتمامها أو أن أقتل وأنا في الصلاة. وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].

إن الفائدة التي نحصلها من صلاتنا بذكر الله -عندما نذكره- أكبر من كل شيء.. أكبر من كون الصلاة تنهانا عن الفحشاء والمنكر, وأكبر من كل طاعة ومن كل لذة, وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].

إخوتي الكرام! إذا أقام الإنسان الصلاة ووفاها حقها علماً وعملاً نال بها الراحة وقرة العين، وحصل بهجة النفس وانشراح الصدر وطمأنينة القلب.

عباد الله! تقدم معنا أنه لا بد لإقامة الصلاة من أمور, فقلت: جماعها ينحصر في أربعة أمور؛ أولها: أن نؤدي الصلاة في وقتها. وثانيها: أن يحضر قلبنا عند أداء الصلاة لربنا. وثالثها: أن تسكن جوارحنا وأعضاؤنا الظاهرة. ورابعها: إتمام أركانها من ركوعها وسجودها.

إخوتي الكرام! وهذا الأمر الرابع قبل أن أتكلم عليه تكلمت على الأمر الثالث, وهو أن الجوارح ينبغي أن تسكن وأن تخشع, كما خشع الباطن ينبغي أن يخشع الظاهر, وعليه يجب أن تضبط عينيك وأن تضبط فمك وأن تضبط جميع جوارحك, وأن تكون في سكون وخشوع وإخباتٍ لله جل وعلا.

وكنت أشرت على سبيل الإجمال أن النظر ينبغي أن يكون إلى محل السجود, وقد سأل عدد من الإخوة عن هذا الأمر, ولذلك أرى أن أكمله وأن أتكلم عليه, وهو يتعلق بالأمر الثالث, ثم نتدارس الأمر الرابع إن شاء الله.

آثار عن السلف في النظر إلى موضع السجود

عباد الله! إذا قام الإنسان للصلاة فينبغي ألا يفرق نظره إلى أي جهة من الجهات, وينبغي أن يكون نظره موضع سجوده, وقد وردت في ذلك أحاديثَ وآثار ضعيفة, تعتضد ببعضها فترتقي إلى درجة القبول بإذن الله جل وعلا.

من هذه الآثار ما رواه الإمام الطبري في تفسيره، ورواه ابن أبي حاتم أيضاً وابن المنذر وعبد بن حميد في تفاسيرهم، ورواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن, والأثر رواه الإمام الحازمي في الناسخ والمنسوخ، وسعيد بن منصور في السنن أيضاً عن محمد بن سيرين شيخ الإسلام, والأثر مرسل وإسناده صحيح إلى محمد بن سيرين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين, قال: كان الصحابة الكرام ومعهم نبينا عليه الصلاة والسلام في أول الأمر إذا قاموا إلى الصلاة رفعوا رءوسهم ونظروا فوقهم, وتلفتوا يميناً وشمالاً, فأنزل الله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]. يقول محمد بن سيرين في هذا الأثر: فلما نزلت هذه الآية طأطئوا رءوسهم, وفي رواية: ( طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ونكس رأسه ), والصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين كانوا على هذا الأمر, فحنوا رءوسهم كما في بعض الروايات: طأطئوها .. نكسوها. وهذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن أيضاً عن محمد بن سيرين متصلاً عن أبي هريرة رضي الله عنه, فهو متصل, لكن كما قال الإمام البيهقي : المحفوظ هو المرسل, وقال الإمام الذهبي : هو الصحيح. هذا الأثر الأول. معنى (طأطئوا رءوسهم) .. حنوا رءوسهم .. نكسوا رءوسهم أي: نظروا إلى محل سجودهم.

وورد في سنن البيهقي - وإسناد الأثر فيه ضعف كما قال الإمام النووي في المجموع-: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا أنس ! ضع نظرك حيث تسجد ) أي: إلى موضع السجود, هذا النظر ما ينبغي أن يزيد على ذلك.

وهذا الأمر نقل عن السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين, فقد ثبت في سنن البيهقي والأثر رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق وإسناد الأثر فيه ضعف أيضاً -وكما قلت: الآثار تعتضد ببعضها- عن أبي قلابة رضي الله عنه وهو عبد الله بن زيد الجرمي من أئمة التابعين, توفي سنة 104هـ, أخرج حديثه أهل الكتب الستة كما قال عنه الإمام الحافظ ابن حجر في التقريب: ثقة فاضل عابد, أخرج حديثه أهل الكتب الستة إلا أبا داود , فأخرج عنه في كتاب القدر لا في كتاب السنن, وهو عبد صالح، ومن مناقبه وفضائله واحتياطه وحزمه وعزمه أنه عندما أريد على القضاء في بلاد البصرة هرب إلى بلاد الشام وتوفي هناك, وكان يقول: ما مثل القاضي العالم إلا كمثل رجل وقع في البحر, فما عسى أن يسبح ثم يغرق. هذا العبد الصالح يقول: حدثني عشرة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه وركوعه وسجوده وقراءته كانت كصلاة هذا الأمير, يعني: الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا.

