لماذا نتعلم ؟


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنحمد الله سبحانه وتعالى على ما يسر من تجدد اللقاء في هذا اللقاء الشهري الذي نتناول فيه شيئاً من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

أيها الإخوة الكرام! إن موضوع هذا الدرس هو: لماذا نتعلم؟

إنه سؤال قليل العبارة، لكنه يتضمن في جوابه معانٍ كبيرة؛ وذلك أن المسئول عنه أمر عظّم الله جل وعلا شأنه في كتابه، وذكر فضل أهله، وبين مناقبهم، وحث على الاستكثار منه، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مليئة بالنصوص الحاثة على العلم، المرغبة فيه، الداعية إليه، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما صح عنه في حديث أم سلمة أنه كان يستفتح النهار بأذكار، منها: (اللهم إني أسالك علماً نافعاً) ، وقد أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسؤال الله المزيد من العلم، فقال جل وعلا: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، ولم يأمر جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة في شيء إلا العلم؛ وذلك أنه مفتاح الفضائل، وفيه خير عظيم، فالعلم -كما قال الإمام مالك - خير كله، لكن ينبغي للمتعلمين وللمعلمين، ولمن يشتغل في التعليم على أي وجه كان أن يعرف: لماذا نتعلم؟

أنواع العلوم

أيها الإخوة الكرام! إن جواب هذا السؤال يحتاج إلى أن نبين أن أنواع العلم التي يشتغل بها الناس نوعان من حيث الجملة:

النوع الأول -وهو أشرفها وأعظمها أجراً عند الله عز وجل-: العلوم الشرعية أو العلوم الدينية، وهذه العلوم هي كل علم يقرب إلى الله جل وعلا، علم الكتاب وعلم السنة، ويدخل في هذا العلم كل ما أعان على فهم كتاب الله وفهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يحصل لمتعلمه الفضل إذا قصد بهذا التعلم فهم كلام الله وفهم كلام رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

أيها الإخوة الكرام! لماذا نتعلم العلم الشرعي؟! لماذا أطال العلماء في الحث على تحصيل العلم، والصبر على مضاضة الطلب، وما فيه من الكد والعناء؟! هل هو لتحصيل مكاسب قريبة، وانتزاع مناصب في الدنيا أو هو لأمر أبعد من ذلك؟!

من مقاصد طلب العلم الشرعي

إن طلب العلم الشرعي له مقاصد عديدة، من أهمها وأولها: أنه به يعرف الله سبحانه وتعالى، فبالعلم الشرعي يعرف الإنسان ربه سبحانه وتعالى، يعرف ما لله جل وعلا من الأسماء، وما له من الصفات، وما له من الأفعال، هذا في ما يتعلق بذاته جل وعلا.

ويعرف أيضاً ما يجب له من الحقوق، فإن العلم الشرعي هو السبيل الذي يتعرف به الخلق على ربهم سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى بعث المرسلين به معرفين وإليه داعين، فكل الرسل جاءت تعرف الخلق بربهم، وتدلهم عليه، وتبين لهم شيئاً من أوصافه؛ ليعرفوه سبحانه وتعالى ويعبدوه، وذلك لأنه لا سعادة للناس في حياتهم، ولا لذة لهم في معاشهم، إلا بمعرفة الله جل وعلا، فإن معرفة الله سبحانه وتعالى أصل السعادة ورأسها، وهذه السعادة ليست مقتصرة على سعادة الدنيا فحسب، بل هي التي تبقى بعد الموت وتنفع في الآخرة، فلذة العلم بالله جل وعلا ومعرفته سبحانه وتعالى فوق كل شيء، فالعلم بذاته يستلزم العلم بما سواه؛ لأن من عرف الله تفتحت له أبواب العلم، وأبصر السبيل، واستضاء له الطريق، فلا يحتاج بعد ذلك إلى أكثر من العلم بالله جل وعلا؛ لأن به يفتتح كل مغلق، ويحصل له كل مطلوب.

أما من لم يعرف ربه جل وعلا فإنه عن كل خير غافل، قال الله جل وعلا: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19] ، فتأمل هذه الآية تجد فيها أن الله عز وجل تهدد من نساه بأنه سبحانه وتعالى ينسيه نفسه، ومن نسي نفسه كيف يعرف مصالحها؟! كيف يعرف فلاحها؟! كيف يستقيم معاشه فضلاً عن معاده؟!

