شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصيام - مقدمة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

هذا يوم الأربعاء ليلة الخميس السابع عشر من شهر رجب من سنة 1422للهجرة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الصيام].

الصيام أو الصوم مصدران، وهما أصل في اللغة يدلان على الإمساك والركود أياً كان، فمنه مثلاً: الإمساك عن الكلام، كما في قوله تعالى: فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26]، فالمقصود بالصوم هنا: الإمساك عن الكلام.

ومنه أيضاً الركود والثبات على حال واحدة، كما يقول النابغة :

خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

فالمقصود بالخيل الصيام الثابتة أو الراكدة، ومنه أيضاً يقال: صامت الريح إذا ركدت، ومنه يقولون: صام النهار إذا كان وقت استواء الشمس وقت القيلولة وبقيت الشمس أو ثبتت للحظات قبل أن تجنح للغروب، فإنهم يقولون: صام النهار، لأنها تتوقف قليلاً عن الحركة في نظر الرائي، هذا من حيث اللغة.

أما من حيث الشرع: فإن الشرع نقل الصيام إلى معنى شرعي خاص، لم يكن معروفاً -والله أعلم- وقد يكون معروفاً عند الأمم الكتابية السابقة؛ لأن الصيام ليس خاصاً بهذه الأمة، لقول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، لكن من غير العرب، والآن مفهوم الكلمة بلغة العرب، فهذه الكلمة أصبحت في مصطلح الشرع دلالة على: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية.

الإمساك عن المفطرات بغض النظر عن الدخول في المفطرات؛ لأنه سوف يأتي تفصيلها، فمما أجمع عليه من المفطرات مثلاً: الأكل والشرب والجماع؛ لأنها مذكورة في قوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، فهذه المفطرات الثلاثة كمثال، فالمقصود الإمساك: التوقف عن المفطرات كالأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس كما في الآية الكريمة.

ثم قلنا: بنية التقرب أو بنية التعبد؛ لأن هذا الإمساك قد يكون بغير نية فلا يكون صياماً شرعياً ولا أجر فيه، مثل من لم يجد طعاماً، أو من كان مثلاً نائماً بغير نية أو ما أشبه ذلك، فإنما يطلق الصيام على الإمساك بنية التعبد أو التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

وأقوال الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم كلها تدور حول هذا المعنى، وإن اختلفت عباراتهم.

والصيام ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الصيام الواجب، وهو ثلاثة أشياء:

منه ما هو واجب بالوقت أو بالزمن، وذلك يتمثل في صيام شهر رمضان، فإنه واجب بالوقت.

ومنه ما هو واجب بعلة أو سبب، وذلك مثل صيام الكفارات، والصيام موجود في معظم الكفارات أو كلها، مثل كفارة الظهار: صيام شهرين متتابعين، كفارة اليمين: صيام ثلاثة أيام، كفارة القتل، الفدية في الإحرام، الجماع في نهار رمضان.

فالمقصود إذاً: أن الصيام يكون واجباً حين يكون واحداً من خصال الكفارة المذكورة.

القسم الثالث من الصيام الواجب هو صيام النذر: وهو ما أوجبه الإنسان على نفسه من غير أن يكون واجباً عليه في أصل الشرع، مثل لو نذر الإنسان أن يصوم لله شهراً أو يوماً أو ما أشبه ذلك، فيجب عليه الوفاء بنذره: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه )، هذه أقسام الصيام الواجب.

القسم الثاني من الصيام هو صيام التطوع أو صيام النفل وبابه واسع، مثل أيام البيض، أو ثلاثة أيام من كل شهر، صيام عاشوراء، الإثنين والخميس، صيام عرفة، الست من شوال، صيام شعبان، صيام النفل أيضاً سيأتي له حديث خاص.

أما الصيام الفرض فأوله كما ذكرنا صيام شهر رمضان واجب للزمان أو للوقت وهو ما سنتحدث عنه في هذا الوقت.

