خطب ومحاضرات
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة -2
الحلقة مفرغة
الطهارة من النجاسة
فأما الطهارة في البدن فلما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بالاستبراء من البول، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه )، وفي لفظ: ( عامة عذاب القبر من البول )، وهو حديث صحيح .
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لـأسماء : ( اغسلي عنك الدم وصلي )، يعني: دم الحيض، وغيره من النجاسات مثله، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستنجاء في موضع الخارج من الغائط والبول، فذلك يدل على وجوب الطهارة من النجاسة في البدن.
أما في الثوب فلقول الله جل وعز لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، ومثل الثوب النعل، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فطهورهما التراب )، وأمر -كما سوف يأتي- ( أمر من أراد أن يصلي في نعليه أن ينظر فيهما، فإن وجد أذى -أو قال: قذراً- فليمسحهما وليصل فيهما )، فالطهارة في الثوب والنعل واجبة.
وكذلك موضع الصلاة: يعني الأرض أو البقعة أو نحوها، والأولى أن يعبر فيما يتعلق بموضع الصلاة بإباحة البقعة، ليشمل ذلك طهارتها وإباحتها أيضاً، بحيث لا تكون نجسة أو مغصوبة أو محرمة على ما هو معروف، فإن الإباحة أعم من الطهارة، فهذا هو الشرط الرابع في الصلاة.
المعفو عنه من النجاسة
فالنجاسة اليسيرة يعفى عنها مطلقاً، وذلك لمشقة التحرز منها على ما سبق في باب المياه، وحد اليسير: هو ما لا يفحش بنفس الإنسان، ما لا يكون فاحشاً في نفسه، وهذا هو الذي استقر عليه كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يصلون في الدم اليسير، ومن المعلوم أن الإنسان لا يخلو في بدنه من حيث تقيح أو بثرة أو نحوها، فعفا الشارع عن ذلك كله لمشقة التحرز منه؛ ولأن في مراعاة ذلك فتحاً لباب الوسواس على الإنسان، فتسامح الشارع في ذلك كله كيسير الدم ونحوه.
حكم صلاة المصلي في نجاسة ناسياً أو جاهلاً
إذاً: هذا دليل على أن الجاهل والناسي إذا صلى وعليه نجاسة -سواء في بدنه أو في ثيابه أو في بقعته- أن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه، وهذا مذهب الجمهور، وهو القول الصحيح والمختار كما قال الإمام النووي، وهو الأصح والأقوى دليلاً؛ وذلك لأن ( النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى فخلع نعليه فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلّم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن جبريل أتاني آنفاً فأخبرني أن فيهما أذى، أو قال: قذراً، فإذا صلى أحدكم في نعليه فلينظر، فإن وجد فيهما أذى فليمسحهما وليصل فيهما )، والحديث رواه أبو داود وابن خزيمة وصححه الأئمة وإسناده صحيح، وهو دليل على أن من صلى وعلى بدنه نجاسة لم يكن علم بها أو علم بها ونسيها أن صلاته صحيحة، وذلك أيضاً داخل في عموم قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وقوله جل وعز: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح خلافاً لقول في مذهب الشافعي وأحمد أن عليه الإعادة.
ما يلزم من علم بالنجاسة وهو في الصلاة
أما كونه يزيلها فذلك واجب؛ لأنه مقدور عليه، فيجب عليه أن يزيل النجاسة إن كان في صلاته، أما البناء على صلاته فلأن ما مضى من الصلاة صحيح، والدليل على أنه يزيلها ويبني على صلاته حديث أبي سعيد السابق الذي رواه أبو داود وهو صحيح، فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أزال النجاسة التي كانت موجودة في نعله، حيث خلع نعليه وبنى على صلاته فلم يستأنفها من جديد، وهكذا لو كانت النجاسة في غير نعله، إلا إن كانت النجاسة في شيء لا يزول إلا بانكشاف عورته، فإنه حينئذ مضطر إلى أن يقطع الصلاة ويستأنفها من جديد.
الأرض كلها مسجد تصح الصلاة فيها
الأرض كلها مسجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ) وذكر منها: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل )، فسمى الأرض مسجداً وسماها طهوراً، أي: أنه يجوز للإنسان أن يصلي فيها، ويجوز له أن يتيمم فيها عند فقد الماء، أو خشية الضرر باستعماله أو العجز عن استعماله، ومثل ذلك أيضاً ما في الحديث الآخر من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره ).