إن من غفل عن الله عز وجل، ونسي ربه سبحانه وتعالى؛ يصدق عليه ما أخبر به جل وعلا: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، فإن من غفل عن الله عز وجل، وعن ذكره؛ انفرط عليه أمره، ولم ينتظم له شيء من الأشياء، بل تفوته مصالح دينه ومصالح دنياه، وليس في هذا مبالغة في بيان أهمية العلم بالله عز وجل، بل هذا هو الواقع، وليس ما نراه عند الكفار من إتقان عمارة الدنيا، ومن تشييد المباني، وإتقان المصنوعات، والسبق الحضاري؛ ليس ذلك بشيء أمام ما فاتهم من خير الآخرة، وإنما هو كما قال الله جل وعلا: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46] ، فهو أكل وشرب وتمتع قليل، لكنه لا ينزع عنهم وصف الإجرام.

أيها الإخوة الكرام! إننا نطلب العلم الشرعي لنعرف به نبينا صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله سبحانه وتعالى حجة على الإنس والجن، بعثه الله سبحانه وتعالى بين يدي الساعة بالحق بشيراً ونذيراً، يدعو إلى الله عز وجل، يبلغ الرسالات، ويبصر من العمى، ويهدي من الضلال، فمن أقبل على العلم الشرعي عرف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا عرف النبي صلى الله عليه وسلم وعرف ما جاء به تيقن صدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإن أهل العلم يعرفون صدق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم بما معهم من العلم يدركون صحة خبره صلى الله عليه وسلم فيما عقلوه من معاني هذا الكتاب العظيم، وفيما أدركوه من آيات الله عز وجل في الأنفس والآفاق، قال الله جل وعلا: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ:6] ، وقال جل وعلا: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا [الإسراء:107] ، ولا يمكن أن يكون منهم هذا إلا إذا كانوا قد صدقوا بما جاء في الكتاب، فإنهم يخرون تعظيماً لله عز وجل، وتعظيماً لكلام الله سبحانه وبحمده، وتعظيماً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الحق والهدى والنور.

من فوائد العلم العصمة من الشرك

أيها الإخوة الكرام! إن من فوائد تعلم العلم الشرعي أنه يعصم العبد من الوقوع في أعظم الظلم، وهو الشرك، قال الله سبحانه وتعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18] ، فاستشهد الله سبحانه وتعالى العلماء دون غيرهم من الناس، على أعظم مشهود وهو: أنه لا إله إلا هو سبحانه وبحمده، وأنه المتفرد بالألوهية، واستشهاد الله بالعلماء فيه بيان لفضلهم، وتزكية لهم؛ لأنه لا يمكن أن تقبل شهادة أحد ما لم يكن عدلاً، فاستشهد الله سبحانه وتعالى العلماء على أعظم مشهود وهو التوحيد، فكان في ذلك تعديلاً لهم؛ لأن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، قال الله سبحانه وتعالى -في بيان ما كان عليه أهل الجاهلية لما فقدوا العلم-: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23] ، فهذه وصية بعض الجهال من المشركين لأتباعهم ولمن يسمع نصحهم، لكن متى كان هذا؟ كان هذا لما انتفى العلم، وارتفع أثره، ولم يبق له في الناس وجود، فعند ذلك عبد هؤلاء الأصنام من دون الله عز وجل.

فالعلم يعصم الإنسان من الشرك، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في بيان معنى هذه الآية، قال: (كان هؤلاء رجالاً صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا على مجالسهم أنصاباً وسموها بهم، فنصبوا الأنصاب ليتذكروا عبادة هؤلاء، وسموها بأسمائهم لينشطهم هذا على شدة السعي في الخير والعمل به، ففعلوا ولم تعبد -أي: لم تعبد فترة من الزمن- حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت)، ومن هذا نفهم أن نسيان العلم سبب لكل شر، بل هو سبب لأعظم الشرور وهو الشرك بالله سبحانه وتعالى.

