السيرة البازية


الحلقة مفرغة

موت العالم مصيبة على الأمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.

كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد.

كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: أيما عبد من أمتي أصيب بمصيبة من بعدي فليتعز بمصيبته التي يصاب بها من بعدي فلما كان فقد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم قاصمة حلت بأهل الإسلام بحيث لا ترقى إلى مستواها قاصمة أخرى، فندبنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -إن كنا له حقاً صلى الله عليه وسلم محبين الحب اللائق به- أن نتذكر هذه المصيبة، فكل مصيبة بعده تكون أهون وأخف، وقد نظم الشاعر معنى هذا الحديث بقوله:

اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد

فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها فاذكر مصابك بالنبي محمد

صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا شك أن التاريخ مليء بتراجم عظماء الرجال، وسوف نتوقف كثيراً هذا اليوم؛ لينضم شيخ الإسلام وإمام المسلمين العلامة الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى إلى هذه القائمة المباركة التي ضمت أعلام الإسلام من السلف الصالح رحمه الله تعالى، وليذكر إلى جنب الأئمة الأربعة، وإلى جنب الإمام البخاري ومسلم وابن تيمية وابن القيم وسائر أئمة الإسلام، فاليوم حكم القضاء الإلهي -ونحن بحكم الله سبحانه وتعالى راضون- باليتم على السلفيين، فقد قضى إمامهم وشيخهم الأكبر في هذا العصر رحمه الله تعالى.

يقول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار).

وقال أيوب السختياني رحمه الله تعالى: إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة، فكأني أفقد بعض أعضائي.

وكان أيوب السختياني رحمه الله تعالى يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث، فيرى ذلك فيه، فيبلغه موت الرجل يذكر بعبادته، فما يرى ذلك فيه.

وقال أيضاً رحمه الله تعالى: إن الذين يتمنون موت أهل السنة يريدون أن يطفئوا نور الله، وقد قال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8] فلا شك أن موت أمثال هؤلاء الأئمة من أعظم المصائب التي تحل بالمسلمين، حتى كان بعض الأئمة يتمنى أن يؤخذ من عمره ليضيف في عمر هؤلاء الأعلام.

يقول يحيى بن جعفر : لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل البخاري من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم.

ويقول الشاعر:

لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير

ولكن الرزية فقد حر يموت بموته بشر كثير

ويقول آخر:

فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدم

فالمصيبة في أمثال هؤلاء الناس تعم جميع المسلمين، ولو فقه المسلمون لأدركوا قيمة الخسارة التي حلت بهم، والمصيبة التي نزلت بهم، ولرأيناهم على الأقل صنعوا كما صنعوا حينما ماتت الأميرة ويلز ، فقالوا: هي التي كانت وكانت، فعم الحزن والبلاء، ودخلت الشعائر الكنيسية كل بيت، فلا شك أن هذه من أمارات غفلة المسلمين وضعف إحساسهم بمطالبهم.

عمت طلائعه فعم هلاكه فالناس فيه كلهم مأجور

والناس مأتمهم عليه واحد في كل دار رنة وزفير

يثني عليك لسان من لم توله خيراً لأنك بالثناء جدير

ردت صنائعه عليه حياته فكأنه من نثرها منشور

ولادة الشيخ ابن باز وطلبه للعلم

لا شك أن هذا المصاب الجلل الذي ابتلي به المسلمون حدث عظيم وخطير، ومن أقل حقوق الشيخ رحمه الله تعالى على المسلمين وعلى أهل الإسلام أن يذكر بخير، فإن المؤمنين شهداء الله في الأرض، فلعل في ذكر مآثره ومناقبه رحمه الله تعالى ما يستوجب الدعاء الصالح له، والترضي عنه رحمه الله تعالى.

هو الشيخ الجليل أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز أحد أئمة السنة المطهرة في علوم الشريعة الإسلامية، ومرجع المستفتين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وهذه الترجمة مذكورة في كتاب: علماء ومفكرون عرفتهم، شرع الأستاذ محمد المزوكي تسطيرها منذ أكثر من (25) سنة.

يقول: ولد في الرياض عاصمة نجد يوم (12/ ذي الحجة/ 1330هـ) ، فيكون الشيخ توفي عن تسعين سنة تقريباً رحمه الله تعالى.

يقول: في أسرة يغلب على بعضها العناية بالزراعة، وعلى بعضها عمل التجارة، وعلى كثير من كبرائها طلب العلم، ومن أعيان هذه الأسرة الشيخ عبد المحسن بن أحمد آل باز ، تولى القضاء في الحوطة، والإرشاد في الهجرة، ومنهم كذلك الشيخ المبارك بن عبد المحسن تولى القضاء في بلدان كثيرة كالطائف وبيشة والحلوة.

فالطابع الغالب على أسرته كان طابع الجد في ممارسة الخير؛ سعياً في كسب الحلال، ومذاكرة مسائل الدين، والتزاماً بفضائله، فهي بيئة إسلامية تذكر الناسي، وتعلم الجاهل، وتنبه الغافل.