وفي الحديث الثالث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( وكان من قبلنا إنما يصلون في كنائسهم )، وقال في لفظ: ( وكان النبي من قبلي لا يصلي حتى يبلغ محرابه )، فدل على أن الله تعالى خص هذه الأمة بأن كل مكان يصح أن يصلوا فيه إذا كان طاهراً مستوفياً للشروط، ولا يشترط أن تكون الصلاة في المسجد خاصة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [ الأرض كلها مسجد تصح الصلاة فيها ].
الأماكن المنهي عن الصلاة فيها
فأما المقبرة فلا تصح الصلاة فيها، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه أبو مرثد الغنوي -وهو في صحيح مسلم - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ) أي: لا تقعدوا عليها، وقيل: لا تقضوا عليها الحاجة، وأما قوله: ( لا تصلوا إلى القبور ) فذلك دليل على تحريم الصلاة على القبر أو الصلاة إليه، ويستثنى من ذلك الصلاة على الجنازة؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كانوا يصلون على الجنائز بالمقابر.
والعلة في النهي عن الصلاة في المقبرة عند جمهور الفقهاء: هي النجاسة؛ لأن أرض المقبرة تتلوث بدم الأموات وقيحهم وصديدهم ودمائهم وغير ذلك.
وأما العلة الثانية: فذلك خشية أن يفضي ويؤدي إلى تعظيم الأموات وإلى استقبال القبور في الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في الحديث المتفق عليه أنه كان في مرضه الذي مات فيه يقول: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت
إذاً: قد تكون العلة لئلا يفضي ذلك إلى تعظيم المقبورين والصلاة إلى القبور وقصدها بالعبادة، خاصة أن النجاسة ليست ظاهرة في المقابر، بل قد يكون القبر حديثاً، وقد تكون الأرض طاهرة ليس فيها دم ولا قيح ولا صديد ولا غيره.
الأمر الثاني: الحمام، والحمام يظن بعض الناس أنه هو المكان الذي تقضى فيه الحاجة، وهذا معنى عرفي حال، وإنما المقصود بالحمام هو المكان الذي يغتسل فيه، مشتق من الحميم وهو الماء الحار، يطلق الحميم على الماء الحار كما يطلق على الماء البارد، فهو من ألفاظ الأضداد، قال الله تعالى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]، فالحمام هو المكان المخصص للاغتسال لا لقضاء الحاجة، وقد جاء في حديث رواه الترمذي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )، وهذا الحديث يصلح دليلاً لما سبق للمقبرة والحمام، وقد قال جماعة من أهل العلم: فيه اضطراب، وأشار إلى ذلك الترمذي، وصححه الجمهور: صححه ابن خزيمة وابن حبان، والحاكم، وابن حزم، وابن دقيق العيد، بل أشار البخاري إلى تصحيحه، وكذلك قواه الإمام ابن تيمية، وللحديث شواهد كثيرة.
إذاً: الحديث قوي، والاضطراب يمكن فيه الترجيح، وهو دليل على أنه لا تجوز الصلاة في المقبرة ولا في الحمام، وذلك.. قيل فيما يتعلق بالحمام للنجاسة، وهذا ليس بالصواب، فإن الحمام لا يلزم أن يكون نجساً، وقيل: لأنه مأوى الشياطين، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد : إنه بيت الشيطان.
الثالث: قال: [ والحش ].
والحش -بضم الحاء والشين المشددة- وهو مكان قضاء الحاجة، وإذا كان النهي عن الحمام والمقبرة فإن الحش من باب أولى؛ لأنه مكان الشياطين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث الذي مضى معنا: ( إن هذه الحشوش محتضرة )، والحش مظنة النجاسة، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الإبل أو معاطن الإبل، فإن الصلاة في الحش من باب أولى، فالصلاة في الحش محرمة غير جائزة.
وتختلف هذه الأشياء، فأما المقبرة فإن جمهور الفقهاء على كراهية ذلك، وذهب الإمام أحمد إلى تحريمه، وأما الحمام فالجمهور على الكراهية أيضاً, وهو الراجح أن ذلك مكروه في الحمام إلا إن علم فيه نجاسة، أما الحش فالظاهر أن ذلك محرم لما سبق.
