شرح الترمذي - باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

لا زلنا في مدارسة الباب الرابع من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي -رحمة لله-، وكنا نتدارس الرجال الذين ذكرهم في أسانيد حديثه في هذا الباب، وكنا نتدارس ترجمة هشام الدستوائي ، وتقدم معنا أنه ثقةٌ ثبت لكنه رمي بالقدر، وقد خرج حديثه أهل الكتب الستة، وهذه البدعة أعني: بدعة القول بالقدر قلت: لا بد من أن نتكلم على أقسامها، وأن نبين حكم كل بدعةٍ وحكم من يقول بكل نوعٍ منها، فإذا انتهينا منها ننتقل بعد ذلك إن شاء الله إلى حكم رواية المبتدع، ومتى تقبل ومتى ترد بعون الله جل وعلا.

وقد تقدم معنا أن بدعة القول بالقدر تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول قلنا: بدعة القدرية الغلاة، وهم الذين قالوا: إن الله لم يقدر شيئاً، ولا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، وقلت: إن هذه البدعة جاءت عن طريق النصارى، فأول من دعا إليها في الإسلام نصراني أظهر الإسلام يدعى: سوسن ، ثم انتقلت إلى معبد الجهني ، ثم إلى غيلان الدمشقي ، وبينت أن كل واحدٍ من معبد وغيلان قتل، وبعد مقتل غيلان زالت هذه البدعة من بلاد الإسلام، ولم يبق قائلٌ بهذه المقالة الضالة والحمد لله.

القسم الثاني: القدرية المعتزلة، وأصلها أن بدعة الغلو في القدر تحولت وتغيرت عن شكلها القديم، فتبنتها المعتزلة، وخلاصة قولهم: أن العباد مستقلون بأفعالهم، وأن الله قدر الخير وأراده، لكنه لم يقدر الشر ولم يرده، فيقع الشر من العباد من غير تقدير من الله! هذا خلاصة قول المعتزلة في القدر، ولذلك قال شيخ الإسلام الإمام ابن حجر في هدي الساري في مقدمة شرحه لصحيح البخاري في صفحة تسعة وخمسين وأربعمائة في بيان بدعة القدرية، قال: هذه الفرقة تزعم أن الشر فعل العبد وحده، أي: بدون تقدير الله جل وعلا، ثم ذكر من رموا بالقدر من رواة الحديث فذكر منهم هشاماً الدستوائي ، الذي وافق المعتزلة في هذه البدعة ولم يكن معتزلياً.

وتقدم معنا أنه لا يقع شيءٌ إلا بعد مشيئة الله وإرادته وتقديره، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، من خيرٍ أو من شر.

كلام المعتزلة لا شك في بطلانه، والفرق بينهم وبين الغلاة أن غلاة القدرية نفوا علم الله بالأشياء، أما هؤلاء فقالوا: الله يعلم كل شيء قبل وقوعه من خيرٍ أو شر، لكنه قدر الخير وأراده وأمر به، ولم يقدر الشر ولم يرده ولم يأمر به، ولو أنكروا علم الله بالأشياء قبل حدوثها لالتحقوا بالفرقة الأولى وكفروا؛ لأن في ذلك إنكاراً لعلم الله جل وعلا! والله بكل شيءٍ عليم.

قاعدة الشافعي في إبطال مذهب المعتزلة القدرية

هذه الفرقة قولها باطلٌ قطعاً وجزماً، لكنه مع بطلانه أخف ضلالاً من قول القدرية الغلاة، ولذلك قال إمام المسلمين في زمنه أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي عليه رحمة الله: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، معنى كلامه: إن الخلاف بيننا وبين القدرية المعتزلة يسير، والوصول إلى الحق غير عسير، فنقول لهم: هل تؤمنون بأن الله يعلم الأشياء قبل وقوعها؟ فيقولون: نعم، فنقول: أخبرونا هل يمكن أن يقع في ملك الله خلاف ما علمه الله؟ فإن منعوا وقالوا: لا يمكن أن يقع في ملك الله إلا ما علمه الله، فهذا هو قول أهل السنة، وإن قالوا: يقع في ملكه ما لم يعلمه فقد أنكروا صفة العلم! ولا تطيلوا معهم الكلام، ولكن ناظروهم بصفة العلم، فإن أقروا به خصموا، أي: إذا قالوا: لا يمكن أن يقع شيءٌ في هذه الحياة إلا على حسب علم رب الأرض والسموات، وعليه فإن من عصى الله علم الله منه المعصية، وهذا العلم لا شك يستلزم التقدير، فإذا كان الأمر كذلك فقد بطل قولهم، وقد أسلفنا أنهم يقرون بالعلم، فنقول لهم: هل يمكن أن يقع في ملك الله خلاف ما علمه الله؟ فإن قالوا: لا يمكن، ولا يقع إلا ما علمه الله، نقول: إذاً أفعال العباد مقدرة، وسبق بها تقدير الله جل وعلا، وإن قالوا: يمكن أن يقع خلاف ما علمه الله فقد أنكروا علم الله بما وقع مما لا يعلمه على حسب تعبيرهم الثاني، وهذا هو الكفر، فهذا معنى قول الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، وواقع الأمر كذلك.

