نظرة في كتابات علي عبد الرازق :المقال الثاني - ملفات متنوعة
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
ومن قبل ذلك فقد عقدت له محاكمة في الأزهر من قبل هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر وعضوية أربعة وعشرين عالماً من كبار العلماء، وبحضور علي عبدالرازق نفسه، وقد تمت مواجهته بما هو منسوب إليه في كتابه، واستمعت المحكمة لدفاعه عن نفسه، ثم خلصت الهيئة إلى القرار التالي: "حكمنا؛ نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالماً معنا من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبدالرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من زمرة العلماء.كما حكم مجلس تأديب القضاة الشرعيين بوزارة الحقانية – العدل- بالإجماع بفصله من القضاء الشرعي. .
وإليك فيما يلي شيئاً من التفصيل عن تلك المحاكمة التي جرت؛ فقد انعقدت هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبي الفضل الجيزاوي، شيخ الجامع الأزهر في ذلك الوقت ، صباح الأربعاء 22 المحرم سنة 1344هـ -أغسطس سنة 1925م- وكان عدد أعضائها أربعة وعشرين عالماً، ولما مَثُلَ علي عبدالرازق أمام الهيئة حياها بقوله (السلام عليكم) فلم يرد عليه أحد، وبعد مناقشة طويلة أصدرت الهيئة حكمها بإدانة المتهم، وإخراجه من زمرة العلماء.
ويترتب على الحكم المذكور: محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية، دينية كانت أو غير دينية.
أما حيثيات الحكم، فيمكن إيجازها فيما يلي:
1- أن الشيخ علياً جعل الشريعة الإسلامية, شريعة روحية محضة, لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا .
وقد ردت الهيئة على هذا الزعم الباطل بأن الدين الإسلامي هو إجماع المسلمين على ما جاء به النبي ",من عقائد, وعبادات, ومعاملات لإصلاح أمور الدنيا والآخرة, وأن كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله ", كلاهما مشتمل على أحكام كثيرة في أمور الدنيا, وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.
وقالت الهيئة: وواضح من كلامه - المؤلف - أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة, جاءت لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه فقط, وأن ما بين الناس من المعاملات الدنيوية وتدبير الشؤون العامة فلا شأن للشريعة به, وليس من مقاصدها.
وهل في استطاعة الشيخ أن يشطر الدين الإسلامي شطرين, ويلغي منه شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا, ويضرب بآيات الكتاب العزيز, وسنة رسول الله" عرض الحائط؟!
2- ومن حيث إنه زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي " كان في سبيل الملك, لا في سبيل الدين, ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
فقد قال: "...
وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين, ولا يحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله".
ثم قال:"...
وإذا كان " قد لجأ إلى القوة والرهبة, فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين, وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك".
على أنه لا يقف عند هذا الحد, بل كما جوز أن يكون الجهاد في سبيل الملك, ومن الشؤون الملكية - جوز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم, ونحو ذلك في سبيل الملك - أيضاً -.
وجعل كل ذلك على هذا خارجاً عن حدود رسالة النبي " فلم ينزل به وحي, ولم يأمر به الله – تعالى -.
والشيخ علي لا يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز, فضلاً عن صريح الأحاديث المعروفة, ولا يمنع أنه ينكر معلوماً من الدين بالضرورة.
وذكرت الهيئة الآيات الواردة في الجهاد في سبيل الله, والآيات الخاصة بالزكاة, وتنظيم الصدقات, وتقسيم الغنائم, وهي كثيرة.
3- ومن حيث إنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي " كان موضع غموض, أو إبهام, أو اضطراب, أو نقص, وموجباً للحيرة.
وقد رضي لنفسه بعد ذلك مذهباً, هو قوله: "إنما كانت ولاية محمد " على المؤمنين ولاية رسالة غير مشوبة بشيء من الحكم".
وهذه هي الطريقة الخطيرة التي خرج إليها, وهي أنه جرد النبي " من الحكم.
وما زعمه الشيخ علي مصادم لصريح القرآن الكريم , فقد قال الله – تعالى- : إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا [ النساء :105 ] ثم أوردت الهيئة آيات كثيرة تتضمن معنى الآية السابقة, وتنحو نحوها.
4- ومن حيث إنه زعم أن مهمة النبي ", كانت بلاغاً للشريعة مجرداً عن الحكم والتنفيذ.
ولو صح هذا لكان رفضاً لجميع آيات الأحكام الكثيرة الواردة في القرآن الكريم، ومخالفاً - أيضاً - صريح السنة.
ثم أوردت الهيئة كثيراً من الأحاديث التي تهدم مزاعم المؤلف, وختمت ذلك بقولها: "فهل يجوز أن يقال بعد ذلك في محمد ", إن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان، وإنه لم يكلف أن يأخذ الناس بما جاءهم به, ولا أن يحملهم عليه؟!".
5- ومن حيث إنه أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام, وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا.
وقال إنه يقف في ذلك في صف جماعة غير قليلة من أهل القبلة, يعني بعض الخوارج والأصم؛ وهو دفاع لا يبرئه من أنه خرج على الإجماع المتواتر عند المسلمين، وحسبه في بدعته أنه في صف الخوارج, لا في صف جماهير المسلمين.
6- ومن حيث إنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية, وقال إن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعاً عن الخلافة, فمن أنكر الخلافة أنكر القضاء.