قال: [ وأعطان الإبل ].
لما روى جابر رضي الله عنه: ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنصلي في معاطن الإبل؟ قال: لا. قال: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم ) والحديث رواه مسلم، وله شواهد عن جماعة من الصحابة، وهو دليل على أن الصلاة في مرابض الغنم جائزة، بخلاف معاطن الإبل، قيل: لنجاستها. وهذا ليس بصواب لما سبق تقريره أن أرواث وأبوال ما يؤكل لحمه لا تعد نجسة، وإنما الصواب أن النهي عنها لما سبق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إنها خلقت من الشياطين، وإن على ذروة كل بعير منها شيطان )، فأماكنها ومعاطنها محل اجتماع الشياطين، وقيل: لأن ذلك يفضي إلى قلة الخشوع وفقدان إقبال القلب في الصلاة؛ لما يكون في الإبل من الحركة والإقبال والإدبار وغير ذلك مما يخافه المصلي على نفسه، فلا يستجمع قلبه في الصلاة.
قال: [ وقارعة الطريق ].
وقارعة الطريق، أي: وسط الطريق الذي يطرقه الناس بأقدامهم في الذهاب والإياب، وإنما نهى عن قارعة الطريق والصلاة فيها لأسباب:
أولاً: أن ذلك يمنع الناس من الانتفاع بها، والذهاب والإياب، حيث يحرمون منها بسبب هذا المصلي.
الثاني: أنه قد يترتب عليه قطع صلاة المصلي بمرور الناس بين يديه.
الثالث: فقدان الخشوع أو قلته؛ لنظر المصلي في الذاهبين والآيبين، ولذلك نهي عن الصلاة في قارعة الطريق.
وقد نهي عن الصلاة أيضاً في أشياء أخر غير ذلك، فمما نهي عن الصلاة فيه، الصلاة فوق ظهر بيت الله تعالى، وقد جاء في ذلك حديث ضعيف جداً، ولكن ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه يجوز صلاة النافلة في الكعبة بخلاف الفريضة، وهو قول في مذهب الإمام أحمد اختاره الإمام ابن تيمية في كتابه الاختيارات، والصواب أن ذلك جائز في الفرض والنفل لعدم الدليل عليه.
أما قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] فإنه يمكن حتى في داخل الكعبة، فإن المصلي يستقبل جزءاً شاخصاً من الكعبة حتى لو كان في داخلها، فالصواب أنه يجوز الفرض والنفل في داخل الكعبة.
ومما نهي عن الصلاة فيه أيضاً: الصلاة في المجزرة، لحديث ابن عمر وهو ضعيف جداً كما سبق.
وأيضاً الصلاة في المزبلة، ويقال في المزبلة ما يقال فيما سبق، إن كان في المزبلة تلويث أو قاذورات أو رائحة كريهة أو ما أشبه فالصلاة فيها مكروهة.
استقبال القبلة
وذلك لقوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فإنه أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين بأن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام، وبيان بأن ذلك واجب، وهو شرط لصحة الصلاة بالكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب فكما سبق، وأما السنة فلأن ذلك مستفيض، بل متواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً، فكان يستقبل الصلاة بقبلته، وعلم المسيء صلاته أن يستقبل القبلة، وقد جاء أن الناس كانوا يصلون إلى بيت المقدس، كما في حديث البراء المتفق عليه، وصلوا ستة عشر شهراً، ثم أمروا أن يستقبلوا الكعبة، وكذلك في حديث أسامة بن زيد المتفق عليه: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الكعبة، ثم خرج فاستقبل الكعبة وقال: هذه هي القبلة ).
وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على وجوب استقبال القبلة في الصلاة، كما ذكر ذلك -أعني: الإجماع- ابن رشد والقرطبي، والنووي، وابن عبد البر وغيرهم من أهل العلم.
إذاً: استقبال القبلة في الصلاة شرط بإجماع أهل العلم.
جواز صلاة النافلة على الراحلة للمسافر حيث كان وجهه
أما قوله: [ في النافلة على الراحلة ] فَلِمَا روى عامر بن ربيعة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي على راحلته حيث توجهت به، ولا يصلي عليها المكتوبة )، فذلك دليل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي عليها النافلة فحسب، أما المكتوبة -وهي الفريضة- فإنه إذا جاءت الفريضة نزل وصلى مستقبل القبلة.
