خطب ومحاضرات
حال السلف مع القرآن
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واستمسك بهديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن نعم الله جل وعلا على هذه الأمة -أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نعماً عظيمة متنوعة متعددة لا حصر لها، ولا يمكن للإنسان أن يحيط بها في مجلس أو مجالس، إلا أن أعظم ما أنعم الله جل وعلا به على هذه الأمة خاصة وعلى الناس عامة الكتاب الحكيم، إنزال هذا القرآن العظيم الذي امتن الله جل وعلا بإنزاله على الناس أجمعين، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب خاتمةً للكتب، وجعله حجةً على الخلق، فهو أعظم آيات الأنبياء، وأعظم ما جاءت به الأنبياء؛ لأنه المعجزة العظيمة الباقية التي لا يحد أثرها زمان ولا مكان، بل هي آية ما تعاقب الليل والنهار، حتى إذا حيل بين الناس وبين القبول، وصرفت قلوبهم عن الإقبال على الكتاب، وتعطل الانتفاع به؛ فإن الله جل وعلا يرفعه، وذلك في آخر الزمان، فإن من تعظيم الله لكتابه وحينئذٍ أن يرفعه من المصاحف والصدور.
أيها الإخوة الكرام! بشر الله جل وعلا الناس عامة بإنزال هذا الكتاب الحكيم، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57] ، ثم قال سبحانه وتعالى بعد هذه البشارة والبيان لما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] هذه البشارة -أيها المؤمنون- تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرح، فكان فرحاً بكتاب الله جل وعلا، فرحاً بنعمه سبحانه وتعالى، وما خصه الله به من هذا الفضل العظيم، وفرحت به الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الكتاب من أعظم النعم عليهم، وكان انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أصيبوا به؛ لما في ذلك من انقطاع المدد من السماء، وانقطاع هذا الخير.
هذا الكتاب فرح به التابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ لما فيه من الأوصاف العظيمة التي تكفل للناس سعادة الدارين، سعادة الدنيا وفوز الآخرة، فإن هذا الكتاب لا يقتصر نفعه على دار القرار -الدار الآخرة- بل يجني المؤمن ثماره في الدنيا قبل الآخرة، فهو الكتاب الذي تصلح به أمور الناس، وتستقيم به أحوالهم في الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك بشر الله به الناس عامة، فهو رحمة وهدى وشفاء، قال الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] وإنما خص المؤمنين بهذا؛ لكونهم المنتفعين من هذا القرآن، وإلا فإن القرآن رحمة لكل أحد، ففيه الهدى والنور، وفيه ترتيب شئون حياة الناس، وإصلاح دنياهم وآخرتهم؛ ولذلك فإن هذا الكتاب بهر عقول كثير من الناس حتى الذين لم يؤمنوا به، فإن ما فيه من البيان، وما فيه من الاعجاز، وما فيه من الأسرار التي لا يحيط بها عقل، ولا يدركها بيان، ولا يحيط بوصفها لسان؛ أمر يفوق الوصف، أمر يتجاوز التصور؛ وذلك لأنه كلام رب العالمين، والله جل وعلا قد قال في محكم التنزيل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فليس كمثل ربنا شيء: لا في صفاته، ولا في ذاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يجب له سبحانه وتعالى.
ومن جملة ما وصف الله به نفسه الكلام، فكلام الرب جل وعلا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، كما أن صفاته سبحانه وتعالى ليس كمثلها شيء، وكما أن سائر ما يتعلق به جل وعلا ليس له نظير.
أيها الإخوة الكرام! هذا الكتاب -كما ذكرت لكم- فرح به السلف فرحاً عظيماً، وأقبلوا عليه، ولم يشبعوا من تلاوته، ولا من قراءته، ففي أحوالهم وأمورهم وما نقل عنهم مما ذكرته كتب السير من أعمالهم ما يتبين به عظيم فرحهم بهذا الكتاب، وعظيم إقبالهم عليه، وعظيم ما كانوا عليه من تعظيم لهذا الكتاب العظيم.
