غسل الحائض رأس زوجها وترجيله
مدة
قراءة المادة :
31 دقائق
.
غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه
• عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ" قَالَتْ فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ.
فَقَالَ: "إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ".
رواه مسلم.
• وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ.
ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ.
فَيَشْرَبُ.
وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ.
ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ.
رواه مسلم.
• وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ.
فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ.
ألفاظ الأحاديث:
• (الْخَمِيلَة): بفتح الخاء وكسر الميم وهي القطيفة وكل شيء له خمل أي أهداب، وقيل: كساء أسود له أهداب.
• (فَانْسَلَلْتُ): أي ذهبت في خفية، وتسللها يحتمل لخوفها وصول شيء من الدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو أنها تقذرت نفسها أن تضاجع النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال أو خافت طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يستمتع بها وهي على هذه الحال التي لا يمكن فيها الاستمتاع ذكر ذلك النووي.
• (ثِيَابَ حيْضَتِي): بكسر الحاء وفتحها، والكسر أشهر والمعنى أخذت الثياب المعدة لزمن الحيض.
• (أَنُفِسْتِ): بفتح النون وبضمها وجهان ثم كسر الفاء، والمقصود هنا الحيض والمعنى أحضت.
وقيل: بفتح النون تكون بمعنى الحيض، وبضمها تكون بمعنى الولادة وقال به كثير من أهل اللغة.
وذكر القاضي عياض: أن رواية أهل الحديث في هذه الكلمة هنا بضم النون، وأصل ذلك كله خروج الدم، والدم يسمى نفساً.
وفي هذا دلالة على أن الحيض قد يسُمى نفاساً.
• (الْخُمْرَة): بضم الخاء وإسكان الميم، قيل: هي سجادة بقدر ما يضع عليها الرجل جزء وجهه في سجوده سواء كانت من حصير أو نسيج، وقيل: هي تزيد على قدر الوجه فهي أكبر من ذلك.
وسميت خمرة لأنها تخمر الوجه أي تغطية لأن أصل التخمير التغطية ومنه خمار المرأة لأنه يغطي رأسها والخمر لأنه يغطي العقل.
• (نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ): معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ذلك من المسجد أي وهو في المسجد وعائشة رضي الله عنها خارجه فالنبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً في المسجد وعائشة رضي الله عنها في حجرتها فأمرها أن تعطيه الخمرة فخافت عائشة رضي الله عنها من إدخال يدها المسجد فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (إن حيضتك ليست في يدك).
وقيل: إن المعنى أنها تدخل المسجد وتأخذ الخمرة منه وتعطيها النبي صلى الله عليه وسلم.
• (إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ): حيضتك بفتح الحاء وروي بالكسر إلا أن الفتح هو المشهور عند المحدثين.
• (أتعرق العَرْق): العَرْق بفتح العين وإسكان الراء وهو العظم الذي عليه بقية لحم.
وقيل: العظم الذي لا لحم فيه والأول هو الأشهر.
• (يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي): جاء في رواية البخاري في كتاب التوحيد " كان يقرأ القرآن ورأسه في حجري " فعلى هذا يكون المراد بالاتكاء في الحديث وضع رأسه في حجرها.
والاتكاء لغةً الاعتماد.
من فوائد الأحاديث:
الفائدة الأولى: في حديث أم سلمة رضي الله عنها دلالة على جواز النوم مع الحائض ومضاجعتها من غير كراهة، وفي حديث عائشة رضي الله عنها جواز قراءة القرآن مضطجعاً ومتكئاً على الحائض.
الفائدة الثانية: في الأحاديث حسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يضاجعهن وهن حُيَّض ويدعو زوجته وهي حائض لتضطجع معه ويغتسل معها كما في حديث الباب ويباشرهن كما في الحديث السابق ويقبلها وهي حائض ويقرأ القرآن في حجرها ويتلمس مواضع أكلها فيأكل منه ويمكنها من ترجيل رأسه وكل ذلك حال حيضها.
وكل هذه الأحاديث تدل على أن ذات الحائض طاهر ولا يمنع ملامستها.
الفائدة الثالثة: حديث عائشة رضي الله عنها وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تناوله الخمرة من المسجد وهي حائض من الأدلة التي استدل به بعض أهل العلم على جواز دخول ولبث الحائض في المسجد، ومسألة دخول الحائض والجنب ولبثهم في المسجد اختلف فيها أهل العلم:
أولًا: الجنب.
القول الأول: أنه لا يجوز لبث الجنب في المسجد، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن الحنابلة.