يقول الراوي عن سليمان بن داود الخولاني إمام ثقة حديثه في سنن أبي داود وسنن الإمام ابن ماجه ، يقول: فنظرت إلى صلاة عمر بن عبد العزيز وتأملتها, فكان لا يجاوز بصره موضع سجوده. هذا الأثر يدل على هذا الأمر, وهو أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة ينبغي ألا يجاوز هذا النظر موضع السجود. وهذه الآثار -كما قلت- تعتضد ببعضها وتتقوى, وهو أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة ينبغي أن يكون نظره موضع سجوده.

إخوتي الكرام! هذا الأمر الذي دلت عليه هذه الآثار وتعتضد ببعضها، هو الذي أفتى بموجبها - بموجب الآثار- أئمتنا الأبرار, عليهم جميعاً رحمات العزيز الغفار. فهذا قتادة والأثر ثابت عنه في سنن البيهقي بإسناد صحيح أنه كان يقول: الخشوع في القلب وإلباد البصر في الصلاة, أي: يحصل الخشوع بهذين الأمرين أن يخشع القلب ويتفكر ويتدبر, وإلباد البصر في الصلاة. ومعنى إلباد البصر أي: سكونه بحيث يكون إلى موضع السجود لا يتجاوز ذلك, فهو مستقر ثابت.

وروي مثل هذا عن شيخ الإسلام محمد بن سيرين أيضاً عليهم جميعاً رحمة الله, أنه كان إذا صلى لا يجاوز بصره موضع سجوده, وكان يعجبه ذلك للمصلي, أي: إذا صلى الإنسان ألا يجاوز بصره موضع سجوده.

أقوال العلماء في موضع نظر المصلي في صلاته كلها

لقد نص أئمتنا الفقهاء عليهم جميعاً رحمة الله وقرروا ما سبق، منهم شيخ الإسلام الإمام النووي في المجموع، وشيخ الإسلام الإمام ابن قدامة في المغني, وعلى هذا أيضاً كتب المذاهب الأخرى كما في الفقه الحنفي في رد المحتار على الدر المختار للإمام محمد بن عابدين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين.

وحاصل ما ذكروه: أن الإنسان ينبغي في صلاته أن يضع بصره موضع سجوده في جميع أحوال صلاته, سواء كان قائماً أو راكعاً أو ساجداً أو جالساً. وهذا هو الذي نقل عن الإمام أحمد , وقال الإمام النووي : إنه أصح القولين.

وهناك قول حكي في كتب الفقه أيضاً, وهو أن هذه الآثار التي تدل على وضع البصر موضع السجود تحمل على حالة الوقوف والقيام, فإذا كان الإنسان قائماً يضع بصره موضع سجوده, وأما إذا ركع فينبغي أن ينظر إلى قدميه, وأما إذا سجد فينبغي أن ينظر إلى أرنبة أنفه, وأما إذا جلس فينبغي أن ينظر إلى حجره بحيث لا يتجاوز نظره رءوس أصابعه. وهذه الكيفية منقولة عن شريك بن عبد الله , ورجحها الإمام البغوي عليهم جميعاً رحمة الله.

فإن قال قائل: ما الدليل على هذه الكيفية؟ قلنا: الدليل على هذا كما قال أئمتنا: إن هذه الكيفية فيها قصر للنظر, وإعانة على الخشوع عند أداء الصلاة؛ لأن النظر كلما امتد وتبعثر تفرق القلب, فبين العين والقلب صلة عجيبة, فإذا امتدت العين إلى مكان بعيد تشوش القلب, وعليه أنت إذا كنت قائماً تنظر إلى محل سجودك, فإذا ركعت تنظر إلى قدميك, فإذا سجدت لا يتجاوز النظر أرنبة الأنف, وإذا جلست بعد ذلك تنظر إلى حجرك بحيث لا يتجاوز النظر أصابع اليدين اللتين على الفخدين إلى منتهى الركبتين.