من هم السلف الصالح؟
الخيرية في هذه الأمة عامة
إن السلف الصالح هم الصحابة بالدرجة الأولى، فهم الذين شهدوا التنزيل، وأخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وهم الذين اصطفاهم الله جل وعلا وخصهم بأن جعلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هؤلاء هم السلف في الدرجة الأولى، ويليهم في الفضل من أثبت لهم الفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ، فالتابعون وتابعوهم يدخلون في مسمى السلف؛ لأنهم مِن من أثبت لهم النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية على سائر قرون الأمة.
أيها الإخوة الكرام! إن الخيرية في هذه الأمة لا يحصرها مكان ولا زمان، بل هي باقية، فالله جل وعلا قد أثبت الخيرية لمن اتبع المهاجرين والأنصار بإحسان، فقال الله جل وعلا: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100]، فاتباع سلف الأمة بإحسان ينظمك في سلكهم، ويضمك إلى حزبهم، ولو لم تكن معهم في زمانهم، ولو افترقت عنهم في مكانهم، فإنك تشاركهم في الفضائل إذا وافقتهم في الأعمال.
أيها الإخوة الكرام! إن الله جل وعلا بين شأن القرآن ووصفه بنفسه، وكفى ببيان الله بياناً، وكفى بوصفه وصفاً، فهو الحكيم الخبير العليم الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يبلغ الخلق -مهما أوتوا ومهما اجتمعوا- في وصف الكتاب ما وصف الله جل وعلا كتابه، قال الله جل وعلا في وصف كتابه: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] فوصفه الله سبحانه وتعالى بالمجد، والمجد في لغة العرب: السعة في أوصاف الكمال، فكل ما اتسع في أوصاف الكمال أثبت له هذا الوصف، وأطلق عليه هذا اللفظ، فالمجيد هو: الذي كمل في صفاته، واتسع في صفات الكمال والشرف، حتى بلغ منتهاها وبلغ غايتها، كيف لا وهو الروح؟ كيف لا وهو النور؟ كيف لا وهو الهدى؟ كيف لا وهو شفاء لما في الصدور؟ قال الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ [الإسراء:82] ، وقوله سبحانه وتعالى: (من القرآن) (من) هنا ليست للتبعيض، بل هي لبيان الجنس، أي: إن كل القرآن شفاء لما في الصدور، ويشفي -أيضاً- من الأمراض الحسية، ويشفي -في الأصل والأساس وفي الدرجة الأولى- من أمراض القلوب، من أمراض الشبهات من أمراض الشهوات.
أيها الإخوة! إن سلف الأمة أقبلوا على هذا القرآن، وإن وقفةً مع بعض أحوالهم تبين لنا ما كانوا عليه -رحمهم الله- من حسن التعامل مع هذا القرآن، وليس عجباً؛ فإن السلف الذين نتندر بما كانوا عليه من الفضائل، ونتعجب مما كانوا عليه من السبق، كانوا رضي الله عنهم بهذه المنزلة، وبلغوا هذه المرتبة بما ارتسموه من كلام الله جل وعلا وتوجيه رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذه الأمة التي هي: خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] إنما خرجت من بين دفتي المصحف الكريم، من بين هذا القرآن الحكيم، خرجت على ضوء توجيهات هذه الآيات المبينات، وهذا القرآن العظيم، قال الله جل وعلا في وصف هذه الأمة -وأول من يدخل فيها الصحابة رضي الله عنهم-: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] ، وإنما كانت هذه الأمة على هذه الصفة وعلى هذا النحو بتمسكها بالقرآن الكريم، ولا عجب بعد هذا أن تنقل السير والسنن والكتب والدواوين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين وتابعيهم العجائب في التعامل مع القرآن الحكيم.
النموذج الأول في تعامل الصحابة مع القرآن
أيها الإخوة! الشاهد من هذه القصة ومن هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتقبلون القرآن ويتلقونه على أنه شيء يتلى، وتستنبط منه الأحكام، ويعرف ما فيه من المعاني فقط، بل قرءوه رضي الله عنهم على أنهم هم المخاطبون، وهم المعنيون بما فيه من المعاني؛ ولذلك شق عليهم، فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي شق عليهم من هذا القرآن، وهذه القصة ليست الفريدة، وليست الوحيدة التي حفظتها كتب السنة من أفعال الصحابة رضي الله عنهم عندما أنزل الله جل وعلا ما وجدوا فيه مشقة وعسراً وصعوبة.