شاء سبحانه وتعالى أن يحجب عن العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى البصر وهو في مطالع الصبا، وكان الشيخ رحمه الله تعالى يقرأ عليه كتاب: الأدب العربي في السنة الثانية من الجامعة، ففسر بعض الناس قول امرئ القيس :

(له ساقا نعامة) فقال: (ساقا نعامة) يعني: أنه قصير الساقين طويل الفخذين، وهو ما ذهب إليه الأصمعي، فاعترض الشيخ ما في الكتاب بأن العكس هو الصواب، والشيخ رحمه الله تعالى قال يومئذ: إنه قد رأى في حداثته النعامة بالرياض، وفي ظنه أن ساقها أطول من فخذها، فهذا يشير إلى أنه بعد أن أصيب بفقدان البصر كان يتثبت من أشكال الأشياء، وبعض الناس يذكرون أن الشيخ لم يفقد البصر إلا في التاسعة عشرة من عمره رحمه الله تعالى.

ولا شك أن هذا الابتلاء بفقد البصر ضاعف من أثر هذه البيئة المنزلية في نشأته العلمية إذ طالت ملابسته إياها فكثرت صفاته من فضائلها، وانطباعه من سلوكها، ثم تم الله عليه نعمته، فوصله بطائفة من صفوة أهل الصلاح، عنهم أخذ العلم، وبهم تخرج، فجمع بين الحسنيين، مما جعله أنموذجاً حياً بما تصنعه التربية الكريمة إذا التقت بالتثقيف السليم.

كان القرآن العظيم ولا زال إلى آخر حياة الشيخ رحمه الله تعالى هو النور الذي يضيء له حياته، فبدأ دراسته وطلب العلم بالقرآن الكريم، فحفظه عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، ومع اجتهاده أيضاً في تحصيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واتباعه في كل ما يصدر عنه وما يأتيه وما يذر، وبعد أن حفظ كتاب الله باشر انطلاقه في طلب العلم وجهاده فيه، فما ينفك عالماً ومتعلماً وواعظاً ومذكراً لا يجد في غير هذه السبيل متعة ولا فائدة، ولم يحبس الشيخ وقته على أستاذ واحد، بل اتصل بالعديد من المشايخ يتلقى عنهم العلم كلاً في حدود تخصصه، وكان أكثرهم من الأسرة التي لا تزال قائمة على رعاية الأمانة، هذه الأسرة المباركة التي تداولت راية العلم منذ حاملها الأول مجدد القرن الثالث عشر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فقد تتلمذ الشيخ على الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن وهو من أحفاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ثم تتلمذ على الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن ، ثم الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف ، وهو حفيد شيخ الإسلام، وكان المفتي الأكبر في السعودية إلى عهد الملك فيصل .

فأثر هؤلاء المشايخ في عقله وتوجهه، وكانوا يشجعونه على المثابرة في تحقيق الخير والعلم والتبحر في عقيدة السلف.

أما مشايخه من غير آل الشيخ فمنهم الشيخ سعد بن حمد بن آل عتيق وكان قاضي الرياض في ذلك الوقت، ثم الشيخ حمد بن فارس وكان وصي بيت المال فيها، ثم الشيخ سعد البخاري بمكة المباركة والمكرمة، حيث أخذ عنه علم التجويد، إلا أن أطول فترة دراسية قضاها في التتلمذ هي على العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى، حيث لازمه في دروسه ما بين سنة: (1347 إلى 1357هـ)، حيث رشحه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى لتولي القضاء.

تولية ابن باز للقضاء

ولي الشيخ القضاء في منطقة الخرج ما بين عامي: (1357 إلى 1371هـ) حيث قضى في عمله أربع عشرة سنة ونيفاً، كان خلالها كشأنه في كل مكان مصدر خير وبركة وإصلاح لكل ما حوله ومن حوله، وقد ساعده على ذلك طيب قلوب الناس، وتقديرهم لأهل الفضل، وميلهم الفطري إلى العدل.

فكان ينظر في القضايا المعروضة عليه في المحكمة، بقسطاس العدالة بين المتقاضين، ويولي اهتمامه مصالح الناس في كل ما يهمهم، ويكتب إلى المسئولين في كل ما يراه ضرورياً لإصلاح حال الناس.

ولأن الشيخ لا يحب الانقطاع عن طلب العلم فلم يستطع أن يصبر على الانقطاع عن إشاعة العلم ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وكان محفوفاً بطلبة العلم حتى أثناء قيامه بتجربة القضاء، ويبين الشيخ حاله في تلك الفترة بقوله: إن من الصعوبة بمكان محاولة الجمع بين القضاء والتدريس، يعني: كان يهتم اهتماماً كبيراً بالتحري في قضائه بين الناس، لكن كان في نفس الوقت يؤدي مادة التدريس لطلبة العلم، فمن أراد أن يتقن التدريس فإنه لا يسمح لنفسه بإطلاق الآراء دون أن يتثبت، ولا يتقاعس عن الاستزادة من ضياء العلم، وأيضاً كان يعاني من موضوع القضاء؛ لأن القضاء قد يعزل صحبته عن الناس وخاصة عامتهم؛ لأن القضاء حاجز بين القاضي وبين عموم الناس؛ حتى لا يطمع أصحاب المصالح بالتلصص والاحتكاك بالقاضي لتحصيل بعض فوائده من ذلك، فلذلك وجد الشيخ صعوبة في الجمع بين القضاء والتعليم والتدريس؛ لأن كلاً منهما يتطلب من صاحبه التفرغ التام، فكل تساهل في أحدهما إنما يتم من حيث الاهتمام في حق الأخرى.