أيها الإخوة! قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (خير القرون قرني -وفي رواية: خير الناس قرني- ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) ، وإن المتأمل الناظر في هذا الترتيب للفضل يعلم أن هذا الترتيب للفضل إنما هو بالنظر إلى ما عند القرن الأول من العلم والإيمان، فلما كان القرن الأول سابقاً في العلم والإيمان كان متقدماً على غيره من القرون، وهكذا القرن الذي بعده، وهكذا الذي بعده، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه؛ وذلك بسبب نقص العلم، فإنه كل ما تقدم الزمن، وكلما مضى الدهر؛ كلما قل العلم في الناس، ولا يقل برفع العلم فـ (إن الله لا يرفع العلم ولا ينتزعه انتزاعاً من صدور الناس، إنما ينتزعه بموت العلماء) .

بالعلم الشرعي تكمل الأخلاق

أيها الإخوة الكرام! إننا نطلب العلم الشرعي؛ لأن بالعلم الشرعي تكمل الأخلاق الفاضلة، وبه يُحصّل الإنسان محاسن الخصال؛ ولذلك قال الله جل وعلا: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164] ، فالله جل وعلا أخبر أنه منّ على المؤمنين بأن بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164] أي: من جنسهم، ما مهمته؟ ما وظيفته؟ ما عمله؟ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران:164] يتلو عليهم الآيات التي جاءت في كتاب الله عز وجل، والتلاوة هنا ليست تلاوة اللفظ فقط، بل هي تلاوة اللفظ والمعنى، فهو يبين لهم بقوله وفعله ما أنزل الله جل وعلا من الكتاب المبين، وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران:164] والتزكية: هي التدرج بالنفس إلى أعلى درجات كمالها، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثه الله مزكياً مكملاً للأخلاق، جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) ، قال أنس رضي الله عنه: (إذا قلّ العلم ظهر الجفاء)، فالخلق الفاضل، والسجايا الكريمة؛ تنبع عن العلم الشرعي، فإذا أقبل الإنسان على كتاب الله عز وجل تعلماً، وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم تلقياً، بصدر منشرح، وهمة عالية، ورغبة في الخير؛ فإنه لا بد وأن تزكو أخلاقه، ولا بد وأن يظهر للعلم أثر في أخلاقه: في قوله .. في عمله .. في هديه .. في سمته .. في سائر شأنه.

وقد مدح الله جل وعلا في كتابه صفات كثيرة وأثنى على أهلها، واعلم أن كل صفة مدح الله بها العبد إنما منشؤها العلم، وهذا يبين لك أهمية العلم، وأن العلم به تكمل الفضائل، وبه تحصل على السبق في ميادين الخير والبر والشرف، وأن من قعد عن العلم فقد قعد عن تكميل أخلاقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).

العلم الشرعي حصن من الفتن

أيها الإخوة! إننا نطلب العلم الشرعي؛ لأن الله يعصمنا به من الفتن، والفتن كثرت في هذا الزمان، وهي على مر الوقت تكثر؛ لأنه كلما تقدم الوقت كثرت أسباب الضلال، وأسباب الزيغ، وأسباب الشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه).

أيها الإخوة! إن العلم الشرعي حصن يتدرع به الإنسان من الوقوع في شراك الفتن، سواء كانت من فتن الشهوات، أو كانت من فتن الشبهات، قال الله جل وعلا في بيان أثر العلم في العصمة من كل فتنة: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83]، وهذا شأن المنافقين وعملهم: إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83] أي: نشروه وأشاعوه دون أن يترووا، ودون أن ينظروا هل في إشاعته مصلحة للمؤمنين وأهل الإسلام أو لا؟ قال الله جل وعلا: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فالعلم سبب للحفظ من الفتن، وصيانة من الوقوع في أسباب الشر.

أيها الإخوة! إن الفتن -كما ذكرنا- تكثر مع مرور الوقت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: (إن بين يدي الساعة أياماً يرفع فيها العلم، وينزل فيها الجهل، ويكثر فيها الهرج) والهرج القتل، أي: كثرة القتل في الناس، وانظر حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما يصاب به الناس بين يدي الساعة فذكر أولاً رفع العلم؛ لما لرفع العلم من الشر الذي يصيب الناس، ويبين هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أنس : (إن من أشراط الساعة: أن يقل العلم، ويظهر الجهل، والزنا، وشرب الخمر، ويقل الرجال ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد) ، وهذا يبين لنا خطورة ارتفاع العلم، وأن ارتفاع العلم من المجتمع سبب للوقوع في أنواع الفتن وأنواع الشرور.

