أرشيف المقالات

فضائل وثمرات الاستغفار

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
فضائل وثمرات الاستغفار
 
1- أهمية وفضائل الاستغفار (في خمسة عناصر فقط).
2- أوقات وصيغ الاستغفار.
 
الهدف من الخطبة:
التذكير بفضائل وثمرات هذه العبادة الجليلة؛ لا سيَّما في هذا الوقت ونحن ننتظر الأمطار.
 
مقدمة ومدخل للموضوع:
مع عبادة جليلة، وسهلة ويسيرة، بها تُفرَّج الكُربات، وتُحَلُّ الأزمات، وبها تستمطر الرحمات، وتتنزل الخيرات والبركات، وبها تُغفَر الذنوب والزلَّات، إنها عبادة الاستغفار، ومعناه طلب المغفرة من الله تعالى على الذنوب والتقصير، فالعبد لا يخلو من إحدى ثلاث حالات:
1- إما وقوع في معصية.
2- وإما ترك أو تقصير في واجب من الواجبات.
3- أو أداء واجب لا يخلو من نقصٍ وخللٍ وتقصيرٍ.
 
وكُلُّها تحتاج إلى استغفار، فكم من مِحَنٍ وأزماتٍ زالت بالاستغفار! وكم من رحماتٍ تنزَّلَتْ بالاستغفار!
 
1- ومما يدل على أهمية ومنزلة الاستغفار هو كثرة ذكره في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتارةً يأمر الله تعالى به؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾ [هود: 3]، وتارةً يمدح ويُثني على المستغفرين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
 
2- والاستغفار هو وظيفة جميع الأنبياء والمرسلين؛ فما من نبيٍّ ولا رسول إلا وكان يتعبَّد لله تعالى بالاستغفار وطلب المغفرة؛ فهذا نبي الله آدم عليه السلام فكان مما قال هو وزوجه: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وهذا نبيُّ الله نوح عليه السلام قال: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [نوح: 28] وقال: ﴿ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، وهذا نبيُّ الله موسى عليه السلام لما قتل الرجل القبطي قال: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [القصص: 16]، وهذا نبيُّ الله شعيب عليه السلام يأمر قومه بالاستغفار ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾ [هود: 90].
 
وتوجه الخطاب والأمر إلى خيرة البشر محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 106]، ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [غافر: 55]، ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19]، فكان صلى الله عليه وسلم هو سيِّد المستغفرين مع ما حظي به من مغفرة ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؛ كما قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم: ((واللهِ إني لأستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه في اليومِ أكثرَ مِنْ سبعينَ مرةً))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنه لَيُغانُ على قلبي، وإني لأستغفِرُ اللهَ في اليومِ مائةَ مرةٍ))، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن كُنَّا لنَعُدَّ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في المجلسِ الواحد مائةَ مرةٍ يقولُ: ((ربِّ اغْفِر لي وتُبْ عليَّ، إنك أنتَ التوابُ الرحيم))، وختم دعوته؛ بل حياته كلها بالاستغفار صلى الله عليه وسلم؛ كما قال الله تعالى: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3].
 
3- الاستغفار من أعظم أسباب مغفرة الذنوب والخطايا والسيئات؛ فبه تُكفَّر السيئات وتُحَطُّ الخطيئات، وتُغفَر الزلَّات؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110]، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليلِ والنهارِ، وأنا أغْفِرُ الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم)).
 
فمهما بلغ العبد من الآثام فلا يعظم ذلك مع الاستغفار؛ ففي الحديث القدسي الصحيح: ((يا بنَ آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرتُ لك ولا أبالي))، وفي الحديث الصحيح: ((مَنْ قال: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الذي لا إلهَ إلَّا هو الحَيُّ القَيُّومُ وأتوبُ إليهِ، غُفِرَ لهُ، وإنْ كان قد فَرَّ من الزحف))؛ ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم النساء إلى الاستغفار؛ لما رأى أنهنَّ أكثر أهل النار؛ كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا مَعشرَ النِّساءِ، تصدَّقْنَ وأَكْثِرْنَ منَ الاستغفارِ؛ فإنِّي رأيتُكُنَّ أَكْثرَ أَهْلِ النَّارِ..))، ولو أن المنافقين استعملوا الاستغفار لانتفعوا بذلك؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 64]، بل حتى الكُفَّار الذين طعنوا في ذات الله، فنسبوا له الصاحبة والولد؛ فقال الله تعالى عنهم: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: 72]، وقال عنهم: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴾ [المائدة: 73]، ومع ذلك يفتح لهم هذا الباب العظيم من أبواب المغفرة: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 74].
 