ابن باز وتوليه رئاسة الجامعة الإسلامية

تخلى الشيخ رحمه الله تعالى عن عمله في القضاء عام: (1371هـ) ليتفرغ للتدريس في المعاهد والكليات حينما بدأ عهد افتتاح هذه الكليات والمدارس في الرياض، وبقي هناك إلى سنة: (1380هـ)، ثم انتقل بعد ذلك إلى المدينة النبوية نائباً عن أستاذه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في رئاسة الجامعة الإسلامية سنة افتتاحها، ثم تولى رئاسة الجامعة إلى عام: (1395 هـ) حيث عهد إليه برئاسة إدارتها فاستقر في الرياض، فكان لا يغادرها إلا لحضور المؤتمرات التي يكلف بها أو لأداء العمرة أو الحج الذي يكاد الشيخ لم ينقطع عنه على الإطلاق، فكل من صحب الشيخ رحمه الله تعالى في عمره المبارك الطويل يقولون: ما انقطع الشيخ عن الحج حتى هذا العام رحمه الله تعالى.

وكان يكره أن يسمي مرضه الشديد بالسرطان رحمه الله تعالى.

ولما زار الملك فيصل رحمه الله الجامعة الإسلامية للمرة الأولى عام: (1384هـ) كان الشيخ رحمه الله تعالى موجوداً في هذه المناسبة، وعرض فيها المقدم -وهو الشيخ محمد المجذوب - انطباعاته عن الجامعة الإسلامية ورسالتها في العالم، وهو يعني بذلك المدح والثناء على جهود الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى في إدارته، فيقول:

هذه الحديقة من أغراس بيتكم وقد بدا ينعها واخلولق الثمر

ردت إلى طيبة العظمى قيادتها فكل صدع به من نفحها أثر

فانظر إلى أمم الدنيا بساحتها في وحدة لم يكن في لهفها شجر

جاءت طلاب الهدى من كل ناحية ظمأى إلى النور تحدوها المنى الكبر

فيومها دأب في الدرس متصل ومعظم الليل في تحصيصه السفر

لا ترتضي الرأي إلا أن تغيبه طريقة المصطفى والآي والسور

جيل الهداة الذي كفوا لمطلعه روح الكفاح ويرنو نحوه القدر

فصدق هذا التوقع والأمل حتى استعاد مهبط الوحي مركزه المشع على عالم الإسلام، وانتشر خريجو هذه الجامعة المباركة في مختلف القارات لاسيما الأفريقية، وكان من ذلك خير كثير.

ولا شك أن للشيخ رحمه الله تعالى أثره العميق في كل قدر أحرزته الجامعة تحت إشرافه أولاً نائباً لرئيسها، ثم رئيساً مستقلاً لها بعد وفاة رئيسها الأول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ تغمده الله بعفوه، فقد كان الشيخ رحمه الله تعالى يتفقد الفصول بين الحين والآخر، فيستمع إلى دروس المشايخ، ويلقي توجيهاته الحكيمة هنا وهناك، وأحياناً كان يعرض في بعض الدروس ما يختلف مع طريقته في اتباع الدليل وتحريه، فيعقب على ما سمع بما يؤدي الغرض في منتهى الكياسة والتقدير، وكان يتردد على قاعات المدرسين فيسألهم عن صحتهم وراحتهم، ويحاورهم في شئون التعليم، ويشجعهم على المزيد من الجهد في خدمة الطلبة ابتغاء ما عند الله، ويدعو المدرسين في مطلع كل عام دراسي لاجتماع عام، يضم أساتذة المعاهد مرة، وأساتذة الكليات الأخرى مرة؛ ليتابع أمور الجامعة، مؤكداً على وجوب الاهتمام بأصول العقيدة التي كان الشيخ يعتبرها المنطلق العملي لتكوين شخصية الطالب.

وكان اهتمامه كثيراً بلغة القرآن الكريم التي يتوقف عليها مذاق هذا الطالب في الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، خاصة أن في الجامعة طلاباً من غير الناطقين بالعربية، فلذلك كان يهتم بأن يعطي المدرسون الاهتمام الكبير بعدم اللحن، وأن يكونوا قدوة في نطقهم وسلوكهم، وكان يحرضهم على التزام اللغة الفصحى في كل حوار مع الطلاب.

وفي نهاية العام الدراسي يعقد مع المدرسين اجتماعاً عاماً آخر، فيتدارس شئون المقررات وملاحظاتهم، ويرى آراءهم وما يتعلق بسلوك الطلاب، والانطباعات التي حصلت من خلال هذا العام المنصرم، ويعرض على مجلس الجامعة فوائد ونتائج ذلك.

وكان الشيخ يشرف على أنشطة دار الحديث طوال السنة، ويلقي محاضراته فيها.

اهتمام الشيخ بأحوال المسلمين والأقطار الإسلامية

يقول أحد الأساتذة في مقدمة محاضرة ألقاها الشيخ عن سيرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب : وفي العقائد كان الشيخ ابن باز مثالنا في ذلك، لا هو من أولئك المتطرفين الذين يطلقون عبارات الشرك على كل صغيرة وكبيرة، ولا هو من المتساهلين الذين يغضون النظر عن صغار الأمور، بل إنه لينبه عن الصغيرة والكبيرة، ويضع كل شيء في موضعه، والذين يعرفون الشيخ مثلنا عن كثب يدركون هذه الخاصة في أسلوبه، ومرد ذلك فيما نرى إلى سجيته السمحة التي تعامل حتى المخالفين بروح الطبيب الذي يعلم أن ثقة المريض به أول أسباب الشفاء.

