لماذا الهجوم على البخاري الآن؟ - أحمد البراء الأميري
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
الإمام البخاري يخطئ، ولكن..؟؟الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
وبعد:
فإذا حاولنا أن نذكر أشهر عشرة أشخاص في تاريخ المسلمين من بعد عصر الصحابة -رضي الله عنهم- إلى اليوم؛ فلا شك أن الإمام البخاري -رحمه الله- سيكون واحداً منهم، بل ربما كان من الخمسة الأوائل؟!
وإذا سألنا أي مثقف مسلم: ما هو أشهر كتاب أُلّف في الإسلام؟ فلعله لن يتردد في الإجابة: صحيح البخاري ؟!
هل جاء هذا مصادفة؟ أم أن الرجل أوتي حظاً عظيماً فنال من الشهرة فوق ما يستحق؟ أم أنه وكتابه أهل للمكانة التي احتلاها؟ أم أن هناك شيئاً من المبالغة التي ترتبط عادة بالعظماء، والعلماء، والزعماء الذين يتركون وراءهم أثراً ممتداً يتخطى حدود الزمان والمكان؟.
من هنا نعلم خطورة التقليل من شأن الإمام البخاري وجامعه الصحيح، وعدم إعطائهما حقّهما، ولا نعني بذلك عدم النقد العلمي المنصف النزيه إذا جاء من أهله، إذ شتان بين ناقد بصير باحث عن الحقيقة يصدر في نقده عن علم، وأدب، وناقد يبخس الناس أشياءهم بدافع الجهل أو الهوى.
وسأجعل الحديث في هذا المقال الموجز على شكل نقاط، آملاً أن أصل بها إلى المقصود من كتابته:
1.
ولد محمد بن إسماعيل البخاري يوم الجمعة في 13 شوال عام 194هـ ببخارى، وتوفي يوم الأول من شوال عام 256هـ في خرتنك من قرى سمرقند.
2.
كان والده إسماعيل من رواة الحديث الثقات، وأخبر عند موته أنه لا يعلم في ماله درهماً من حرام، ولا درهماً من شبهة!!
3.
قال البخاري عن نفسه: "أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتّاب" (المدرسة الابتدائية)، وكان عمره يناهز العشر سنين!
4.
تنقل في البلاد طلباً لسماع الحديث الشريف من شيوخه ورواته، فزار الشام ، ومصر، والبصرة، والكوفة، وبغداد، وأقام في الحجاز ست سنين.
5.
قال عن نفسه: "كتبت عن ألف وثمانين نفساً ليس فيهم إلا صاحب حديث"، وبدأ المحدثون يكتبون عنه وسنّه حوالي [18] سنة!
6.
كان محمد بن إسماعيل يتمتع بذاكرة مدهشة، يحفظ ما يسمع من المرة الأولى.
قال أحد زملائه في الطلب، كان يذهب معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام فلا يكتب! فلما مضى ستةَ عشر يوماً لُمناه، فقال: أكثرتم علي، فاعرضوا عليّ ما كتبتم، فأخرجناه له، فقرأ الأحاديث التي كتبناها كلّها عن ظهر قلب حتى جعلنا نصحح كتبنا من حفظه!!
أيها القارئ الكريم:
اليوم ما عدنا ننكر وجود من يتمتعون بمواهب فذة، وبذاكرة خارقة إذ أصبحنا نرى على شاشات التلفاز، وفي الإنترنت أطفالاً وشباباً من الجنسين يحيرون العقول بتوقد ذاكرتهم واتساعها، وقدرتهم على الحفظ والاستذكار والاستحضار.
7.
قصة الإمام البخاري مع محدثي بغداد مشهورة، ومذكورة في الكتب التي ترجمت له، وخلاصتها:
لما قدم البخاري بغداد أراد علماء الحديث فيها أن يمتحنوا حفظه، فأخذوا مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، جعلوا هذا المتن لذلك السند، وذلك السند لهذا المتن، وأعطوها لعشرة أشخاص، لكل شخص عشرة أحاديث.
وفي موعد الاجتماع قام رجل فأخذ يسأله عن حديث تلو الآخر من الأحاديث المقلوبة، والبخاري يقول: لا أعرفه، لا أعرفه، وهكذا حتى انتهى العشرة.
فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني قلت: كذا وصوابه كذا، وكذا فعل بالأحاديث المئة على الترتيب، يذكر الحديث المقلوب كما سأل عنه صاحبه ثم يقول الصواب!! فأقر الناس له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.