ولو لم يذنب العباد لجاء بغيرهم حتى يستغفروه سبحانه وتعالى؛ كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِر لهمْ))، وليس معناها الترخيص في الذنوب والمعاصي؛ ولكن المعنى أن الله تعالى قضى في سابق علمه أنه لا بُدَّ من وقوع الذنوب حتى تظهر آثار مغفرته ورحمته، وتحدَّى به المولى جل في علاه الشيطان الذي أقسم على إغواء العباد وإضلالهم؛ فعن أَبِي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّ الشيطانَ قال: وعِزَّتِكَ يا ربِّ لا أَبرَحُ أُغوي عِبادَكَ ما دامتْ أَرْواحُهم في أَجْسادِهم، قال الرَّبُّ: وعِزَّتي وجَلالي لا أَزالُ أَغفِرُ لهم ما استغفروني))؛ ولذلك جاء في الأثر أن الشيطان يقول: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يستغفرون؛ لأنهم يحسبون أنهم يُحسِنُون صُنْعًا.
 
وأثْنى الله تعالى على عباده المتقين الذين إذا وقعوا في الذنب أتبعوه بالاستغفار: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
 
4- الاستغفار من أعظم أسباب نزول الخيرات والبركات والرحمات وحلٌّ لكثير من المشكلات؛ فبالاستغفار تكون الحياة الطيبة والمتاع الحسن؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [هود: 3]، وبالاستغفار تُفرَّج الهموم والكُرُبات؛ كما في الحديث: ((مَن لَزِمَ الاستغفارَ جعل اللهُ له من كل ضِيقٍ مخرجًا، ومِن كُلِّ هَمٍّ فرَجًا، ورزَقَه من حيثُ لا يحتَسِبُ))؛ بل لا أُبالِغ إذا قلتُ: إنَّ الاستغفار علاجٌ أكيدٌ لكثيرٍ من المشكلات الاقتصادية وغلاء الأسعار، وتأمَّل إلى التدابير والإصلاحات الاقتصادية التي اتَّخذها أميرُ المؤمنين عمر رضي الله عنه في عام الرمادة في السنة الثامنة عشرة من الهجرة؛ حيث حصل قَحْطٌ شديدٌ، وقلَّ الطعام، واستمرَّ ذلك تسعةَ أشهرٍ، وسُمِّي عام الرمادة؛ لأن الريح كانت تَسْفي ترابًا كالرماد! فما هي التدابير والإصلاحات الاقتصادية التي قام بها عمر رضي الله عنه؟ فقد حثَّ الناس على كثرة الصلاة والدعاء واللجوء إلى الله تعالى والتوبة والاستغفار، ثم خرج يُصلِّي بالناس صلاةَ الاستسقاء، وصعد المنبر، فما زاد على الاستغفار وتلاوة الآيات في الاستغفار، ثم قال: طلبت الغيث بمخارج السماء التي يستنزل بها المطر.
 
وهذا نبي الله نوح عليه السلام يُبيِّن لنا ثمرات وكنوز الاستغفار: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴾ [نوح: 10]، وهذا نبيُّ الله هود عليه السلام يكتشف لنا سرًّا من أسرار الاستغفار في نزول الغيث وزيادة القوة: ﴿ وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [هود: 52].
 
ذكر الإمام القرطبي: أن رجلًا شكا إلى الحسن البصري الجدب فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادْعُ الله أن يرزقني ولدًا، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فلما سُئِل عن ذلك؟ قال: إن الله عز وجل يقول في سورة نوح: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا...
[نوح: 10]؛ الآيات.
 
5- الاستغفار من أعظم أسباب الأمن والنجاة في الدنيا والآخرة:
ففي الدنيا أمن وأمان من عذاب الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33]، وروى الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل الله عليَّ أمانين لأُمَّتي؛ ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ...
[الأنفال: 33] الآية، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة)
)
، وقال ابن عيينة رحمه الله: غضب الله لا دواء له، فتعقَّبَه الذهبي رحمه الله بقوله: دواؤه كثرةُ الاستغفارِ بالأسحار، والتوبة النصوح، وقال علي بن أبي طالب: ما ألهم الله سبحانه عبدًا الاستغفار وهو يريد أن يُعذِّبه.
 
وأمَّا عند الموت وحينما يُوضَع العبد في قبره؛ ينتفع الميت باستغفار الناس له؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((استغفِرُوا لأخيكم؛ فإنَّه الآنَ يُسألُ))، فإذا كان في قبره فأنعم به وأكرم من جار! كما قال أحد السلف: ما جاور عبد من جارٍ خير من استغفار كثير.
 