وكان نشاط الشيخ يمتد إلى الأقاصي البعيدة من وطن الإسلام ومهاجر المسلمين، فمن خصائص شخصيته موضوع الاهتمام بأحوال المسلمين اهتماماً غير عادي، حتى إنه ما يسلم عليه أحد إلا ويسأله عن أهله وأولاده، وعن بيته وجيرانه، ويحمل معه إليهم السلام، ولذلك بعض له العاجزين كان يفرح جداً إذا أتاه الأخ من الحج وقد لقي الشيخ ابن باز ، فيقول له: الشيخ ابن باز يسلم عليك، فهو يسأل، فيقول للناس: من الذي يقوم بالدعوة والسنة عندكم؟! أتبعث إليه السلام؟! فيظن الرجل أن الشيخ شخصياً يسأل عنه ويبعث له بالسلام، لكن هذه عادته مع كل الناس، حتى عندما يجلس الشيخ ابن باز للأكل لا يأكل وحده أبداً، فدائماً بيته مفتوح، سواء إذا كان في الرياض، أو في مكة، أو في غيرهما، فمعروف عن الشيخ أنه لا يمكن أن يطعم وحده أبداً، وإنما موائده دائماً منصوبة للأغنياء والفقراء، والوزراء والأمراء، والمساكين، كل يأتي يجلس، ويجلس الشيخ على الأرض فيأكل معه الناس، ويعود الشخص المسكين أو الفقير من أمثالنا إلى بلده فيقول: أنا كنت آكل عند ابن باز ، وقال لي: كذا.. وقلت له: كذا.. بحيث يظهر أنه كان مع ابن باز في دعوة شخصية، لكن هذا لأن الشيخ كان يعامل كل شخص على أنه أكرم إنسان عليه من الجالسين.

كان الشيخ يهتم بالمدرسين الذين تم تدريبهم في الجامعة الإسلامية للتدريس في شتى بقاع الأرض، في الهند والباكستان، فكان يهتم بالمتفوقين من متخرجي الجامعة لينتدبهم إلى الدعوة في بلادهم وغير بلادهم، وهؤلاء هم المنبثون في كافة أقطار الأرض، يعلمون الناس دينهم ليل نهار، ويحصنونهم من التيارات الهدامة مثل الطرق الصوفية الضالة أو القاديانية المرتدة أو التكفيرية الضالة.

كذلك كان للشيخ جهد عظيم جداً في إمداد المسلمين في كافة أقطار الأرض بالكتب التي هم بحاجة إليها في مصيرهم بقصد التدريس والمطالعة.

فبفضل جهود الشيخ -بعد فضل الله سبحانه تعالى- صارت الجامعة مركز إشعاع على مستوى العالم الإسلامي كله.

وقد ذكر الشيخ المجذوب كثيراً من الإنجازات فيما يتعلق بأمور الجامعة كأنواع الكليات التي أسسها الشيخ من أجل أن تؤدي رسالتها كما ينبغي، كإنشاء كلية القرآن والدراسات الإسلامية وغيرها من الكليات.

أخلاق الشيخ ابن باز رحمه الله

الحديث عن المترجم لا يكون مستوفى إذا لم يوف الجانب الخلقي عنه حقه يقول المترجم للشيخ: لقد أشرت قبل قليل إلى سجيته السمحة التي يعامل بها حتى المخالفين، وكانت إشارة عابرة لابد من الوقوف عندها ولو لحظات؛ وذلك أن الرجل بسماحته وحلمه وكرمه وأناته يكاد يكون صورة أنموذجية للتوجيه النبوي القائل: تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولا تكونوا جبابرة العلماء فالسكينة والوقار أبرز صفات الشيخ، وهما أول ما يواجه به الناس القرباء منه والبعداء من جلسائه أو زواره العابرين.

يقول أحد الشعراء في ممدوح له:

يا من له ألف خل من عاشق وصديق أراك خليت للناس منزلاً في طريق

يقول: ما أعلم أحداً أحق بهذا الوصف من الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، إن الناس ليتكوكبون حوله أينما وجد في المسجد.. في المنزل.. في الجامعة.. وإنه ليصغي لكل منهم في إقبال يخيل إليه أنه مختص برعايته، فلا ينصرفوا عنه حتى ينصرف هو، ومراجعوه من مختلف الطبقات، ومن مختلف الأرجاء، ولكل حاجته، هذا يقصده من أطراف المملكة يسأله الفتيا في أمر ضاق به العلماء، وذلك يفضي إليه بحاجة لا يجد فيها سوى الحلماء الكرماء، وربما كان بين هذا وذاك من لا يستحق اهتماماً ولا إصغاء، ولكنه لا يعدم منه الرعاية التي تجبر قلبه، وقد يكون بين المراجعين من يغلب عليه الحق فيسخط ويغلو لغير ضرورة، فلا يغير ذلك من حلم الشيخ، ولا يزد على الدعاء له بالهداية، ودعوته إلى الأمان.