النموذج الثاني في تعامل الصحابة مع القرآن
أيها الإخوة! إن صحابة رسول الله صلى الله وعليه وسلم لما نزلت عليهم هذه الآية أتوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -وقد شق عليهم الأمر- (فقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟!) يعني: مَنْ منا لم يقع في الظلم؟! كلنا واقع في الظلم، وهذه الآية تدل على عدم حصول الأمن والاهتداء إلا بالإيمان الذي لم يخلط فيه الإنسان ظلماً، فشرط حصول الأمن والاهتداء ألا يقع الإنسان في الظلم، ففهم الصحابة أن هذا يشمل كل ظلم: الدقيق والجليل، الصغير والكبير، الشرك فما دونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه؛ لأنه لا سلامة من الظلم، بل كل إنسان ظالم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ، وكما قال الله جل وعلا -قبل ذلك- في شأن الإنسان: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] حيث حمل الأمانة وقد أعرضت عن حملها السموات، والأرض، والجبال: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وهذا الوصف لا يختص بفرد من الناس، ولا بجنس منهم، بل هو لعموم الناس، فكلهم ظالم جهول، ولا يسلم الإنسان من هذين الوصفين إلا بالاهتداء بكتاب الله وما جاءت به الرسل عن الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة الكرام! لما جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون ما في هذه الآية من مشقة قال لهم: (ليس الذي تظنون -أي: ليس الظلم هو الذي ذهبتم إليه- إنما هو الشرك، كما قال الله جل وعلا في وصية لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]) ، فالظلم الذي في الآية هو الشرك، فهان الأمر على الصحابة رضي الله عنهم.
والشاهد -أيها الإخوة- أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتلقوا القرآن تلقياً بارداً، بل تلقوه للعمل، وأخذوا به على أنهم هم المعنيون، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله جل وعلا يقول في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك -يعني: أصغ إليها، وأعطها أذنك- فهي إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. وهذا لكونهم أخذوا القرآن للتلقي والعمل، وأن كل ما فيه خطاب لكل من سمعه، وخطاب لكل من بلغه، وليس المخاطب به قوم مضوا ولم يبق لنا منه إلا أن نتعبد ونتقرب إلى الله جل وعلا بما فيه من الألفاظ، وما فيه من الكلام الذي جرد عن معناه، ولم يقصد ما تضمنه، لا؛ بل إن الصحابة رضي الله عنهم ضربوا في هذا أمثلة رائعة، وانقادوا لما في كتاب الله جل وعلا انقياداً تاماً، فهذا أبو بكر رضي الله عنه تتهم ابنته عائشة في عرضها! ويبرأها الله جل علا في سورة النور في قصة الإفك، وتبين أن من جملة من رمى عائشة وتكلم فيها: مسطح بن أثاثة ، وهو قريب لـأبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر يصله ويعينه، وكان فقيراً، ثم لما تبين الأمر وتبينت براءة عائشة رضي الله عنها حلف ألا يصله -بعد أن فعل ما فعل- شيئاً من عطاياه، فأنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى بلى، فانتهى عن الامتناع مما جرت به يده رضي الله عنه من الصدقة والإحسان على مسطح بسبب ما كان منه من إساءة لـعائشة رضي الله عن الجميع.
