أرشيف المقالات

من آثار الإيمان باسم الله السلام (3)

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
سلسلة شرح أسماء الله الحسنى (31)
من آثار الإيمان باسم الله "السلام" (3)


سبق الحديث - في إطار سلسلة (شرح أسماء الله الحسنى) في جزئها الثلاثين - عن القسم الثاني من أقسام شرح اسم الله "السلام"، الذي خصَّصناه لفقهِ هذا الاسم الجليل، عبر أربعة محاور: (سلامة خَلْقه سبحانه مِن كل خلل أو تناقض، وأن التشريع قائمٌ على ما يُحقِّق السلام من كل وجهٍ، وأن العقوبات في الإسلام لا تُنافي بسطَ السلام؛ بل تحميه وترفدُه، وأن الحرب في ديننا استثناءٌ وليست أصلًا).
 
ونقفُ اليوم إن شاء الله تعالى على بعض آثار الإيمان باسم الله "السلام"، ونجليها مِن خلال ثلاثة أبعاد كبرى:
1- اعتقاد سلامة الله تعالى مِن كل عيب ونقص، فلا يُصِيبه تعبٌ أو نَصَب، ولا يعتريه عجزٌ أو مَلَل؛ لأنه الكاملُ في أسمائه وصفاته.
قال الرازيُّ رحمه الله: "فإن الذي يطرَأُ عليه شيءٌ من العيوب تزول سلامته ولا يبقى سليمًا"، وكذلك اعتقاد سلامة عدله في معاملته خلقَه، فلا ظلم ولا جَور، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].
 
ويُبرِز ابنُ عاشور رحمه الله السرَّ في ترتيب أسماء الله عز وجل في قوله تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ ﴾ [الحشر: 23]، فيقول: "وعَقَّب بـ(القدوس) وَصْفَ (المَلِك)، إشارةً إلى أنه مُنَزَّه عن نقائضِ الملوك المعروفة، مِن الغرور والاسترسال في الشهوات، ونحو ذلك من نقائض النفوس، وعَقَّب بـ(السلام) للدلالةِ على العدل في معاملته الخلق"، ولهذا التقارب والتواشج بين هذه الأسماء لم يؤتَ بحرفِ العطف بينها.
 
قال ابن القيم رحمه الله: "كلما كان التغايرُ أبينَ كان العطف أحسن، ولهذا جاء العطفُ في قوله: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ [الحديد: 3]، وترك في قوله: ﴿ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ ﴾ [الحشر: 23]".
 
2- العمل على استجلاب سلامةِ الله في أشدِّ المواطن احتياجًا إليها، وهي المذكورةُ في قوله تعالى - تكريمًا لسيدنا يحيى بن زكريا عليهما السلام -: ﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 15]، قال سفيان بن عُيَينة رحمه الله: "أَوْحَشُ ما يكونُ الخلقُ في ثلاثة مواطن: يوم يُولَد، فيرى نفسَه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت، فيرى قومًا ما شاهدهم قط، ويوم يُبعَث، فيرى نفسه في محشرٍ عظيم".
 
والمسلمون الصادقون يَسلَمون مِن أهوال خروج الروح؛ حيث تُسَلِّم عليهم الملائكة، يُطَمْئِنون نفوسَهم، ويُسكِنون قلوبَهم، ويُذْهِبون رَوْعَهم، ويُؤمِّنون خوفهم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]، قال مجاهد: ﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾؛ أي: عند الموت، لا تخافوا ما تُقْدِمون عليه من أمر الآخرة، ولا تحزَنوا على ما خلَّفتم من دنياكم من أهلٍ وولدٍ؛ فإنا نَخلُفكم في ذلك كلِّه".
 
والمسلمون الصادقون يَحْظَون من أنواع السلامة في قبورهم ما تهفو إليه نفس كل مؤمن يحب لقاء الله.
 