حصل موقف من أحد تلامذة الشيخ المعروفين له، فكان يحكي أنه خالف الشيخ في المسألة الفلانية، قال: ورددت عليه وقلت له: كذا وكذا.. فقال: كذا.. فرددت عليه بكلام فيه شيء من الشدة، فقال له أحد إخواننا الجالسين معه: أما تخشى أن تكلم ابن باز بهذا الأسلوب؟ فالأخ قال له: لا، فهذا الشيء لا نبالي به على الإطلاق؛ لأن الشيخ رجل يريد وجه الله، فلا تبال إذا اختلفت معه ما دام قصدك الحق، فهو لا يتغير قلبه.

فكان إذا حصل مثل هذا كمراجعة في الكلام لا يغير ذلك من حلمه، ولا يزيده إلا الدعاء له بالهداية، ودعوته إلى الأمان، وليس بالنادر أن يزدحم عليه هؤلاء حتى لا يدعون له متسعاً لراحة، ومع ذلك لا يحاول التخلص من مقامه الصعب، بل تراه يصغي لحاجة كل منهم بهدوئه المعهود، ويجيب كلاً بما يرى أنه الحق.

يقول الشيخ المجذوب : لقد دخلت سرادقه في منى ذات يوم، فإذا هو محاصر بهجمة من الناس قد أحاطت به من كل صوب، بعضهم مكب عليه، وبعضهم قائم ينتظر دوره، وهو راض يسمع ويجيب دون أن يبدو عليه أي تذمر؛ لأن الشيخ من صفاته الغريبة والفذة التواضع الشديد.

رأيته مرة في منى وقت رمي الجمرات، فكان يمشي في نعل رطب جداًً، ويلبس ثوباً قصيراً في غاية التواضع، ولولا نور العلم الذي كان يضفيه الله سبحانه وتعالى عليه لقلت: هذا رجل من الفقراء والمساكين ماشٍ بالعصا، والجندي يدله على مكان رمي الجمرات، فيرمي الجمرات وحده، فهل ينكر أحد أن هذا هو الملك الحقيقي، وأن هذا هو الزعيم من زعماء الحق، ومع هذا لا يحتاج إلى الشرطة ولا كذا وكذا، فهذا هو الملك الذي ليس بعده ملك في الدنيا.

يقول: ومع أن الشيخ يعطي كل زائر ومراجع حقه المناسب عند مجلسه وإسناده، فالملاحظ أن له عناية خاصة بالفقراء والضعفاء، حتى لقد رأيت منهم من تأخذه نشوة الاعتزاز مما يجده من انبساطه إليه، واهتمامه بشئونه الخاصة، كأنه واحد من أقرب الناس إليه.

فالشيخ كان منحازاً جداً للفقراء والضعفاء والمساكين، وكان كل الناس في السعودية وإلى اليوم لا يعبرون عن الشيخ إلا بالوالد، فهو كالأب لهم جميعاً كباراً وصغاراً، ما من أحد إلا ويحس أنه والده وأبوه، حتى الفقراء والضعفاء يفخرون بالاعتزاز أن الشيخ يعطيهم هذا القدر من الاهتمام، وهذا يذكر بمجلس سفيان الثوري رحمه الله تعالى، فقد قيل في وصف مجلسه: ما رأيت الفقراء والضعفاء والمساكين في مجلس أعز منهم من مجلس سفيان ، فقد كان يكرمهم جداً، ويعلي شأنهم، وهكذا الشيخ رحمه الله تعالى كان ينحاز جداً للفقراء والمساكين والضعفاء، ويعطف عليهم، ويحسن إليهم.

وفي الحقيقة أن سيرة الشيخ ابن باز هي ظاهرة غيرت مجرى التاريخ الإسلامي، خاصة في هذا العصر الذي أجدب بأمثال هذه النماذج الفذة، فلذلك نتوقع إن شاء الله تعالى أن تصدر تراجم كثيرة توفي الشيخ بعض حقه.

وقد وصف الشيخ ابن باز بأنه حاتم الطائي في هذا العصر من كرمه وجوده وإحسانه إلى الفقراء.

يقول الشيخ المجذوب حفظه الله تعالى: ولا أذيع سراً إذا قلت: إن نصيب هؤلاء من الشيخ لا يقتصر على حنانه وتلطفه، بل كثيراً ما يتجاوز ذلك إلى العون الذي يسد الحاجة، ولو كلفه ذلك الحيف على ميزانيته والذين يعرفون الشيخ عن قرب يقولون: إن الشيخ ما تمر أيام قليلة من الشهر بعدما يتقاضى مرتبه إلا ويكون قد استدان إلى أن يأتي الشهر الجديد، ويسدد الدين من مرتبه؛ لأن الشيخ كان لا يرد سائلاً أبداً.

