إيمان العجائز
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
إيمانُ العَجَائِزرنَّ جرسُ الهاتف.
لم أتوقع أني سأسمع يومًا هذا الخبر.
مات أخي صاحب الأربع وثلاثين سَنَة.
ماتَ فجأة وبدون أي مقدمات.
لم يكن يعاني من مرض، ولم يصبْ في حادث.
إنما هو موتُ الفجأة.
لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجلٍ مسمَّى.
قلتُ لهم لا تخبروا أمي، إنَّها لن تحتمل، ستموتُ أمِّي لو علمتِ الخبر وسنموتُ معها.
يا إخوتي لا تتعجلوا، أنتم أدْرَى بِهَا، تعلمون مَدَى حبِّها لأولادِها، إنها تبكي لو مرض أحدُهم أو غابَ عنها بضعة أيامٍ أو شهور.
يكفيها ما تعانيه من آلامٍ وكُسُور.
تعلمون كيف كان أخي بارًّا بها ممازحًا لها، كيف نخبرها أنها لن تراهُ بعدَ اليوم، أنها ستُحْرَم من سماعِ صوتِه، ستُحْرَم من ضَحِكَاتِه وكلماتِه.
أخافُ أن تُفتَن في هذا الموقف، أخافُ ألا تثبُت عند هذه المصيبة، أخافُ على قلبِ أمِّي، هل سيرضى بحكم الله أم يسخط؟ أخاف على دينِها هل ستسترجعُ أم تصرخ؟
الآن أقتربُ منها، أتقدمُ نَحْوَها بخطواتٍ متأنية وعينٍ مُتَرَقِّبَة وقلبٍ مُشْفِق.
وكانت المفاجأة، دخلت عليها فوجدتُها صابرة محتسبة، عندما أتاها الخبر حَمِدَتْ واسْتَرجَعَتْ.
أحسستُ ببارقةِ أمل، واختلطت في نفسي مشاعرُ الحزنِ والفرح.
قلتُ: يا أمِّي، ألا تعلمي ماذا يقولُ اللهُ تعالى لملائِكَتِه إذا قبضوا روحَ ولدِ عبدِه أو أمَتِه؟
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولدُ العبدِ قال اللهُ تعالى لملائكتِه: قبضتُم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتُم ثمرةَ فؤادِه؟ فيقولون نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمِدَك واسترْجَع، فيقولُ اللهُ تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنَّةِ، وسمُّوه بيتَ الحمدِ"[1].
يا أمِّي اصبري واحتسبي، لا تضيعي بيتًا في الجنة.
إنما هي آجالٌ مضروبةٌ وأعمارٌ مكتوبة.
هذه إرادةُ اللهِ وحكمتُه، لا يكونُ في مُلْكِهِ إلا ما يريد، ألا تعلمي ماذا وَعَدَكِ اللهُ إن صبرتِ واحتسبتِ؟ قال الله عز وجل في الحديث القدسي: "ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ"[2].
لم أكن أتخيَّل أني سأسمع من أمِّي هذه الكلمات، قالت يا ابنتي: كلُّ شيءٍ بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه، قال ربُّنا سبحانه: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22].
وقال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"[3].
لقد ماتَ ولدِي في اليوم الذي قَدَّرَ اللهُ فيه موتَه، كنتُ كثيرًا ما أدعو له أن يجعلَ اللهُ له مخرجًا، لقد استجابَ اللهُ دعائِي فخرجَ من هذه الدنيا إلى رحمةِ اللهِ وجنتِه، أحْسَبُه كذلك، لقد أكرم الله ولدي وملأ بالرضا قلبي، لقد رزقه الله حسن خاتمة، مات مصليًا متهجدًا، داعيًا متصدِّقًا، صابرًا محتسبًا، قلت: نعم يا أمِّي هذه علامة حب، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا عَسَلَهُ، قِيلَ: وما عَسَلَهُ؟ قال: يَفتحُ لهُ عملًا صالِحًا قبلَ مَوتِه، ثمَّ يَقبِضُهُ عليهِ"[4].
ثم تأملتُ في نفسي، هذه أفعالٌه جلَّ جلالُه ابتلى وصبَّر، وأحكم ودَبَّر، اجتبى وأثاب ووعد حسن الثواب.
قبضَ روحَ عبدِه وربطَ على قلبِ أمِّه، لا يقدرُ على ذلك غيرُه، سبحانَه وبِحَمْدِه.
تأملتُ في حال أمي ليست طالبة علم ولا معلمة قرآن، ولكن حسبُها إيمانُها الراسخ ويقينُها بالله، مع ما معها من صلواتٍ وختمات وتسبيحاتٍ ودعوات.
فتذكرتُ قولَ هذا العالِم: "اللهم إيمانًا كإيمانِ العَجَائِز".
[1] صحيح الجامع (795)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ حديث حسن.
[2] صحيح البخاري (6424)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم (2653)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[4] صحيح الجامع (307)، من حديث أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه، أخرجه أحمد (17819)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (400) باختلاف يسير.