ركن المعتزلة:
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
فكرة الله عند المعتزلة
للدكتور ألبير نصري نادر
نزل القرآن الكريم يتحدث عن الله تعالى خالقاً للكون مدبراً له. والتوراة والإنجيل يتحدثان عن الله وعن صفاته.
والكون بأثره وما فيه من نظام يدل على وجود كائن أول متعال، والمعتزلة لا تشك أبداً في وجوده تعالى ولكن جل همها كان البحث في ماهيته وعلاقته بهذا العالم المخلوق. نفي صفات الله: تفخر المعتزلة بأنهم أهل التوحيد.
ولكن كل مؤمن موحد أيضاً - ولما كان التوحيد اعترافاً بوجود إله واحد نجد المعتزلة على حذر كبير في التحدث عن صفاته تعالى خوفاً من أن يؤدي الكلام في هذا الموضوع إلى شرك يقضي على كل توحيد.
لذلك نفت الصفات عن الله. والأصل الأول الذي كان يقول به واصل بن عطاء رأس المعتزلة (المتوفى سنة 131هـ) هو نفي صفات الباري تعالى من العلم والقدرة والإرادة والحياة.
لأن واصل أراد أن يرد فكرة الأقاليم عند النصارى، وكان يرى فيها ثلاثة آلهة، إذ أن الثلاثة قديمة.
فخشي أن تؤدي فكرة الصفات حتى الأزلية إلى شرك عند المسلمين؛ لذلك جنح إلى التنزيه البحت وبه نفى أن يكون لله تعالى صفات غير ذاته. كانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة.
وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر وهو الإنفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين، لأنه من أثبت معنى وصفه قديمة فقد أثبت إلهين. ثم شرع أصحاب واصل في هذه المقالة بعد مطالعة كتب الفلاسفة وانتهى نظرهم فيها إلى رد جميع الصفات إلى كونه عالماً قادراً ثم الحكم بأنها صفتان ذاتيتان هما اعتباران للذات القديمة وللمعتزلة حجة قوية في نفي الصفات وردها إلى اعتبارات ذهنية للذات. حجتهم: يقول المعتزلة: لو قامت الحوادث بذات الباري لا تصف بها بعد أن لم يتصف؛ ولو اتصف لتغير، والتغير دليل الحدوث إذ لابد من مغير.
فإذا ما تكلمنا عن علم الله مثلاً لا يجوز أن نعتبر العلم صفة قائمة بذاته تعالى؛ لأنه إما أن تكون هذه الصفة أزلية كالذات، وإما أن تكون حادثة.
فإذا كانت أزلية فكيف يمكنها أن تحل في الذات؟ وإذا حلت فيها كان هناك أزليان.
وإذا كانت حادثة وحلت في الذات فكانت الذات قد تغيرت من حال (حال عدم العلم) إلى حال (حال العلم) والتغير دليل حدوث؟ فتكون الذات حادثة في صفاتها.
وهذا ما لا يتفق وكماله تعالى. تعريف المعتزلة لله: نجد في كتاب (مقالات الإسلاميين) للأشعري تعريفاً كاملاً شاملاً لله رأي المعتزلة.
فيقول: (أجمعت المعتزلة على أن الله واحد) (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض.
وليس بذي إيعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن. ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحات، ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تحل به العاهات، وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له. لم يزل أولاً سابقاً متقدماً للمحدثات، موجوداً قبل المخلوقات، ولم يزل عالماً قادراً حياً، ولا يزال كذلك، ولا تراه العيون ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام ولا يسمع بالأسماع. شيء لا كالأشياء.
عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء، وأنه القديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواه ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق.
لم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه.
لا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار ولا يناله السرور واللذات ولا يصل إليه الأذى والآلام.
ليس بذي غاية يتناهى ولا يجوز عليه الفناء ولا يلحقه العجز والنقص.