وأما يوم القيامة بينما الناس في عرصاتها وعند تطايُر الصحف إذ بالمستغفرين في سعادة وحبور، وفرح وسرور؛ لما وجدوا من كثرة الاستغفار في صحائفهم؛ ففي سنن ابن ماجه عن عبدالله بن بسر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((طُوبى لِمَنْ وَجَد في صحيفته استغفارًا كثيرًا))، وفي رواية: ((مَنْ أحَبَّ أن تسرَّه صحيفتُه فَلْيُكْثِر من الاستغفار))، ثم إن الاستغفار من أسباب دخول الجنة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 135، 136]؛ بل ويصل الثواب والتكريم حتى في الجنة؛ ففي الحديث الصحيح: ((إنَّ الرجلَ لَتُرفَع درجتُه في الجنةِ، فيقول: أنَّى هذا؟! مِن أين لي هذا؟! لا يراه في عمله! فيُقال له: باستغفارِ وَلَدِكَ لَكَ)).
 
نسأل الله العظيم أن يجعلنا من عباده المستغفرين.
 
الخطبة الثانية
أوقات وصيغ الاستغفار:
فإن الاستغفار مشروع في كل وقت؛ لكنه يجب عند الوقوع في المعصية؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ المؤمن إذا أذنبَ ذنبًا كانت نكتةٌ سوداءُ في قلبه، فإنْ تابَ ونَزَعَ واستغفر صُقِل منها، وإنْ زادَ زادَتْ حتى يُغلَّف بها قلبه؛ فذلك الرانُ الذي ذكر الله تعالى في كتابه: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [المطففين: 14]))؛ [رواه الترمذي وصحَّحه].
 
واستأجر الحسن البصري رحمه الله يومًا حمَّالًا؛ ليحمل متاعَه من السوق إلى البيت، فكان يسمعه طوال الطريق يُردِّد كلمتين لا يزيد عليهما: (الحمدُ للهِ، أستغفرُ اللهَ) فلمَّا وصل إلى بيته وأعطاه أجره سأله عن ذلك؟ فأجاب: أنا في حياتي كُلِّها مع الله بين أمرين: نعمة لله عليَّ تستحق مني (الحمد)، وتقصير في حقِّ الربِّ يستحقُّ (الاستغفار)، فضرب الحسن كفًّا بكفٍّ، وقال: حمَّالٌ أفقهُ منك يا حسن!
 
ويُستحَبُّ بعد الأعمال الصالحة والعبادات مثل: دُبُر الصلوات؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم من الصلاة المفروضة يستغفر الله ثلاثًا، وكذلك بعد الإفاضة من عرفات؛ كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، وكذلك بعد الوضوء كما في الحديث في بيان الذكر بعده: ((سبحانك اللهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إلهَ إلا أنت، أستغفرُكَ اللهُمَّ وأتوبُ إليكَ))، كما يُستحَبُّ أيضًا في ختام المجالس أن يقول: ((سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنت، أستغفرُكَ وأتُوبُ إليكَ))، وعند دفن الأموات كما في الحديث: ((استغفروا لأخيكم وسَلُوا له التثبيت؛ فإنَّه الآنَ يُسألُ)).
 
وأمَّا أفضلُ أوقاته وقت السحر؛ فقد أثنى الله تعالى على عباده الذين يستغفرونه في هذا الوقت المبارك بقوله: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17]، وقال تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18]؛ بل ينزل ربنا نزولًا يليق بجلاله في هذا الوقت؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربُّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثُلثُ الليل الآخرُ فيقول: مَن يدعوني فاستجيبَ له؟ من يسألني فأعطيَه؟ من يستغفرني فأغفرَ له؟))؛ [رواه البخاري ومسلم].
 
صيغ الاستغفار:
فإن أسهلها وأيسرها أن تقول: "أستغفرُ اللهَ"، أو تقول: "أستغفرُ اللهَ العظيمَ"، ومن الصيغ أيضًا أن تقول: "أستغفرُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه"، ومنها أيضًا: "اللهُمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم"، ومنها أيضًا: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه"، ومنها: "أستغفر الله وأتوب إليه"، ومنها: "رب اغفر لي وتُبْ عليَّ".
 
وأمَّا أفضل الصيغ؛ سيد الاستغفار؛ كما في صحيح البخاري، عن شَدَّاد بْن أَوْسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللهمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إلا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
 
نسأل الله العظيم أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يجعلنا من عباده المستغفرين.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