تأصيل في النكت والقصص ونحوها
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
تأصيل في النكت والقصص ونحوهامورد الكذب اللغوي أعم من الشرعي، فيطلق في اللغة على مخالفة الواقع مطلقًا، في الماضي والمستقبل، عمدًا وخطأ، لضرورة أو لحاجة أو لمصلحة أو لغير ذلك، للواجب وللمحرم وللجائز، علم السامع له أو لم يعلم.
أما مورده الشرعي فهو المذموم منه، فيخرج منه المستقبل (كما في حديث البخاري عندما قال النبي لسعد بن عبادة: كذب سعد)، ويخرج منه الخطأ (كما في الأحاديث ودلالة العمومات)، ويخرج منه الضرورة، بل يجب فيها (كما في الحرب، والكذب على الطالب الظالم للمطلوب)، وللحاجة التي تنزل منزلة الضرورة فيجب، أو يستحب (كما في الصلح بين المتنازعين)، وللمصلحة المعتبرة فيقدر بقدرها (كما في إصلاح المرأة)، ومنه التعليم وضرب الأمثال والمزاح الجائز، ويخرج ما علم السامع أنه ليس صحيحًا، كحديث الخرافة والأعاجيب والقصص والأمثال، وفي حديث (حدثوا عن بني إسرائيل) إشارة لذلك، إذ لا تخلو قصصهم من الكذب غالبًا، فجعل المدار على المصلحة في الحكاية وعدم مخالفة الثابت في ديننا، ويدل عليه حديث (من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)، ولم يختلف العلماء في جواز ذكر الموضوع مبينا لحاله لمصلحة، فدل أن لفظ التحديث الغالب في السنة أنه: الإخبار عن شيء على سبيل الجزم بصحته، فيكون حديث الترمذي في التحريم إنما هو فيمن يحدث كاذبًا، فخرج به إن كان يعلم عدم صحة الخبر.
قال النووي: الكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، ولا يشترط فيه التعمد، لكن التعمد شرط في كونه إثمًا.
وحديث الترمذي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، مختلف فيه، وتحسين الترمذي له الغالب أنه تضعيف منه، ولو سلم فإنه لا متابع عليه، بل هو من مفاريد تلك الترجمة، وهذا إسناد أعرابي، ولو سلم من كل مطعن فمعناه تقدم بيان فقهه.
وهو معارض بحديث (الأرواح جنود مجندة)، وفي أصله قصة عن امرأة مكية مزَّاحة كانت تدخل على النساء لتضحكهن، ولم تنكر عليها عائشة، وكانت تدخل عليها.
وإسناده مثله سواء بسواء، ما لم يكن أقوى.
وأصله في الصحيحين.
وخرجه الحافظ في التغليق بزيادة (مكية بطالة)، مداره على عبد الله بن صالح كاتب الليث، احتج به البخاري، وهو لين يحسن في المتابعات.
ومعنى بطالة: لا ينفك من الاختلاق والتزيد واللهو عند النظر في مادته اللغوية.
ويراجع الكتاني في التراتيب الإدارة في باب: المضحكون والمضحكات في الزمن النبوي.
قال ابن حجر المكي:
"وَمِنْهُ يُؤْخَذُ حِلُّ سَمَاعِ الْأَعَاجِيبِ وَالْغَرَائِبِ مِنْ كُلٍّ مَا لَا يَتَيَقَّنُ كَذِبَهُ بِقَصْدِ الْفُرْجَةِ بَلْ وَمَا يَتَيَقَّنُ كَذِبَهُ لَكِنْ قَصَدَ بِهِ ضَرْبَ الْأَمْثَالِ وَالْمَوَاعِظِ وَتَعْلِيمَ نَحْوِ الشَّجَاعَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ آدَمِيِّينَ أَوْ حَيَوَانَاتٍ".
وقال: مقامات الحريري على صورة الكذب ظاهراً ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، وإنما هي من ضرب الأمثال وإبراز الطرق الغريبة والأسرار العجيبة والبديع الذي لم ينسج على منواله ولا خطر بفكر أديب فشكر الله سعي واضعها.
وعلق عليه ابن عابدين:
وذلك كمقامات الحريري، فإن الظاهر أن الحكايات التي فيها عن الحارث بن همام والسروجي لا أصل لها، وإنما أتى بها على هذا السياق العجيب لما لا يخفى على من يطالعها، وهل يدخل في ذلك مثل قصة عنترة والملك الظاهر وغيرهما، لكن هذا الذي ذكره إنما هو عن أصول الشافعية، وأما عندنا فسيأتي في الفروع عن المجتبى أن القصص المكروه أن يحدث الناس بما ليس له أصل معروف من أحاديث الأولين أو يزيد أو ينقص ليزين به قصصه إلخ فهل يقال عندنا بجوازه إذا قصد به ضرب الأمثال ونحوها يحرر.
وعمل العلماء وكتابتهم في أخبار الحمقى والمغفلين والظرفاء والبخلاء والثقلاء والأذكياء، وأخبار جحا، وأشعب، وغيرهما مما لا يرتبا أن أغلبه الأعم مجعول عليهما، وكتابتهم في الأمثال، وكتب النوادر والنتف، وكلها لا تخلو مما لا يرتاب في اختلاقه، واستقى كثيرا منها وبعض شواهدها الكتاني في التراتيب الإدارية.
والقصص الموهومة كما عند ابن القيم، وابن عقيل الحنبلي في الفنون، والسعدي في مناظرة طهارة المني.
ولا يقال أبيحت لغرض صحيح كالتعليم، بخلاف الطرف، لأن هذا محل النزاع، وإنما الشاهد تجويز القص والتخييل فيما لا حقيقة له لغرض صحيح، وما زاد على ذلك فمحل بحث آخر.
ونرى أن المزاح وإن خلا من موعظة وتعليم فهو من الترويح عن النفس، وهو جائز، أو مستحب، وقد يجب، ولو خلا عن كل مدح فهو جائز، وإن كان باطلا أو لهوا، فهذا منفك عن الحرمة، نعم، قد يكره أو يحرم إن فشا، أو أخل بالمروءة، ولكن هذا أجنبي عن أصل البحث، وليرجع لمقدمة المراح في المزاح للعامري الدمشقي، ومقدمة شرح الشريشي على مقامات الحريري.
وفتوى ابن تيمية عن حديث الترمذي في غير محل النزاع، لأنها فيمن يحكي القصص المفتعلة فأشبه القصاص، وليست فيمن يحكي الأمثال والقصص لمن يعلم أنها خيال.
وممن أفتى بالجواز (للنكت غير الواقعية) - عمومًا أو بضوابط - من المعاصرين: العثيمين، وابن جبرين، وسلمان العودة، وغيرهم.
• هذا فيما يتعلق بمسألة الكذب.
ويدخل المسألة جهات أخرى في مضامين القصص والنكات، قد تحرم لأجلها، وهذا موضوع طويل، أشرت إلى مجامعه في كلامي السابق.
والله أعلم.