(28) سكّيرٌ في المسجد - مسلكيات - جمال الباشا
مدة
قراءة المادة :
3 دقائق
.
في ليلةٍ ماطرةٍ قضاها مع صاحبه في الحانَةِ خرج يتلمسُ طريقَهُ إلى بيته وهو يترنّحُ في أزقَّةِ بغدادَ القديمة، في عصر ما قبل التلفاز، وقد فتحَت بيوتُ الله أبوابَها بعد النداء لصلاة الفجر .. توقَّفَ فجأةً أمامَ مسجدِ الحيّ القديم وقال لصاحبه: انتظرني حتى أدخلَ دورةَ المياه في المسجد ثم نتابعُ طريقنا.
جلس صاحبُه منتظرًا خارجَ المسجد، ولكن مضى وقتٌ أطولَ مما ينبغي والرجلُ في الداخل لم يخرج.
بدأ الخوفُ والقلقُ يتسللان إلى نفسه، فاندفعَ نحو باحة المسجد الصغير الذي لم يدخله في حياته قطُّ ليرى المفاجأة!!
صاحبُه الثَّمِلُ متربّعٌ تحتَ النافذة قد جمعَ ركبتيه بيديه إلى صدره، وأكبَّ رأسَه على يديه، وصوتٌ رخيمٌ عذبٌ يترنَّمُ بالقرآن وبأوزانِ المقام العراقيّ الحزين ينسابُ من النافذةِ إلى باحة المسجد، حيثُ الصمتُ والسكونُ الذي لا يقطعُهُ إلا صوتُ زخاتِ المطر المتفرقة.
قال مندهشًا: فلان!! ماذا دهاك يا رجل؟! أتجلسُ هنا وتتركني أنتظرُ في الخارج كلَّ هذا الوقت ؟!
فيرفعُ رأسَه وإذا بالدموع قد ملأت قسَمات وجهه، ويقولُ بصوتٍ خاشعٍ متكسّرٍ تخنقُه العبرة: تعالَ يا مسكينُ واجلس إلى جانبي واستمِع ماذا أنزلَ اللهُ على نبيّه، والله لقد وقفَت كلُّ شعرةٍ في جلدي.
يا اللهُ..
لله درُّك أيها الإمامُ القارئُ الصادقُ، قد آتاك اللهُ مزمارًا من مزامير آل داوود فرُحتَ تغرّدُ به وتجتذبُ إليه قلوبَ العصاة، وتأسرُها لديك، فيكون إيقاعُ الآيات مترجَمَ المعاني في تذوّقِ السامعين، فتجدُ النفوسُ الحائرةُ ضالتها، وتقضي العيونُ اليَبسَةُ وطرَها، وتروي القلوب ُ القاسيةُ ظمأها، فيحدوها الحنينُ إلى المعاودَةِ المرَّةَ بعد المرَّة لتحيا وتنتشي بما تلذُّ من السماع.
لم أدرك ذلك الإمامَ الأعجوبة، الشيخَ الكفيفَ الحافظ البارعَ بالقراءات، ولكنَّ شيخي الذي حدَّثني بأخباره كان أحدَ روّادِ مسجده، وكان يقولُ لي: إنَّ هذا الرجُلَ قد أوتي مع جمال الصوت صفاءَ سريرةٍ فيعملُ هذا المزيجُ عمَلَه في السامعين، فما إن يفتتحَ الصلاةَ بـ( الحمد لله رب العالَمين) إلا وترى المدامعَ قد انهمَرت، والعبرات قد سُكِبَت، ويأخذنا في رحلةٍ تحلقُ فيها الأرواحُ بعيدًا، نشعرُ معها حقًا أننا في جنّةِ الدنيا ، وكانت لحظةُ التوقُّف عن التلاوةِ لحظةً يتمنَّى المصلون أن تتأخر وتتأخر!!
قلتُ لشيخي: وماذا عن ذلك السكير؟!
قال: والله ما خرجَ من المسجد إلا بعد أن اغتسلَ وصلى الفجر، وعاهدَ اللهَ على التوبة والاستقامة، وصارَ بعدَها من رواد المسجد.
إنَّه ليس التائبَ الوحيد، فهناك العشراتُ من العصاة اصطلحوا مع مولاهم بسبب تأثرهم بتلاوة الشيخ.
رحمك اللهُ ونوَّرَ قبرَكَ شيخي"نوري القاسم" فلطالما نوَّرتَني ببعض لطائفِ معرفتك، وأتحفتني ببعض محاسن تجربتك، وكان لذلك أثرٌ في تشكيلةِ ذاتي، وخواطِرِ ذكرياتي.
أنا لم أسمَع صوتَ ذلك الإمام الصالح بأذني، لكنك استطعتَ بحسن نقلك وصدق وصفك أن تسمعنيه بقلبي..
صدقًا، لقد سمعتُه، وهو يعيشُ بداخلي منذُ عرفتُك.
وداعًا شيخي..
ولعلَّ اللقاءَ بكم عن قريب.