إن وقفة مع بعض ما حفظته السنة من تعامل الصحابة وتلقيهم الحي للقرآن العظيم يعجب منه الإنسان، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]) هذه الآية يحفظها كثير منا، ويقرؤها كثير منا، لكنها لا تستوقف أكثرنا؛ وذلك لأننا نقرأ القرآن لا على وجه التلقي لما فيه من المعالم، وإنما نقرأ القرآن طلباً للأجر بقراءة لفظه دون نظر إلى ما تضمنه من المعنى، صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أنزل الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآية التي فيها إثبات الملك لله عز وجل، إثبات ما في السموات وما في الأرض له سبحانه وتعالى، وأنه جل وعلا يحاسب الناس على ما دار في صدورهم ونفوسهم، ولو لم يتكلموا به ولو لم يعملوا، فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا هذا اشتد عليهم الأمر، فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- ثم بركوا على الركب -أي: جلسوا على الركب من شدة ما جاءهم في هذه الآية- فقالوا: يا رسول الله! كلفنا من العمل ما نطيق: الصلاة .. الصيام .. الجهاد .. الصدقة -أي: كل هذا نطيقه- وقد نزلت علينا آية لا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -مؤدباً ومعلماً لهم كيف يتلقون القرآن، وكيف يتلقون كلام رب العالمين: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟! قولوا: سمعنا وأطعنا)، فما كان منهم رضي الله عنهم إلا أن انقادوا إلى توجيه النبي صلى الله عليه وسلم: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] ، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، وتكلموا بها وقرءوها، وقبلوها قبولاً تاماً؛ جاء التخفيف من رب العالمين، وجاء الفرج من الله جل وعلا الذي قال: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147] مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ أي: بإلحاق المشقة بكم: إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، جاء الفرج من الله جل وعلا لهذه الأمة، ونزل في كتاب الله جل وعلا تزكيتها، وبيان فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال الله جل وعلا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:285-286] فجاء التخفيف من رب العالمين بعد إثبات إيمانهم وقبولهم لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة! الشاهد من هذه القصة ومن هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتقبلون القرآن ويتلقونه على أنه شيء يتلى، وتستنبط منه الأحكام، ويعرف ما فيه من المعاني فقط، بل قرءوه رضي الله عنهم على أنهم هم المخاطبون، وهم المعنيون بما فيه من المعاني؛ ولذلك شق عليهم، فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي شق عليهم من هذا القرآن، وهذه القصة ليست الفريدة، وليست الوحيدة التي حفظتها كتب السنة من أفعال الصحابة رضي الله عنهم عندما أنزل الله جل وعلا ما وجدوا فيه مشقة وعسراً وصعوبة.
في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إن الله جل وعلا لما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]) وهذه الآية فيها البشارة من الله جل وعلا لمن آمن وسلم من أن يخلط إيمانه بظلم، فقوله تعالى: َولَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] أي: لم يخلطوه بظلم، أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهم مهتدون أيضاً في الدنيا والآخرة؛ لأن الهداية المسئولة والمثبتة لأهل الإيمان ليست فقط في الدنيا بل الهداية في الدنيا والآخرة، وهداية الآخرة أعظم من هداية الدنيا، لكنها لا تكون إلا لمن اهتدى في الدنيا؛ لأن هداية الآخرة بها النجاة من أهوال ذلك الموقف العظيم الذي تشيب فيه الوالدان وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2] ففي ذلك اليوم يحتاج الإنسان إلى هداية يخرج بها من تلك الأهوال، وينجو بها من تلك المزالق، ويجوز بها الصراط، فإنه لو لم يهده الله جل وعلا إلى اجتياز الصراط ما اجتاز، وما تمكن من السلامة من صراط ورد في وصفه: (أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف).