وكل من القولين -كما قلت إخوتي الكرام!- قرره أئمة الإسلام, والأخذ بأيهما كان حسن, إما أن تنظر إلى محل سجودك على الدوام في جميع أحوال صلاتك وإما أن تفعل هذا, فانظر أيهما أخشع لقلبك فافعله ولا حرج.

كسر البصر وغضه في جميع العبادات

إخوتي الكرام! وكسر البصر وغضه ينبغي أن يصاحب الإنسان في جميع الأحوال سواء كان في حال الصلاة أو في غيرها من العبادات والأذكار, ينبغي للإنسان ألا يَمُد نظره وألا يفرق بصره, وكلما قصره كان خيراً له, ولذلك ثبت في المستدرك والحديث رواه البيهقي في السنن وإسناد الحديث على شرط الشيخين وصححه الحاكم وأقره عليه الذهبي ، وهو صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( عجبت للمرء المسلم عندما يدخل البيت ), وتعني بالبيت: بيت الله الحرام, الكعبة المشرفة إذا دخل الإنسان إلى داخلها. قالت: ( عجبت للمرء المسلم عندما يدخل البيت كيف ينظر قبل السقف )؟! وهو في غير صلاة, دخل إلى بيت الله .. دخل إلى الكعبة المشرفة, فبدأ يتأملها وينظر إلى سقفها, تقول: ( عجبت للمرء المسلم إذا دخل إلى البيت كيف ينظر قبل السقف؟! ينبغي أن يدع ذلك؛ تعظيماً لله وإجلالاً له. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل البيت ما جاوز بصره موضع سجوده ), أي: كان مطرقاً عليه صلوات الله وسلامه عندما دخل الكعبة المشرفة دون أن تقع صلاة, إنما هذا من علامات السكينة .. من علامات الخشوع .. من علامات الأدب, إذا كنت تذكر الله جل وعلا في غير صلاة .. إذا كنت تقرأ القرآن .. إذا كنت تصلي أيضاً فما ينبغي أن تفرق بصرك يميناً وشمالاً وخلفك وفوقك, ينبغي أن تَقصر بصرك, فكلما فعلت هذا كان أخشع لقلبك وأتقى لربك.

والأثر -كما قلت إخوتي الكرام!- صحيح على شرط الشيخين، وصححه أئمة الإسلام.

تغير أحوال المصلين في النظر إلى موضع السجود بعد أيام الصحابة

وقد ورد في سنن ابن ماجه ما يدل على حالة رفيعة كريمة للصحابة الكرام في صلواتهم, والحديث حوله شيء من الكلام, أذكره وأبين ما فيه إن شاء الله. ولفظ الحديث: أورده الإمام ابن ماجه في كتاب الجنائز, ومن العجيب أن يورد هذا الحديث في كتاب الجنائز في باب وفاة نبينا عليه الصلاة والسلام ودفنه، مع أنه في ظاهر الأمر ليس له صلة بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام ودفنه, لكن أمنا أم سلمة رضي الله عنها تشير بهذا الحديث إلى تغير الناس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام.

ولفظ الحديث عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قاموا إلى الصلاة لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه ). فهو يصلي مطرق الرأس لا يتجاوز بصره موضع قدميه. تقول: ( فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه صار أحدهم إذا قام للصلاة لم يعد بصر أحدهم إذا قام يصلي موضع سجوده ). فتوسع الناس إلى هذا الأمر, ولا زالوا ضمن المشروعية والجواز. تقول: ( فلما كان عمر واستخلف عمر رضي الله عنه وقبض أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين صار أحدهم إذا قام يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة ). فتوسعوا, تجاوزوا القدمين ومحل السجود, لكن لا ينظرون إلا إلى جهة القبلة .. أي: إلى الجهة الأمامية. تقول أمنا أم سلمة رضي الله عنها: ( فلما قتل عمر واستخلف عثمان ووقعت الفتنة -رضي الله عن الصحابة الكرام أجمعين- تلفت الناس في صلاتهم, فنظروا يميناً وشمالاً ), أي: تغيروا عن الهدي الصالح الذي كانوا عليه.

