تفسير سورة القصص [55-57]


الحلقة مفرغة

قال جل وعز: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55].

يشهد الله سبحانه لمن آمن من أهل الكتاب بنبيه وبالكتاب المنزل عليه، ثم آمن بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب المنزل عليه، وأخبر أن له أجرين ومقامين، وأثنى عليه الله بأنه مع إيمانه ينفق مما رزقه فيؤدي الزكوات الواجبة وزكوات التطوع، ويؤدي النفقات الملزمة، والنفقات السنة.

ثم يقول الله جل جلاله عنهم كذلك: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) واللغو: الباطل، وما ليس بحق، وهو السفه والكلام الذي لا يقوله مؤمن مهذب صالح.

سبب نزول هذه الآيات التي جاءت في نسق واحد: أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءه إلى مكة المكرمة وفد من عند النجاشي الذي آمن بنبي الله وبدينه وبالكتاب المنزل عليه، ويقول له: لولا عملي في دولتي لجئت فغسلت رجليك ولأقمت بين قدميك، ودخل وفد النجاشي مكة، ووجد النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد الحرام، وفي المسجد جماعة من الكفار كـعبد الله بن أمية بن المغيرة وأبي جهل بن هشام وآخرين.

فجاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وسألوه عن هذا الدين الجديد وعن فرائضه وسننه وعما يدعو إليه، فدعاهم لعبادة الله الواحد، ودعاهم لبقية الفرائض والأحكام وأن يكونوا عند طاعة الله في كتابه، وطاعة النبي عليه الصلاة والسلام، فدمعت أعينهم وقبلوا ذلك، وأعلنوا إيمانهم، وقالوا: لقد كنا من قبل مسلمين، إذ وجدنا صفتك ونعتك في الإنجيل، وحيث قال الله عنهم: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].

فكانوا قد آمنوا بما في الإنجيل وبما فيه من ذكر أحمد والتبشير به، وأنه سيكون آخر الأنبياء والرسل، فما كانوا يحتاجون إن أدركوا عصره إلا أن يعرفوا عينه ويسمعوا رسالته، فيؤكدوا إيمانهم به، وكما آمنوا به عندما بشر به عيسى في الإنجيل آمنوا به كفاحاً ووجاهاً، وأصبحوا مجددين للدين الحق الخالد دين الإسلام، وإذا بـأبي جهل يقوم إليهم ويقول لهم: يا خيبة لكم من وفد جئتم رواداً لقومكم، سائلين عن هذا النبي وعما يقول، وإذا بكم تركتم دين آبائكم وصدقتموه لأول مرة، فيا قبح ما جئتم به!

فقالوا له: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55] أي: لا نسافهكم ولا نشاتمكم، نحن أعلم بمصالحنا وأعلم بما يجب علينا، ولن نكون سفهاء مثلكم، فأثنى الله عليهم لهذا، وقال عنهم: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص:55] أي: لم يجيبوا عنه، ولم يكونوا سفهاء كأولئك الذين تسفهوا وجهلوا، وقالوا الباطل ظلماً وعدواناً تنفيراً عن الإسلام والإيمان وتنفيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [القصص:55].

أي: لا تسألون عنا ولا نسأل عنكم، لكم دينكم ولنا ديننا، أعمالنا نحن أعلم بما نفعل منها وما ندع وأعلم بما ينفعنا، وأنتم أعلم بدينكم وشرككم ووثنيتكم.

ثم قالوا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [القصص:55] أي: ليس سلام تحية، ولكن سلام ترك وهجران وبعد، وقالوا لهم في ذلك: لكم منا السلام والأمان، لن نشتمكم ولن نطاردكم، ولن نكون سفهاء مثلكم، فقد هذبنا الدين وعلمنا الإسلام، وكنا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، إذ رأينا العلامات التي ذكرها الإنجيل والتوراة وذكرها الأنبياء السابقون فصدقناه وآمنا به، ونحن بذلك مغتبطون، ولله حامدون وشاكرون.

قوله: لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55] أي: لا نريد الجهلة السفهاء، الذين يأبون إلا شتم الناس وسبابهم، فإن كنا ضيوفاً في بلدكم في بيت الله الحرام، وأبيتم إلا الشتم والسباب فلن نشتمكم ولن نخرج عن آداب ديننا الذي دعا إليه محمد صلوات الله وسلامه عليه.