يقول الشيخ: وإذا سمحت لنفسي برواية ما يتناقله عارفوه قلت: إن ذلك كثيراً ما يرهق الشيخ بتحميله ما لا يطيق. بعض الناس يتصور الشيخ ابن باز شخصية سياسية، والحقيقة أن الموقع المتميز الذي كان فيه، هو أعظم من ذلك بكثير، وهذا نتيجة سر أودعه الله سبحانه وتعالى في قلوب خلقه، ويشير إليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إن الله يحب فلاناً فأحبه، ثم ينادي جبريل في الملائكة بذلك، ثم يوضع له القبول في الأرض إلى آخر الحديث المعروف، فهذا هو السر في الحقيقة، والشيخ ابن باز ليس شخصية سياسية، وإلا فالشيخ ما أعطي حقه الذي يستحق، الشيخ ابن باز كانت سيارته تقف أمام الحرم ليدخل يصلي في الحرم المكي، فقد كانت له هذه المكانة المتميزة التي يتربع بها في قلوب جميع أئمة أهل السنة وأنصار السنة في كل بقاع الأرض؛ وذلك لأن هذه المحبة التي أوجدها الله في قلوب العباد للشيخ رحمه الله ما كانت تستمد من موقعه ولا من وظيفته ولا غيرها؛ لأن أي وظيفة ستكون أقل مما ينبغي لإمام الدنيا، ولرجل الأمة، ولشيخ الإسلام في هذا الزمان.

يقول: ومما يندرج في هذا النطاق من أخلاق الشيخ طبيعة الكرم التي لا يملك لها تغييراً ولا تعديلاً، فعلى مائدته يلتقي بالصغير والكبير، والغريب والقريب، وما أحسب طعاماً له خلا من عديد الضيفان، حتى لكأنه هو القائل:

إذا ما اصطنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي

أخا سفر أو جار بيت فإنني أخاف مذمات الحوادث من بعدي

بهذه الأخلاق الرضية كان الشيخ رحمه الله يستجيب لدعوات الآخرين، فلا يستمسك عن حضورها إلا لرجل قام، وقد يكون الداعي له تلميذاً له أو واحداً من عامة الناس، يقول: وأذكر أني حللت في ضيافته أياماً بمدينة الرياض فلم يتناول غداءه إلا على مائدة غيره من الداعين له.

يعني: طوال الفترة التي مكث فيها الشيخ المجذوب معه كان الشيخ دائماً مدعواً عند أحد، فكانت الدعوات تتوالى عليه من كل صوب، فيأمر بتحديد ما يمكن إجابته منها في جدول خاص، فلا ينفك يعتذر به كلما زادت الدعوات عن عدد الأيام، وهذه من المسائل الكثيرة التي أرتني مدى حب الناس لهذا الرجل.

وقد كان وما يزال رحمه الله تعالى وقته مباحاً للمراجعين، يأخذون منه ما يشاءون كما يشاءون، ولكل منهم حاجته الخاصة، مما قد يحيط على أعماله الرسمية، فكان لابد من تنظيم أفضل لهذه الجوانب، فقسم الشيخ وقته حسب الإمكان، جزء للعمل الرسمي، وآخر للمستفتين والمراجعين، وثالث للمراسلات والاتصالات، يتناوب على الكتابة للشيخ عدد من المساعدين يقرءون له ما يريد من نصوص المراجع، وما يرد إليه من الرسائل، ثم يتلقون منه الفوائد التي لا يكاد يخلو منها يوم، وإذا كان كتّابه هؤلاء يستحقون الإشفاق لكثرة ما يتحملون من هذه المتاعب، فهو أحق منهم بإشفاق المحبين؛ لأن الجهد الذي كان يعانيه رحمه الله تعالى تنوء به العصبة أولو القوة.

والحق أن أحدنا ليتساءل في دهشة كيف يستطيع هذا الرجل النهوض بكل هذه الأعباء؟ ثم يتذكر أنها البركة التي يختص بها الله من يشاء من عباده، فتحقق لأحدهم من أعمال اليوم الواحد ما تضيق به الأسابيع، بل الأشهر من أعمال الآخرين، وعلى ضوء هذا الواقع الملموس من حماس حياة الشيخ لزم التفسير المعقول لذلك الإنتاج الضخم الذي خلفه للأجيال أولئك السابقون من أمثال ابن تيمية وابن الجوزي والنووي والكثيرين من صالحي المؤمنين.

جدول الشيخ ابن باز وأعماله اليومية

يقول: ولكي تتوفر للقارئ الصورة المقربة لأعباء الشيخ أضع بين يديه هذه القائمة التي تكاد تستوعب عمل اليوم والليلة من واقعه الذي يوشك ألا يتغير.

يبدأ دوام الشيخ الرسمي قرابة الساعة التاسعة من ضحى كل يوم، فإذا ما وافى مقر الرئاسة وجد المراجعين يملئون الأمكنة المعدة لهم بانتظاره، فيحييهم، ويستقبل مصافحيه ومعانقيه منهم، ثم يأخذ مكانه، وإلى جانبيه كاتبان مع كل منهما كدس من الأوراق المقدمة من هؤلاء، وكثير من يجتزئ عن الكتابة بالعرض الشفهي، فيبدأ بالاستماع إلى مضمون كل معروض على حدة، حتى إذا ما فرغ الكاتب من التلاوة المهموسة أملى عليه التعليق الذي يراه الشيخ، فإذا ما استوفى الكاتب بعض أوراقه تركه يستريح، والتفت إلى الآخر الذي يشرع في عرض ما لديه، وتلقي ما يملي عليه، وهكذا حتى تنفذ العرائض أو يحين وقت صلاة الظهر.

