أرشيف المقالات

ديدن السفهاء - مع القرآن - أبو الهيثم محمد درويش

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
ديدن السفاء محاولة التشويش على الأصل العام، و"التمحك" في أمور فرعية، والجدال الواسع حولها، وهي في الأصل محسومة أو لا تستحق هذا الجدل، ومحاولة إظهارها على أنها إخفاق للمؤمنين، أو غضب من الله عليهم، أو محاولة تشويه الدين نفسه من خلال الدندنة حول أمور قد تغيب عن جاهل، أو تلبس على ضعيف عقل، وما سفهاء اليوم وفضائياتهم من سفهاء الأمس ببعيد.
قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة142]
قال العلامة السعدي:
"قد اشتملت الآية الأولى على معجزة وتسلية، وتطمين قلوب المؤمنين، واعتراض وجوابه، من ثلاثة أوجه، وصفة المعترض، وصفة المسلم لحكم الله دينه.

فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس، وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم، بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن، وهم اليهود والنصارى، ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس، مدة مقامهم بمكة، ثم بعد الهجرة إلى المدينة، -نحو سنة ونصف- لما لله تعالى في ذلك من الحكم التي سيشير إلى بعضها، وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة، فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاء من الناس: {مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وهي استقبال بيت المقدس، أي: أيُّ شيء صرفهم عنه؟ 
وفي ذلك الاعتراض على حكم الله وشرعه، وفضله وإحسانه، فسلاهم، وأخبر بوقوعه، وأنه إنما يقع ممن اتصف بالسفه، قليل العقل، والحلم، والديانة، فلا تبالوا بهم، إذ قد علم مصدر هذا الكلام، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه، ولا يلقي له ذهنه، ودلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله، إلا سفيه جاهل معاند.. 
وأما الرشيد المؤمن العاقل فيتلقى أحكام ربه بالقبول، والانقياد والتسليم كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [ النساء من الآية:65]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور من الآية:51]، وقد كان في قوله {السُّفَهَاءُ} ما يغني عن رد قولهم، وعدم المبالاة به.
ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة، حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض، فقال تعالى: {قُلْ} لهم مجيبًا: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: فإذا كان المشرق والمغرب ملكا لله، ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه، ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملة أبيكم إبراهيم.. 
فلأي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله، لم تستقبلوا جهة ليست ملكًا له؟ فهذا يوجب التسليم لأمره، بمجرد ذلك، فكيف وهو من فضل الله عليكم، وهدايته وإحسانه، أن هداكم لذلك فالمعترض عليكم، معترض على فضل الله، حسدًا لكم وبغيًا.
ولما كان قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والمطلق يحمل على المقيد، فإن الهداية والضلال، لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله، وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية، التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة من الآية:16].

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