مناظرة إبي إسحاق الإسفراييني لعبد الجبار المعتزلي

ومقالة هذه الفرقة يرد عليها بسهولةٍ ويسر، ولذلك عندما اجتمع شيخ الإسلام في زمنه أبو إسحاق الإسفراييني وهو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ، توفي سنة ثمان عشرة وأربعمائة للهجرة، عندما اجتمع مع إمام معتزلة زمانه عبد الجبار المعتزلي، توفي سنة خمس عشرة وأربعمائةٍ للهجرة، بين وفاتيهما ثلاث سنواتٍ، والمعتزلة إذا قالوا: قال قاضي القضاة فلا يريدون به إلا عبد الجبار المعتزلي، قال عنه أئمتنا كما ذكر ذلك ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب: عمر دهراً بغير سنة، -نسأل الله العافية والسلامة- أي: عمر وامتدت حياته لكن في بدعةٍ وضلالة، وهو صاحب كتاب المغني في عشرين مجلداً في التفسير والأصول، اجتمع مع إمام أهل السنة أبي إسحاق الإسفراييني فقال عبد الجبار معرضاً بمذهب أهل السنة لا مصرحاً: سبحان من تنزه عن الفحشاء، ويريد بذلك سبحان من تنزه عن تقدير السوء، وعن القضاء به، وعن إرادته! فقال أبو إسحاق : كلمة حقٍ أريد بها باطل، سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، لسان حاله: أنت تعرض ونحن نعرض، وتعريضنا يدمغ تعريضك، أنت تكلمت بحق، لكن تريد باطلاً، نعم.. الله تنزه عن الفحشاء، لكن ليس في قضائه وقدره فحشاء كما تزعم، سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.

فقال عبد الجبار : أفيريد ربنا أن يعصى؟ فقال أبو إسحاق : أفيعصى ربنا مكرهاً؟! يعني: أأنت الرب وهو العبد؟ أتفعل المعصية جبراً على ربك دون تقديرٍ منه وإرادةٍ لذلك، فقال عبد الجبار : أرأيت إن قضى عليّ بالردى ومنعني من الهدى، أحسن إليّ أم أساء؟ قال: إن كان الذي منعك ملك لك فقد أساء، وإن كان ملكه فهو الذي يفعل ما يشاء، فبهت عبد الجبار وما استطاع أن يتكلم بعد ذلك.

بطلان قول المعتزلة عند عوام المسلمين

إذاً: قول المعتزلة: إن الله لم يقدر الشر ولم يرده، وأفعال العباد تقع بناءً على محض اختيارهم دون تقدير الله عليهم، قول باطل معلوم بطلانه، يعني عند عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم.

فقد روي أنه جاء أعرابي مرةً إلى عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة في زمانه وهو المؤسس الثاني لمذهب الاعتزال، فقال: أبا عثمان! إن حمارتي قد سرقت، فادع الله أن يردها عليّ، فرفع أبو عثمان عمرو بن عبيد يديه وقال: اللهم إن حمارة الأعرابي سرقت وأنت لم ترد سرقتها -على مذهبهم بأن الله لم يقدر الشر ولم يرده- فارددها إليه، فالأعرابي بكل بساطةٍ وسهولةٍ قال: يا شيخ السوء! كف عن دعائك الخبيث، إذا لم يرد سرقتها وقد سرقت فقد يريد ردها ولا ترد! يعني: إذا كان العبد يفعل شيئاً دون تقدير الله فقد يريد الله إعادة الأشياء المسروقة إلى صاحبها والعبد لا يريد فلا تعود، يعني: أن قوة العبد أقوى من قوة الرب، إذاً: لم نلجأ لهذا الإله الذي يقع في ملكه أشياء بغير تقديره.