وهذه الإشادة من الله بهؤلاء معناها: أنه هكذا ينبغي للمسلم ألا يشاتم ولا يتسفه، وكان من صفة النبي عليه الصلاة والسلام في التوراة والإنجيل أنه ليس بسباب ولا صخاب في الأسواق، وهكذا فإن قريشاً تشتمه وتقول وتقول، وهو لا يجيبها، بل استمر في طريقه إلى أن نصره الله النصر العزيز المؤزر ففتح مكة، وطرد كفارها ومشركيها ونشر الإسلام في جميع جزيرة العرب، فمن أسلم فالخير له، ومن أبى إلا الكفران عرض للسبي وللقتل والطرد، وباء في الدنيا بالذل والهوان، ولعذاب الآخرة يوم القيامة أشد وأنكى.

وهذه الآية مثل قوله تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72] يصف الله المؤمنين الصالحين الذين يأبون إلا الفضل والنطق بالصلاح والعمل للخير، ولا يريدون أن يكونوا سبابين شتامين.

فقوله تعالى: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55] أي: ابتعدوا عنا، قد شتمتمونا فهنيئاً لكم ذلك وهنيئاً لنا ديننا وإيماننا بمحمد، واكفروا أنتم بما شئتم، فنحن قد آمنا في غبطة وسرور وحمد لله وشكر.

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56].

ليست وظيفة النبي والرسول الهداية، إن الهداية بيد الله يهدي من يشاء، وإنما وظيفة الرسل البلاغ والدعوة وتلاوة القرآن عليهم ونشر الأحكام كما شرعها الله جل جلاله، فعليهم بيانها وتفسيرها بحاله ومقاله؛ بأن يفعل ذلك أولاً في نفسه وهو أول المسلمين وأول المرسلين، فهو أول ما أرسل أرسل لنفسه، فهو رسول للناس ولنفسه، فجميع ما أمر الناس به من فرائض ونوافل وأركان وأحكام كان هو المأمور بها أولاً، ثم بعد ذلك أمر بها الناس، ولذلك كان المصطفى عليه الصلاة والسلام رسول نفسه أولاً، ثم هو رسول الناس جميعاً.

قال الله له: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].

أي: ليست الهداية بحبك ولا بإرادتك، وليست بوظيفتك، وإنما على الرسل البلاغ، وأنت منهم يا محمد لم تطالب بالهداية، ولكنك طولبت بالبلاغ والبيان وإسماعهم القرآن حتى يعلموه ويدركوه.

وقد ذكر الله في هذه الآية المنطوق والمفهوم، فالمفهوم من الفقرة الأولى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] أي: ليست الهداية لك، بل هي لله، ثم صرح بالمفهوم فأصبح منطوقاً، فقال: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وهذا كقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].

والإيمان هداية القلب، فمن أكرمه الله وأسعده وفتح قلبه لسماع الحق، ولدخول النور اهتدى، ومن أصم أذنيه وأعمى قلبه وأتبع ذلك بصيرته ضاع عن الإيمان والإسلام وعاش سبهللاً كافراً.

فقوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56].

أي: الله أعلم بمن يهديهم ويصلحهم، فهذا يستحق الكفر لفجوره وفسوقه، لم يرد حتى الحوار ولا السؤال، ولم يفتح أذنيه لكلمة الحق، وهكذا كان حال من دعاهم في مكة وجزيرة العرب، وهكذا كان حال رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نشروا الإسلام خارج حدود الجزيرة، فعم الإسلام الكون مشارقه ومغاربه، ولم يطل ذلك أكثر من نصف قرن حتى كانت أعظم دولة في الأرض هي دولة الإسلام، فقد كانت شرقاً من بلاد السند، وغرباً إلى عمق أوروبا وأسبانيا والبرتغال وفرنسا وما بينهما شمالاً وجنوباً، ولم يتجاوز ذلك نصف قرن، فأصبحوا أئمة الناس ومعلميهم وحكامهم، والآمرين لهم والناهين، يقتلون من شاءوا بأمر الله، ويحيون من شاءوا بإذن الله، فنصر الله بهم الحق والإيمان، فالهداية لله وليست لأحد، والأنبياء خلفاؤهم هم الخلفاء الراشدون؛ وخلفاؤهم كذلك العلماء، فالعلماء ورثة الأنبياء، وما كان الخلفاء الراشدون إلا علماء بالله عارفين بكتابه وبنبيه وسنته.

