أرشيف المقالات

أحوال السلف في أقوالهم وأفعالهم - خالد بن علي المشيقح

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه.

عباد الله: لقد كان سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم رضي الله عنهم يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم في القول والعمل عملاً لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].

لقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى متبعين للنبي صلى الله عليه وسلم بأعمالهم وأقوالهم وداعين لذلك، تربوا على هدي القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت أقوالهم قواعد وضوابط في العبادة والتربية والسلوك، وهذه جملة من أقوالهم وأعمالهم وهديهم.

ففي مجال الإخلاص :

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه» (رواه أبو داود).

قال محمد ابن الحنفية رحمه الله تعالى: "كل ما لا يبتغى به وجه الله يضمحل".

وقال عبد الواحد ابن زيد رحمه الله تعالى: "الإجابة مقرونة بالإخلاص، لا فرقة بينهما".
أي: إجابة الدعاء .

وقال محمد ابن واسع رحمه الله: "لقد أدركت رجالاً يكون رأس أحدهم مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خذه من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خذه ولا يشعر به الذي إلى جنبه".

وقال أبو التياح يزيد بن حميد رحمه الله: "لقد كان الرجل يقرأ عشرين سنة ما يعلم به جيرانه".

وقال سفيان الثوري رحمه الله: "كانوا يتعلمون النية كما يتعلمون العلم ".

أي يتعلمون الإخلاص وإرادة به وجه الله كما يتعلمون علم العبادات والمعاملات.

فالإخلاص مطلب عزيز لا يناله إلا الذين آمنوا بالله ورسوله حقا.

أما ما يتعلق بالصلاة:

فقد مكث سعيد ابن المسيب رحمه الله تعالى أربعين سنة ما أذن المؤذن إلا وهو في المسجد.

وكان عبد الله ابن الزبير رضي الله عنهما إذا صف للصلاة كأنه عود من الخشوع .

وكان زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله لا يترك صلاة الليل لا سفراً ولا حضراً.

ولما رأى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما -كما في صحيح البخاري - النار ، وذكر ذلك لحفصة فذكرتها حفصة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نِعم الرجل عبد الله؛ لو كان يقوم من الليل»، قال سالم ابنه: "فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً".

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إذا لم تقدر على قيام الله وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك".

وأما ما يتعلق بالذكر:

فقد قال الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

قال ميمون بن سياه البصري: "إذا أراد الله بعبده خيراً حبب إليه ذكره".

وقال محمد بن علي بن الحسين: "إن الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن، ولا تصيب الذاكر لله عز وجل".

أما في مجال الصدقة والإحسان إلى المحتاجين:

فلما نزل قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَْ} [آلِ عمران من الآية:92]، جاء أبو طلحة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم وذكر له أن أحب أمواله إليه بيرحاء، فقال: "اجعلها يا رسول الله حيث أراك الله"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخٍ بخٍ! ذلك مال رابح أو رائح، أرى أن تقسمها في الأقربين» فقسمها أبو طلحة في بني عمه.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهراً أو جمعة أو ما شاء الله أحب إليّ من حجة بعد حجة".

ودخل علي بن الحسين على محمد ابن أسامة بن زيد رضي الله عنهم جميعاً في مرضه فجعل محمد يبكي فقال علي: "ما شأنك"؟ قال: "علي دين"، قال: "كم هو"؟ قال: "خمسة عشرة ألف دينار"، قال: "هو عليَّ".

ولقد كان ناس من المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين رحمه الله فقدوا ما كانوا يؤتون به من الليل.

وكان عروة بن الزبير رحمه الله إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه فيدخل الناس فيأكلون ويحملون، وكان إذا دخله ردد هذه الآية: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف من الآية:39].

وأما في مجال عشرة الزوجة والإحسان إليها:

فقد قال الإمام أحمد: "تزوجت أم صالح فمكثت معي ثلاثين سنة لم أختلف أنا وهي في كلمة واحدة".

وأما ما يتعلق بالنزاهة والورع:

فقدم سليمان بن عبد الملك وكان الخليفة قدم على المدينة فصلى بالناس الظهر ثم فتح باب المقصورة فنظر إلى صفوان بن سليم من غير معرفة، فقال لعمر بن عبد العزيز: "من هذا الرجل؟ ما ترأيت سمة أحسن منه"، فقال: "يا أمير المؤمنين هذا صفوان بن سليم"، فقال لخادمه: "خذ هذا الكيس فيه خمسمائة دينار ادفعها إلى ذلك الرجل القائم يصلي"، وخرج الغلام بالكيس حتى جلس إلى صفوان فلما نظر إليه صفوان ركع وسجد ثم سلم وأقبل عليه فقال: "ما حاجتك"؟ قال: "أمرني أمير المؤمنين أن أدفع إليك هذا الكيس وفيه خمسمائة دينار"، فقال صفوان: "ليس أنا الذي أرسلت إليه فاذهب فاستثبت، فولى الغلام ثم أخذ صفوان نعله وخرج ولم يرى حتى خرج سليمان من المدينة.

وأما في مجال حسن الظن بالمسلمين:

فقال جعفر بن محمد رحمه الله: "إذا بلغك عن أخيك ما تكره فاطلب له من عذر إلى سبعين عذراً، فإن لم تجد فقل: لعل له عذراً لا أعرفه".

