تفسير سورة القصص [4-8]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4] .

يخبرنا ربنا جل جلاله عن فرعون حاكم مصر مدّعي الألوهية الظالم الغشوم الذي عوقب على ظلمه ودعواه الألوهية بالغرق مع جنده وملئه وقومه، وأنه علا في الأرض وتجبّر وطغى وتكبّر وتعالى على عباد الله، وجعل أهل مصر شيعاً وأحزاباً وفرقاً، فهو من النوع الذي يطبق المثل الدارج: فرّق تسُد، وهذا مبدأ استعماري ظالم اتخذه فرعون مصر الأول وغيره من فراعنة العصر الذين طالما طغوا وعلوا في الأرض استعباداً واستصراخاً وإفساداً، فكان أول ما صنع فرعون حتى لا تجتمع عليه شعوب الأمة فيقضون عليه ويثورون في وجهه ويخلعونه عن ألوهيته الكاذبة، أن جعل أهل مصر فرقاً وشيعاً وطوائف يضرب بعضها بعضاً ويلعن بعضها بعضاً ويتآمر بعضها على بعض ليبقى وحده الحاكم المتسلط.

وجاء إلى فئة من شعبه وهم بنو إسرائيل ووجدهم ضعافاً أذلاء فاستضعفهم، فاستعبد رجالهم ونساءهم وحمّلهم ما لا تطيقه الجبال ذلاً وهواناً وخدمة، فكانوا يقومون بالمشاق والمتاعب من صناعة وزراعة وإصلاح شوارع والقيام بالدور، أما الأقباط قوم فرعون فهم وحدهم المرفّهون المنعّمون بما خلق الله في الأرض من خصب ومن نعم ومن زروع ومن ثمار.

ولم يكفه ذلك الاستضعاف والاستعباد والاستذلال لبني إسرائيل، فذبّح أبناءهم الذكور عندما يولدون، وترك البنات أحياء فلا يقتلهن؛ وذلك لأنه رأى في المنام أن هلاك ملك الفراعنة الأقباط في مصر سيكون على يد وليد من بني إسرائيل، فاتصل بالكهان وبمن يعبّر الرؤيا فعبّروها بأن طفلاً من بني إسرائيل ممن استذلوا واستعبدوا للفراعنة والأقباط سيولد وسيكون سبب هلاك فرعون وخلفائه وقومه من الأقباط على يده، فيغضب غضباً شديداً فيأمر بقتل كل وليد ذكر لإسرائيلية عبرانية فبقي على ذلك زمناً يرسل الذبّاحين والقوابل، عندما يعلمون بحمل امرأة من بنات بني إسرائيل، فيرقبونها إلى وقت المخاض فتدخل القوابل من الأقباط فيقمن بتوليدها، وبعد ذلك يدخل الذبّاحون فيذبحون ذلك الوليد إن كان ذكراً.

ومضى على هذا سنوات وإذا بالأقباط يضجّون ويرفعون شكوى لـفرعون قائلين: يوشك أن يموت شيوخ بني إسرائيل ولا يشب بينهم شاب لأن الصبيان يقتلون عند ولادتهم، وإذ ذلك يفقد العبيد من بني إسرائيل، فيضطرّون للقيام بما كان يفعله عبيدهم من صناعة وزراعة والقيام ببناء الدور وما عليها، وإذا بـفرعون يأمر بأن يُترك أولاد بني إسرائيل عاماً ويذبّحون عاماً، وكان هذا من أمر الله الذي خطر بباله ليحصل ما يحصل لموسى.

فولدت أم موسى وليداً وهو هارون في العام الذي لا ذبح فيه لأولاد بني إسرائيل، فكشفته للقوابل والذبّاحين من الأقباط فتركوه، وإذا بالسنة التالية تلد موسى فكان فزع أمه بولادته ذكراً فزعاً عظيماً إذ هي السنة التي يُقتل فيها ما يولد لبني إسرائيل من الذُكران، فاشتد الحال بأم موسى وحارت ما تصنع، وسيقص الله علينا في سياق القصة ما أوحى به لها وما أمرها به.

