الإمامة حقوق وواجبات
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
الإمامة حقوق وواجبات[1]الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
قال ابن عباس والحسن وغيرهم: ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ أئمة يُقتدى بنا في الخير[2].
وقال تعالى عن خليل الله إبراهيم عليه السلام: ﴿ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124].
أي جعلناك للناس إمامًا يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون[3].
والإمامة وظيفة الأنبياء والرسل، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].
والحديث في هذه الكلمة سيكون عن الإمامة الصغرى، وهي إمامة الناس في الصلاة، فلا شك أن الإمامة لها واجبات، وحقوق، وصفات، فإمامة الناس في الصلاة مرتبة عالية، وشرف عظيم.
وقد وردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة بفضلها، ومكانتها، فمن ذلك ما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، الْلهُمَّ أرْشِدِ الأَئِمَةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ "[4].
وقد ذكر الفقهاء - رحمهم الله - أن للإمام صفات لا بد من توافرها، فمن ذلك أن يكون رجلًا عدلًا، فقيهًا، سليم اللفظ من نقص أو لتغ، فإن كان صبيًا، أو عبدًا، أو فاسقًا، صحت إمامته، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو ابن سلمة أن يصلي بقومه وكان صغيرًا لأنه كان أقرأهم[5].
ولا يجوز أن يكون الإمام امرأة، ولا خنثى، ولا أخرس، ولا ألتغ، وأقل ما على الإمام من القراءة، والفقه، أن يكون حافظًا لأم القرآن - الفاتحة - وما تيسر من القرآن، عالمًا بأحكام الصلاة لأنه القدر المستحق فيها، وأولى الجماعة بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله تعالى، ثم أفقههم في دين الله، ثم الأكثر تقوى، ثم الأكبر سنًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ[6] لِكِتَابِ الله، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فأكبرُهم سلمًا"[7] وفي رواية مكان "سلمًا سِنَّا"[8].
ما لم يكن الرجل سلطانًا، أو صاحب منزل فيكون أولى من غيره بالإمامة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تؤمن الرَّجُلُ في أَهْلِهِ، ولاَ في سُلْطَانِهِ "[9].
"ومن الصفات التي يستحب توافرها في الإمام، ولا سيما إن كان هو الخطيب أن يكون عالمًا بالعقائد الصحيحة وأمور الإيمان، حتى لا يزيغ ويضلل الناس، وعلى علم ومعرفة بالأحكام الفقهية كي يصحح العبادات، ويجيب عن أسئلة المأمومين، عارفًا باللغة العربية كي يؤلف الكلام البليغ والموعظة الحسنة، وأن يكون نبيهًا فطنًا، وجيهًا، تهابه القلوب، وتجله العيون، صالحًا، تقيًا، مهذبًا، ورعًا، قنوعًا، زاهدًا، غير مجاهر بمعصية، يفعل ما يقول، فذلك أدعى إلى قبول الموعظة منه والإرشاد"[10]، وألا يأخذ أجرًا على إمامته، ولا يقصد به الرزق الذي يؤخذ من بيت المال، ويحسن إلى جماعة مسجده قدر المستطاع، ويتفقد أحوالهم، ويجتهد في التأليف بينهم.
ومن واجبات الإمام ومسؤولياته أن يتحرى إتمام الصلاة وعدم إنقاص شيء منها، روى ابن ماجه في سننه من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَأَصَابَ فَالصَّلاَةُ لَهُ وَلَهُمْ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْ ذٰلِكَ شَيْئًا، فَعَلَيْهِ وَلاَ عَلَيْهِمْ"[11].
ويحرص أن تكون صلاته مثل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أخف الناس صلاة في تمام، روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم [12].
فلا يطيل الصلاة فيتجاوز بذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجعلها كنقر الديك، بل يطمئن في صلاته ويعتدل فيها ويرتل القرآن ترتيلًا حسنًا، ويقف على رؤوس الآي فلا يصلها بما بعدها، ويحسن صوته بالقرآن، ولا يتقعر، ولا يجعله غناء، أو يتكلف في قراءته، ويحرص على التنويع في قراءته، فلا يقتصر على سور معينة، بل كلما حرص على إسماعهم أكبر عدد من السور فهو أفضل، مستدلًا بقوله تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].
ومما أرى لزوم التنويه عليه، مبالغة بعض الأئمة بالإهتمام الصوت حتى غلب ذلك على تدبر القرآن، ومن المعلوم أن الصوت يحزن ويطرب، وإنما النافع من ذلك هو الناتج عن تدبر معاني القرآن، لا عن إيقاع الأصوات التي تحدث عن استعمال المحسنات الملحقة بأجهزة الصوت كالصدى وغيره، وقد بلغ الأمر ببعضهم أن يقلد إمامًا فيقف حيث يقف، ويصل حيث يصل، ويرفع ويخفض، بل ربما تباكى حيث يبكي، وعن هؤلاء جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا: إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ الشَّرْطِ، وَبَيْعَ الْحُكْمِ، وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ، وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَنَشْوًا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَهُ يُغَنِّيهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُمْ فِقْهًا"[13].
ومنها أن يحرص على إقامة الصفوف وتسويتها كما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِ مِنْ تَمامِ الصَّلاَةِ"[14].
وروى أبو داود في سننه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا إِذَا قُمْنَا لِلصَّلَاةِ، فَإِذَا اسْتَوَيْنَا كَبَّرَ[15].
