يقظة الشرق
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
للآنسة فلك طرزي
. في ليلة من الليالي الشديدة القمر، الغائبة النجم، القاتمة السواد، الشديدة الحلوكة، قام طيف يخترق وحشة الليل، يسير بخطوات هادئة يتحسس طريقه على الأرض الحزون، يضرب فيها أخماساً لأسداس، ممسكاً بيده قيثارة قد أوتارها من نياط قلبه، وأنامله تلاعب هذه الأوتار بعزف يكشف رويداً غشاوة ما كان راكداً في أعماق النفس، وراسباً في قرارة القلب، من ذكرى الماضي الحافل التي طواها الزمن، وكان يشدو معها بالغناء بصوت رقيق حنون، تسبح موجاته مع تموجات الأثير تهدهدها طياته، وينقلها الهواء من شاطئ إلى شاطئ، ومن ضفة إلى ضفة، حتى ملأ أجواء الشرق بنغماته، وعبقت منه رائحة الأبدية وعبير الأزل. أخذ الصوت يقول: تعالي إي قيثارتي نرتل لحناً نعيد به المجد البالي! تعالي نغرد أناشيد الصباح لعل الفجر يبدد الدجى! تعالي نتغنى بألحان السحر فتتحول الأرض القاحلة إلى حقول معشبة، والسهل الأجرد إلى سهول مخصبة! تعالي يا قيثارتي نوقظ النهار من غفلته والنفوس من نومها العميق! تعالي نرسل أنغامنا في سمج الدجى فتتحول السماء السوداء إلى قبة تسطع فيها النجوم وتتلألأ فيها الكواكب. ظل هذا الصوت يشدو، وهذه القيثارة تجيب، حتى تمزقت حواشي الليل، وآذنت ساعاته بالفناء، وإذا بالفجر يبدو مشرقا وضاحاً، وإذا بواكير الصباح تكشف عن نهار مشرق وضاح جميل، وما لبثت السماء حتى تقشعت عنها الغيوم وتبدد عنها السحاب، فبدت بلونها اللاوزردي الجميل، وتربعت الشمس على عرشها، وأشرقت من أفقها ساطعة بنورها الوهاج على الجبال والأودية، وهي مشتعلة متأججة، وأخذت أشعتها تتفرق في السهول وعادت إلى الأرض حياتها، وإلى الزهر رونقه وبهاؤه، وإلى الزرع اخضراره وجماله. فقالت الأزهار يخاطب بعضها بعضا: انظري يا أختاه إلى هذا النور المنبثق من السماء! انظري! ما هذا الضياء المشع؟ أليس هو نور (اليقظة) يسطع من سماء شرقنا المحبوب؟ وقالت الأشجار لبعضها: ألا تعلمين يا صديقتي أن أغصاننا كادت تتحول إلى أعواد يابسة يعصف بها الشتاء، لولا تلك النغمة المقدسة التي أرسلتها اليقظة من سماء مصر فأعادت لن أنفاسنا وحياتنا! وقال الفجر يخاطب الليل: أنت أيها الحسود كدت أن تمحي خطوطي الزاهية إلى الأبد، لولا (هذه الفتاة الحسناء) التي عادت فرسمتها برغم أنفك! فيالك من عدو ماكر وحسود خداع! وقالت الأطيار بعد أن عادت تغرد في الدوح: تعالوا نحلق في الفضاء ونرفرف بأجنحتنا فالجو صاف، والنسيم عليل، والعبير يعبق في جو الأفلاك! وقالت الأنهار: تعالوا نرو الأرض من مائنا السلسبيل ونطفئ ظمأها من ينابيعنا العذبة، تعالوا! تعالوا! أن غديرنا يبعث من خريره أناشيد ملؤها الغبطة والسرور! عندئذ نظرت النفوس إلى (يقظة الكون) وتأملت طلوع شمسها البهية، واشرق محيا الصباح الجميل فتنفست الصعداء وارتسمت على الوجوه ابتسامة سرور وانشراح وقالت: لك الحمد يا رب! أنت الذي نظرت إلينا بعين الرحمة، فما أطلت علينا ليلك، وما طالت علينا حلوكة الظلام الدامس! فها نحن أولاء نستيقظ من سباتنا العميق، ودم الحياة يتدفق منا قوياً حاراً، وثغورنا تبتسم لابتسام ثغر الأدب من بين شفتي هذه النهضة المباركة التي أنشأتها أقلام الأدباء، ونظمت لحنها عقول الشعراء، وخلدت مجدها عبقرية الفانيين، فقامت عصبة الشباب تطالب بالحرية والمساواة، ورفع راية الشرق، تستنكر الذل والخضوع، وتأبى الضيم وعار الاستلام. هاهما حافظ وشوقي قد طواهما الخلود بعد أن غرد أناشيد الحياة المتنوعة، وخلفا ذكراهما تتناقلها الأجيال زكية الأرج، ضواعة العبير، وسجلاً صحيفتيهما في عالم الخلود! هاهي ذي (مصر) كما تخيلها مختار تقف بجانب أبي الهول توقظه من نومه الأبدي وغفلته العميقة، لينقذها من هذه الأهوال التي جعلتها تئن تحت نيرها! هاهي ذي (الرسالة) الغراء لما تبلغ سن الفطام شبت وترعرعت، وغدت لسان النهضة الأدبية في العالم العربي قاطبة يقوم بها أسطع الكتاب اسماً، وأوسعهم شهرة، وأجلهم قدراً. فاللهم اجعل هذه النهضة مباركة ميمونة الطالع على الشرق فيتحد أبناؤه، وتتوحد كلمتهم، وتأتلف قلوبهم، وتخفق بأمنية واحدة هي (الحرية)! وقرب لنا الساعة التي تتهلل وجوهنا فيها بالسعادة والغبطة، وترسل أعيننا دموع الفرح والسرور، فيمتلئ الجو من ندائنا، ويرتفع علمنا المحبوب يشق أجواز الفضاء، ونصيح من أعماق قلوبنا بصوت واحد (ليحيى الشرق) دمشق فلك طرزي