قال الحافظ ابن حجر: "ليس العجب من ردّه الخطأ إلى الصواب؛ فإنه كان حافظاً، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة!!".
وبعد قراءة هذه الحادثة نصدّق ما قاله البخاري -رحمه الله- عن نفسه: "أحفظ مئة ألف حديث صحيح، وأحفظ مئتي ألف حديث غير صحيح".
8.
وكما كان البخاري متميزاً في عقله وعلمه، كان متميزاً في سيرته وأخلاقه.
كان يقول: ما اغتبت أحداً قط منذ علمت أن الغيبة حرام.
وكان حريصاً جداً في كلامه عن الرجال في الجرح والتعديل، فإن أكثر ما يقول عند الجرح: سكتوا عنه، فيه نظر، تركوه، ونحو هذا، وقلّ أن يقول: كذاب، أو وضّاع، وإنما يقول: كذّبه فلان، ورماه فلان؛ أي: بالكذب.
وكان قليل الأكل، كثير الإحسان إلى الطلبة، مفرط الكرم، كثير العبادة، إلى آخر هذه الصفات التي يتحلّى بها عظماء المسلمين ولهذه الأسباب أيضاً لقّب الإمام النووي الإمام البخاري بإمام المحدثين، ولقبه غيره من العلماء بأمير المؤمنين في الحديث.
9.
وقد أثنى على البخاري كبار علماء عصره، وسأذكر بعضهم مع أن جلّنا لم نسمع بأسمائهم، وهم من الأئمة الأعلام في الحديث والفقه في زمانهم:
- قال محمد بن سيار عند قدوم البخاري إلى البصرة: "دخل اليوم سيّد الفقهاء".
- قال محمد بن بشار: "حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبدالله بن عبدالرحمن الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى".
- ذكر لعلي بن المديني شيخ البخاري قول محمد بن إسماعيل فيه: "ما تصاغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني"، فقال: "ذروا قوله، هو ما رأى مثل نفسه".
- وقال الإمام العلم أبو بكر بــن أبي شيبة: "ما رأينا مثل محمد بن إسماعيل".
- وقال الإمام العظيم أحمد بن حنبل: "انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان"، وذكر منهم محمد بن إسماعيل.
- وقال يحيى بن جعفر: "لو قدرت أن (آخذ من عمري) وأزيده في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل، وموت محمد ابن إسماعيل ذهاب العلم".
- وقال رجاء المرجى: "هو آية من آيات الله يمشي على الأرض".
- وقال الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم هذه السماء أعلم بالحديث ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل".
- وقال الحافظ العلّم عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي: "قد رأيت العلماء بالحرمين، والحجاز، والشام، والعراقين فما رأيت فيهم أجمع من البخاري.
هو أفقهنا، وأعلمنا، وأغوصنا، وأكثرنا طلباً".
- وقال له يوماً تلميذه الإمام مسلم بن الحجاج: "لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك، وقال له -بعد أن قبّل ما بين عينيه-: "دعني أقبّل رجليك، يا أستاذ الأساتذة، وسيّد المحدثين، وطبيب الحديث في علله".
- وقال إبراهيم بن محمد بن سلام: "كان (الرؤساء) من أصحاب الحديث يهابون محمد بن إسماعيل ويقضون له على أنفسهم".
- هذا غيض من فيض ما قيل في هذا الإمام العلم، فلْيعلم ناقده عن أي عظيم يتكلم.
10.
كتاب البخاري سمّاه مؤلفه -رحمه الله-: (الجامع الصحيح المُسند من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه)، وأطلق الناس عليه اختصاراً اسم: (صحيح البخاري).
قال البخاري -رحمه الله-: "صنّفت (الجامع) من ستمئة ألف حديث في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله عز وجل".
وقد بلغ عدد أحاديثه المرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الموصولة المكررة على ما ضبطه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- [7397] حديثاً، وبدون تكرار [2602]، وقال البخاري: "ما وضعت في كتاب الصحيح حديثاً إلا استخرت الله وصليت ركعتين وتيقنت صحته".
11.
من عادة الإمام البخاري في صحيحه أن يورد الروايات المتعددة للحديث الواحد في أبواب مختلفة في أماكن متباعدة، ولا يجمعها في موضع واحد كما يفعل الإمام مسلم، ولكنه يضع الرواية الراجحة عنده تحت الباب الأكثر مناسبة لموضوع ذلك الحديث.