والقضاء تابع للأداء، إن كان قضاء نفل فهو نفل، وإن كان تابع لقضاء فرض فهو فرض.

بالنسبة لرمضان أولاً من حيث الاسم اشتقاقه قيل: لأنه يرمض الذنوب ويزيلها، وقيل: اشتقاقه لأنه يوافق وقت الحر وقت الرمضاء، ولعل هذا أقرب؛ لأن اسمه رمضان حتى قبل الإسلام، والله أعلم.

فيكون اشتقاقه من الرمضاء؛ لأنه يوافق غالب الوقت، أو أن جزءاً من الوقت يوافق وقت الحر والرمضاء.

الجمهور على أنه من الممكن أن يسمى رمضان ومن الممكن أن يسمى شهر رمضان، يعني: ممكن تقول: شهر رمضان أو تقول: رمضان بدون شهر، لا إشكال في هذا، هذا مذهب الجمهور.

وقد ورد في السنة كثيراً: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال ) مثلاً، وكثيراً في السنة جاء ذكر رمضان من غير أن يكون مربوطاً بكلمة الشهر، ولذلك فالأئمة الأربعة وجمهور العلماء على أنه يمكن أن تقول: رمضان، ويمكن أن تقول: شهر رمضان، والبخاري بوب على هذا في صحيحه إشارة إلى أن هذا جائز ولم يثبت فيه شيء، يعني: باب من قال رمضان أو نحو هذا.

القول الثاني: نقل عن بعض السلف كـمجاهد والحسن أنهم كانوا يرون أنه لا يصلح أن تقول: رمضان، لابد أن تقول: شهر رمضان، لماذا؟ قالوا: لأن رمضان اسم من أسماء الله تبارك وتعالى، واستدلوا لهذا بحديث رواه البيهقي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله )، وهذا الحديث الذي ذكره البيهقي ضعيف، بل شديد الضعف في سنده أبو معشر نجيح السندي ضعيف، وقد حكم جماعة من أهل العلم على الحديث بأنه موضوع أيضاً، ومع ضعفه كما ذكرنا فهو منكر المتن مخالف للأحاديث الواردة في ذكر رمضان من غير أن تكون مضافة إلى الشهر.

وأيضاً مما يؤكد نكارة متن الحديث وروده في السنة، وأيضاً: أن رمضان ليس من أسماء الله تعالى، وحكى بعضهم الاتفاق على أن رمضان ليس من أسماء الله، ولهذا لو سمى أحد الله تبارك وتعالى برمضان لأنكر عليه ذلك لعدم ورود ذلك؛ ولا ثبوته، ولم يأت في القرآن ولا في سنة صحيحة، ولا قال أحد من أهل العلم بهذا المعنى فيما هو معروف.

فنقول أيضاً مما يؤكد نكارة الحديث: أنه ذكر أن رمضان من أسماء الله، وهذا ليس بصحيح ولا ثابت، إذاً: سواءً قلت: رمضان، أو قلت: شهر رمضان، فالأمر في ذلك سيان.

متى فرض صيام رمضان؟

فرض صوم شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وصام النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسعة رمضانات، وقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن فرضية رمضان كانت في السنة الثانية، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام صام تسعة رمضانات.

أدلة وجوب صوم رمضان من القرآن

صوم شهر رمضان ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب ففي سورة البقرة قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] وكلمة (كتب) معناها: فرض وأوجب، فهي نص في وجوب الصيام على الذين آمنوا، كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، يعني: من أهل الكتب السماوية والديانات السماوية السابقة، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:183-184]، فكون الله سبحانه وتعالى جعل البديل للمريض والعاجز عدة من أيام أخر هو دليل آخر أيضاً على الفرضية والوجوب، ولهذا لم يسقط إلا إلى بدل.

وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، وكان هذا في أول الإسلام، كان من ترك الصيام يفتدي بطعام مسكين، وقال ابن عباس رضي الله عنه: [ إن هذه الآية خاصة بالشيخ الفاني والعجوز المسنة الذين يشق عليهم الصيام ]، ولذلك في بعض القراءات: (وعلى الذين يطوقونه) يعني: يستطيعونه ولكن بشيء من المشقة، عليهم فدية طعام مسكين، وبناءً على هذا القول ستكون الآية محكمة غير منسوخة لكنها خاصة في حق الشيخ الكبير والعجوز ومن في مثل حالهم، مثل من؟ مثل المريض الذي مرضه لا يرجى برؤه ولا يقدر على الصيام أو يشق عليه، فمثل هؤلاء يفتدون عن الصيام بطعام مسكين.

ثم قال في الآية الأخرى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، فبين أن الشهر الذي يجب صيامه شهر محدد وهو شهر رمضان، وقد أجمع العرب وأجمع المسلمون وأجمعت الأمة على أن شهر رمضان هو الشهر رقم كم؟ هو الشهر التاسع إذا كانت بداية الشهر من المحرم، وهو الذي يكون محصوراً بين شعبان وشوال، فهو بعد شعبان وقبل شوال، هذا هو شهر رمضان.

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، وهذا أيضاً أمر والأمر يقتضي الوجوب: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

فهذه الآية بمفرداتها المتعددة نص قطعي في الدلالة على وجوب صيام شهر رمضان على المسلم القادر المستطيع.

أدلة وجوب صوم رمضان من السنة النبوية

أما السنة النبوية فقد جاء في هذا أحاديث كثيرة جداً، منها على سبيل المثال: حديث ابن عمر المتفق عليه: ( بني الإسلام على خمس )، وذكر منها صوم رمضان والحج.

ومنها أيضاً: حديث جبريل المشهور الذي جاء عن أبي هريرة وعمر وغيرهم في تعليم الإسلام وأنه سأله عن الإسلام وذكر له من ضمن أركان الإسلام صيام رمضان.

ومنها أيضاً: قصة ضمام بن ثعلبة من حديث طلحة بن عبيد الله وأنس وغيرهم وهي في الصحيح، أنه سأله أن الله افترض علينا صوم رمضان؟ ( قال: نعم. قال: هل علي غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع ) إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة جداً والتي بسطها أهل العلم في مواضعها الدالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم صام رمضان وأمر المسلمين بصيامه وعلمهم وتواتر هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم تواتراً قطعياً واضحاً لا إشكال فيه.

الإجماع على وجوب صيام رمضان

ولذلك أجمع العلماء على وجوب صيام شهر رمضان، وأنه أحد أركان الإسلام، ولذلك أيضاً نقول: من أنكر أو جحد وجوب صيام رمضان فهو كافر، إلا أن يكون جاهلاً حديث عهد بإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة ولم يتعرف، فهذا يعرف ويبين له، فإن أصر بعد ذلك فإنه يكون كافراً، ولهذا لو قال أحد مثلاً: إن صيام رمضان كان في ظروف خاصة وأوضاع خاصة والآن هناك فرص أن الإنسان يمكن أن يكون له مثلاً ريجيم خاص فيما يتعلق بالطعام والغذاء، ومن الممكن أن يقوم بأعمال معينة فيما يتعلق بالتربية أو بالمجاهدة الروحية، وأن هذا يكفي عن الصيام لكان هذا القول ردة عن الإسلام وخروجاً من ربقته، وإنكاراً لما هو متواتر قطعي معلوم من الدين بالضرورة، فهذا ما يتعلق بوجوب الصيام.

صوم شهر رمضان ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب ففي سورة البقرة قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] وكلمة (كتب) معناها: فرض وأوجب، فهي نص في وجوب الصيام على الذين آمنوا، كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، يعني: من أهل الكتب السماوية والديانات السماوية السابقة، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:183-184]، فكون الله سبحانه وتعالى جعل البديل للمريض والعاجز عدة من أيام أخر هو دليل آخر أيضاً على الفرضية والوجوب، ولهذا لم يسقط إلا إلى بدل.

وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، وكان هذا في أول الإسلام، كان من ترك الصيام يفتدي بطعام مسكين، وقال ابن عباس رضي الله عنه: [ إن هذه الآية خاصة بالشيخ الفاني والعجوز المسنة الذين يشق عليهم الصيام ]، ولذلك في بعض القراءات: (وعلى الذين يطوقونه) يعني: يستطيعونه ولكن بشيء من المشقة، عليهم فدية طعام مسكين، وبناءً على هذا القول ستكون الآية محكمة غير منسوخة لكنها خاصة في حق الشيخ الكبير والعجوز ومن في مثل حالهم، مثل من؟ مثل المريض الذي مرضه لا يرجى برؤه ولا يقدر على الصيام أو يشق عليه، فمثل هؤلاء يفتدون عن الصيام بطعام مسكين.

ثم قال في الآية الأخرى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، فبين أن الشهر الذي يجب صيامه شهر محدد وهو شهر رمضان، وقد أجمع العرب وأجمع المسلمون وأجمعت الأمة على أن شهر رمضان هو الشهر رقم كم؟ هو الشهر التاسع إذا كانت بداية الشهر من المحرم، وهو الذي يكون محصوراً بين شعبان وشوال، فهو بعد شعبان وقبل شوال، هذا هو شهر رمضان.

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، وهذا أيضاً أمر والأمر يقتضي الوجوب: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

فهذه الآية بمفرداتها المتعددة نص قطعي في الدلالة على وجوب صيام شهر رمضان على المسلم القادر المستطيع.

أما السنة النبوية فقد جاء في هذا أحاديث كثيرة جداً، منها على سبيل المثال: حديث ابن عمر المتفق عليه: ( بني الإسلام على خمس )، وذكر منها صوم رمضان والحج.

ومنها أيضاً: حديث جبريل المشهور الذي جاء عن أبي هريرة وعمر وغيرهم في تعليم الإسلام وأنه سأله عن الإسلام وذكر له من ضمن أركان الإسلام صيام رمضان.

ومنها أيضاً: قصة ضمام بن ثعلبة من حديث طلحة بن عبيد الله وأنس وغيرهم وهي في الصحيح، أنه سأله أن الله افترض علينا صوم رمضان؟ ( قال: نعم. قال: هل علي غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع ) إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة جداً والتي بسطها أهل العلم في مواضعها الدالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم صام رمضان وأمر المسلمين بصيامه وعلمهم وتواتر هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم تواتراً قطعياً واضحاً لا إشكال فيه.

ولذلك أجمع العلماء على وجوب صيام شهر رمضان، وأنه أحد أركان الإسلام، ولذلك أيضاً نقول: من أنكر أو جحد وجوب صيام رمضان فهو كافر، إلا أن يكون جاهلاً حديث عهد بإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة ولم يتعرف، فهذا يعرف ويبين له، فإن أصر بعد ذلك فإنه يكون كافراً، ولهذا لو قال أحد مثلاً: إن صيام رمضان كان في ظروف خاصة وأوضاع خاصة والآن هناك فرص أن الإنسان يمكن أن يكون له مثلاً ريجيم خاص فيما يتعلق بالطعام والغذاء، ومن الممكن أن يقوم بأعمال معينة فيما يتعلق بالتربية أو بالمجاهدة الروحية، وأن هذا يكفي عن الصيام لكان هذا القول ردة عن الإسلام وخروجاً من ربقته، وإنكاراً لما هو متواتر قطعي معلوم من الدين بالضرورة، فهذا ما يتعلق بوجوب الصيام.