وقد تكون هناك اجتماعات لبعض اللجان تستدعي حضوره فينهض إليها، ثم يعود ليستقبل بقية المراجعين المشافهين، وكثيراً ما يمتد دوامه هذا إلى ما بعد انصراف الموظفين، فيظل هو ومن لابد من بقائه من مساعديه حتى ينطلق إلى البيت مع ضيوفه الذين لا يخلو غداء له ولا عشاء من بعضهم، وبعد الطعام يدعو بالقهوة والطيب، ويتحدث إلى جلسائه المرافقين والمنتظرين في مصالحهم، حتى إذا وافى موعد صلاة العصر أخذ سبيله إلى المسجد فصلى وراء الإمام في المدينة أو صلى بالناس في مسجد الرياض الكبير، وكثيراً ما رأيته يعقب الصلاة بموعظة قصيرة، ثم يعود إلى المنزل لمواصلة ما انقطع من حديث أو استقبال مراجعين جدد، وقل ما يخلو ذلك الوقت للقراءة في بعض الكتب القديمة، يتلوها عليه بعض المشايخ من خاصة طلبته، إلى ميعاد المغرب فيمضي معهم إلى المسجد، ثم يعود معهم إلى المنزل من قراءة والنظر في شئون الناس حتى وقت العشاء، وبعد أداء الصلاة يتناول مع الحضور طعام الليل، ثم يقبل عليه أحد مساعديه في المعاملات الخاصة بالمساجد ونحوها فيستمع ويملي، ولا يزال بين قراءة وإملاء وحديث في المكان حتى وقت متأخر، وقلما يتاح له الإخلاد إلى النوم قبل منتصف الليل!

ويحين موعد صلاة الفجر في اليوم التالي فيتهيأ لها، ثم يأخذ كنفه إلى المسجد مع مرافقه، فإذا ما عاد إلى المسكن جلس يجيب في الاستفتاءات الواردة إلى مكتب البيت من مختلف الأرجاء والأقطار، فإذا فرغ منها نظر في طلبات المستشفعين من أصحاب الحاجات، فأوردها مواردها اللازمة، وهنا يوافيه موعد الدوام الرسمي فينهض إليه على عادته التي وصفناها.

هذه هي الصورة المقاربة ليوميات الشيخ، نقلنا بعضها من مشاهدتنا، ومعظمها عن أخ كريم طويل الصحبة له، ومن حق القائل أن يستشعر العجب بإزاء هذه الوقائع التي تكاد لا تصدق، ولكنها مع ذلك حقيقة يعرفها عن الشيخ كل من خالطه عن كثب.

مفهوم الشورى عند الشيخ ابن باز رحمه الله

ثم يقول: وصف الله المؤمنين بقوله الحق: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] وألزم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو المؤيد بوحيه ألا يفارق الشورى في كل شأن هام فقال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] وقد استمرت مسيرة المجتمع المسلم في صعود حتى أسقطوا هذا المبدأ من حياتهم، فباتوا عرضة لتقلبات الأهواء، يتخذهم المستفزون مطايا لشهواتهم، حتى انتهوا إلى التخبط في الظلمات، والشيخ الذي أخذ نفسه بأدب الإسلام عزائمه ورخصه ما كان أبداً يتخلى عن مبدأ الشورى في أي شأن يقتضيه، وقد شاء الله أن أصحبه في مجلس الجامعة عدداً من الاجتماعات، فقيض لي أن أشهد من فضائله -وبخاصة في هذا الجانب من خلقه- ما لا يصح إغفاله من أي ترجمة تكتب عنه، أول ما نواجهه من فعل الشيخ في هذه المجالس ذلك الأنس الذي يشيعه في نفوس الأعضاء، لسؤاله كلاً منهم عن حاله وصحته، ووقوفه على ما سمع من الأنباء العالمية وأحوال المسلمين، فإذا ما بدأ النظر في جدول الأعمال أخذ بكل منها على حدة، فعرضت المناقشة وأعطى كل عضو رأيه فيها، فإذا انعقد على وجه منها بالإجماع أثبت ذلك في المحضر، وإلا طرح كلاً من الوجوه المختلفة للتصويت، وتقرر في شأنها الوجه الأجمع للأصوات، وكثيراً ما يكون هذا الترجيح مخالفاً لرأي الشيخ، ولكن ثقته بأعضاء المجلس، والتزامه بمبدأ الشورى، ينتهيان به إلى الرضا التام بكل ما تم.

وذات ليلة احتدم النقاش حول إحدى القضايا المطروحة، وتباينت الآراء فيها، وكأني بالشيخ خشي أن يكون في إبدائه وجهة نظره إحراجاً للآخرين فقال بلهجة ملؤها الود: أرى -يا إخوان- أن يأتي رأيي ورأي نائبي آخر الآراء؛ لئلا يكون في ذلك حرج لكم! وهذا مسلكه أيضاً في كل شأن يتسع للتساؤل، حتى القضية التي يسأل بها في الفقه -وهي من صميم اختصاصه- فيناقشونه الرأي فيها على ضوء النصوص الواردة في شأنها، حتى يطمئن قلبه إلى الوجه الأمثل، وقد يعترضه الأمر فيه الإبهام فيطرق ملياً يتأمله في صمت، ثم يدلي برأيه أو يقول لمن حوله ممن يثق به: أشيروا علي.