وأما قوله: [على الراحلة] فلقول عامر بن ربيعة : ( على راحلته ).
وأما قوله: [للمسافر] فإن ذلك هو مذهب جماهير أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يصلي على الراحلة إلا في السفر، وتلك رخصة لا يتجاوز بها الموضع الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والحكمة -والله تعالى أعلم- في ذلك هي التخفيف على الناس، ليتمكن المسافر من التطوع على راحلته، ويتمكن المتطوع المتعبد من السفر لحاجته.
وينبغي أن يعلم أن جمهور أهل العلم يرون أنه يستحب للمتنفل أن يستقبل القبلة في التكبير -يعني: للنافلة- ولا يجب عليه ذلك، خلافاً للرواية الأخرى في مذهب الإمام أحمد .
وذهب بعض السلف إلى جواز صلاة النافلة حتى في الحضر على راحلته، حكي ذلك عن أنس بن مالك رحمه الله وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة وأبي سعيد الإصطخري من الشافعية، وهو مذهب أهل الظاهر، وقد كان أبو سعيد الإصطخري يتنفل على راحلته، وكان قائماً على بعض أعمال الحراسة في بغداد، فكان يتجول في شوارعها ويصلي على راحلته، ذهب هؤلاء خلافاً لجماهير السلف والخلف ذهبوا إلى أنه يجوز أن يتنفل على راحلته، واشترط بعضهم أن يكون مستقبل القبلة.
والصواب ما ذهب إليه الجمهور أن ذلك خاص بحال المسافر؛ لأنها رخصة لم ترد إلا في حال السفر، فتبين أنه لابد من استقبال القبلة إلا بهذه الشروط الثلاثة: أن يكون ذلك في النافلة، وأن يكون على الراحلة، وأن يكون للمسافر، فإنه يصلي حيث كان وجهه.
ما يلزم العاجز عن استقبال القبلة
أما قوله: [ لخوف ] فلقول الله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] إلى آخر الآية.
وكما في قوله في الآية التي بعدها: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، فإن من المعلوم أن الخائف لا يمكنه استقبال القبلة دائماً، بل قد يضطر إلى الكر والفر والإقبال والإدبار، وقد يكون العدو في غير جهة القبلة، فيضطر إلى أن يستدبر القبلة أو يجعلها عن يمينه أو شماله، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: [ فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا قائمين رجالاً أو ركباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ]، فذلك في حال الخوف.
أما قوله رحمه الله: [ أو غيره ] فمثل ماذا؟ قوله: [ أو غيره ] غير الخوف مثل الذي يجهل القبلة، وسوف يأتي ما يتعلق بالجاهل، وأيضاً غير الجاهل؟ المريض الذي يكون إلى غير القبلة ولا يمكنه استقبالها، فإنه يسعه أن يصلي حيث كان؛ لقوله جل وتعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فهؤلاء: الخائف والمريض والعاجز ونحوهم يصلي أحدهم كيفما أمكنه ولا إعادة عليه؛ لأن القاعدة السابقة أن من صلى بحسب طاقته ووسعه فصلاته صحيحة، وليس عليه إعادة لا في الوقت ولا بعد الوقت.
قال: [ ومن عداهما لا تصح صلاته إلا مستقبل الكعبة ].
استقبال عين الكعبة لمن كان قريباً منها
(إن كان قريباً من الكعبة) يعني: حاضراً لها بحيث يراها أو يتمكن من استقبال عينها ببدنه، فلا يسعه إلا أن يستقبل عين الكعبة وذاك البناء؛ لقول الله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( هذه هي القبلة ) كما في حديث أسامة بن زيد المتفق عليه ومضى، ( أنه لما خرج عليه الصلاة والسلام من الكعبة استقبلها وقال: هذه هي القبلة )، فإذا استطاع أن يستقبلها وجب عليه أن يستقبل عين الكعبة، وإن لم يستطع بأن كان بعيداً فإلى جهتها؛ لقوله تعالى: شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] فإن الشطر الجهة؛ ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) رواه الترمذي وقواه البخاري، وهو حديث صحيح .