أيها الإخوة! إن صحابة رسول الله صلى الله وعليه وسلم لما نزلت عليهم هذه الآية أتوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -وقد شق عليهم الأمر- (فقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟!) يعني: مَنْ منا لم يقع في الظلم؟! كلنا واقع في الظلم، وهذه الآية تدل على عدم حصول الأمن والاهتداء إلا بالإيمان الذي لم يخلط فيه الإنسان ظلماً، فشرط حصول الأمن والاهتداء ألا يقع الإنسان في الظلم، ففهم الصحابة أن هذا يشمل كل ظلم: الدقيق والجليل، الصغير والكبير، الشرك فما دونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه؛ لأنه لا سلامة من الظلم، بل كل إنسان ظالم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ، وكما قال الله جل وعلا -قبل ذلك- في شأن الإنسان: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] حيث حمل الأمانة وقد أعرضت عن حملها السموات، والأرض، والجبال: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وهذا الوصف لا يختص بفرد من الناس، ولا بجنس منهم، بل هو لعموم الناس، فكلهم ظالم جهول، ولا يسلم الإنسان من هذين الوصفين إلا بالاهتداء بكتاب الله وما جاءت به الرسل عن الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة الكرام! لما جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون ما في هذه الآية من مشقة قال لهم: (ليس الذي تظنون -أي: ليس الظلم هو الذي ذهبتم إليه- إنما هو الشرك، كما قال الله جل وعلا في وصية لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]) ، فالظلم الذي في الآية هو الشرك، فهان الأمر على الصحابة رضي الله عنهم.
والشاهد -أيها الإخوة- أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتلقوا القرآن تلقياً بارداً، بل تلقوه للعمل، وأخذوا به على أنهم هم المعنيون، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله جل وعلا يقول في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك -يعني: أصغ إليها، وأعطها أذنك- فهي إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. وهذا لكونهم أخذوا القرآن للتلقي والعمل، وأن كل ما فيه خطاب لكل من سمعه، وخطاب لكل من بلغه، وليس المخاطب به قوم مضوا ولم يبق لنا منه إلا أن نتعبد ونتقرب إلى الله جل وعلا بما فيه من الألفاظ، وما فيه من الكلام الذي جرد عن معناه، ولم يقصد ما تضمنه، لا؛ بل إن الصحابة رضي الله عنهم ضربوا في هذا أمثلة رائعة، وانقادوا لما في كتاب الله جل وعلا انقياداً تاماً، فهذا أبو بكر رضي الله عنه تتهم ابنته عائشة في عرضها! ويبرأها الله جل علا في سورة النور في قصة الإفك، وتبين أن من جملة من رمى عائشة وتكلم فيها: مسطح بن أثاثة ، وهو قريب لـأبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر يصله ويعينه، وكان فقيراً، ثم لما تبين الأمر وتبينت براءة عائشة رضي الله عنها حلف ألا يصله -بعد أن فعل ما فعل- شيئاً من عطاياه، فأنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى بلى، فانتهى عن الامتناع مما جرت به يده رضي الله عنه من الصدقة والإحسان على مسطح بسبب ما كان منه من إساءة لـعائشة رضي الله عن الجميع.
أيها المؤمنون! إن الصحابة رضي الله عنهم تعاملوا مع القرآن تعاملاً عظيماً، وليس هذا في جانب التلقي فقط، بل فاقوا الأمة في جوانب عديدة، من ذلك قراءتهم للقرآن، فإن الصحابة رضي الله عنهم لازموا قراءة القرآن، فكان أحدهم يلقى أخاه في الطريق فيقول: اجلس بنا نؤمن ساعة، فيقرأ أحدهم على الآخر سورة العصر، وثبت عنهم رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا اجتمعوا جعلوا أحدهم يقرأ، والبقية يستمعون للقرآن، فالقرآن كان مخالطاً لحياتهم: في قلوبهم .. في مجالسهم .. في تذكرتهم وموعظتهم، فالقرآن دخل معهم في كل أمر، وكانوا رضي الله عنهم مقبلين عليه مشتغلين به عن غيره؛ فلذلك فاقوا غيرهم في الفقه.. في العمل.. في الجهاد.. فيما كتب الله على أيديهم من النصر، كل ذلك بسبب ما كانوا عليه -رضي الله عنهم- من تعهد القرآن، والإقبال عليه، والأخذ به، والاستكثار منه.
إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكثرون من قراءة القرآن في مجالسهم.. في طرقهم.. في كل شأنهم، فهذا عثمان رضي الله عنه كان ليلة مقتله تالياً لكتاب الله جل وعلا، حتى ذكر أن الذي قتله -عليه من الله ما يستحق- قتله وكان في يديه كتاب الله جل وعلا.