ولنتأمَّل في هذا الحديث العجيب، الذي يُظهِر لنا قيمةَ المؤمن عند ربه، الذي سَيُسَلِّمه مِن أهوال القبر، ويُبشِّره بأنواعٍ مِن البشارات، وألوانٍ مِن المسرَّات، نذكره على طوله لأهميته.
 
فعن البراءِ بن عازبٍ رضي الله عنه، قال: خرجنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في جنازة رجلٍ مِن الأنصار، فانتهَيْنا إلى القبر ولَمَّا يُلحد، فجلس رسولُ الله وجلسنا حولَه كأنَّ على رؤوسنا الطيرَ، وفي يدِه عُودٌ ينكُتُ به في الأرض، فرفع رأسه، فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر))، مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ مِن الدنيا وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه ملائكةٌ مِن السماء بِيضُ الوجوه كأنَّ وجوهَهم الشمسُ، معهم كفنٌ مِن أكفان الجنة، وحَنُوطٌ مِن حنوط الجنة، حتى يَجلِسُوا منه مدَّ البصر، ثم يجيء مَلَكُ الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرُجي إلى مغفرة من الله ورضوانٍ، فتخرج تَسِيلُ كما تسيل القَطْرة مِن في السِّقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدَعُوها في يدِه طرفةَ عينٍ حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرُجُ منها كأطيبِ نفحةِ مِسْكٍ وُجِدَت على وجه الأرض، فيَصعَدُون بها، فلا يمرُّون على ملأ مِن الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الطيِّب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسنِ أسمائه التي كانوا يُسمُّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتَح لهم، فيُشيِّعه مِن كلِّ سماء مُقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهيَ به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتُبُوا كتاب عبدي في علِّيينَ، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتُهم، وفيها أُعِيدُهم، ومنها أُخرِجُهم تارةً أخرى، فتُعادُ رُوحُه في جسدِه، فيأتيه مَلَكاِن، فيُجلِسانه، فيقولانِ له: مَن ربك؟ فيقول ربي الله، فيقولان له: ما دينُك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسولُ الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدَّقتُ، فينادي منادٍ في السماء: أَنْ صدَقَ عبدي، فأفرِشُوه من الجنة، وألبِسوه من الجنة، وافتَحُوا له بابًا إلى الجنة، فيأتيه مِن رَوحِها وطِيبِها، ويُفسَح له في قبرِه مدَّ بصره، ويأتيه رجلٌ حَسنُ الوجه، حسنُ الثياب، طيِّب الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يَسُرُّك، هذا يومُك الذي كنت تُوعَد، فيقول له: مَن أنت؟ فوجهك الوجه يجيءُ بالخير، فيقول: أنا عملُك الصالح، فيقول: ربِّ، أقمِ الساعة حتى أرجعَ إلى أهلي ومالي))؛ رواه أحمد، وهو في صحيح الترغيب.
 
والمسلمون الصادقون يُكرِمُهم الله عز وجل بعد ضربِ الصراط يوم القيامة، فيكون شعارُهم عليه: "سلِّم سلِّم"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فيقوم المسلمون، ويوضع الصراط، فيمرُّون عليه مثل جِيادِ الخيل والرِّكاب، وقولهم عليه: سلِّم سلِّم))؛ صحيح سنن الترمذي.
 
وعند مسلم: ((ثم يُضرَب الجسر على جهنم، وتحلُّ الشفاعة، ويقولون: اللهم سلِّم سلِّم)).
 
فيَسلَم مِن أهوال الصراط مَن حقَّق آثار الإيمان باسم الله "السلام"، ويكون في أعلى درجات الناجين.
 
يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((فيمر المؤمنون كطَرْف العين، وكالبَرْق، وكالرِّيح، وكالطير، وكأَجاوِيد الخيل والرِّكاب، فناجٍ مُسلَّم، ومَخْدُوش (مَخْدُوج) مُرسَل، ومَكْدُوسٍ في نار جهنم)).
 