تقدس عن ملامسة النساء، وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء. فها نحن بصدد تعريف جله نفي كل صفة عن الله؛ ونتيجة لهذا التعريف لا يمكننا أن نكوِّن عن الله فكرة حقيقية وواقعية أي موضوعية، ولا يمكننا أن ندرك فكرة اللا ألوهية حتى ولا بالمشابهة مع المخلوقات، لأن فكرة اللا ألوهية متعالية عن كل مخلوق مجردة عن كل صفة يتصف بها المخلوق - وهذا ما جعل المعتزلة تقول بأن الخلق لا يستمد ماهيته من الله، لأنه لو كان الأمر كذلك لوجد تشابه في الماهية بين الله والخلق؛ ولكن ماهية الخلق لا تشارك البتة ماهية الله التي نجهلها تمام الجهل - وتنتهي المعتزلة إلى القول بأن الله لا يمنح سوى الوجود للخلق، وكل ما عدا الوجود فلا يوجد أي تشابه بينه وبين الله. أن هذه النقطة في غاية الأهمية لما يترتب عليها من أقوال ونظريات تتعلق بمسألة خلق العالم وماهيته. تحليل هذا التعريف: إذا نظرنا إلى هذا التعريف نظرة تحليلية وجدنا أنه رد على اعتقادات مختلفة إسلامية كانت أو مسيحية أو مجوسية؛ كما أنه رد أيضاً على نظريات لسفيه كانت منتشرة في عصر المعتزلة أي في القرنين الثاني والثالث للهجرة. كانت الرافضة تقول وهي معتقدة أن ربها جسم ذو هيئة وصورة يتحرك ويسكن ويزول وينتقل؛ وأنه كان غير عالم ثم علم، وأنه يريد الشيء ثم يبدو له فيريد غيره. ومن وجهة أخرى تقول المشبهة بأن الباري تعالى يشبه الخلق في شعوره وإحساسه وتفكيره وإرادته حتى أن بعضهم قال بأن له أعضاء كأعضائنا تماماً محتجين ببعض آيات مثل (يد الله فوق أيديهم).
(وقالتِ اليهود يدُ الله مغلولة).
(وَيبقى وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام) (الرحمن على العرش استوى) والمشبهة تأخذ بهذه الآيات حرفياً بدون أي تأويل. لذلك نفت المعتزلة الجسمية عن الله كما نفت كل ما يتعلق بالجسم من حركة وسكون وصورة ولون الخ.
كما هو واضح في الجزء الأول من التعريف.
وكذلك نفت عنه تعالى كل ما يتعلق بالنفس الإنسانية من شعور ومعرفة (بمعنى المرور من درجة إلى درجة أسمى في المعرفة) وإرادة (بمعنى الاختيار)، وقالت إنه تعالى (لا يقال بالناس ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه) ولا نعلم شيئاً عن ماهيته سوى أنه الواحد، فتكون المعتزلة لا أدرية. وبينما يقول النصارى بثلاثة أقاليم في الله نجد المعتزلة يرفضون كل فكرة عن الأسرار ويعلنون بأن الله (لا والد ولا مولود ولا شريك له في ملكه). ونجد أخيراً في هذا التعريف رداً على المثل الأفلاطونية التي كما يقول أفلاطون قد أنشأ الله الخلق على صورتها.
ولكن المعتزلة ترى في هذه مثل الأزلية شرك لله وتقول أن لا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق.
ولم يخلق الخلق على مثال سبق). ما يترتب على هذا التعريف: تقول المعتزلة بأن الله واحد ومتميز تمام التميز عن الخلق، هو الأصل الوحيد الذي بمقتضاه يفرقون بين ما هو حق وما هو باطل في التوحيد؛ ويعتبرون أنفسهم بأنهم هم فقط (أهل التوحيد).
وعلى هذه الفكرة بنى المعتزلة مسألة الخلق وهي مسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمبدأ نفي كل مشابهة بين ماهية الله وماهية العالم المخلوق.