وكلامه غير صحيح, فالقضاء ثابت بالدين على كل تقدير, تمسكاً بالأدلة الشرعية التي لا يستطاع نقضها.
7- ومن حيث إنه زعم أن حكومة أبي بكر, والخلفاء الراشدين من بعده, رضي الله عنهم, كانت لا دينية, ودفاع الشيخ علي بأن الذي يقصده من أن زعامة أبي بكر لا دينية أنها لا تستند على وحي, ولا إلى رسالة - مضحك موقع في الأسف, فإن أحداً لا يتوهم أن أبا بكر ÷ كان نبياً يوحى إليه حتى يُعني الشيخ علي بدفع هذا التوهم.
لقد بايع أبا بكر, جماهير الصحابة من أنصار ومهاجرين, على أنه القائم بأمر الدين في هذه الأمة بعد نبيها محمد ".
وإن ما وصم به الشيخ علي أبا بكر من أن حكومته لا دينية, لم يُقْدِمْ على مثله أحد من المسلمين؛ فالله حسبه, ولكن الذي يطعن في مقام النبوة, يسهل عليه كثيراً أن يطعن في مقام أبي بكر وإخوانه الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم أجمعين-
هذه خلاصة الحيثيات التي بنت عليها هيئة كبار العلماء حكمها السالف الذكر .
ومنذ ذلك الحين لم تنقطع الكتابات في الرد على كتاب علي عبدالرازق سواء كان ذلك على هيئة كتاب، أو مقال.
وقد حاول بعضهم مساندة علي عبدالرازق، وإعادة وجاهته وقدره عند الناس؛ فبعد اثنين وعشرين عاماً غيرت هيئة كبار العلماء رأيها في الشيخ علي عبدالرزاق؛ فبعد أن كان سنة 1925 كافراً خارجاً على الإسلام, منكراً لكثير مما ورد في القرآن والسنة, إذا هو في سنة 1947 مؤمن يستحق العطف، ويستوجب العفو انظر إلى ما نشرته صحيفة الأهرام في 26/2/1947 تحت عنوان (العلماء يلوذون بالعرش في مسألة علي عبد الرزاق بك) وهو ما يلي:
"عندما أصابت الأزهر تلك الصدمة التي نزلت فجأة في شيخه الأكبر المغفور له الشيخ مصطفى عبدالرازق اتجهت نية كبار العلماء إلى تكريم ذكراه في شخص شقيقه الأستاذ علي عبد الرزاق بك, وذلك بأن يلوذوا بالسدة الملكية ملتمسين عفواً ملكياً عن أثر القرار الذي اتخذته هيئة كبار العلماء من قبل؛ فما اختمرت هذه الفكرة حتى أخذت سبيلها إلى التنفيذ, وأُعِدَّت صيغة الالتماس الذي يرفع في هذا الشأن, وحمله إلى القصر العامر جماعة كبار العلماء وأعضاء المجلس الأعلى للأزهر".
ومما هو جدير بالذكر؛ أنه روعي في رفع هذا الالتماس أن تتقدم به الهيئتان العلمية والتنفيذية في الأزهر: تمثل الأولى جماعة كبار العلماء, وتمثل الثانية المجلس الأعلى للأزهر, وأن يكون الملاذ في ذلك؛ هو جلالة صاحب العرش, بعد أن تبين أن جماعة كبار العلماء لا تملك بوضعها الحالي أن تتخذ قراراً جديداً بإلغاء قرارها الأول في مسألة الأستاذ علي عبد الرازق بك؛ إذ إن مثل هذا القرار يجب أن يصدر بأغلبية ثلثي أعضائها, على أن يكون من بينهم شيخ الأزهر، وذلك يقضي قراراً من عشرين عضواً, على حين أن الأحياء من أعضاء الجماعة لا يبلغون هذا العدد.
هذا ما نشرته الصحف 26/2/1947, ومنه نرى أن علماء الأزهر, بما فيهم هيئة كبار العلماء كانوا مدفوعين من تلقاء أنفسهم إلى طلب العفو عن علي عبدالرازق, وأن هيئة كبار العلماء لم يتوافر فيها العدد القانوني الذي يمكنها من إلغاء قرارها الصادر في12 أغسطس سنة 1925؛ فلذلك لجأت إلى الملك.
والحق أن هذا كله محض كذب وافتراء؛ فقد أراد الملك فاروق أن يعين علي عبد الرازق وزيراً للأوقاف؛ فأمر شيوخ الأزهر بأن يقوموا بهذه الحركة؛ فأطاعوا وتبرعوا بالكذب.
وفي يوم 3 مارس سنة 1947 نشرت الصحف مرسوماً بتعيين علي عبدالرازق وزيراً للأوقاف.
والعجب أن يكون تكريم ذكرى مصطفى على حساب الدين؛ هذا إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى القرار الصادر سنة 1925، وإلى الضجة الهائلة التي أحدثها علماء الأزهر حول الكتاب ومؤلفه.
وعلى كل حال فإن الكتاب لقي وما زال يلقى الهوان، والرد عند كل مسلم أومضت في قلبه بارقة إيمان، وإخلاص.
بل إن بعض من تحمسوا للكتاب أول أمره، عادوا إلى مناوأته، وتخطئته.
بل إن علي عبد الرازق نفسه عندما عرض عليه قبل وفاته عام 1966م إعادة طبع الكتاب مرة أخرى رفض ذلك، كما أنه لم يحاول من قبلُ الردَّ على منتقديه وخصومه