قال السيوطيُّ رحمه الله، وغيرُه:
"يكونون على أنحاءٍ: فبعضهم مُسلَّمون مِن آفته، وبعضهم مَخْدُوجَون؛ أي: ناقصون مِن خلقتهم، تأخذ الخطاطيف مِن لحمه لتسعفَه النارُ، ثم ينجو، وبعضهم مُحتَبَس ومنكوس؛ أي: يلقي في النار على وجهه".
 
فلا ضيرَ إِنْ سلِمْتَ يوم القيامة أن يصيبَك في الدنيا ما يصيب غيرَك مِن الفقر، والمرض، والحاجة، والجفاء، والاتهام بالباطل، والطعن في العِرْض، والرَّمْي بالنقص والجهل؛ فقد أصاب ذلك غيرَك مِن الأنبياء والصالحين، فما أقعدهم عن إصلاح دينهم، وما شغلهم عن آخرتهم؛ لأن الفوز الحقيقيَّ هو الفوز بالجنة.






واشدُدْ يَدْيكَ بحَبلِ الله مُعتَصِمًا
فإنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خانَتْكَ أركانُ


مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُحْمَدْ في عَواقِبِهِ
وَيكفِهِ شَرَّ مَنْ عزُّوا ومَنْ هانُوا


وكُلُّ كَسْرٍ فإنَّ الدين يَجبُرُهُ
وما لِكَسرِ قَناةِ الدِّينِ جُبْرانُ






 
3- المسارعة إلى ما يُسَلِّمُ العبد يوم الحساب؛ ومن ذلك:
الأمانة والرَّحِم، قال صلى الله عليه وسلم: ((وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَي الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا))؛ مسلم.
 
قال النووي رحمه الله: "تُصوَّرانِ مُشخَّصَتينِ على الصفة التي يريدها الله تعالى".
 
وقال ابن حجر رحمه الله: "والمعنى أن الأمانة والرحم لعظمِ شأنهما وفخامة ما يلزم العبادَ من رعاية حقهما، يُوقَفانِ هناك للأمين والخائن، والمواصل والقاطع، فيُحاجَّانِ عن المُحقِّ، ويشهدان على المُبطِل".
 
وقال ابن الجوزي رحمه الله: "المراد أنه مَن أدَّى الأمانة ووصل الرحم نجا، ومَن لم يفعَلْ لم يَسلَمْ".
 
ومِن هذه الأعمال أيضًا نشرُ السلام بين الناس قولًا وفعلًا، قال صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلاَمَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ))؛ صحيح سنن الترمذي.
 
ولَمَّا سأله أبو شريحٍ رضي الله عنه عن شيءٍ يُوجِب له الجنة، قال له: ((طِيبُ الْكَلاَمِ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ))؛ صحيح الترغيب.
 
ومِن هذه الأعمال، أن يسلَم الناسُ مِن ألسنتنا وأيدينا، فعن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: ((الصلاةُ على ميقاتِها))، قلتُ: ثم ماذا يا رسولَ اللهِ؟ قال: ((أن يَسلَمَ النَّاسُ مِن لسانِك))؛ صحيح الترغيب.
 
وقال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنُ مَن أَمِنَه الناسُ، والمسلمُ مَن سلِم المسلمون مِن لسانه ويده، والمهاجرُ مَن هجر السوءَ، والذي نفسي بيده، لا يدخُلُ الجنةَ عبدٌ لا يأمَنُ جارُه بَوَائِقَه))؛ صحيح الترغيب.
 
فليتَّقِ اللهَ مَن أراد السلامة في الدنيا والآخرة، فما خاب مَن اتقاه، وليَزِنْ أعمالَه بميزان الشرع، فما ندِم مَن اقتفى هُداه.






الناس في غفلةٍ والموتُ يُوقِظُهم
وما يُفِيقُونَ حتى يَنفدَ العُمُرُ


يُشيِّعون أهاليهم بِجَمعهمُ
ويَنظُرُونَ إلى ما فيه قد قُبِروا


ويَرجِعُون إلى أحلامِ غفلتِهم
كأنَّهم ما رأَوا شيئًا ولا نظُروا

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