وهذا الرجل السهل السمح الحليم، محب الفقراء، سرعان ما ينقلب أسداً لا يرده عن إقدامه شيء إذا علم بظلم يقع على المسلمين، أو عدوان على شريعة الله عز وجل، إن مسلك الشيخ في هذه الناحية هو مسلك العالم الإسلامي الذي يوقن أنه مسئول عن حماية محارم الله، والدفاع عن حقوق أهل الإسلام بكل ما يملك من طاقة، وبدافع من الشعور الكامل بهذه المسئولية يتتبع أحوال العالم الإسلامي، فلا ينال المسلمين خير إلا فرح به، ولا يمسهم سوء إلا اضطرب له، ويرتفع غضبه إلى القمة حين يتعلق الأمر بدين الله، لذلك تراه أسرع العلماء إلى إنكار البدع؛ لأنها بنظره عدوان على حقائق الوحي، وتغيير لدين الله، وفي النهاية هي إبعاد للمسلمين عن جادة الإسلام.

مراسلات الشيخ ابن باز للحكام والطغاة

عندما أصدرت محكمة البغي قرارها بإعدام سيد قطب وإخوانه رحمهم الله اعترى الشيخ ما يعتري كل مؤمن من الغم من مثل هذه النازلة التي لا تستهدف حياة البرآء المحكومين بقدر ما تستهدف منزلة الإسلام نفسه والمعتصمين.

يقول الشيخ المجذوب حفظه الله: وكلفني الشيخ يومئذ بصياغة البرقية المناسبة لهذا الموقف، فكتبتها بقلم يقطر ناراً وكرهاً وغيرة وأدخلتها عليه وكلي يقين بأنه سيدخل عليها من التعبير ما يجعلها أقرب إلى لغة المسئولين الدبلوماسيين منها إلى لغة المنذرين، ولكنه حطم كل التوقعات حين أقرها جميعاً، ولم يكتف حتى أضاف إليها قول الله تعالى في سورة النساء: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، ووصلت يومئذ البرقية التي كانت -فيما أظن- الوحيدة من أنحاء العالم الإسلامي بهذه المناسبة لما تحمله من عبارات أشد على الطغاة من نزع السياط.

وينفخ الشيطان في نفس أحد الحكام فيعلن شبهاته بالطعن على كتاب الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الطاغية طعن في القرآن والسنة بتوجيهاته التي تقيأها في مؤتمر للمعلمين عام (1994م) وكان المجلس الاستشاري يضم ثلة من كبار علماء العالم الإسلامي يواصل اجتماعاته بالجامعة الإسلامية لدراسة المناهج وتطويرها، وإصدار توصياته بشأن الإحداثات التي تتطلبها المرحلة الجديدة، فوجه المجلس عدداً من برقيات الاحتجاج والاستنكار بمزاعم الطاغية حملت توقيعات الأعضاء جميعاً ما عدا واحداً اكتفى بالدعاء عليه، على أن الشيخ لم يستطع الاكتفاء بذلك فقال إلى كاتبه يملي عليه مقالاً في تفنيد تلك الأباطيل، وفضح مزاعم الطاغية التي تلم عن منتهى الجهل بالإسلام ولغة العرب، وقد نقلت الصحف والمجلات ذلك البيان الذي كان قطعة بارعة من فقه الشيخ وأدبه وغيرته اللاهبة على دين الله، يتلو تلك الهجمة الطائشة عدوان طواغيت الصومال من الشيوعيين على شريعة الإسلام.

فمعروف أن عدو الله سياد بري ، ألغى أحكام الإسلام في الميراث، وأعلن التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث، فثار ضده علماء المسلمين، فجمعهم في الميادين العامة وأحرقهم أحياء -عليه من الله ما يستحق- اعتداء منه على الإسلام، ثم تلته هذه الهجمة من طواغيت الصومال الشيوعيين على شريعة الإسلام، إذ ألغوا أحكامها العادلة في موضوع الإرث والحياة الأسرية، ليحلوا مكانها أحكام جاهلية ماركسية، ولما أعلن علماء مقديشو حكم الله في عدوانهم هذا أخذت الظالمين العزة بالإثم، فأحرقوا عشرة منهم وهم أحياء، وزجوا بالعشرات الآخرين في السجون، فكان لهذا الطغيان الرهيب أثره العميق في قلب الشيخ، لم يلمس إزاءه سوى القلم الذي حمل إلى البغاة ما يجب أن يتلقوه من مثله رحمه الله، وقبل ذلك كان للشيخ صولة في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، خرج منها بالقرار التاريخي الذي يدين ثلة الشيوعيين الذين يفرضون وجودهم بقوة الحديد والنار، وطواغيت موسكو على مسلمي الجنوب العربي الذي لم تقف فيه حمامات الدم منذ استيلاء هذه العصابة الحاقدة على زمام السلطة في عدن وحضرموت، وعلى هذا الغرار يمضي الشيخ في مواجهة الأحداث التي تهم بالإسلام وأهله على مستوى العالم الإسلامي كله.

تمكن الشيخ من الخطابة وتميزه فيها

يحكي الشيخ حفظه الله كيف استقبلت الجامعة الإسلامية (عام 1393هـ) الملك فيصل ، ثم وقف الشيخ يلقي كلمة يوجز فيها تاريخ الجامعة وأطوارها، ويذكر زيادة طلابها، وعدد خريجيها، ومطالبهم بعد التخرج، حيث انطلقوا يحققون رسالتها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ثم إن الشيخ رحمه الله تعالى وقف يذكّر -في حضور الملك