وأما في مجال التغافل وطلب السلامة:

فقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "السلامة تسعة أعشارها في التغافل".

وكان محمد بن سيرين إذا ذكروا عنده أحد بسوء يذكره هو بالخير.

وجاء رجل إلى وهب ابن منبه رحمه الله فقال: "مررت بفلان وهو يشتمك"، فغضب وهب وقال: "ما لقي الشيطان رسولاً غيرك".

وقال الشافعي رحمه الله تعالى: "من أحب أن يقضى له بالحسنى فليحسن بالناس الظن".

وفي مجال قبول الحق:

قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ما أوردت الحق على أحد فقبله إلا هبته ولا كابرني أحد على الحق إلا سقط من عيني".

وكان يقول: "ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد".

وفي مجال العمل وترك الجدال:

قال ابن المبارك رحمه الله تعالى: "إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل".

وفي حسن الاستماع:

كان عطاء بن رباح رحمه الله إذا حدثه أحد بحديث وهو يعلمه يصغي إليه كأنه ما سمعه قط لئلا يخجل المتحدث.

وأما ما يتعلق بالصمت:

فقال أهيب بن الورد رحمه الله تعالى: "الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت".

وقال أيضاً: "إن العبد ليصمت فيجتمع له لبه".

وقال بعض السلف: "الصمت عبادة من غير عناء، وزينة من غير حلي، وهيبة من غير سلطان، وحصن من غير سور، وراحة للكاتبين من غير تعب، وغنية عن الاعتذار".

وفي مجال فتنة النساء :

قال سعيد ابن المسيب رحمه الله: "ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء".

وقال أيضاً وقد بلغ الرابعة والثمانين من عمره وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشوا بالأخرى قال لبعض أصحابه: "ما من شيء أخوف عندي من النساء".

وفي مجال بر الوالدين :

كان محمد بن سيرين رحمه الله تعالى إذا كلم أمه لا يكلمها بلسانه كله إجلالاً لها.

وجعل بعض السلف حد البصر إلى الوالد من العقوق.

ورأى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلاً يطوف بأمه وقد حملها على عاتقه فقال: "هل قضيت شيئاً من برها؟" فقال ابن عمر: "لا".

وفي مجال ترك الغيبة :

قال الحسن البصري رحمه الله: "والله للغيبة أسرع فساداً في دين العبد من الأكلة في الجسد".

وقال أيضاً: "إذا رأيت الرجل يشتغل بعيوب غيره ويترك عيوب نفسه فاعلم أنه قد مكره به".

وقال بعض السلف: "ما اغتبته أحداً منذ عرفت الغيبة".

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير الذاكرين وقدوة العالمين، صلى الله عليه وعلى أصحابه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله تقبل أعمالكم وتغفر ذنوبكم وتيسر أموركم.

لقد كان السلف الصالح رحمهم الله على بينة من أمرهم.

ففي مجال ضبط العمل وأكل الحلال:

قال أهيب ابن الوردي رحمه الله: "لا يكون هم أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه وتحسينه، فإن العبد قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه، ولو قمت قيام هذه السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلال أم حرام".

وجاء غلام أبي بكر رضي الله تعالى، فجاءه بلبن فشرب أبو بكر رضي الله عنه هذا اللبن، ثم من بعد ذلك أخبره غلامه أنه ثمن كهانة تكهن بها وهو لا يحسن الكهانة فأدخل أبو بكر رضي الله تعالى يده في فمه فقاء كل ما في بطنه، وقال: "لو لم تخرج إلا مع خروج روحي لأخرجتها، اللهم إني اعتذر إليك ما حملت إليك العروق والأمعاء".

وفي مجال البعد عن المتشابه:

قال ابن المبارك رحمه الله تعالى: "لأن أرد درهماً من شبهة أحب إليّ من أن أتصدق بستمائة ألف".

وأما ما يتعلق بالتعليم والفتيا:

فقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "ما ينبغي للرجل أن يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه".

وفي لزوم الطاعة وترك المعصية:

قال سعيد ابن المسيب رحمه الله تعالى: "ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله".

وقال سفيان ابن عيينة رحمه الله: "لم يجتهد أحد قط اجتهاداً ولم يتعبد أحد عبادة بأفضل من ترك ما نهى الله عنه".

وقالت عائشة رضي الله عنها: "إنكم لن تلقوا الله بشي خير لكم من قلة الذنوب ".

وأما فيما يتعلق بالخوف من الله تعالى:

فقال ابن أبي مليكة: "أدركت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه".

وكان عمر رضي الله عنه يسأل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "هل ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من ذكر من المنافقين؟".

أما فيما يتعلق بالاستعداد للآخرة:

فقال مسروق بن عبد الرحمن: "إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره".

وقال أبو حمزة: "رأيت صفوان ابن سليم رحمه الله ولو قيل له: غداً يوم القيامة ، ما كان عنده مزيد على ما كان عليه".

وقال أبو حازم رحمه الله تعالى: "ما أحببت أن يكون معك في الآخرة فقدمه اليوم، وما كرهت أن يكون معك في الآخرة فتركه اليوم".

أسأل الله تعالى أن يحيي قلوبنا بذكره، وأن يوزعنا أن نشكر نعمته.
 

 

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١