أيها الإخوة الكرام! سار السلف الصالح: التابعون ومن بعدهم على منوال أولئك في قراءة الكتاب الحكيم، وفي الأخذ به رضي الله عنهم، فهذا عفان يقول: قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة ، لكن ما رأيت أشد مواظبةً على الخير وقراءة القرآن والعمل لله تعالى منه رضي الله عنه. وقال آخر: ما رأيت أحسن انتزاعاً لما أراد من آي القرآن من أبي سهيل بن زياد ، وكان جارنا، وكان يديم صلاة الليل والتلاوة، فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه. يعني: في الاستشهاد والاستفادة مما في هذا القرآن من الأحكام، ويقول آخر في وصف ما كان عليه مالك بن أنس إمام دار الهجرة: قيل لأخت مالك بن أنس : ما كان شغل مالك بن أنس في بيته؟ -بماذا يشتغل في بيته؟ وماذا كان يعمل في بيته؟- قالت: المصحف والتلاوة. هذا شغل الإمام مالك رحمه الله في بيته، المصحف والتلاوة.
والآثار في ذلك كثيرة، ومن العجيب! أن بعض السلف كان إذا اجتمع إليه أصحابه أوصاهم عند التفرق بألا يجتمعوا في سيرهم، بل يمشي كل واحد منهم بمفرده، قال لهم: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم فانشغلتم عن القرآن.
من سمات السلف قراءة الألفاظ وتدبر المعاني
وقد أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم في أول البعثة بقيام الليل، فقال الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:1-4] أي: رتله في قراءته وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:4-5] وهو القرآن، فالقرآن قول ثقيل يحتاج إلى تهيئة إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:5-6]، أمره بقيام الليل وعلل ذلك بقوله: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا [المزمل:6] يعني: يتفق فيها قول اللسان مع تدبر القلب ونظره وتأمله وتفكره، وناشئة الليل قيل في تفسيرها: أوقات الليل، وقيل: عمل الليل، وكلا القولين يؤيد ما استشهدنا به من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله عز وجل بما أمره، ووجهه إلى أن يكون ذلك في الليل قياماً؛ لكونه أدعى لمواطأة القلب للسان بالتدبر، وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيه الله جل وعلا وأمره، ففي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً فقرأ: البقرة وآل عمران والنساء في ركعة!) كل هذا في ركعة في ليلة، وما هي صفة هذه القراءة؟ هل هي قراءة الهذ والنثر التي لا يعقل معها معنى، ولا يعرف معها مقصود؟! لا والله، يقول حذيفة رضي الله عنه في وصف قراءته صلى الله عليه وسلم: (وكان إذا مر بآية فيها تسبيح سبّح، أو سؤال سأل، أو تعوذ تعوذ) هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قراءة تدبر ونظر وتفكر، ليست قراءة هذٍ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في وصف القراءة التي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، قال: (لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب).
هذا القرآن فيه من العجائب والأسرار ما لا ينفتح للذي يقرؤه قراءةً لا تدبر فيها ولا نظر، فإن الله جل وعلا يمنع من امتهن القرآن ولم يعطه حقه من أن يقف على أسراره وعجائبه.
السلف وتعلم القرآن
قيام الليل بآية واحدة
والترديد للآية ليس أمراً مشروعاً في الفرائض؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يفعل ذلك ولم ينقل عنه، إنما هو في النوافل كما جاء ذلك في حديث أبي ذر الذي رواه النسائي وغيره، وهذا الترداد للآيات دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتدبرون القرآن؛ لأن الترداد والتكرار لهذه الآية إنما هو للنظر في معانيها.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اليوم الصالح عاشوراء | 2693 استماع |
من أسعد الناس ؟ | 2676 استماع |
لا تفوتوا جود رمضان | 2072 استماع |
الحج | 2021 استماع |
الله أكبر | 1981 استماع |
كن في الدنيا كأنك غريب | 1952 استماع |
كيف نستقبل رمضان | 1949 استماع |
وكان أجود ما يكون في رمضان | 1754 استماع |
لماذا نتعلم ؟ | 1629 استماع |
درة الموسم | 1598 استماع |