كن في الدنيا كأنك غريب


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، بالعلم والبيان، والسيف والسنان، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنحمد الله سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه أولاً وأخراً، وظاهراً وباطناً، على ما أولانا من النعم، فنعم الله جل وعلا علينا تتراً أيها الإخوان، ألا وإن من أعظم النعم وأجل المنن وأكبر المنح؛ أن يوفق الإنسان إلى العلم النافع، إلى حضور حلق الذكر التي تحيى بها القلوب، وينشط بها إلى العمل الصالح، فنعمة الله عز وجل على العبد بالتوفيق إلى الطاعة، وإلى طلب العلم، وإلى حضور حلق العلم؛ من أعظم ما يمن به على العبد ويوفق إليه، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، والفقه في الدين الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم حصوله للمرء دلالة على إرادة الخير به من الله سبحانه وتعالى؛ هو معرفة قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، فالعلم هو قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولوا العرفان رضي الله عنهم، فكل من اشتغل بهذا الأمر سواء اشتغالاً كلياً أو اشتغالاً جزئياً فإنه على خير عظيم، وهذا من دلائل إرادة الله عز وجل لعبده الخير، فاحمدوا الله -أيها الإخوة- على هذا الأمر، واشكروه عليه، واحرصوا عليه، فإن حلق الذكر يعلو بها الذكر، ويرتفع بها الإيمان، ويصلح بها حال الإنسان، وينشط بها على العبادة، ويعرف بها حق الله عليه، ويعرف بها ما يكون سبباً من أسباب الخروج من الظلمات إلى النور، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم العاملين به، الداعين إليه، المقبلين عليه، الفرحين به.

أيها الإخوة الكرام! إن هذا هو الدرس الأول من سلسلة دروس في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو أكمل الهدي، وهو عنوان السعادة للعبد إذا وفق إليه، فإن الله جل وعلا قال: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، ولا يمكن أن يكون العمل صالحاً إلا إذا كان موافقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فواجب على كل من حرص على قبول عمله، وعلى كل من رغب في تحقيق السعادة لنفسه، أن يسلك وأن يعتني بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتني به علماً، ويعتني به عملاً، ويعتني به تحصيلاً، ويعتني به طلباً، فإن ذلك سبب للسعادة، والتعليل لهذا الأمر واضح جداً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق سعادة، فلا أحد أسعد منه في الدنيا ولا في الآخرة، قد من الله عليه بهذه السعادة الوافرة في الدنيا والآخرة، فمن رغب في سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وفوز الدنيا وفوز الآخرة فليحرص على سلوك سبيل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وما سنتناوله في هذه الدروس إن شاء الله تعالى هو ما يتعلق بجوانب من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، نذكر أنفسنا بحاله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا جعل لنا فيه الأسوة الحسنة، جعله سبحانه وتعالى لنا إماماً وقائداً، فبقدر حرصنا على اتباع سنته، والأخذ بهديه، والإقبال على ما خلفه وتركه؛ بقدر نصيبنا من صحبته، والحشر تحت لوائه، والكون معه يوم العرض والنشور.

أيها الإخوة الكرام! درسنا إن شاء الله وتعالى سيكون في أول أحد من أول كل شهر بإذن الله تعالى، وكما علمتم أننا سنتناول هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وموضوع هذا الدرس هو نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم للدنيا، وقد انتخبت لبيان ذلك حديثاً من صحيح الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه الله عنه قال فيه: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي-والمنكب هو مجمع الكتف مع العضد - أخذ رسول صلى الله عليه وسلم بمنكب ابن عمر ، لكن قبل أن نتم الحديث نحب أن نقف عند هذه اللفتة النبوية منه صلى الله عليه وسلم، التي تنم وتدل على تواضع جم منه صلى الله عليه وسلم، وتدل أيضاً على شفقة ورحمة، وتدل أيضاً على نصح تام، ورغبة في إيصال الخير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص ابن عمر الشاب الحدث الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أوائل العشرين أو لعله لم يبلغ العشرين، فإنه في غزوة الخندق كان عمره إما خمس عشرة سنة أو أربع عشرة سنة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لفت نظر هذا الشاب الذي في مقتبل عمره، وفي أوائل طريق حياته، إلى أمر عظيم ينشطه به على ما يستقبل من بقية العمر، ويذكره بأهمية الجد والاجتهاد في استباق الأوقات قبل فواتها.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـابن عمر في هذه الوصية الجامعة، التي هي في الحقيقة ترجمة لهذه الدنيا: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)، كلمتان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما هذا الشاب: (كن في الدنيا) أي: ليكن شأنك في هذه الدنيا، في هذا المعاش، في هذه الحياة، بين أحد أمرين: الأمر الأول: (كأنك غريب)، والثاني (أو عابر سبيل)، وكلاهما يجمعه معنى واحد ألا وهو السفر، فإن الغريب مسافر، وعابر السبيل مسافر، ومجمل الحديث يدل على أنه ينبغي لكل مؤمن، ولكل إنسان أن يحقق هذا المعنى في حياته، وهو الاستشعار بأنه في سفر، كم الذين غفلوا عن هذا الأمر؟ أكثرنا يظن أنه في دار إقامة، في دار قرار، في دار بقاء لا زوال لها إلا بعد آجال وأعمار، ثم يحدث الله ما يشاء مما يجري ويكون، لكن الأمر أقرب من ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوجه هذه الوصية لشيخ كهل قارب القبر، بل وجهها لشاب صغير في أول عمره، وقد يكون في أوائل السنين بعد البلوغ، أو يكون قد بلغ العشرين، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)، والجامع لهما -كما ذكرنا- هو معنى السفر، فما هي حال المسافر؟ حال المسافر جد في طريقه، واجتهاد في قطع المسافة لبلوغ مراده، وتحصيل مقصوده، هذه هي حال المسافر؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب)، هذه هي المرحلة الأولى، وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه كل إنسان.