قال تعالى: (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي: أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، وأعلم بمن لا يستحقها وليس أهلاً لها، ولذلك فإن الكفار الأول في مكة المكرمة سمعوا القرآن فاستنكروه؛ لأنهم لا يعرفونه لجهالة وضلالة سابقة، ولكنهم لم يعادوا نبي الله، ولم ينصبوا من أنفسهم أعداءً لله ولرسوله، فهؤلاء مع الأيام آمنوا وأسلموا، أما من كان عدواً لرسوله كـأبي لهب وأبي جهل وأمثالهما من صناديد كفار مكة فهؤلاء آذوا وعتوا ونفروا عنه، فلم يختم الله لهم الحياة إلا بسوء الخاتمة، ولذلك يقول ابن تيمية عن كل من تعرض للإسلام ولمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلة الأدب قولاً أو حالاً أو نفساً: لا يختم له إلا بشر، ولا يختم له إلا بسوء الخاتمة، وفسر بذلك قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].

وحكى من ذلك قصصاً وروايات وأحداثاً في أعظم كتبه على الإطلاق الذي طبع أكثر من مرة وهو كتابه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) فقد قال: شاتم الرسول -أي: قليل الأدب مع الرسول بالقول أو بالإشارة أو بالتعريض- يقتل إجماعاً، ولو قال: أنا تائب، فـأبو لهب وأبو جهل وهؤلاء الذين تصدوا بعداوتهم لله ولرسوله وللإسلام ختم الله لهم بسوء الخاتمة، وهكذا كل من يتعرض للإسلام ويتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم له إلا بالشرك وسوء الخاتمة، ونعوذ بالله من الخذلان.

سبب نزول قوله تعالى: ( إنك لا تهدي من أحببت ...)

هذه الآية كان سبب نزولها عم النبي عليه الصلاة والسلام أبا طالب ، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فقد كان أبو طالب شديد الحب للنبي عليه الصلاة والسلام وشديد الخدمة له مدة سنوات النبوءة في مكة المكرمة، وهي اثنتا عشرة سنة وأشهر، كان مع النبي عليه الصلاة والسلام المنافح والمدافع والحريص على حياته وعلى ألا يؤذيه أحد من كفار قريش، وبذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام محفوظاً من كفار قريش حرمة لعمه أبي طالب الذي بقي على دينهم، وطالما أشاد بالنبي في قصائد بليغات، هي من عيون الشعر ومن عيون اللغة تدرس في المدارس والجامعات، ويتعلم منها البلاغة والفصاحة ومفردات اللغة العربية وجملها، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى عند من لم يسلم بعد.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يسلم عمُّه ويهتدي، ولطالما دعاه وألح عليه، وأبو طالب يأبى أو لا يجيب، إلى أن احتضر أبو طالب فدخل عليه ابن أخيه صلى الله عليه وسلم، فقال له: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها يوم القيامة عند الله) أي: يشهد له بأنه موحد وبأنه مات مسلماً، وكان بحضرته الشيطان المفسد الخبيث أبو جهل ، وكان عنده كذلك عبد الله بن أمية بن المغيرة وكلاهما من أعداء الإسلام وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أكل الحقد قلوبهم والعداوة نفوسهم.

فعندما أخذ يقول هذا لـأبي طالب ، أخذا يقولان له: يا أبا طالب ! أتتبع دين ابن أخيك.. أتترك دينك ودين آبائك.. أتترك دين قريش؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول له في حرقة وألم: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله يوم القيامة)، وإذا بآخر كلمة يقولها أبو طالب : يا محمد! والله لولا أن تقول قريش أني قلتها جزعاً من الموت لأقررت بها عينك، ومات.