ومنها تعليم الناس العلم الشرعي، وخصوصًا التوحيد والإسلام والإيمان، وأمور الدين العظام كالولاء والبراء، ونواقض الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك أمور العبادة كأحكام الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما يحتاجونه في معاملاتهم، ونكاحهم، كما عليه الحرص على حِلق تحفيظ القرآن الكريم والرقي بها إلى أفضل حال..وغيرها، فإن حاجة الناس إلى العلم الشرعي أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، روى البخاري في صحيحه من حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيرُكُم مَن تَعَلَّمَ القُرآنَ وَعَلَّمَهُ"[16].
ومنها تَفقُّد الفقراء، والمرضى، والمتهاونين بالصلاة، وخاصة صلاة الفجر، ومساعدة من يحتاج منهم إلى زيارة، أو نصح، فإن لذلك الأثر الكبير في قلوبهم، وفي الحديث: "لَأَن يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ"[17].
ومنها الحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطهير الحي من المنكرات الظاهرة، والتعاون مع جماعة المسجد على ذلك.
ومنها الحرص على استضافة العلماء والدعاة لإلقاء الدروس والمحاضرات، والكلمات، ففي ذلك إحياء للمساجد، وتذكير، وتعليم للمصلين، وهو من أعظم أنواع عمارته، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18].
ومنها المواظبة على الإمامة في الصلوات كلها، وعدم توكيل الغير إلا عند الحاجة إلى ذلك، وإذا احتاج إلى التوكيل فلا يوكل إلا من كان أهلًا لذلك، وعليه مراعاة أحوال الناس فإن بكر إلى الصلاة واجتمعوا بادر بالصلاة وإلا انتظر.
سُئلت اللجنة الدائمة، يقول السائل: إننا أئمة ومؤذنو مساجد تهامة قحطان، نبتعد عن المساجد التي نقوم بها لصعوبة أرضنا، ولبعد إسكاننا عن المساجد، وإذا تركنا القيام بها فلا يوجد من يقوم بها غيرنا، فسأل عن المكافأة التي نحصل عليها ونحن لا نواظب عليها كل فرض، هل علينا فيها إثم أم لا؟ آمل من الله ثم منكم إفتاءنا.
الجواب: "لا يجوز للإنسان أن يتولى الأذان، أو الإمامة، أو غيرهما من شؤون المساجد، أو أي عمل آخر وهو لا يقوم بالعمل، ولا يحل له الراتب الذي يدفع في مقابل ذلك، وعليه أن يترك العمل لمن يقوم به على الوجه المطلوب.
وبالله التوفيق"[18].
ومنها العناية بالمسجد وما يحتاجه من صيانة، ونظافة وما أشبه ذلك، وأن يتعاون الإمام والمؤذن في خدمة بيت الله.
وأما حقوق الإمام فإن مكانته كبيرة، وحقوقه كثيرة، إذا كان مؤديًا لواجباته، ولذلك ينبغي احترامه وتقديره، وإعانته على تحمل أمانة المسجد ومسؤولياته، وكذلك استشارته بما يحصل في الحي من أحداث وطرق علاجها، ونصحه عند تقصيره في واجبات الإمامة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: "لِلهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْـمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ"[19].
ويكون ذلك بالرفق وسرًا، روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الرِّفقُ لاَ يَكون في شَيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَع مِن شَيءٍ إلَّا شَانَهُ"[20].
قال الشافعي:
تَعَمَّدْني بِنُصْحِكَ فيِ انْفرَادِي
وَجَنبّنِي النَّصِيحَةَ في الجمَاعَة
فَإنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاس نَوْعُ
مِن التَّوْبيخِ لا أَرْضَى اسْتِماعَه
وإنْ خَالَفتْني وَعَصَيْتَ قَوْلي
فَلاَ تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تُعْط طَاعَة
وينبغي إحسان الظن به، وعدم تتبع زلاته وعثراته، أو غيبته في المجالس، بل إن ذكر فيذكر بخير ويُدعى له، قال الشاعر:
وَمَنْ ذَا الذَّي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا
كَفَىَ الَمرْءُ نُبْلًا أنَّ تُعَد مَعَايبُه
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] من المجلد الثامن من موسوعة الدرر.
[2] تفسير ابن كثير (10/334).
[3] تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن (2/367).
[4] سنن أبي داود برقم (517)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (237).
[5] صحيح البخاري برقم (4301).
[6] أي أكثرهم قرآناً وحفظاً وجمعاً له.
[7] أي إسلاماً.
[8] صحيح مسلم برقم (673).
[9] صحيح مسلم برقم (673).
[10] المسجد في الإسلام لخير الدين وائلي (ص72) بتصرف.
[11] برقم (983) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/162) برقم (820).
[12] صحيح البخاري برقم (708) وصحيح مسلم برقم (469).
[13] مسند الإمام أحمد (25/427) برقم (16040) وقال محققوه: حديث صحيح.
[14] صحيح البخاري برقم (723) وصحيح مسلم برقم (433).
[15] برقم (665) وأصله في صحيح مسلم برقم (436).
[16] صحيح البخاري برقم (5027).
[17] صحيح مسلم برقم (2406).
[18] فتاوى اللجنة الدائمة برقم (19865).
[19] صحيح مسلم برقم (55).
[20] صحيح مسلم برقم (2594).