المرحلة الثانية: مرحلة الجد وانتهاء الاجتهاد في تحصيل المقصود، وهي أن يكون الإنسان عابر سبيل، فإن الغريب قد يشتغل في غربته ببعض ما يشتغل به المقيمون من أخذ مسكن أو مشرب أو مأكل أو غير ذلك، لكنه لا يشتغل اشتغال الذي وطن نفسه على البقاء، فما زالت أحكام السفر عليه قائمة، ولا زال يمني نفسه ويعدها بالارتحال وبلوغ المنزل والمقصد الذي يسعى إلى بلوغه وقصده، وهو غايته، وهي الدار الآخرة.

سفر الإنسان إلى الدار الآخرة

إن سفرنا -أيها الإخوة- بدأ من ظهور آبائنا، وانتقل إلى بطون أرحام أمهاتنا، ثم بعد ذلك بدأت الرحلة التي ندركها ونعيشها، وعليها مدار التكليف، وبها الفوز والفلاح، أو الخسار والهلاك؛ من الخروج من بطون الأمهات، ويكمل ذلك عند جريان قلم التكليف بالبلوغ، فإذا بلغ الإنسان فقد جرى عليه قلم التكليف، وأصبح في سفر يحاسب على دقيقه وجليله، ثم يمضي هذا العمر سنوات تقل أو تكثر إلا أن الجميع فيها مسافر، وكل سيئول إلى مقر، لكنه ليس لإقامة، بل هو زيارة، وهي دار البرزخ، قال الله جل وعلا: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2]، فلما ذكر المقابر مع أنها الغاية والمنتهى عند كثير من الناس، لم يجعلها دار إقامة، بل جعلها دار زيارة، ثم هذه الزيارة هل هي طويلة أو قصيرة؟ هي على المؤمن من أقصر ما يكون، وكذلك الكافر لا تطول عليه؛ لأنه يرجو أن تطول وهي خلاف ذلك، فهو يقول: رب! لا تقم الساعة، رب! لا تقم الساعة، ثم يبعث الناس من قبورهم، ويقومون لرب العالمين على هيئتهم يوم خرجوا إلى دار التكليف: حفاة عراة غرلاً، ثم بعد ذلك يحشرون في محشر عظيم وموقف مهول، فيه من الأهوال والفظائع ما تشيب له رءوس الولدان، كما قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2]، هذا هو سبب الذهول والاضطراب، فيكون الناس على هيئة السكارى في هذه الدنيا، ومن رأى السكران يعرف حاله واضطرابه، هذه هي حال الناس في ذلك الوقت، والذي جعل هذه الحال على هذه الصفة -وهي حال عامة للجميع- هو أن عذاب الله جل وعلا في ذلك اليوم، وما أعده لمن خالف أمره؛ عظيم تذهل له العقول، وتضطرب له القلوب، وتهتز له النفوس، ويستوجب أن يثبت الإنسان نفسه في هذه الدنيا بالعمل الصالح الذي يدفع عنه أهوال ذلك اليوم، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] ، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم - أيها الإخوة - من الآمنين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين يثبتون على الحق والهدى في هذه الدار وفي الآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