واستدلوا:
أ- بقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ ﴾ [سورة النساء: 43].
ووجه الدلالة: قالوا: إن المراد بالصلاة في هذه الآية أماكنها وهي المساجد فأمر الله المؤمنين ألا يقربوا المُصَلَّى للصلاة وهم سكارى ولا يقربوا وهم على جنابة حتى يغتسلوا إلا عابري سبيل وهم من أراد أن يجتاز للخروج من المسجد وروي هذا المعنى من التفسير عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم بأسانيد لا تخلوا من مقال، وقال بهذا التفسير جماعة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن البصري وإبراهيم النخعي ورجحه الشافعي [في: " الأم" (1/ 70)] وابن جرير الطبري) انظر: " تفسيره" (8/ 379)، وابن كثير أيضاً( 2/ 275)، والقرطبي (5/ 207)، والشوكاني في تفاسيرهم( 1/ 469).
وهناك قول آخر بأن المراد بالصلاة نفس العبادة لا مكانها والمراد (بعابري سبيل) المسافر وروي هذا التفسير عن ابن عباس وقال به جماعة من التابعين.
ورد أصحاب القول الأول هذا المعنى وقالوا لأن التيمم الذي في آخر الآية ليس مختصاً بالمسافر الذي هو عابري السبيل ولأن حكم المسافر قد بين في آخر الآية بقوله: ﴿ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيميةإلى أن النهيفي الآية يكون للأمرين عن قربان الصلاة وأماكنها.
[انظر: مجموع الفتاوى (22/ 6)].
ب- واستدلوا أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" رواه ابو داود.
ونوقش هذا الحديث بأنه حديث ضعيف لأن الحديث مداره على جسرة بنت دِجاجة - بكسر الدال - قال عنها البخاري: " عند جسرة عجائب" [انظر: " التاريخ الكبير " (2/ 76)]، وهذا يفيد أنها ضعيفة، وهذا الحديث رواه أبو داود وابن خزيمة من طريق عبد الواحد بن زياد ثنا الأفلت بن خليفة قال حدثتني جسرة بنت دِجاجة رضي الله عنها قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: " وجهوا هذه البيوت عن المسجد " ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئاً، رجاءَ أن تنزل فيهم رخصة فخرج إليهم بعدُ فقال: " وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ".
وهذا الحديث رواه ابن خزيمة وصححه الشوكاني وقَبْلَهُ حسنه ابن القطان وقال: " إن قول البخاري في جسرة: عندها عجائب، لا يكفي لمن يسقط ما روت " [انظر: "بيان الوهم والإيهام "].
وفي سنده أيضاً (أفلت بن خليفة) واختلف في قبول حديثه فقد ضعفه ابن حزم [في: " المحلي" (2/ 186)]، وبالغ قال إنه باطل وضعفه ابن المنذر[في: " الأوسط" (2/ 110)] والخطابي[في: " معالم السنن" (1/ 158)]، وقبل رواية (أفلت) الإمام أحمد وقال: ما أرى به بأساوقال عنه الذهبي: صدوق صالح [في: "الكاشف" رقم (461)] و قال عنه الدار قطني: " صالح " [انظر: " تهذيب الكمال" (3/ 320)]،هذا بعض ما قاله الأئمة عن أفلت ولئن قبلت رواية أفلت فإن في حديث الباب جسرة بنت دِجاجة و مدار الحديث عليها كما سبق فهو حديث ضعيف لثلاثة أسباب في جسرة:
أولاها: أن جسرة اضطربت في رواية الحديث، فالحديث رواه ابن ماجةأيضا(حديث رقم (645)) وجسرة عند ابن ماجة مرة تروي عن عائشة رضي الله عنها و مرة عن أم سلمة رضي الله عنها، وهذا مما يدل على عدم ضبطها.
ثانيها: أنها تفردت في هذا الحديث حيث لم يروه كبار أصحاب عائشة رضي الله عنها.
ثالثها: أن حديثها في سد جميع الأبواب جاء عن بعض أصحاب عائشة رضي الله عنها، فقد قال عروة وعباد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: " سدوا هذا الأبواب إلا باب أبي بكر " قال البخاري (و هذا أصح).
وأيضا سبق أن البخاري وهو من حفاظ الدنيا ذكر أن عند جسرة عجائب وهذه قرائن تضعف الحديث و الحديث ضعفه الخطابي في معالم السنن و ابن القيم في تهذيب السنن والنووي في المجموع و ابن حزم في المحلى و الألباني في إرواء الغليل.