وبما أن هاتين الماهيتين مختلفتان ومتباينتان تماماً في عرف المعتزلة قالوا إن الماهية المحدثة المخلوقة ليست حاصلة من الماهية القديمة؛ لذلك قالوا بالعدم واعتبروه شيئاً وذاتاً وعيناً وحقيقة يمنحه الله الوجود ليصير كائناً مصدر هذه الفكرة: إنا نجد في القرآن الكريم هذه الآية (ليس كمثله شيء) وكذلك (لا تدركه الأبصار) ولكن كم أيضاً من الآيات التي تتحدث عن أعضاء الله وعن الشبه بينه تعالى وبين الإنسان؟ هل تكفي آية أو آيتان حتى تبنى عليهما المعتزلة هذا التعريف المنفي لله ويصبح تعالى كائناً متميزاً تمام التمييز عن خلقه؟ لاشك في أن المعتزلة استرشدت أيضاً بمصادر أخرى. كان واصل بن عطاء متصلاً بالنصارى.
ولكنه رأى في سر الثالوث الأقدس (وهو سر إله واحد في ثلاثة أقاليم) شركا لله؛ فأحذ يرده بقوة حتى يصل إلى فكرة عن إله واحد في غاية البساطة ومميز تماماً عن خلقه.
وابتداء من أبي الهذيل العلاف أخذت المعتزلة تطالع كتب الفلاسفة اليونانيين التي ترجمت إلى السريانية والعربية في ذلك العهد.
فكانت محاورة تيماوس لأفلاطون قد ترجمت إلى العربية والله في عرف أفلاطون لا يكوِّن العالم على صورته بل على صورة المثل الأزلية.
فساعدت هذه الفكرة المعتزلة على القول بأن العالم المخلوق لا يشبه الله الخالق أعني (في لغة المعتزلة) المانح الوجود لماهيات مختلفة ومميزة عنه؛ كما أنهم نفوا أن الله يخلق الخلق على مثال سبق. ومن جهة أخرى يقول أرسطو إن الله ليس بالعلة الفاعلية للعالم وإنما العالم يجتهد بأن يحيى بقدر المستطاع حياة مماثلة لحياة الله، ولكنه لا يستطيع ذلك لسبب مادته، فيقلد الحياة الإلهية بحركة مستمرة وأزلية وهي الحركة الدائرية (أنظر أرسطو كتاب الطبيعة ص265 ب1) التي هي العلة الغائية للعالم - فإذا لا توجد أي مشابهة بين الله والعالم، والله على رأي أرسطو لم يبدع ماهية العالم ولا وجوده؛ إنما المعتزلة مع نفيها كل مشابهة بين الله والخلق تقول إن الله منح الوجود فقط للعدم حتى صار كائناً. وعندما أغلقت مدارس أثينا الفلسفية لجأ سمبلقيوس الفيلسوف إلى كسرى ملك الفرس وصديق الفلاسفة.
وترك سمبلقيوس عدة شروح لنظريات أرسطو وكان أغلب المعتزلة على صلة بالفرس حتى إن بعضهم كان من أصل فارسي مثل أبو علي الأسواري. فهذه الترجمات العربية لكتب الفلاسفة اليونانيين التي قام بها السريانيون من جهة، والترجمات التي قام بها الفرس من جهة أخرى، ساعدت المعتزلة على مطالعة الفكر اليوناني وقدمت لهم ما يلزمهم من براهين للدفاع عن التوحيد كما فهموه. لكن هذا لا يعني أن المعتزلة وجدت الأفكار التي تدافع عنها وقامت بها جاهزة كاملة - أن فضلهم لكبير، لأنهم اقتبسوا من الفكر اليوناني ما رأوه مناسباً للرد على المشبهة ودفع كل شرك مفاخرين بأنهم (حماة التوحيد). نفي المعتزلة لصفات الله تعالى لا يمنعهم من البحث في بعض الصفات على زعم أنها اعتبارات ذهنية فقط وليست حقائق تتصف بها الذات الإلهية. وهذا ما سنتطرق إليه في مقالنا القادم إن شاء الله. ألبير نصري نادر دكتور في الآداب والفلسفة