المرحلتان المذكورتان في الحديث

النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في هذا الحديث مرحلتين ينبغي للمؤمن أن يحرص على أن يكون في إحدى هاتين المرحلتين، أو في إحدى هاتين الحالتين، ويخطأ ويظلم نفسه من يخرج عن دائرة هاتين المرحلتين:

المرحلة الأولى: أن يكون في الدنيا كأنه غريب، مستعد للرحيل، ينتظر انقضاء وقت سفره، وانقضاء عمره؛ ليعجل السير إلى ربه، وليعجل السير إلى بلده، فإن الناس ليست هذه بلادهم، ولا هذه قرارهم، بل قرارهم ما ذكره الله جل وعلا في قوله: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] ، هذا منتهى حال الناس، فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير، نسأل الله أن نكون من أهل الجنة! فينبغي للمؤمن أن يستحضر هذه الغربة وأن تكون منه على بال، وأن تكون معه على خاطر، وألا يغفل ببنيات الطريق، وما في هذه الدنيا من الملاهي والملذات، فإن هذه الملاهي والملذات عوائق تضرك وتمنعك عن مواصلة سيرك.

الأمر الثاني أو المرحلة الثانية التي ينبغي للمؤمن أن يسعى إلى تحقيقها: أن يكون عابر سبيل أي: أن يكون في حاله وشأنه واستعداده للآخرة، واستعداده لبلوغ قصده ذلك؛ مثل الذي سار في طريق فاستظل تحت ظل شجرة ثم ذهب وتركها.

أيها الإخوة! إن عابر السبيل أقل أثقالاً من الغريب، فالغريب قد يسكن، وقد يستقر لبرهة من الزمن، وقد يشتغل بما يشتغل به المقيمون، لكن عابر السبيل مظاهر التعب والسفر عليه بادية، وقلبه بسفره مشغول، لا يأنس إلى أحد، ولا يأوي إلى أحد، بل همه وشغله بلوغ غايته وقصده. وكلنا يسعى ويشتغل بالوصول إلى رحمة الله عز وجل، إلى جنة عرضها السموات والأرض، فالواجب على كل أحد أن يشتغل بهذه الغاية، وأن يسعى إلى تحقيقها، قال الله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ، هذه هي غاية الوجود، هذا هو المقصود من هذه السماوات والأرض، والإنس والجن، والذكر والأنثى، المقصود تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، فهل نحن مشتغلون بالغاية لندرك المطلوب أم نحن غافلون عنها فيفوتنا خير مطلوب وهو الجنة التي وعدها الله عز وجل عباده المتقين؟

إن المرحلة الثانية مرحلة كمال، ولكنها مرحلة تحتاج إلى رجال، تحتاج إلى حضور قلب، ودوام مراقبة، ودوام ملاحظة، حتى لا يغفل الإنسان؛ لأن المسافر في سفره قد يشتغل بعض الأحيان بما يلهيه عن بلوغ مقصوده، وبما يعوقه عن الوصول إلى مكان إقامته وقراره، فينبغي له أن يكون دائم الملاحظة، دائم المراقبة، دائم العناية بقلبه ونفسه وسيره وقصده، هل هو على الجادة أم أنه متخلف؟ هل هو ساع في تحقيق المقصود أم أنه متأخر؟

استجابة ابن عمر لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم

أيها الإخوة! إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تميزوا بميزة جعلتهم خير القرون، ألا وهي سرعة المبادرة والاستجابة لله ولرسوله، فكانوا رضي الله عنهم سباقون إلى امتثال أمر الله ورسوله، شواهد هذا في سيرتهم كثيرة، ولا أظن أننا نأتي على شيء منها إلا ما ذكر في هذا الحديث، فإن ابن عمر الذي أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية ذكر لنا الغاية في تحقيق الغربة، وتحصيل ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري أنه بعد أن روى هذا الحديث قال موصياً من يبلغه هذا الحديث: (فإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) ، هذه الكلمات من ابن عمر رضي الله عنه ترجمة حرفية فعلية يبين فيها كيف تحقق وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الغاية والمنتهى في قصر الأمل؛ لأن المسافر الذي هو عابر سبيل في الغالب قد يحتاج إلى الإقامة في مكان من الأماكن؛ ليستريح وينشط على سفره، لكن إقامته لا تدوم، بل إذا أصبح لا ينتظر المساء في المكان الذي أقام فيه، بل يمشي ويواصل السير، وكذلك إذا أمسى لا ينتظر الصباح، بل هو مسافر، ثم هو في سيره يغتنم أوقات عمره ونشاطه وقوته؛ لتحقيق غرضه ومقصوده، وهذا ما وجه إليه ابن عمر رضي الله عنه في قوله: (خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) ، فإن كل أحد ميت، وكثير من الناس تنزل بهم الأمراض، فاجتهادهم في وقت النشاط في طاعة الله عز وجل يكتب لهم من الأجر مثله في حالة المرض، فإن الله من كرمه وواسع فضله وجوده وإحسانه وبره ورأفته ورحمته بعباده أنه يكتب للعامل الصادق في عمله إذا نزل به مرض أو سفر كما كان يعمل صحيحاً مقيماً، كما في حديث أبي موسى في الصحيح، فينبغي للعبد أن يأخذ بهذه الوصية، فإنها من أسهل الوسائل والطرق التي يتحقق بها امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لـابن عمر ، وهو أمر لكل الأمة، ليس خاصاً بـابن عمر وحده: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).