قاعدة المحدث الشكلي في إبطال مذهب المعتزلة

وهذا قول المعتزلة قطعاً باطل، وأنا أعجب لعقول المعتزلة، ولعقول من ضل في هذه المسألة أيضاً من الأئمة ومن رواة الحديث، ولذلك كان بعض أئمتنا وهو أبو الفضل العباس بن يوسف الشِكلي بكسر الشين، وهو من العلماء الربانيين، توفي سنة أربع عشرة وثلاثمائةٍ للهجرة، وهو من شيوخ الإمام الرامهرمزي، ذكره في كتاب المحدث الفاصل، وانظروا ترجمته في تاريخ بغداد في الجزء الثاني عشر صفحة أربعٍ وخمسين ومائة، وكان يقول هذا العبد الصالح: إذا رأيت الرجل مشتغلاً بالله فلا تسأل عن إيمانه، وإذا رأيت الرجل منشغلاً عن الله فلا تسأل عن نفاقه، والأمر كذلك، فالرجل المشتغل بالله في صلاةٍ وصيامٍ وذكرٍ وعبادة، لا داعي أن تسأل عن إيمانه هل هو مؤمن أو لا؟

جاء مرةً بعض الضالين الزائرين إلى مسجدٍ كنت فيه ولم يصلوا معي، فلما انتهيت قلت: لم لا تصلوا؟ قالوا: لا نعلم أمؤمن أنت أو كافر، قلت: ترون أنني بكنيسة أو في مسجد في بيتٍ من بيوت الله؟ قال عثمان: من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته، وإذا رأيت الرجل مشتغلاً عن الله ومنشغلاً عنه فلا تسل عن نفاقه، فإنه واضح أمره؛ لأنه منهمك في المعاصي والشهوات والضلالات والمنكرات، فماذا تريد بعد هذه البينة من بينة؟ فالشاهد منه وفيه كما يقولون، وهنا شاهده منه وفيه على أنه منافق، والأول شاهده منه وفيه على أنه مؤمن، لأنه مشتغل بالله، وهذا مشتغل عن الله، هذا من كلام أبي الفضل العباس بن يوسف الشكلي .

يقول هذا الإمام الصالح كما نقل عنه ذلك الإمام الآجري في الشريعة، في صفحة أربعٍ وأربعين ومائتين: أمران يقطع بهما المعتزلي، لا تزد في الكلام معه، قل له: هل قدر الله على هداية الكافر والعاصي فلم يرد، أو أراد فلم يقدر؟ هذا كما قال الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم، إن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، ويقول الإمام الشكلي: قل للمعتزلي: هل قدر الله على هداية فرعون فلم يرد هدايته؟ أو أراد هدايته فلم يقدر؟ أمران لا ثالث لهما، فإن قال: قدر الله على هدايته لكن ما أراد، قل: فمن يهديه من بعد الله، وإن قال: أراد الله هدايته وعجز لم يقدر على هدايته! فقل: لا يشك أحداً أنك كفرت بالله العظيم، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، قدر فلم يرد أو أراد فلم يقدر حدد الجواب، إن قال: قدر على هداية الكفار، لكن لم يرد هدايتهم كل ذلك لحكمةٍ يعلمها ولا نعلمها سبحانه وتعالى، فقل: فمن يستطيع أن يهدي من لم يرد الله هدايته؟ وإذا قال: أراد فلم يقدر! أعوذ بالله من هذا، فهذا هو الكفر البواح، أراد الله هداية الكفار لكن عجز وهم غلبوه وكفروا، فلا يشك أحدٌ أن قائل هذا كفر بالله العظيم.