وإذا بالنبي يقول له: (والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)، فأنزل الله في شأنه: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، فأوقف الاستغفار، والأمر أمر الله، والخلق خلق الله ما شاء فعل، ثم نزل قوله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] والقصة في صحيح البخاري ومسلم ، ولولا قداسة الصحيحين وثقة رجالهم لحاولنا البحث في الأسانيد، ولكن البخاري له جلالته، ولـمسلم كذلك جلالته، ورجال أسانيدهما قد تجاوزا العقبة ثقةً وعدالةً وضبطاً وإيماناً ودعوةً إلى الله، فلو حاولنا أن نطعن في أسانيدها بلا دليل ولا برهان لكنا كبعض الفرق الضالة؛ لأننا إذا حاولنا أن نهدم البخاري ومسلم لتوصلنا بذلك للقرآن، ولا يفعل ذلك مسلم، ولكننا نعيد ونقول ما قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56].

توفي أبو طالب في السنة الثامنة من البعثة النبوية، وفي نفس السنة كذلك توفيت أم المؤمنين خديجة رضوان الله عليها، فاشتد حزن رسول الله عليه الصلاة والسلام، اشتد حزنه ثلاث مرات: مرتين على أبي طالب ، ومرة على خديجة ، وسمى هذا العام عام الحزن؛ مرتين: على أبي طالب وعلى موته، وكان باراً به، وقد نشأ في بيته وفي حضانته، وكان الأب الثاني له بعد أبيه عبد الله ، وجده الثاني بعد جده عبد المطلب براً وعنايةً وتنشئةً وعطفاً واهتماماً.

ثم بعد أن دعاه للإسلام لم يسلم، ولكنه كان باراً به حريصاً على راحته، ينافح عنه ويدافع عنه، ولما قاطعته قريش ثلاث سنوات كان أبو طالب مع الصباح والمساء يأبى هجرانه والابتعاد عنه، ويأبى إلا أن يدافع عنه، فحزن لموته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه عمه، والعم: صنو الأب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وزاد حزنه أكثر حيث لم يهتد للإسلام، ولم يقل بالكلمة التي أمر بها الخلق كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فكان حب أبي طالب للنبي عليه الصلاة والسلام ليس حباً شرعياً، ولكن كان حباً طبعياً، كما يحب الإنسان ابنه وابن أخيه، والبار به وتلميذه ومحبه والحريص على خدمته، وهذا لا يكفي، إذ لابد أن يكون حب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى.

ولذلك نحن أيضاً نحزن لحزن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك، وأكد هذا مرة أخرى، إذ سئل عليه الصلاة والسلام فقيل له: حب أبي طالب لك وخدمته لك ومنافحته عنك أتنفعه يوم القيامة؟ قال: (نعم، هو الآن في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، ولولا ذلك لكان في قعر النار)، ومعنى هذا: أنه وإن خفف عنه فهو في النار.

ولذلك يقول ربنا جل جلاله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].

ويقول جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، ومجال القول ضيق أمام الأدلة والنصوص.

هذه الآية كان سبب نزولها عم النبي عليه الصلاة والسلام أبا طالب ، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فقد كان أبو طالب شديد الحب للنبي عليه الصلاة والسلام وشديد الخدمة له مدة سنوات النبوءة في مكة المكرمة، وهي اثنتا عشرة سنة وأشهر، كان مع النبي عليه الصلاة والسلام المنافح والمدافع والحريص على حياته وعلى ألا يؤذيه أحد من كفار قريش، وبذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام محفوظاً من كفار قريش حرمة لعمه أبي طالب الذي بقي على دينهم، وطالما أشاد بالنبي في قصائد بليغات، هي من عيون الشعر ومن عيون اللغة تدرس في المدارس والجامعات، ويتعلم منها البلاغة والفصاحة ومفردات اللغة العربية وجملها، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى عند من لم يسلم بعد.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يسلم عمُّه ويهتدي، ولطالما دعاه وألح عليه، وأبو طالب يأبى أو لا يجيب، إلى أن احتضر أبو طالب فدخل عليه ابن أخيه صلى الله عليه وسلم، فقال له: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها يوم القيامة عند الله) أي: يشهد له بأنه موحد وبأنه مات مسلماً، وكان بحضرته الشيطان المفسد الخبيث أبو جهل ، وكان عنده كذلك عبد الله بن أمية بن المغيرة وكلاهما من أعداء الإسلام وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أكل الحقد قلوبهم والعداوة نفوسهم.