فالحديث ضعيف.
والقول الثاني: أنه يجوز للجنب المكوث في المسجد.
واستدلوا:
أ- أن أهل الصفة كانوا يبيتون في المسجد إذ لا مأوى لهم إلا المسجد.
ووجه الدلالة: أن من كان ملازماً في المسجد لا يسلم من الجنابة بالاحتلام.
ب- أن المشرك يجوز له دخول المساجد كلها إلا المسجد الحرام لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ [التوبة: 28 ].
و أما ما سواها من المساجد فيجوز و قد بَّوب البخاري (باب دخول المشرك المسجد) وساق حديث ربط ثمامة بن أثال عندما كان مشركاً في المسجد والحديث متفق عليه فقالوا: إذا جاز هذا للمشرك النجس مهما تطهر فكيف لا يجوز للمسلم الجنب من المسلمين فهو أحق من باب الأولى.
ج- الأصل في الأشياء الإباحة وعدم التحريم ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل ولا دليل على ذلك وأما قوله تعالى: " وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ " فالمقصود به عدم اقتراب الصلاة ذاتها لا المصلى.
والقول الثالث: أنه يجوز للجنب أن يمكث في المسجد إذا كان متوضئاً وبه قال الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
واستدلوا: بما رواه سعيد بن منصور عن عطاء بن يسار رضي الله عنهم قال: " رأيت رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضئوا وضوء الصلاة ".
وهذا الحديث رواه سعيد بن منصور من طريق عبدالعزيز بن محمد الدراوردي (وهو من رجال مسلم) عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار.
وهشام بن سعد قال عنه الحافظ في التقريب (صدوق له أوهام) ويستثنى من ذلك روايته عن زيد بن أسلم كما في هذا الحديث فإنه ثقة فيه لملازمته له ومعرفته بحديثه.
[انظر: " تهذيب التهذيب" (11/ 37)].
فالأظهر والله أعلم: القول الثالث وأن الجنب يجوز له المكث في المسجد إذا توضأ جمعاً بين الآية وأثر عطاء بن يسار، وأما من لم يتوضأ فلا يجوز له المكث وله العبور فقط لدلالة الآية والله أعلم.
ثانياً: الحائض وحكم لبثها في المسجد.
القول الأول: أنه يحرم على الحائض اللبث في المسجد وهو قول جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية في مذهب أحمد.
واستدلوا:
أ: بقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ ﴾ [النساء: 43].
ووجه الدلالة: قالوا قياس الحائض على الجنب فإذا نُهي الجنب عن الاقتراب من مواضع الصلاة فالحائض من باب أولى لأن حدثها أغلظ فهو يمنع الصيام ويسقط الصلاة بخلاف الجنب.
ونوقش هذا الاستدلال بأن بينهما فرق حيث إن الجنب يستطيع التطهر متى شاء بخلاف الحائض فالآية إنما وردت في الجنب والقياس على الجنب فيه نظر.
ب: استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: " إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " رواه أبو داود وابن ماجه.
ونوقش هذا الاستدلال بأن الحديث ضعيف وسبق بيان ضعفه قريباً في مسألة مكوث الجنب في المسجد.
ج: حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه حينما حاضت في حجة الوداع قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ".
ونوقش هذا الاستدلال:
بأن الحائض هنا منعت من الطواف فقط وهو ظاهر النص، وهذا الاستدلال استدل به المجيزون للبث الحائض في المسجد
حيث قالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم منعها من فعل الطواف وجاء منعها من الصلاة كما في الصحيحين وأما غيرها من العبادات
فيجوز لها أن تفعله فظاهر الحديث يدل على جواز دخولها المسجد بشرط ألا تطوف حتى تطهر فيجوز لها الذكر وقراءة القرآن والمكث في المسجد، ولو كان دخول المسجد محظوراً عليها لبيّنه حين منعها من الطواف ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
د: حديث أم عطية رضي الله عنها المتفق عليه في صلاة العيد حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم الحيَّض أن يعتزلن المصلى.
ونوقش هذا الاستدلال:
أنه منعهن مخافة تلويث المصلى بدم الحيض النجس والمراد بالمصلى هو المكان الذي يُصلى فيه لئلا تضايق المصليات وتقطع صفوفهن وتشوش عليهن.