فقوله تعالى: يُذَبِّحُ هذا من زيادة المبنى التي تدل على زيادة المعنى، ولو كان الذبح عادياً لقال: يذبح أبناءهم بدون تشديد، ولكن الذبح كان كاملاً ومكتملاً، وكان فرعون حريصاً عليه أشد الحرص، وكان الذبح شديداً إلى أن تُفصل الرؤوس عن الأجساد، وكان لكل حامل إسرائيلية جاسوس إذا هي ولدت ذكراً ولم يُذبح وليدها.

وقوله تعالى: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي: كان فرعون من المفسدين في الأرض، وكان من العتاة والطغاة الظالمين، وكان ممن تأله وزعم الألوهية.

قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5-6].

هاتان الآيتان الكريمتان فيهما مقدمة لما يريد الله تعالى أن يجعله لبني إسرائيل إذ أكثر فيهم الأنبياء، وكانوا خير الأمم بصلاتهم وعبادتهم ودينهم، ولكنهم خرجوا عن أمر الله فبغوا وطغوا، فتركوا الأمر بالمعروف وقاموا بالأمر بالمنكر، وانتشر الفساد بينهم فعاقبهم الله بالتشريد والتدمير وعبّدهم لـفرعون وخلفائه، وللأقباط من قبله وسلالاتهم وذريّاتهم، جزاءً وفاقاً على كفرهم بنعم الله، وعلى الكفر بعد الإيمان، وعلى الظلم بعد العدل والإيقان.

ولكن بعد أن عذّبهم الله وعبّدهم وحمّلهم الشدائد التي لا يكاد يحملها إنسان إلا مرغماً ذليلاً مستضعفاً مستعبداً، أراد الله بعد ذلك أن يرحمهم ويجدد الرسالة لهم ويبعث لهم موسى وهارون فقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ :

يذكر ربنا أنه يريد ولا راد لإرادته، وإرادته أمر وخلق، وإرادته من ذاته جل جلاله يفعل ما يشاء وينفّذ ما يشاء له الخلق وله الأمر.

والآية نزلت من أجل بني إسرائيل المستضعفين عند أقباط مصر، فمنّ الله عليهم وأكرمهم وأنقذهم من طغيان الفراعنة ومن ذل الأقباط؛ فنقلهم من العبودية إلى السيادة، ومن الخدمة إلى المخدومية، ومن الرعية إلى الحكام والملوك.

فقد كانوا مستضعفين محتقرين لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم ذلاً ولا ضيماً من فرعون وملئه، فكانوا يذبّحون أطفالهم ويتركون بناتهم، ويستعبدون شبابهم وشيوخهم ونساءهم في أذل عمل وأقساه وأصعبه، وقد استجاب الله دعوة الصالحين من بني إسرائيل أيام فرعون المتأله وأيام حكم الأقباط، وكان هذا قبل الإسلام بآلاف السنين، فجعلهم ربنا أئمة: جمع إمام، أي: حكّاماً وملوكاً ومتحكمين في أرضهم وفي شعوبهم وفي أمورهم لا يبقي للفراعنة عليهم حكم ولا سلطان، وأورثهم أرض مصر، وما كان فيه فرعون من نعم وخيرات، ومن زروع وأنعام وخصب، ومن أمر ونهي، ويعيد الكرة لهم على الأقباط الفراعنة كما سيقص الله علينا في بقية القصة إلى آخر السورة.

قال الله تعالى: وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:6] أي: نجعلهم الممكنين المحكمين المستقلين بأرض مصر وما حولها من حكم وسيادة وسلطان وأرزاق وأنعام.

ونُري فرعون المتأله الظالم المدّعي للألوهية، ونُري وزيره هامان الذي آزره وساعده على دعوى الإلوهية وعلى ظلم الخلق وذبح المستضعفين واستحياء النساء، وعلى أكل أموال الناس بالباطل، وعلى الشرك بالله ولو بنفسه، ونري جنودهما وحكومتهما وأشياعهما وأنصارهما وجيشهما.