قوله: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) قيل: المعنى: أن الأرض كلها مسجد، ( ما بين المشرق والمغرب ) يعني: أن الأرض كلها مسجد، والصواب أن المعنى ما بين الجهة إلى الجهة الأخرى قبلة، ويكون ذلك في حال أهل المدينة، ومن كان على شاكلتهم، أهل المدينة ما بين المشرق والمغرب بالنسبة لهم قبلة؛ لأن قبلتهم هي جهة الجنوب، فهذا هو المعنى، أي أن القبلة تكون ما بين الجهتين.
فأما إذا كان بحضرة البيت فالإجماع قائم على أنه يستقبل عين الكعبة.
أما إذا كان بعيداً عنها ففي المسألة قولان: الأول وهو مذهب الجمهور: أنه يكفيه استقبال الجهة؛ للآية وللحديث، وللمشقة في ذلك، فإنه يشق على البعيد أن يستقبل عين الكعبة وذاتها، وأيضاً فإن هذا هو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم تفرقوا في الأمصار وبنيت المساجد والمحاريب، وكانوا يصلون إلى الكعبة، وتكون الصفوف طويلة جداً أحياناً خاصة في العيدين والجمع وغيرها، بحيث يعلم أن هذا الصف الطويل لا يمكن أن يكون مسامتاً للكعبة كله، ولو كان بعضه كذلك لم يكن كله كذلك، ولو أن كل مصل في هذا الصف الطويل امتد خط منه إلى الكعبة لما كان عليها تماماً، وهذا أمر معلوم مجزوم به مقطوع، وقد بنيت المساجد في الأمصار على ذلك، فدل هذا على أنه لا يلزم استقبال عين الكعبة، بل يكفي أن يصيب جهتها.
أما القول الثاني -وهو قول الشافعية-: فهو أنه لابد من إصابة عين الكعبة حتى بالنسبة للبعيد، للأدلة السابقة، وقد وجدت في كلام ابن تيمية رحمه الله ما يدل على أن الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأنه حتى الذين يشترطون إصابة عين الكعبة يقولون: إن ذلك بحسب الوسع والإمكان، وهذا أمر معلوم، والبعيد جداً لا يمكنه إصابة عين الكعبة، وإنما يجب عليه أن يتحرى بحسب طاقته، ولا حرج عليه ولا ينبغي أن يفضي ذلك إلى المشقة.
ما يلزم من خفيت عليه القبلة في الحضر
وذلك لأنه في البلد، والمقصود في بلاد الإسلام، وهذه البلاد فيها مساجد ومحاريب، وبإمكانه أن يسأل الناس عن القبلة، ولو أنه صلى إلى غير القبلة لكان الظاهر من حاله أنه مفرط في ذلك، والمفرط عليه الإعادة، وينبغي أن يقال: لو كان في الحضر في بلاد كفار لا محاريب فيها ولا مسلمون، ولا يستطيع أن يسأل فإنه يصلي بحسب وسعه واجتهاده كما لو كان في السفر، ولا إعادة عليه لأنه لا تفريط في هذه الحالة.
ما يلزم من خفيت عليه القبلة في السفر
وهذا مذهب الجماهير بما في ذلك الأئمة الأربعة المتبوعون: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، بل والشافعي في أحد قوليه، ومن الدليل على صحة ذلك -أنه يصلي باجتهاد ولا إعادة عليه- ما جاء في قصة تحويل القبلة، كما في المتفق عليه عن البراء أنهم كانوا يصلون إلى القبلة، فنزل قول الله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهة الكعبة، فذهب رجل فوجد قوماً يصلون فقال: ( أشهد لصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فحولوا وجوههم من بيت المقدس إلى الكعبة )، فإن من المعلوم قطعاً ويقيناً في ذلك الوقت أن هناك من صلى إلى بيت المقدس بعدما حولت القبلة؛ لأنه لم يبلغه الخبر بذلك، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً منهم بالإعادة، وقد جاء في ذلك حديث ضعيف: ( أنهم كانوا في سفر فصلوا، ثم تبين أنهم كانوا إلى غير القبلة، فلم يأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإعادة ).
ومما يدل على ذلك عموم قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
إذا اختلف مجتهدان في تحديد القبلة
وذلك لأن كل واحد منهما اجتهد وسعه، فهو متعبد بحسب اجتهاده، ولا يحل له أن يقلد غيره وهو قادر على الاجتهاد، كما هو الحال بالنسبة للأحكام والعبادات، فإن المجتهد لا يجوز له أن يقلد مجتهداً آخر، بل يجب عليه أن يعمل بحسب ما أفضى إليه اجتهاده.