ويؤيد هذا المعنى ما جاء في رواية البخاري لحديث أم عطية رضي الله عنها حيث قالت: " حتى نخرج الحيض فَيكُنَّ خلف الناس " وأصرح من هذا لفظ الدارمي: " فأما الحيض فإنهن يعتزلن الصف، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين " بل جاء في رواية مسلم ما بين هذا بصراحة تامة حيث قالت أم عطية رضي الله عنها: "فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين " وهذه الرواية مفسرة لرواية (وتعتزل الحيض المصلى) وقال السندي [انظر: " حاشيته على سنن النسائي (1/ 194)] (وتعتزل الحيض المصلى) أي: في وقت الصلاة، وفيه: أنه ليس لحائض تحضر محل الصلاة وقت الصلاة، والله تعالى أعلم.
وبهذا يندفع الاستدلال بل إن المجيزين جعلوا هذا من أدلتهم حيث جاز للحائض البقاء إلا أنها تجتنب صفوف الصلاة.
هـ: استدلوا بحديث الباب وقول عائشة رضي الله عنها حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لها ناوليني الخمرة من المسجد فقالت: "إني حائض".
ووجه الدلالة: أن عائشة رضي الله عنها اعتذرت عن دخول المسجد لكونها حائضاً وهذا يدل على منع الحائض من المكث في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أقرَّها على هذا الاعتذار.
ونوقش هذا الاستدلال:
أن إيراد عائشة رضي الله عنها لحال الحيض هنا هو تحرجها من إمساك الخُمرة (السجادة) وهي حائض ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن حيضتك ليست في يدك) فهذا المعنى محتمل، وقيل فيه احتمالات أخرى والمقرر في أصول الفقه أنه (إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال) بل إن المجيزين يستدلون بهذا الحديث ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " إن حيضتك ليست في يدك " فالحيض مكانه معروف واليد ليس مكانه حتى تنجس به الخمرة أو المسجد، وهذا ظاهر الدلالة على أن المقصود هو أمن تنجيس المسجد والمرأة في زماننا اليوم تشد على فرجها ما تأمن معه من أن تنجس ثيابها فضلاً عن مكان قعودها ومرورها، وعليه فيجوز للمرأة الحائض دخول المسجد والشاهد أن حديث الباب تجاذبه أصحاب القولين فلا يصلح أن يكون نصا قاطعا ً لأحد الفريقين.
والقول الثاني: أنه يجوز للحائض اللبث في المسجد للحاجة والضرورة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية [انظر: " الفتاوى" (21/ 288)].
واستدلوا: بحديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري: أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب فأعتقوها فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت فكان لها خباء في المسجد.
قال ابن حزم: " فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمعهود من النساء الحيض، فما منعها ولا نهى عنه، وكل ما لم ينه عليه الصلاة والسلام عنه ويأمر به فهو مباح " [انظر: " المحلى (2/ 186)].
ويلحق بهذه الحاجة دخول الحائض لحضور محاضرة أو دروس علمية.
والقول الثالث: أنه يجوز للحائض دخول المسجد والمكث فيه، وهو قول للشافعي وأحمد في احدى الروايتين وهو قول الظاهرية واختاره ابن حزم [انظر": الإنصاف للمرداوي" (1 / 347)].
واستدلوا:
أ: بحديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري في خبر الوليدة السوداء التي كانت في المسجد ولها خباء.
ب: أن الأصل في الأشياء الإباحة وعدم التحريم حتى يدل دليل على التحريم ولا دليل على التحريم وأما حديث " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " فهو حديث ضعيف كما سبق وهو عمدة في المسألة لو صح، ولكن ضعفه جمع من الحفاظ.
وهذا القول قوي ظاهر الدلالة والله أعلم لا سيما مع أمنها من تلويث المسجد كما في وقتنا اليوم، وأما عبور المرأة الحائض ودخولها لأخذ شيء مثل سجادة أو كتاب أو أخذ حاجة من حوائجها فلا بأس لحديث الباب حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها " ناوليني الخمرة من المسجد " قالت فقلت إني حائض فقال: إن حيضتك ليست في يدك ".
قال النووي: " وأحسن ما يوجه به هذا المذهب إن الأصل عدم التحريم وليس لمن حرَّم دليل صحيح صريح " [انظر: " المجموع (2 / 160)]
واختاره الألباني (انظر: " تمام المنة "ص 119).
وذكر أن الأصل البراءة وعدم وجود ما ينهض على التحريم، وهو اختيار العلوان في فتوى له.