شرعية الصيام إنما كانت لحكم عظيمة جداً، وربما ندرك قليلاً منها ويخفى علينا أكثرها، فمن الحكم العظيمة في شرعية الصيام:

تحقيق معنى العبودية والاستسلام لله تعالى

تحقيق معنى العبودية لله تبارك وتعالى والاستسلام له، ولهذا كان الصيام أحد أركان الإسلام بالاتفاق كما ذكرنا، فالإسلام لا يتم إلا بالصيام، والصيام فيه تدريب العبد على الطاعة والامتثال وتذكيره بأنه عبد، لكن عبد لله تبارك وتعالى لا لغيره، ولهذا الله سبحانه وتعالى يأمرك في وقت بأن تأكل حتى لو صمت لكنت عاصياً كما في حالة العيد مثلاً أو الوصال، وفي أحوال أخرى يأمرك الله سبحانه وتعالى بالصوم حتى لو أفطرت لكنت عاصياً، وهكذا تجد هذا يتحقق أيضاً في الإحرام أن العبد في الإحرام يمنع من أشياء ويؤمر بها في غيره، يتحقق فيه أشياء كثيرة، يتذكر بها العبد أبداً أنه عبد لله تبارك وتعالى، يأتمر بأمره ويقف عند حده، وهذا المعنى عظيم لو أن الناس أدركوه وعملوا به وتفطنوا له في عباداتهم لكان أثره ليس مقصوراً على الأركان المعروفة، بل جعل المسلم في أحواله كلها مثل الجندي الملتزم الذي يده على الزناد وواقف مستعد إذا أمر أن يقدم أقدم وإذا أمر أن يحجم أحجم، وإذا أمر أن يلتفت هاهنا أو هاهنا، وهذا المعنى العظيم -معنى العبودية لله تبارك وتعالى- من أعظم مقاصد الصوم ومقاصد العبادات، وكثير من المسلمين يخلون بهذا المعنى، قد يلتزمون ببعض العبادات، لكن فقدت روحها عندهم فأصبحت لا تؤثر فيهم الأثر المطلوب في تحقيق معنى العبودية لله تبارك وتعالى.

الصوم يربي على التقوى

من معاني الصيام وآثاره وأسراره العظيمة: أنه يربي العبد على التقوى، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]؛ لأن الإنسان إذا كان صائماً فرضاً أو نفلاً تذكر أنه لا يشرب.. لا يأكل -مع أن هذه الأشياء في الأصل مباحة له- لماذا؟ لأنه مرتبط مع الله سبحانه وتعالى بوعد، ممسك ابتغاء ثواب الله.

فحينئذٍ من باب أولى أنه سيكف عن المعاصي التي يعرف أنها محرمة في كل الظروف، وهذا المعنى -أيضاً- لو عقل المسلم معنى الصيام وسره أنه كيف يمسك عن الطعام والشراب وهما مباحان في الأصل ثم يقبل مثلاً على الغيبة أو النميمة أو قول الزور أو شهادة الزور أو غير ذلك، ولهذا جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه: ( من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )، فالذي ترك قول الزور وترك العمل به، هل لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه؟ الله ليس له حاجة بنا، إذاً: ما معنى الحديث؟ معنى الحديث: كأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله تعالى لم يشرع الصيام لحاجة إليكم أن تدعوا طعامكم وشرابكم، وإنما شرع الصيام من أجل أن تتدربوا على ترك قول الزور وترك العمل به، فإذا لم تتركوا قول الزور ولم تتركوا العمل به فأي معنى لصيامكم، الله ليس له حاجة أصلاً، وإنما شرع من أن تتركوا قول الزور وتتركوا العمل بالزور، فإذا لم يحدث الصيام فيكم هذا المعنى، فصيامكم حينئذٍ غير ذي جدوى لهذه العلة، هذا المعنى إذا تأملته تجده ظاهراً وجيداً.

فالصوم يربي الإنسان على التقوى وترك المحرمات كلها من الغيبة، والنميمة، والفحش، والكذب، والبهتان وغيرها من الأخلاق السيئة الرديئة المدمرة للفرد وللمجتمع.