هذا هو قول المعتزلة، وهذا باختصار الرد عليهم وإبطال كلامهم، وإذا أردتم أن تنظروا المناظرة التي جرت بين أبي إسحاق الإسفراييني وبين القاضي عبد الجبار فانظروها في طبقات الشافعية الكبرى، في الجزء الرابع صفحة واحدة وستين ومائتين، وانظروها في مجموع الفتاوى للإمام ابن تيمية في الجزء الثامن عشر صفحة أربعين ومائة، وانظروها في فتح الباري في الجزء الثالث عشر صفحة واحد وخمسين وأربعمائة، وذكرها شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عليه رحمة الله في دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب.

هذه الفرقة قولها باطلٌ قطعاً وجزماً، لكنه مع بطلانه أخف ضلالاً من قول القدرية الغلاة، ولذلك قال إمام المسلمين في زمنه أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي عليه رحمة الله: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، معنى كلامه: إن الخلاف بيننا وبين القدرية المعتزلة يسير، والوصول إلى الحق غير عسير، فنقول لهم: هل تؤمنون بأن الله يعلم الأشياء قبل وقوعها؟ فيقولون: نعم، فنقول: أخبرونا هل يمكن أن يقع في ملك الله خلاف ما علمه الله؟ فإن منعوا وقالوا: لا يمكن أن يقع في ملك الله إلا ما علمه الله، فهذا هو قول أهل السنة، وإن قالوا: يقع في ملكه ما لم يعلمه فقد أنكروا صفة العلم! ولا تطيلوا معهم الكلام، ولكن ناظروهم بصفة العلم، فإن أقروا به خصموا، أي: إذا قالوا: لا يمكن أن يقع شيءٌ في هذه الحياة إلا على حسب علم رب الأرض والسموات، وعليه فإن من عصى الله علم الله منه المعصية، وهذا العلم لا شك يستلزم التقدير، فإذا كان الأمر كذلك فقد بطل قولهم، وقد أسلفنا أنهم يقرون بالعلم، فنقول لهم: هل يمكن أن يقع في ملك الله خلاف ما علمه الله؟ فإن قالوا: لا يمكن، ولا يقع إلا ما علمه الله، نقول: إذاً أفعال العباد مقدرة، وسبق بها تقدير الله جل وعلا، وإن قالوا: يمكن أن يقع خلاف ما علمه الله فقد أنكروا علم الله بما وقع مما لا يعلمه على حسب تعبيرهم الثاني، وهذا هو الكفر، فهذا معنى قول الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، وواقع الأمر كذلك.

ومقالة هذه الفرقة يرد عليها بسهولةٍ ويسر، ولذلك عندما اجتمع شيخ الإسلام في زمنه أبو إسحاق الإسفراييني وهو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ، توفي سنة ثمان عشرة وأربعمائة للهجرة، عندما اجتمع مع إمام معتزلة زمانه عبد الجبار المعتزلي، توفي سنة خمس عشرة وأربعمائةٍ للهجرة، بين وفاتيهما ثلاث سنواتٍ، والمعتزلة إذا قالوا: قال قاضي القضاة فلا يريدون به إلا عبد الجبار المعتزلي، قال عنه أئمتنا كما ذكر ذلك ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب: عمر دهراً بغير سنة، -نسأل الله العافية والسلامة- أي: عمر وامتدت حياته لكن في بدعةٍ وضلالة، وهو صاحب كتاب المغني في عشرين مجلداً في التفسير والأصول، اجتمع مع إمام أهل السنة أبي إسحاق الإسفراييني فقال عبد الجبار معرضاً بمذهب أهل السنة لا مصرحاً: سبحان من تنزه عن الفحشاء، ويريد بذلك سبحان من تنزه عن تقدير السوء، وعن القضاء به، وعن إرادته! فقال أبو إسحاق : كلمة حقٍ أريد بها باطل، سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، لسان حاله: أنت تعرض ونحن نعرض، وتعريضنا يدمغ تعريضك، أنت تكلمت بحق، لكن تريد باطلاً، نعم.. الله تنزه عن الفحشاء، لكن ليس في قضائه وقدره فحشاء كما تزعم، سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.

فقال عبد الجبار : أفيريد ربنا أن يعصى؟ فقال أبو إسحاق : أفيعصى ربنا مكرهاً؟! يعني: أأنت الرب وهو العبد؟ أتفعل المعصية جبراً على ربك دون تقديرٍ منه وإرادةٍ لذلك، فقال عبد الجبار : أرأيت إن قضى عليّ بالردى ومنعني من الهدى، أحسن إليّ أم أساء؟ قال: إن كان الذي منعك ملك لك فقد أساء، وإن كان ملكه فهو الذي يفعل ما يشاء، فبهت عبد الجبار وما استطاع أن يتكلم بعد ذلك.