وقال شيخنا عبدالله الفوزان: " وأما الحائض فليس في منعها من المسجد إلا حديث الباب – يقصد حديث إني لا أحل المسجد لحائض لحائض ولا جنب وبَّين شيخنا ضعفه - وأما القياس على الجنب ففيه نظر، للفارق بينهما، وهو قدرته على التطهر دونها، وعلى هذا فيجوز لبثها في المسجد، وعليها أن تتحرز من إصابة المسجد بالأذى " [انظر: " منحة العلام" (2 / 63)].
وبناء على ما سبق من أدلة المسألة الأظهر والله أعلم؛ جواز مكث الحائض في المسجد إذا أمنت إصابته بالأذى كما في واقعنا اليوم لعدم الدليل الثابت المانع من ذلك، لا سيما من احتاجت دخول المسجد وهي كذلك كحضور دروس العلم وحلقات تحفيظ القرآن ونحوها، والقول بجوازه مطلقاً قوي الدلالة وتقييده بالحاجة أفضل لدخول عائشة رضي الله عنها المسجد حال حيضها حين احتاجت جلب خمرة النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً لخبر الوليدة السوداء، واختار الشيخ ابن جبرين جواز دخولها لغير مكان الصلوات الخمس إن كان لحضور دروس العلم مع أنه يرى المنع في هذه المسألة حيث قال: " لا يجوز للمرأة الحائض دخول المسجد الذي تؤدى فيه الصلوات اليومية، لكن يجوز لها أن تدخل في الملحقات والرحبة والغرف القريبة من المسجد ولو كانت أبوابها داخل المسجد إذا كانت متحفظة، وقصدها أن تستفيد من الدروس العلمية والفوائد والأحكام الشرعية "[انظر: " فتاواه "، فتوى رقم (1533) ]..
وقال في فتوى أخرى: " المصلحة تقتضي دخول المرأة إلى هذا المصلى الخاص بالنساء، وذلك للاستفادة والإفادة،وحيث إنه محجوز عن المسجد العام، وأن مدخله مستقل من الشارع مباشرة ولا يدخله سوى النساء لحضور مجالس الذكر وإلقاء الدروس فأرى – والله أعلم – المصلحة في دخولهن ولو مع الحيض للخلاف في دخول المرأة الحائض المسجد والضعف الحديث في ذلك ولأن الصحابة كانوا يدخلون المسجد مع الجنابة بعد الوضوء لحضور مجلس العلم " [انظر: " فتوى رقم (5137)].
الفائدة الخامسة: حديث عائشة رضي الله عنها واتكاء النبي صلى الله عليه وسلم في حجرها وهي حائض وهو يقرأ القرآن دليل على طهارة ذات الحائض، وهل يجوز للحائض أن تقرأ القرآن؟.
اختلف أهل العلم في حكم قراءة القرآن لمن عليه حدث أكبر كالحائض والجنب بعد أن أجمعوا على أن من عليه حدث أصغر يجوز له أن يقرأ القرآن من غير مس له ونقل إجماع أهل العلم على ذلك النووي [انظر: " المجموع" (2/ 163)]، وابن عبد البر [انظر: " الاستذكار" (8/ 14)]، ويدل على ذلك حديث ابن عباس المتفق عليه قال: بت عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران؟ ثم قام إلى شِّن معلَّقة فتوضأ..........
" الحديث.
وأما من عليه حدث أكبر فاختلف أهل العلم في حكم قراءة القرآن له من غير مس للقرآن على قولين:
أولًا: قراءة الجنب للقرآن.
القول الأول: أنه لا يجوز له يقرأ القرآن، وهو قول جمهور العلماء.
واستدلوا:
أ- بحديث علي رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً " رواه الخمسة.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن أبا داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن حبان رووه من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سَلِمة المرادي عن علي، وهو حديث مداره على عبدالله بن سَلِمة (بكسر اللام) وهو رجل متكلم فيه قال عنه البخاري [" التاريخ الكبير " (1/ 156)] في ترجمة عبدالله بن سَلِمة: لا يتابع في حديثه، وذكر الخطابي [في: " معالم السنن" (1/ 156)] عن الإمام أحمد أنه كان يوهن حديث علِّي هذا ويضعف أمر عبدالله بن سَلِمه، والحديث ضعفه الشافعي والنووي [في: " المجموع " (2/ 159)]،وذكر ابن المنذر في الأوسط أن حديث علي لا يثبت إسناده، ولو ثبت خبر علي فلا يدل على وجوب الامتناع عن القراءة لما يلي:
1- أنه من فعله صلى الله عليه وسلم وفعله لا يدل على الوجوب.