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- فيه موسى بن عبد الله ، انفرد الإمام ابن ماجه بالإخراج عنه، فلم يرو عنه أحد من الكتب الستة، والإمام المنذري لما ذكر الحديث في الترغيب والترهيب قال: إسناد حسن، وليس فيه إلا موسى بن عبد الله بن أبي أمية المخزومي ولم أقف على جرح أو تعديل فيه، ولا يحضرني جرح أو تعديل فيه، وهذا الحديث عندما تعرض له أئمتنا كما فعل الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد المنبجي الحلبي في كتابه تسلية أهل المصائب قال: إسناده مقارب، بفتح الراء وكسرها مقارَب مقارِب، أي: رجال الإسناد يقاربهم غيرهم في الحفظ، وهم يقاربون غيرهم في الحفظ. وتبعه على هذا الاصطلاح الإمام السفاريني في غذاء الألباب شرح منظومة الألباب، وقال: إسناد الحديث مقارِب، إسناد الحديث مقارَب، أما الإمام المنبجي فتوفي سنة خمس وثمانين وسبعمائة للهجرة، وأما الإمام السفاريني الذي جاء بعده فتوفي سنة ألف ومائة وثمان وثمانين للهجرة عليهم جميعاً رحمات رب العالمين.

إذاً: موسى بن عبد الله بن أبي أمية المخزومي انفرد الإمام ابن ماجه بالإخراج عنه، وقد حكم عليه الحافظ ابن حجر في التقريب بأنه مجهول؛ لأنه لم يرو عنه إلا راوي واحد، وليس فيه -كما قلت- توثيق ولا تجريح، والحديث يعطينا صورة واضحة لأحوال السلف الكرام في العصر الأول، وكيف كانت الأحوال تتغير في كل مرحلة؟ فهم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لهم هذه الحالة، لا يجاوز بصر أحدهم موضع قدميه، وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه لا يجاوز بصر الواحد منهم موضع سجوده، وفي عهد عمر رضي الله عنه لا يجاوز بصر أحدهم القبلة، فلما وقعت الفتنة وتغيرت القلوب نظر الناس يميناً وشمالاً، وكيف يفعل الناس في هذه الأيام من النظر إلى سائر الجهات؟! وكل هذا كما تقدم معنا اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الإنسان.

وخلاصة الكلام إخوتي الكرام! إذا صلى الإنسان ينبغي أن يضع نظره موضع سجوده, ولا يجوز أن يرسل نظره زيادة عن ذلك ولا بمقدار أنملة, وإذا فعل هذا فقد شوش ذهنه وتسبب في تشويش قلبه, ونقص من الخشوع بمقدار ما يطلق بصره. هذا فيما يتعلق بالنظر الذي سأل عنه عدد من الإخوة الكرام.

الربيع بن خثيم ونظره في الصلاة وغيرها

إخوتي الكرام! ينبغي للإنسان أن يقصر من نظره في الصلاة وفي غيرها. وقد ذكر أئمتنا في ترجمة العبد الصالح الربيع بن خثيم وهو تابعي مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ولم ير النبي عليه الصلاة والسلام, وهو من شيوخ التابعين الكرام, توفي سنة 65هـ, حديثه مخرج في الكتب الستة. وهذا العبد الصالح كان تلميذاً لـعبد الله بن مسعود كان إذا جاء إلى بيت شيخه عبد الله بن مسعود يقول أهل عبد الله بن مسعود لـعبد الله : جاء صاحبك الأعمى. وما كان به عمى رضي الله عنه وأرضاه, كان منور البصر والبصيرة, لكنه كان يطرق الرأس في مشيته وفي جميع أحواله, ولا يفرق نظره إلى سائر الجهات. وكان إذا قام إلى الصلاة وسجد كأنه ثوب ملقى, فكانت العصافير تأتي وتقف على ظهره وهو ساجد لربه جل وعلا, ومع ذلك كان يقول: أدركنا أناساً ما كنا بجنبهم إلا لصوصاً؛ نحن كاللصوص مع الصحابة الكرام. فماذا نقول نحن في هذه الأيام؟ نسأل الله أن يتوب علينا وأن يعفو عنا؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. إطلاق النظر والبصر إلى سائر الجهات, وحتى توسع الناس من رجالٍ ونساء بحيث تجلس المرأة أحياناً على البلكونة .. على الشرفة أو تفتح النافذة؛ لتسرح نظرها إلى هذا وذاك. يا أمة الله! يا عبد الله! غضوا أبصاركم, واقصروا أعينكم؛ فهذا أزكى لكم.

عباد الله! إذا قام الإنسان للصلاة فينبغي ألا يفرق نظره إلى أي جهة من الجهات, وينبغي أن يكون نظره موضع سجوده, وقد وردت في ذلك أحاديثَ وآثار ضعيفة, تعتضد ببعضها فترتقي إلى درجة القبول بإذن الله جل وعلا.