وإذا تأملت مسيرة الأمة تجد أن عمل الصحابة رضي الله عنهم في ذم الفتن والبدع، وفي رد الشرور، كان أعظم من عمل مَنْ بعدهم، وأن الشرور والفتن في وقتهم لم تنتشر وتشيع كما كانت في العصور التي بعد عصر الصحابة من عصر التابعين ومن بعدهم، إن بوادر الفتن التي ظهرت في عهد الصحابة رضي الله عنهم كانت بوادر خفيفة، وليست من الفتن المغلظة والبدع الشديدة، التي يحصل بها زيغ القلوب، وطيش الألباب.

العلم سبب لنور القلب

أيها الإخوة! إن التمسك بالعلم، والإقبال عليه سبب لأن يقذف الله جل وعلا في قلب العبد النور الذي يحصل به الفرقان بين الحق والباطل، وما أحوج الإنسان إلى أن يقذف الله جل وعلا في قلبه نوراً يمشي به في الناس، يميز به بين الحق والباطل.. بين الهدى والغي .. بين الرشاد والضلال، إننا نحتاج إلى هذا النور، وهذا النور سبب تحصيله تقوى الله جل وعلا مع العلم، قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].

فالقلوب إذا ملئت بالعلم تحصنت من الوقوع في الشبهات، وتحصنت من أن تقر فيها الشهوات على وجه الدوام، بل كل شبهة ترد على القلب فإن القلب يردها بقوته وصلابته، وكل شهوة تترك أثراً في القلب يردها القلب بما معه من الإيمان الصادق، والإقبال على الله عز وجل والتوبة والاستغفار، فلا يبقى في قلبه شيء من الشبهات، ولا شيء من الشهوات، قال سبحانه وتعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] ، إن الذي أُعطي النور هو الذي استمسك بالعلم الشرعي -بالكتاب والسنة-، والذي بقي في الظلمات هو ذلك الذي أعرض عن كتاب الله عز وجل وعن سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

الأجر والرفعة تنال بالعلم

أيها الإخوة الكرام! إننا نطلب العلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين في كتابه فضل العلم، وفضل أهله، ورتب الأجور العظيمة والفضائل الكثيرة على تحصيل العلم وعلى طلبه؛ ولذلك ينبغي لمن رغب في تحصيل تلك الفضائل أن يسعى في تحصيل العلوم الشرعية، فإن العلوم الشرعية سبب لتحصيل تلك الفضائل كقول الله جل وعلا: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات [المجادلة:11]، وهذا فيه دعاء لكل أحد أن يسعى إلى الترقي في درجات الخير والبر والإحسان بالاستكثار من العلم، فكلما كثر علمك بالله عز وجل وكثر علمك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم كلما ارتفعت درجتك وعلا قدرك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) أي: يرزقه الفقه في الدين، أي: في الشرع مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الله عز وجل وسنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فضل أهل العلم

أيها الإخوة! إن أهل العلم هم خلاصة الوجود، وهم الذين يحفظ الله سبحانه وتعالى بهم الأمة من الزيغ والضلال، وهم الذين تكفل الله جل وعلا بنصرهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) ، فمن أراد مثل هذه الفضائل فليقبل على العلم الشرعي، ليقبل على كتاب الله عز وجل حفظاً وفهماً وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم درساً وضبطاً وفهماً، ليقبل على حلق العلم، ليقبل على المعاهد ودور التعليم فإن فيها خيراً عظيماً، فبها يحصّل الإنسان مبادئ العلم التي تنير له السبيل، ومن خلالها يستطيع أن يتوصل إلى خير عظيم، فإن حلق العلم ودور التعليم إنما هي بوابات فيها المفاتيح التي تفتح لك أبواب العلم، ثم بعد ذلك يفتح الله جل وعلا على العبد على حسب ما معه من الإيمان والتقوى والرغبة والإخلاص، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:54].

حاجة الداعية إلى العلم

أيها الإخوة الكرام! إن من فوائد ومنافع طلب العلم: أن العلم من أهم من يحتاجه من يقوم بالدعوة إلى الله عز وجل، فلا يسوغ لمن يقوم بالدعوة إلى الله عز وجل -والدعوة إلى الله هي أشرف المقامات- أن يكون جاهلاً، بل لا بد أن يكون عالماً بما يدعو، عالماً بمن يدعوهم إليه، فمن علم من يدعو إليه، وبما يدعو؛ فإنه داخل في قول الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

فالعلم هو الذي يثمر البصيرة التي أثنى الله عليها في كتابه، وأثبتها الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] أي: أنا ومن اتبعني ندعو على بصيرة.