فكل من وافق فرعون على كفره وعلى تألهه سيعاقبه الله وينتقم منه انتقامه من فرعون؛ لأن من أعان ظالماً سُلّط عليه، وقد حرم الله تعالى أن يعان الظالم على ظلمه، وأن يعان الكافر على كفره، فمن فعل ذلك فهم في الظلم والكفر سواء، وقد قال تعالى: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من أعان ظالماً سُلِّط عليه).

فمساعدة الظالمين ظلم، ومساعدة الكافرين كفر، وموافقتهم على ظلمهم وكفرهم تجعلك مثلهم؛ ولذلك فإن الله تعالى قال للمؤمنين من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].

فمن يوالي اليهود والنصارى، ومن يؤيدهم على كفرهم، ومن يجري خلفهم ويذل نفسه لهم ويحرص على استعبادهم؛ يكون يهودياً ونصرانياً مثلهم، ذاك صريح قول الله تعالى الذي لا مين فيه ولا شك ولا ريب؛ ولذلك فإن الله تعالى عاقب فرعون بمثل ما عاقب أشياعه وأنصاره من وزراء وكتّاب وأعوان وجنود، وكل من سانده على عمله من أمته ورعيته فأغرقهم الله في البحر جميعاً، وأورث الله الأرض والأنعام والخيرات لعبيدهم من بني إسرائيل فصاروا سادتهم وحكّامهم.

فأرى الله فرعون وقومه ما كانوا يخافون منه، وهو ما قاله الكهنة في رؤيا فرعون أو ما ذكر من العلم القديم عن إبراهيم الخليل، بأن هلاك فرعون وأقباط مصر سيكون على يد رجل من بني إسرائيل، فما حذروا منه وخافوا منه لن يفيدهم، وما أفاد حذر من قدر، وما قدّره الله كائن مهما حذروا وخافوا وأعدوا ومهما هيئوا فلن يكون ذلك في نتيجته إلا وبالاً عليهم.

وهذا الذي حدث، فكان موسى عليه الصلاة والسلام السبب في القضاء على فرعون بالغرق وإذلال الأقباط، فقد نشأ في دار فرعون، وأكل طعامه ولبس لباسه ونشأ على فراشه وقيل عنه زمناً من الأزمان موسى بن فرعون، وهكذا ما قدّره الله كان، ولا يفيد حذر من قدر، وما أراده الله كائن، لا راد لقضائه ولا مدافع لسلطانه جل وعزّ وعلا.

قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7].

معنى ذلك: أن أم موسى حملت بموسى تسعة أشهر كاملة، فعندما ولدت به وجدت نفسها عوضاً أن تُسر به لأنه ذكر كعادة الناس، فإن ولادة موسى كانت عليها خوفاً وهلعاً ورعباً، خاصة لما رأت من إشراق النور عليه فدخل حبه في قلبها أكثر من حب الأم للأطفال؛ لأن الله ألقى عليه محبته فلا يكاد يراه إنسان إلا أحبه ومن ذلك فرعون، ولولا ذلك لقتله ولما سمح لامرأته أن تتركه في البيت وأن تنشئه على فراشه ونعيمه.

فقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) ظاهر كلمة أوحينا أن أم موسى نبية وأن الله أوحى لها، وهل تكون امرأة نبية؟ وسنجد أن الآية جمعت بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

وجمهور المفسرين قالوا: لم يكن وحياً من جبريل إليها كما يوحى إلى الأنبياء ولكنه كان وحي إلهام، فقد أُلهمت أن تفعل ذلك.

ولكن المحققين من العلماء أبوا ذلك وقالوا: أيمكن للإنسان يوماً أن يأتي إلى وليده فيقتله أو يقذفه في البحر ويقول: أُلهمت أن أفعل ذلك؟! والإلقاء في اليم موت وقتل، ولن يكون هذا ولن يتم إلا بوحي من الله، وإلا لكانت صنعت شيئاً يتجاوز الخواطر، والخواطر قد تكون شيطانية وقلما تكون ملائكية.