2- لو كان تركه للتحريم لبيَّنه بياناً عاماً لحاجة الناس إليه ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
[انظر: الأوسط 2/ 100 والمحلي لابن حزم 1/ 95]
ونقل الذهبي [في: " الميزان " (2/ 430)]: أن شعبة عن عمرو بن مرة قال: "سمعت عبدالله بن سَلِمة يحدثنا وإنا لنعرف وننكر وكان قد كبر "، وهذا يدل على أن سَلِمة قد تغَّير حفظه في آخر عمره وأن عبدالله بن عمرو روى عنه في هذه الحالة وهذا مما يدل على أن الحديث ضعيف أيضاً.
ب- واستدلوا أيضاً بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن"رواه الترمذي وابن ماجه.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن الحديث ضعيف أيضاً لأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر، وإسماعيل بن عياش روايته عن الحجازيين ضعيفة لا يحتج بها أهل الحديث وهو هنا رواه عن موسى بن عقبة وهو حجازي، وإنما تقبل رواية إسماعيل بن عياش إذا روى عن أهل بلده فقط وبلده الشام، قال الترمذي: " سمعت محمد بن إسماعيل يقول: إن إسماعيل بن عياش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير، كأنه ضعَّف روايته عنهم فيما ينفرد به، وقال إنما حديث إسماعيل عن أهل الشام " [انظر: " جامعه " (1/ 237)].
وقال الإمام أحمد عن هذا الحديث حديث إسماعيل بن عياش بعدما سئل عنه (هذا باطل) [انظر: "ميزان الاعتدال" (1/ 142)].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية" هو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث " [انظر: " الفتاوى " (21/ 460)].
وهذان الحديثان في هذا القول هما أقوى أدلة المانعين قراءة الجنب للقرآن.
والقول الثاني: أنه يجوز للجنب قراءة القرآن.
وهو قول ابن عباس ذكره البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً بصحته فقال: " ولم يرَ ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً " وهو قول جماعة من التابعين منهم سعيد بن المسيب وهو مذهب داود و ابن حزم.
[انظر: "المحلى "(1/ 77) ابن حزم: " الأوسط" (2/ 99، 100)].
واستدلوا:
1- أن الأصل عدم التحريم حتى يأتي دليل صحيح يدل على التحريم فالأصل البراءة الأصلية، والأحاديث الواردة ضعيفة ولو صحت أيضاً فهي حكاية فعل والفعل لا يدل على الإلزام.
2- عموم حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه " والقرآن ذكر وسماه الله ذكر فقال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ﴾.
ونوقش هذا الاستدلال بأن المراد بالذكر في حديث عائشة رضي الله عنها ما يطلق عليه ذكراً بالعرف ورُدَّت هذا المناقشة بأن لفظ الذكر جاء على لسان الشارع ومعروف في الأصول أن الحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة الأصولية.
والقول الثاني: هو الأظهر والله أعلم لقوة ما ذهب إليه أصحابه فأحاديث المنع غير ناهضة على المنع لضعفها فيبقى الحكم على الأصل.
ثانياً: قراءة الحائض للقرآن.
اختلف أهل العلم في ذلك أيضاً، فمنهم من منع ذلك مستدلاً بحديث ابن عمر رضي الله عنه السابق " لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن " رواه الترمذي وابن ماجه وسبق بيان ضعفه، وأيضاً قاسوا الحائض على الجنب وهو قياس لا يظهر لوجود الفارق بينهما.
والقول الثاني: أنه يجوز للحائض قراءة القرآن وهذا القول هو الأظهر والله أعلم لأن الأصل هو الجواز حتى يثبت الدليل الناقل عن الجواز ولا دليل على ذلك وهذا القول هو مذهب الإمام مالك وأحمد في إحدى روايتيه واختاره الطبري وابن المنذر ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومن أهل العلم من قيَّد الجواز بالحاجة كالأوراد وخشية النسيان وعند التعليم كونها معلمة ونحو ذلك مما يعرض من الحاجة، والأظهر والله أعلم الجواز مطلقاً.
قال ابن القيم رحمه الله: "فلو منعت - يعني الحائض - من القراءة لفاتت عليها مصلحتها، وربما نسيت ما حفظته زمن طهرها، وهذا مذهب مالك وإحدى الروايتين عند أحمد وأحد قولي الشافعي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع الحائض من قراءة القرآن وحديث: " لا تقرأ الحائض والجنب شيئاً من القرآن " لم يصح فإنه حديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث......
" [انظر: " إعلام الموقعين" (3/ 24)].