الصوم يربي على الصبر وقوة الإرادة

الصوم -أيضاً- يربي الإنسان على قوة الإرادة وعلى الصبر؛ ولهذا فإن من أسماء الصوم الصبر؛ ولذلك سمي شهر رمضان شهر الصبر، بل في قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] قال بعض المفسرين: المقصود بالصبر هاهنا الصوم، يعني: استعينوا بالصوم والصلاة ؛ وذلك لأن الصوم يربي في الإنسان ملكة الصبر وقوة الإرادة، وكثير من الناس يحتاجون تماماً ودائماً إلى تقوية إرادتهم.

والعلماء الذين يتكلمون في العصر الحاضر عن النجاح وسر النجاح، يقولون: إن النجاح يفتقر إلى ثلاثة أشياء:

الأمر الأول: الرغبة، وهذه موجودة عند كل أحد، كل إنسان يود أن يكون قوياً وأن يكون ناجحاً وأن يكون موفقاً وأن يكون غنياً إلى غير ذلك، فالرغبة في حد ذاتها موجودة عند كل الناس.

الأمر الثاني الذي يفتقر إليه النجاح: القوة أو القدرة، وهذه توجد عند أكثر الناس، فأكثر الناس عنده عقل لو استخدمه لنجح، عنده جسم لو استخدمه لنجح، عنده إمكانيات لو وظفها لنجح.

الأمر الثالث: الإرادة، فالإرادة لا توجد إلا عند الناجحين الذين استطاعوا أن يحققوا هذه الرغبات من خلال استخدام القوة الموجودة لديهم، فتقوية إرادة الإنسان من أعظم أسباب النجاح للإنسان في دنياه وفي آخرته، والصوم يقوي الإرادة ويربي الإنسان على تحمل المشاق في أمور الحياة كلها.

الصوم يربي على قمع الشهوة

الأمر الرابع من آثار الصوم: قمع الشهوة؛ ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الصوم يمنع من اندفاع الإنسان إلى الشهوات، وربط بعض أهل العلم هذا الحديث بالحديث الآخر المتفق عليه أيضاً، وهو قول النبي صلى الله وعليه وآله وسلم: ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم )، في قصة المرأة.

جاء في الحديث: ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) وجاء فيه زيادة: ( فضيقوا مجاريه بالصوم )، وهذه الزيادة باطلة ليس لها أصل، ولا تعرف في شيء من كتب الحديث.

فالصوم يقمع الشهوة، وقد يكون قمع الصيام بالشهوة بأن يضيق المجاري كما يقول بعض العلماء، وقد يكون -وهو الأقرب- أن قمع الصوم للشهوة يكون من خلال تلبس الإنسان بعبادة معينة وارتباطه بها، فهذا يمنعه من الاندفاع إلى النظر الحرام مثلاً، أو يمنعه من الوقوع فيما حرم الله.

أثر الصوم على البدن

هناك الآثار النفسية والبدنية وهذا كثير جداً، يعني: مثلاً قد يتكلم بعض الأطباء عن الصيام وأثره على البدن وتنظيم الطعام، وأنه نوع من الحمية، وقد يوصي به بعض أهل الطب، لاشك أن المسلم يعتبر هذه الأشياء من الفوائد التابعة كما قد يقال مثل هذا عن الصلاة أو عن الحج أو غيرها، لكن المسلم في الأصل إنما يمتثل هذه الأشياء تعبداً لله تعالى وطاعة حتى لو لم يكن لها فائدة على بدنه، بل لو كان في العبادة ضرر على البدن لكان على الإنسان أن يفعلها، والله سبحانه وتعالى لا يأمرنا بما فيه ضرر، إلا في حالة واحدة إذا كان يقابله نفع أعظم منه.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3985 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3925 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3853 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3844 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3671 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3623 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3612 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3549 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3515 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3443 استماع