وأما بالنسبة للأعمى والعامي -أي: العاجز عن الاجتهاد- والذي فرضه التقليد -سواءٌ كان ذلك في العبادة أو في القبلة- فإنه يتبع أوثقهما في نفسه، فأما ما يتعلق بالعبادة فيتبع أعلمهما وأفقههما في الدين، وأكثرهما معرفة بالحلال والحرام والأحكام.
وأما ما يتعلق بالقبلة فإنه يتبع أعرفهما بالأوقات والجهات والطرق وغير ذلك مما يتعلق به معرفة القبلة، وربما كان الإنسان عالماً بالأحكام جاهلاً بالجهات والطرق والنجوم وغيرها، وربما كان عالماً بالطرق والنجوم وغيرها جاهلاً بالأحكام.
النية في الصلاة
أي: إن كانت الصلاة معينة، كما إذا كانت صلاة مفروضة ظهراً أو عصراً أو غير ذلك، أو كانت نافلة محددة، كأن ينوي راتبة أو وتراً أو ما أشبه ذلك، فإنه لابد من النية لذلك، أما إن كانت صلاة مطلقة غير محددة فإنه ينويها صلاة مطلقة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عمر : ( إنما الأعمال بالنيات )، ويجوز تقديمها على التكبير بالزمن اليسير إذا لم يفسخها، يعني: إذا لم يفسخ النية ولم ينو رفضها أو يتركها، ويكفي في النية أن ينوي أنه سوف يصلي ويستقبل القبلة؛ فإنه من المعلوم أن الإنسان ما استقبل القبلة وفرغ نفسه إلا بنية الصلاة؛ ولذلك لا داعي لأن يفرط الإنسان في ذلك، أو يبالغ في استحضار النية بما يدعو إلى الوسوسة، فإن كثيراً من الناس يستقبل القبلة ثم يريد أن يكبر فيطرأ عليه الشك: ربما رفضت النية، أو يفكر: كيف أستحضر النية؟! ويأتيه الشيطان من هذا الباب، مع العلم أن النية تقع في القلب ضرورة، حتى لو أن الإنسان طولب بدفعها لم يكن قادراً على دفع النية وهو على هذه الحال، فلا ينبغي أن يفرط الإنسان في ذلك ولا أن تدخل عليه الوساوس.
أما ما يذكره الفقهاء من الأقوال في هذا فهو من التفريعات والتفصيلات التي لا دليل عليها ولا حجة، بل يكفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ).
فإذا نوى صلاة واستقبل القبلة وفرغ نفسه لهذا، دل على أنه أقبل عليها ونواها، فيرفع يديه ويكبر دون حاجة إلى مزيد من استحضار النية في ذلك.
قال المصنف رحمه الله في حصة هذا اليوم: [ الشرط الرابع: الطهارة من النجاسة في بدنه وثوبه وموضع صلاته ].
فأما الطهارة في البدن فلما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بالاستبراء من البول، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه )، وفي لفظ: ( عامة عذاب القبر من البول )، وهو حديث صحيح .
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لـأسماء : ( اغسلي عنك الدم وصلي )، يعني: دم الحيض، وغيره من النجاسات مثله، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستنجاء في موضع الخارج من الغائط والبول، فذلك يدل على وجوب الطهارة من النجاسة في البدن.
أما في الثوب فلقول الله جل وعز لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، ومثل الثوب النعل، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فطهورهما التراب )، وأمر -كما سوف يأتي- ( أمر من أراد أن يصلي في نعليه أن ينظر فيهما، فإن وجد أذى -أو قال: قذراً- فليمسحهما وليصل فيهما )، فالطهارة في الثوب والنعل واجبة.
وكذلك موضع الصلاة: يعني الأرض أو البقعة أو نحوها، والأولى أن يعبر فيما يتعلق بموضع الصلاة بإباحة البقعة، ليشمل ذلك طهارتها وإباحتها أيضاً، بحيث لا تكون نجسة أو مغصوبة أو محرمة على ما هو معروف، فإن الإباحة أعم من الطهارة، فهذا هو الشرط الرابع في الصلاة.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية | 3985 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 | 3924 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة | 3852 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض | 3844 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين | 3670 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 | 3623 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض | 3611 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع | 3549 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج | 3513 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها | 3442 استماع |