إن الناس في هذا الزمان أحوج ما يكونون إلى من يبصرهم بالله عز وجل، وإلى من يدعوهم إلى الهدى، وهذا ليس خاصاً بأهل الإسلام فحسب، أهل الإسلام يحتاجون إلى دعوة من أهل العلم الذين عرفوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحتاجون إلى من يعلمهم القرآن ويفهمهم القرآن ويبين لهم معاني القرآن، ويحتاجون إلى من يعرفهم بالله عز وجل ويعرفهم بدينه وما يجب له سبحانه وتعالى.

حاجة الناس إلى العلم أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب

لا تنظر إلى محيطك الضيق الذي تعيش فيه، فإن الأمة في حاجة ماسة إلى العلم، بل إن الإمام أحمد رحمه الله ذكر أن حاجة الناس إلى العلم فوق كل حاجة، يقول رحمه الله: الناس محتاجون إلى العلم قبل الخبز والماء، لأن العلم يحتاج إليه الإنسان في كل ساعة، والخبز والماء يحتاجه في اليوم مرة أو مرتين.

العلم يحتاجه المسلمون وغيرهم، يحتاجونه بعدد الأنفاس، كلما كثر علم الإنسان كلما كانت بصيرته ونظره وعبادته وتقواه وصلاحه ونفعه أكبر، ولذلك ينبغي لنا أن نحرص على الاستكثار من العلم، وأن نشيع العلم الذي تعلمناه بين الناس، فإن إشاعة العلم ونشره مما يثبت العلم ويزكيه وينميه.

أيها الإخوة! إن أمتنا الإسلامية في هذا الوقت بحاجة إلى العلم؛ لكثرة ما في بلدان المسلمين من الجهل بالله عز وجل، ويظهر ذلك في مظاهر الشرك الكثيرة المنتشرة في بلاد المسلمين، ويظهر أيضاً في البدع الكثيرة التي انتشرت في بلاد المسلمين، ويظهر أيضاً في تقصير كثير من المسلمين فيما أوجب الله عليهم، ومن ذلك تقصيرهم في بعض أركان الإسلام كالصلاة، فإن كثيراً من المسلمين يقصرون فيها: إما أنهم لا يؤدونها في أوقاتها التي أمر الله أن تقام فيها، وإما أنهم يقصرون فيها بالتأخير، أو أنهم لا يقيمونها على وجهها، وتظهر حاجة الأمة إلى العلم بما نشاهده من الدعاوى المنحرفة التي تظهر بين المسلمين، وتنتشر بينهم، وتروج في أقلامهم وأقوالهم وكتاباتهم وبلدانهم، إننا بحاجة إلى أن نبصر المسلمين بدينهم لما تشهده الأمة من هجمة عظيمة على الإسلام في هذه الأيام، فإن أعداء الإسلام ضاقوا بالإسلام ذرعاً، وبدءوا يشككون فيه، ويبحثون عما يصور لهم أنه تشويه فيه أو ضعف فيه، والضعف في عقولهم والتشوه في أذهانهم، وأما كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فهو الحق المبين: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42].

أيها الإخوة الكرام! إننا بحاجة إلى العلم لندعو غيرنا من الناس، فإن الناظر إلى جمهور الناس يرى أن المسلمين لا يشكلون إلا خمس العالم، وهذا بالنسبة إلى مجموع الناس عدد قليل، فينبغي على الأمة أن تجتهد وأن تبذل ما تستطيع في سبيل إيصال هذه الرسالة التي أنقذ الله جل وعلا بها الناس، وأخرجهم بها من الظلمات إلى النور، فهؤلاء يحتاجون إلى دعوة تُبين لهم فيها محاسن الإسلام، وتبين ما في هذا الدين من جوانب العظمة -وكله عظيم-، وتبين فيها بطلان ما يدعيه أعداء الإسلام من أن هذا الإسلام فيه.. وفيه.. وفيه من الشبهات التي تثار وهي في الحقيقة:

شبه تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور

فالجميع لا حجة فيه، بل هي شبه وخيالات وظنون فاسدة، إما ناشئة عن فساد نية أو ضعف علم، فإذا كمل العلم وصحة النية انبهر العالم بما في هذا الدين من النور الساطع المبين الذي يخرجهم به الله عز وجل من الظلمات إلى النور.