فعندما أخذ يقول هذا لـأبي طالب ، أخذا يقولان له: يا أبا طالب ! أتتبع دين ابن أخيك.. أتترك دينك ودين آبائك.. أتترك دين قريش؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول له في حرقة وألم: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله يوم القيامة)، وإذا بآخر كلمة يقولها أبو طالب : يا محمد! والله لولا أن تقول قريش أني قلتها جزعاً من الموت لأقررت بها عينك، ومات.

وإذا بالنبي يقول له: (والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)، فأنزل الله في شأنه: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، فأوقف الاستغفار، والأمر أمر الله، والخلق خلق الله ما شاء فعل، ثم نزل قوله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] والقصة في صحيح البخاري ومسلم ، ولولا قداسة الصحيحين وثقة رجالهم لحاولنا البحث في الأسانيد، ولكن البخاري له جلالته، ولـمسلم كذلك جلالته، ورجال أسانيدهما قد تجاوزا العقبة ثقةً وعدالةً وضبطاً وإيماناً ودعوةً إلى الله، فلو حاولنا أن نطعن في أسانيدها بلا دليل ولا برهان لكنا كبعض الفرق الضالة؛ لأننا إذا حاولنا أن نهدم البخاري ومسلم لتوصلنا بذلك للقرآن، ولا يفعل ذلك مسلم، ولكننا نعيد ونقول ما قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56].

توفي أبو طالب في السنة الثامنة من البعثة النبوية، وفي نفس السنة كذلك توفيت أم المؤمنين خديجة رضوان الله عليها، فاشتد حزن رسول الله عليه الصلاة والسلام، اشتد حزنه ثلاث مرات: مرتين على أبي طالب ، ومرة على خديجة ، وسمى هذا العام عام الحزن؛ مرتين: على أبي طالب وعلى موته، وكان باراً به، وقد نشأ في بيته وفي حضانته، وكان الأب الثاني له بعد أبيه عبد الله ، وجده الثاني بعد جده عبد المطلب براً وعنايةً وتنشئةً وعطفاً واهتماماً.

ثم بعد أن دعاه للإسلام لم يسلم، ولكنه كان باراً به حريصاً على راحته، ينافح عنه ويدافع عنه، ولما قاطعته قريش ثلاث سنوات كان أبو طالب مع الصباح والمساء يأبى هجرانه والابتعاد عنه، ويأبى إلا أن يدافع عنه، فحزن لموته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه عمه، والعم: صنو الأب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وزاد حزنه أكثر حيث لم يهتد للإسلام، ولم يقل بالكلمة التي أمر بها الخلق كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فكان حب أبي طالب للنبي عليه الصلاة والسلام ليس حباً شرعياً، ولكن كان حباً طبعياً، كما يحب الإنسان ابنه وابن أخيه، والبار به وتلميذه ومحبه والحريص على خدمته، وهذا لا يكفي، إذ لابد أن يكون حب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى.

ولذلك نحن أيضاً نحزن لحزن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك، وأكد هذا مرة أخرى، إذ سئل عليه الصلاة والسلام فقيل له: حب أبي طالب لك وخدمته لك ومنافحته عنك أتنفعه يوم القيامة؟ قال: (نعم، هو الآن في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، ولولا ذلك لكان في قعر النار)، ومعنى هذا: أنه وإن خفف عنه فهو في النار.

ولذلك يقول ربنا جل جلاله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].

ويقول جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، ومجال القول ضيق أمام الأدلة والنصوص.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة القصص [58-63] 2268 استماع
تفسير سورة القصص [47-54] 2124 استماع
تفسير سورة القصص [18-22] 2066 استماع
تفسير سورة القصص [64-73] 2006 استماع
تفسير سورة القصص [79-84] 1728 استماع
تفسير سورة القصص [9-17] 1635 استماع
تفسير سورة القصص [1-3] 1628 استماع
تفسير سورة القصص [43-46] 1605 استماع
تفسير سورة القصص [29-35] 1425 استماع
تفسير سورة القصص [23-30] 1421 استماع