أما الإمام مسلم فيقدم الحديث المروي بالسند العالي على المروية بالسند النازل، فإذا كان عنده روايتان يبلغ عدد طبقات السند في إحداهما أربعاً وفي الأخرى خمساً فإنه يقدم الطريق الرباعي على الخماسي، وإذا كانت الروايتان متماثلتين في العلو والنزول فإنه يقدم الأرجح، وأحياناً يبدأ بالرواية الموقوفة قبل المرفوعة إذا كانت الموقوفة أرجح!!
12.
انتقادات على (صحيح البخاري): عقد الإمام ابن حجر العسقلاني في مقدمته لشرح (صحيح البخاري)، فصلاً خاصاً أورد فيه الأحاديث التي انتقدها الإمام الحافظ الدارقطني وغيره من النقاد على صحيح البخاري حديثاً حديثاً على سياق الكتاب، وأجاب عنها، وبلغ عدد هذه الأحاديث مئة وعشرة أحاديث، وقال: "ينبغي لكل منصف أن يعلم أن هذه الأحاديث وإن كان أكثرها لا يقدح في أصل موضوع الكتاب فإن جميعها واردٌ من جهة أخرى"، وذكر عن الإمام أبي عمر بن الصلاح: "أن المواضع المتنازع في صحتها لم يحصل لها من التلقي ما حصل لمعظم الكتاب".
وجل انتقادات الدارقطني فنيّة غامضة على غير أهل الاختصاص في الحديث النبوي، وتنقسم إلى ستة أقسام، كما بين ابن حجر، وهي:
الأول: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد.
الثاني: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد.
الثالث: ما تفرد بعض الرواة في زيادة فيه دون من هو أكثر عدداً أو أضبط ممن لم يذكرها.
الرابع: ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف من الرواة، وليس في الصحيح من هذا القبيل غير حديثين رقم [37] و[43].
الخامس: ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله، فمنه ما يؤثر ذلك الوهم قدحاً، ومنه ما لا يؤثر.
السادس: ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن فهذا أكثره لا يترتب عليه قدح.
ثم قال المؤلف قبل الشروع في استعراض الأحاديث المئة وعشرة واحداً واحداً: "فهذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح، وقد حررتها وحققتها، وقسمتها، وفصّلتها.
لا يظهر منها ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب بحمد الله إلا النادر".
وختم الحافظ ابن حجر هذا الفصل بقوله: "هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد، المطّلعون على خفايا الطرق، وليست كلها قادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهر والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف".
"فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عَظُم مقدار هذا المُصنَّف (يعني: صحيح البخاري) في نفسه، وجلّ تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم، وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم، وليسا سواءً: من يدفع بالصدر فلا يأمن دعوى العصبية، ومن يدفع بيد الإنصاف على القواعد المرضية والضوابط المرعية".
قال العلامة جمال الدين القاسمي في هذا الانتقاد: "من عظم منزلة البخاري ما يدريه فلاسفة المحققين، وذلك لأن معيار فضلِ المؤلف وعِظَمِ تأليفه مدارُه على نسبة خطئه مع صوابه؛ فمن كان خطؤه قليلاً يُعدّ، فهو برهان على دقة نظمه، وجودة تخيّره، فإذا قيس هذا العدد المنتقد بعدّة الأصل وهي [9082][1] حديثاً كانت نسبته إليه نحو عشر العشر.
ففي كل مئة حديث منها حديثُ منظور فيه، فما أوسع نظر إمام يوجد في كل مئة من مروياته على سعة هذا الفن السّعة المدهشة حديث واحد تُكلّم فيه، فللّه درّه!".
ونختم هذا المقال بقول ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى [1/256]: "جمهور -يعني غالب- ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه، بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرَّجها وكان الصواب فيها مع من نازعه..
ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة أهل الحديث، تلقوها بالقبول، وأجمعوا عليها، وهم يعلمون علماً قطعياً أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها".
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وحببنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرهنا فيه، وعافنا من الهوى الذي يضل عن الحق والحمدلله رب العالمين.
---------------------
[*] (هذا المقال موجّه للمثقف غير المتخصص في الدراسات الشرعية، وقد اعتمدت في كتابته على: مقدمة ابن حجر لشرح (صحيح البخاري)، وتاريخ الإسلام للذهبي، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، والبداية والنهاية لابن كثير، والأعلام للزركلي، وحياة البخاري لجمال الدين القاسمي، ومكانة الصحيحين للدكتور خليل ملّا خاطر، وكاتب المقال ليس من المختصّين في علم الحديث، ولكنه تخرج في كلية الشريعة بجامعة دمشق عام 1972م.
[1] (سبق أن ذكرنا أن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- قال: إن عددها [7397].