كل هذه الأسباب من أجلها نتعلم العلوم الشرعية.

حكم العلوم الدنيوية

أما ما يتعلق بالعلوم الدنيوية المدنية، فإن العلوم الدنيوية المدنية واجبة على الأمة لاسيما في هذا الوقت الذي تعيش فيه الأمة سباقاً حضارياً لا يعرف توقفاً، ولا يعرف كللاً ولا مللاً، بل إن الأمة تسابقها أمم يَصِلون الليل بالنهار في سبيل تحصيل العلوم، ثم في سبيل تسخيرها والاستفادة منها في تحقيق العز لأممهم ودولهم ومجتمعاتهم.

إننا نحتاج إلى العلوم بشتى صنوفها: في الصناعة .. في الطب .. في جميع مجالاتها التجريبية والمدنية، وبذلك يحصل فرض الكفاية؛ فتستغني الأمة عن غيرها، وتخرج من كونها فتنة للذين كفروا، فإن من صور افتتان الكفار: ما عليه المسلمون اليوم من الضعف والانكسار والتقهقر الحضاري الذي جعل المسلمين في آخر الركب، ومعلوم أن السابق لا يمكن أن يقتدي بمن يراه دونه في التقدم والرقي، فلا بد للأمة أن تطلب هذه العلوم لتخرج من هذا الموضع الذي جعلها فتنة للذين كفروا، حيث إن كثيراً من الكفار يصدهم عن الإسلام ما عليه المسلمون من ضعف وتقهقر وتشرذم وتشقق؛ وعدم استمساك بالدين الحنيف، وعدم عمل به.

تحصيل العلوم ليس طريقاً لكسب المال

أيها الإخوة الكرام! إن العلوم بشتى أنواعها لم تعلم، ولم تبذل فيها الأموال، ولم يجتهد فيها المربون والمعلمون على مستوى العالم كله؛ لأجل أن تكتسب بها الوظائف، وتحصل بها الأموال، إن اكتساب الوظائف والأعمال والمناصب ليس سبيله التعلم فحسب، بل إن حصول المال من غير طريق العلم أقرب؛ ولذلك تجد أن أكثر الأثرياء إنما حصلوا ثرواتهم من غير العلم، فالعلم ليس سبيلاً للتكسب، بل إنه قد ثبت -بعد دراسات- أن أقل الناس دخلاً هم الذين يشتغلون بالعلم، فالعلم ليس وسيلة لتحصيل المكاسب الدنيوية، فإذا كان ذلك كذلك فينبغي لنا أن نصحح النية، ومن كان غرضه من العلوم الشرعية -خاصة- أن يحصل بها المكاسب الدنيوية فليذهب إلى غير هذا الميدان، وليبحث عن غير هذا السبيل، فإنه (من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله لا يطلبه إلا لدنيا يصيبها لم يرح رائحة الجنة) كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، بل إن العلوم الدنيوية لا تطلب لأجل التكسب فحسب، بل إن الأمم تدفع الأموال وتشيد المدارس وتبذل الميزانيات الطائلة في سبيل التعلم، لا لأجل وجود الوظائف للمتعلمين، بل لأجل السبق الذي يحصل به رقي الأمة في مجموعها.

أيها الإخوة الكرام! هذه لمحة عن جواب هذا السؤال الذي لا بد أن نشتغل بطلب الجواب عنه في مجالسنا وفي دراستنا وفي عملنا؛ لأن الجواب عنه يختصر ويلخص لنا شيئاً كثيراً قد نجهله، ووجود هذا السؤال في أذهاننا يفيدنا فائدتين:

الفائدة الأولى: تحديد الغايات، وتحديد الغايات مما يعين الإنسان في السعي إلى تحصيلها.

الفائدة الثانية: أن ننظر ونقيس خيرنا في تحقيق هذه الغاية، فإذا أجبنا على السؤال يمكننا عند ذلك أن نقيس ما الذي حصلناه، وما الذي حققناه مما لم نحققه في سبيل التعلم.

أسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم العلم النافع، وأن يجعلنا من أئمة الهدى العاملين به، وأن يوفقنا وأمتنا إلى نشر العلم والدعوة إليه والعمل به.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.