موقف النبي عليه الصلاة والسلام من الدنيا

ومما يعيننا على تحقيق ذلك؛ أن نتلمس ترجمة هذا الحديث في هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله جل وعلا عليه القرآن؛ ليبينه للناس، فكان فعله صلى الله عليه وسلم وهديه ترجمة لما في القرآن، وكان هديه وفعله صلى الله عليه وسلم ترجمة لما أمره الله به، فهو السباق إلى الخيرات، ما أمره الله بأمر إلا وبادر إليه، ولا نهاه عن نهي إلا كان أول المنتهين عنه صلى الله عليه وسلم، فما موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا؟

روى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه، وابن ماجة في سننه أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على حصير، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا أثر الحصير في جنبه صلى الله عليه وسلم، فقال ابن مسعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا أمرتنا فنعد لك مكاناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا! مالي وللدنيا!) يعني: أي شيء يحملني على التعلق بها؟ مالي وللدنيا! ثم بين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هديه وسمته وطريقته فقال: (إنما أنا كراكب استظل -يعني: شأني شأن الراكب السائر في طريقه، القاصد إلى جهة من الجهات- إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة -وفي رواية: استظل- ثم راح وتركها)، هذه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا، وهذا الحديث يبين لنا بياناً واضحاً أن الحياة قليلة مهما كانت في الغاية من السعادة، فرسول الله كما قدمنا قبل قليل أسعد الخلق، أسعد الناس، أسعد بني آدم، ومع ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعد هذه الدنيا كالظل الذي يستظل به السائر في طريقه، يحتمي به من الشمس ثم يخرج بعد أن قال واستراح لمواصلة سيره، وهذا يبين لنا -أيها الإخوة- أن الدنيا مهما طابت فهي سريعة الرحيل، سريعة الزوال، هي دار قليلة المكث، فالواجب على من نصح نفسه أن يجتهد في مرضاة ربه، وأن يبالغ في تحقيق العبودية لله عز وجل جهده وطاقته على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا وما فيها، مهما بلغت من النعيم، ومهما كان فيها من البهرج بقوله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد -: (والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع!)، هذه هي الدنيا بما فيها من الملذات، وما فيها من أنواع التنعمات، شأنها شأن الذي وقف على اليم ثم غمس يده في اليم وأخرجها، فما الذي يعلق في يده مقارنة بما بقي في اليم؟! لا يذكر، وهذا وصف لما يمكن أن يحصله الإنسان في هذه الدنيا من النعيم الذي يفوته في الآخرة إذا كان ممن حصل لهم الغاية في التنعم في هذه الدنيا.

أيها الإخوة الكرام! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه ترجمة لما في القرآن، وبيان لما حواه كتاب الله عز وجل، بل الله جل وعلا قال في كتابه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فنزل الله عز وجل هذا القرآن على رسوله ليبينه للناس لعلهم يتفكرون، لعلهم يحصل منهم التفكر والتذكر، وإذا نظرنا إلى هذه السيرة لا نستغربها إذا علمنا أن القرآن مملوء بالتزهيد في الدنيا، وبيان حقارتها وخستها وانقطاعها، وأنها دار زائلة، وطيف زائل، وخيال عما قليل عابر، وأن الآخرة هي دار القرار، وأنها هي المستقر لكل أحد.