ثم في الآية وعد من الله أنه سينقذه وأنه سيرد وليدها لها، وأن وليدها سيصبح نبياً رسولاً، وهل الإلهامات والخواطر تصل لهذه الدرجة من الصحة ومن الحقيقة ومن الوعد؟ وقد كان الأمر كذلك، فقد رد الله لها ولدها بأحسن عيش وأسعد حالة، ثم جُعل ولدها نبياً رسولاً سيداً من سادات الأنبياء ومن الخمسة أولي العزم.

فالذين قالوا إن ذلك إلهام لئلا تكون المرأة نبيةً، ونحن نقول: ذكر الله بأن الرسول لا يكون امرأة، أما أن تكون نبياً فلا مانع، فقد ذكر الله إيحاءه لـحواء وامرأة إبراهيم، وهذا من ذاك.

وتعريف النبي في العقائد هو: عبد أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، فذاك مقصور عليها فلم يجعل لها سيادة على أحد ولا يدخل ذلك في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فهي لم تتول أمر أحد، ولم تكلف بهداية أحد، ولم تؤمر بتبليغ رسالة ولا بنزول كتاب عليها، وإنما هو شيء أوحاه الله إليها فكانت بذلك نبية بالوحي، فالأعمال التي قامت بها والوعود التي وعدت بها لا يكفي أن تكون إلهاماً، ولو قلنا هذا لفتحنا أبواباً، وقد ادعى ذلك بعض من أضلها الله وقالت: أوحي إلي، فعندما قلنا لها كيف أوحي إليك؟ قالت: كما أُوحي إلى حواء وإلى أم موسى وإلى امرأة إبراهيم وإلى أم عيسى.

قلنا لها: فماذا تقصدين بالوحي؟ قالت: الإلهام والخواطر، وهذا يضل فيه الإنسان، وقد يفعل الأفعال المخالفة للشريعة ويقول: أُلهمت وأوتيت خواطر ملائكية، فيضل الضال وينتشر البلاء، وهيهات هيهات أن نُعامل الإلهامات أو الخواطر معاملة الوحي!

وهذه الآية الكريمة فيها أمران ونهيان وبشارتان وخبران، وهي بذلك من أبلغ آي الكتاب الكريم ومن أفصحها ومن أجمعها للكلم في ألفاظ قليلة.

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ هذا الأمر الأول، والأمر الثاني: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي: البحر، وهو نهر النيل.

والنهي الأول والثاني وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي .

والخبر الأول والثاني إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أخبرها الله في وحيه أنه سيرده عليها ولن يهلك في البحر ولن يغرق، وأنه سيجعله من المرسلين، فهما خبران وبشارتان، فسّرت من أن وليدها سيعود إليها وسيكون نبياً رسولاً من أولي العزم.

فقوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أرضعته إلى أن جرى حليبها ودر دره ولكنها مع ذلك خافت عليه الذبّاحين.

بل قالوا: دخل الذبّاحون وقوابل الأقباط عليها يريدون قتله فبادرت وجعلته في تابوت مغلق وقذفت به إلى اليم فلم يجدوا شيئاً ورأوا ثدييها يدر الحليب فقالت: أنا أرضع هارون منذ أشهر فقد ولدته في السنة التي كان فرعون لا يذبح فيها الأطفال فحليبي من وليدي، فوجدوا العلامات فتركوها.

فلما ألقته في نهر النيل كادت أن تُجن ويذهب عقلها كما سيصف الله لنا، ولم تعد تفكّر إلا في الوليد الذي زاد حبه بقلبها كسائر الأولاد، ولكنه زاد لما رأت على جبينه من إشراق ومن نور وما بُشّرت به من الحضرة الإلهية أنه سيكون له شأن وسيكون نبياً ورسولاً من أولي العزم من الرسل، ولا تخافي من إلقاءه في اليم أن يغرق أو أن يختنق أو أن يموت، ولا تحزني على فراقه فإنه سيفارقك يوماً أو يومين أو أقل وسيعود وليدك إليك علناً، وسترضعينه بعز وشرف وستأخذين أجرة على إرضاع ولدك، وبعد ذلك عندما يكبر ويبلغ الأشد ويستوي في عمره وجسمه وعقله سيكون رسولاً نبياً.

قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8].

معنى ذلك أنها ألقته، وأن الأمواج أخذته إلى جوار قصر فرعون وكان على شواطئ النيل، فخرجت جواريه وخدمه على الشواطئ للعب أو الصيد أو للنزهة وإذا بهم يرون صندوقاً ترفعه موجة وتضعه موجة، فترقبوه إلى أن وصل إليهم فأخذوه ولم يفتحوه، فذهبوا به إلى الملكة آسية بنت مزاحم زوجة فرعون فقالوا: وجدنا هذا التابوت في البحر.

وإذا به يفتح على وليد جميل أخّاذ جذّاب ما كادت تقع عين زوجة فرعون عليه حتى شغفها حباً وحتى أصبح كأنه خرج من رحمها.

وجاء فرعون فبادرته قبل أن يبادرها فقالت له: يا فرعون هذا الوليد وجدناه في البحر ولا شك أنه جاء من بعيد.

قال لها: لا بد أن يكون عبرانياً إسرائيلياً ولا بد من ذبحه، فأخذت ترجوه تستعطفه وتجادله حتى تركه.

فقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ أي: التقطوا هذا الوليد موسى، واللقيط أو اللقطة معناهما: وجود شيء في الأرض وأخذه بلا إرادة ولا طلب معد من قبل، وإنما الله هو الذي أتى به لما يراد بهذا الوليد مما سيقصه الله علينا بالتفصيل في هذه السورة الكريمة.

وبعد إلحاح ورجاء وافق فرعون، فسُرّت زوجته وفرحت وأعدت نفسها وكأنها ملكت الدنيا وما فيها ليتم ما يُريده الله من موسى.

وآلك: أولادك وعيالك وخدمك وشيعتك، وقد قيل: كان لـفرعون بنت ولم يكن له ولد، ولم تكن البنت من آسية بنت مزاحم وقد يكون هذا صحيحاً وقد لا يكون صحيحاً، فالآل كما يطلق على الأولاد يُطلق على الخدم والحشم والأنصار والشيعة.

وقوله تعالى: ليَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا أصل اللام أن تكون للتعليل، فهل التقطوا هذا الوليد وهم يريدون أن يكون لهم يوماً عدواً، أو يكون لهم أداة حزن وألم وذل وهوان؟

الجواب: لا، ولكن هذه اللام قالوا عنها في لغة العرب: هي لام العاقبة والصيرورة، أي: هذا الوليد الذي أخذوه ستكون عاقبته في بيتهم عداوة وحزناً وأوجاعاً وآلاماً، فيربون على فراشهم عدواً لهم، وسيكون السبب في القضاء على ملكهم وسلطانهم، والسبب في تحرير العبيد من بني إسرائيل.

وقال ابن كثير : وإن كانت هذه اللام ظاهرها أنها لام العاقبة أو لام الصيرورة ولكنها في الحقيقة هي لام التعليل من قبل الله، أي: أن الله تعالى هو الذي ألهم آل فرعون ليلتقطوه ليكون لهم عدواً وعقوبة وجزاء على ظلمهم وطغيانهم وعلوهم في الأرض بالفساد والاستكبار واستضعاف الضعاف والمساكين، والسبب في ذلك إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ .

وجعل الله هذا الوليد في دار عدوه ليكون سبباً في القضاء عليه؛ لأن فرعون علا في الأرض فطغى وتجبّر وكفر بالله وجعل نفسه إلهاً على الأرض، وصانعه في ذلك وتابعه هامان وزيره وأيده وسانده بالأرواح والأعمار والأجساد والأموال، وكذلك جنده وأنصاره وقومه، وأن هذه الطائفة كلها من ملك ووزراء وحكومة وجيش كانوا خاطئين، وآثمين، ومجرمين، وظالمين، فحق هؤلاء لظلمهم وعتوهم وجرمهم أن يُعاقبوا بما عاقبهم الله به وأعده لهم وهيأه لهم مع الزمن البعيد بعد سنوات.