من هذه الآثار ما رواه الإمام الطبري في تفسيره، ورواه ابن أبي حاتم أيضاً وابن المنذر وعبد بن حميد في تفاسيرهم، ورواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن, والأثر رواه الإمام الحازمي في الناسخ والمنسوخ، وسعيد بن منصور في السنن أيضاً عن محمد بن سيرين شيخ الإسلام, والأثر مرسل وإسناده صحيح إلى محمد بن سيرين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين, قال: كان الصحابة الكرام ومعهم نبينا عليه الصلاة والسلام في أول الأمر إذا قاموا إلى الصلاة رفعوا رءوسهم ونظروا فوقهم, وتلفتوا يميناً وشمالاً, فأنزل الله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]. يقول محمد بن سيرين في هذا الأثر: فلما نزلت هذه الآية طأطئوا رءوسهم, وفي رواية: ( طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ونكس رأسه ), والصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين كانوا على هذا الأمر, فحنوا رءوسهم كما في بعض الروايات: طأطئوها .. نكسوها. وهذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن أيضاً عن محمد بن سيرين متصلاً عن أبي هريرة رضي الله عنه, فهو متصل, لكن كما قال الإمام البيهقي : المحفوظ هو المرسل, وقال الإمام الذهبي : هو الصحيح. هذا الأثر الأول. معنى (طأطئوا رءوسهم) .. حنوا رءوسهم .. نكسوا رءوسهم أي: نظروا إلى محل سجودهم.

وورد في سنن البيهقي - وإسناد الأثر فيه ضعف كما قال الإمام النووي في المجموع-: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا أنس ! ضع نظرك حيث تسجد ) أي: إلى موضع السجود, هذا النظر ما ينبغي أن يزيد على ذلك.

وهذا الأمر نقل عن السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين, فقد ثبت في سنن البيهقي والأثر رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق وإسناد الأثر فيه ضعف أيضاً -وكما قلت: الآثار تعتضد ببعضها- عن أبي قلابة رضي الله عنه وهو عبد الله بن زيد الجرمي من أئمة التابعين, توفي سنة 104هـ, أخرج حديثه أهل الكتب الستة كما قال عنه الإمام الحافظ ابن حجر في التقريب: ثقة فاضل عابد, أخرج حديثه أهل الكتب الستة إلا أبا داود , فأخرج عنه في كتاب القدر لا في كتاب السنن, وهو عبد صالح، ومن مناقبه وفضائله واحتياطه وحزمه وعزمه أنه عندما أريد على القضاء في بلاد البصرة هرب إلى بلاد الشام وتوفي هناك, وكان يقول: ما مثل القاضي العالم إلا كمثل رجل وقع في البحر, فما عسى أن يسبح ثم يغرق. هذا العبد الصالح يقول: حدثني عشرة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه وركوعه وسجوده وقراءته كانت كصلاة هذا الأمير, يعني: الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا.

يقول الراوي عن سليمان بن داود الخولاني إمام ثقة حديثه في سنن أبي داود وسنن الإمام ابن ماجه ، يقول: فنظرت إلى صلاة عمر بن عبد العزيز وتأملتها, فكان لا يجاوز بصره موضع سجوده. هذا الأثر يدل على هذا الأمر, وهو أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة ينبغي ألا يجاوز هذا النظر موضع السجود. وهذه الآثار -كما قلت- تعتضد ببعضها وتتقوى, وهو أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة ينبغي أن يكون نظره موضع سجوده.

إخوتي الكرام! هذا الأمر الذي دلت عليه هذه الآثار وتعتضد ببعضها، هو الذي أفتى بموجبها - بموجب الآثار- أئمتنا الأبرار, عليهم جميعاً رحمات العزيز الغفار. فهذا قتادة والأثر ثابت عنه في سنن البيهقي بإسناد صحيح أنه كان يقول: الخشوع في القلب وإلباد البصر في الصلاة, أي: يحصل الخشوع بهذين الأمرين أن يخشع القلب ويتفكر ويتدبر, وإلباد البصر في الصلاة. ومعنى إلباد البصر أي: سكونه بحيث يكون إلى موضع السجود لا يتجاوز ذلك, فهو مستقر ثابت.

وروي مثل هذا عن شيخ الإسلام محمد بن سيرين أيضاً عليهم جميعاً رحمة الله, أنه كان إذا صلى لا يجاوز بصره موضع سجوده, وكان يعجبه ذلك للمصلي, أي: إذا صلى الإنسان ألا يجاوز بصره موضع سجوده.