الدنيا متاع الغرور

قف عند آية ليتبين لك ذلك، وإن كان القرآن مملوءاً بذلك، لكن قف عند قوله جل وعلا في سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ [الحديد:20]، بعد ذلك ماذا قال؟ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور أي: إلا متاع خادع يظهر لك ما ليس له حقيقة، متاع باطل كاذب، فهو يظهر صاحبه بالسعادة والمكانة والطمأنينة وقلبه خال من ذلك، ثم بعد أن بين هذا الأمر وجه إلى ما يحصل به السلامة من هذا الغرور فقال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21].

إذاً: سبيل السلامة من غرور هذه الدنيا هو أن يجد الإنسان في تحقيق العبودية، فيغتنم الإنسان عمره بالطاعة، ويحتسب الدقيق والجليل عند الله عز وجل، ولا يشتغل بما يشتغل به الناس من الانهماك في هذه الدنيا، والإقبال عليها، وجعلها في المرتبة الأولى من الاهتمامات، ليس المراد أن ينقطع الإنسان عن الدنيا، فإنه لا قوام له إلا بذلك، لكن المراد ألا تكون الدنيا قد تخللت القلب، وتربعت على سويداء القلب، بل المراد أن يكون الإنسان مشتغلاً بالطاعة، عاملاً ما يرضي الله عز وجل، باذلاً طاقته في تحقيق مرضاة الله عز وجل، ولا مانع أن يشتغل بعد ذلك بما يقيم به معاشه، ويصلح به دنياه، لا ندعو إلى زهد الصوفية الذين يقولون: دع الدنيا واهجرها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك، بل كان صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- يدخر قوت أهله لسنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواعد الناس، ويجلس لهم، ويخطط لأمر مستقبله فيما يتعلق بطاعة الله عز وجل، وفيما يعين على ذلك من أمر الدنيا، ولكن الذي نذمه هو ما يخالف مقتضى ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغربة، وهو أن يشتغل الإنسان بهذه الدنيا عن الآخرة، وأن تكون هي همه ومحل اهتمامه ومحل عنايته، وهي التي عليها يوالي وعليها يعادي، وهي التي بها يحب وبها يكره، ولها يعطي ولها يمنع، هذا هو الذي ينبغي أن نسلم منه، وأن نصون أنفسنا وقلوبنا ومجتمعنا منه، وإذا كنا كذلك فقد حققنا خيراً كثيراً.

سرعة انقضاء الدنيا

إن مما يعين على تحقيق ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننظر إلى سرعة انقضاء الدنيا، فالدنيا -أيها الإخوان- سريعة الانقضاء، هي مراحل تنقضي مرحلة تلو مرحلة، إذا لم يدرك الإنسان هذا الأمر غفل، وإذا غفل فاتت عليه الخيرات، وفاتت عليه الفرص، عمره فرصة للسبق إلى مغفرة من الله ورضوان، للمسارعة إلى جنة عرضها السموات والأرض، فاحرص على مراحل عمرك، واعلم أن الليل والنهار مراحل تطوى وتنقضي، فيوم أمس شاهد عليك، ويومك الحاضر محل عملك، وغداً قد لا تدركه، فلا تدري أتكون فيه من الأحياء أو لا تكون فيه من الأحياء؟ فاعمل جاداً في قطع المراحل لطاعة الله عز وجل، واعلم أن المراحل تطوى وأنت لا تشعر، كلنا لو أراد أن يسترجع ذاكرته وذهنه إلى ما قبل سنوات قريبة لفاته شيء كثير، وقال: ما أسرع تقارب الزمان، وتعاقب الليالي والأيام! لكن هذا لا ينفعه إذا كان لا يحدث فيه إقبالاً على الطاعة، وتصحيحاً للأخطاء، واستدراكاً لما فات، وتنمية وزيادة للخيرات، مراحل العمر تنقضي وتسير سيراً حثيثاً، والعجيب العجيب أنك لو تأملتها؛ لرأيت المنازل تطوى، والمسافر قاعد! هذه حال الدنيا، منازل الليل والنهار تطوى وتنقضي، والمسافرون أنا وأنت والثاني والثالث قاعدون لا نشعر بهذا السفر، ومن الغريب العجيب أن الله سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والواقع أن تعاقب الليل والنهار أصبح غشاء عند كثير من الناس، ينسيه النهار ما كان في الليل، ويلهيه ليله عما كان في نهاره، وهلم جراً، أصبح تعاقب الليل والنهار فتنة له، لا ذكرى ولا عبرة.

نسأل الله عز وجل -أيها الإخوة الكرام- أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا من عباده المتقين المحققين لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة، وأمره في هذا الحديث خاصة، ونكتفي بهذا القدر من الكلام.