إذاً: قول المعتزلة: إن الله لم يقدر الشر ولم يرده، وأفعال العباد تقع بناءً على محض اختيارهم دون تقدير الله عليهم، قول باطل معلوم بطلانه، يعني عند عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم.

فقد روي أنه جاء أعرابي مرةً إلى عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة في زمانه وهو المؤسس الثاني لمذهب الاعتزال، فقال: أبا عثمان! إن حمارتي قد سرقت، فادع الله أن يردها عليّ، فرفع أبو عثمان عمرو بن عبيد يديه وقال: اللهم إن حمارة الأعرابي سرقت وأنت لم ترد سرقتها -على مذهبهم بأن الله لم يقدر الشر ولم يرده- فارددها إليه، فالأعرابي بكل بساطةٍ وسهولةٍ قال: يا شيخ السوء! كف عن دعائك الخبيث، إذا لم يرد سرقتها وقد سرقت فقد يريد ردها ولا ترد! يعني: إذا كان العبد يفعل شيئاً دون تقدير الله فقد يريد الله إعادة الأشياء المسروقة إلى صاحبها والعبد لا يريد فلا تعود، يعني: أن قوة العبد أقوى من قوة الرب، إذاً: لم نلجأ لهذا الإله الذي يقع في ملكه أشياء بغير تقديره.

وهذا قول المعتزلة قطعاً باطل، وأنا أعجب لعقول المعتزلة، ولعقول من ضل في هذه المسألة أيضاً من الأئمة ومن رواة الحديث، ولذلك كان بعض أئمتنا وهو أبو الفضل العباس بن يوسف الشِكلي بكسر الشين، وهو من العلماء الربانيين، توفي سنة أربع عشرة وثلاثمائةٍ للهجرة، وهو من شيوخ الإمام الرامهرمزي، ذكره في كتاب المحدث الفاصل، وانظروا ترجمته في تاريخ بغداد في الجزء الثاني عشر صفحة أربعٍ وخمسين ومائة، وكان يقول هذا العبد الصالح: إذا رأيت الرجل مشتغلاً بالله فلا تسأل عن إيمانه، وإذا رأيت الرجل منشغلاً عن الله فلا تسأل عن نفاقه، والأمر كذلك، فالرجل المشتغل بالله في صلاةٍ وصيامٍ وذكرٍ وعبادة، لا داعي أن تسأل عن إيمانه هل هو مؤمن أو لا؟

جاء مرةً بعض الضالين الزائرين إلى مسجدٍ كنت فيه ولم يصلوا معي، فلما انتهيت قلت: لم لا تصلوا؟ قالوا: لا نعلم أمؤمن أنت أو كافر، قلت: ترون أنني بكنيسة أو في مسجد في بيتٍ من بيوت الله؟ قال عثمان: من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته، وإذا رأيت الرجل مشتغلاً عن الله ومنشغلاً عنه فلا تسل عن نفاقه، فإنه واضح أمره؛ لأنه منهمك في المعاصي والشهوات والضلالات والمنكرات، فماذا تريد بعد هذه البينة من بينة؟ فالشاهد منه وفيه كما يقولون، وهنا شاهده منه وفيه على أنه منافق، والأول شاهده منه وفيه على أنه مؤمن، لأنه مشتغل بالله، وهذا مشتغل عن الله، هذا من كلام أبي الفضل العباس بن يوسف الشكلي .

يقول هذا الإمام الصالح كما نقل عنه ذلك الإمام الآجري في الشريعة، في صفحة أربعٍ وأربعين ومائتين: أمران يقطع بهما المعتزلي، لا تزد في الكلام معه، قل له: هل قدر الله على هداية الكافر والعاصي فلم يرد، أو أراد فلم يقدر؟ هذا كما قال الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم، إن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، ويقول الإمام الشكلي: قل للمعتزلي: هل قدر الله على هداية فرعون فلم يرد هدايته؟ أو أراد هدايته فلم يقدر؟ أمران لا ثالث لهما، فإن قال: قدر الله على هدايته لكن ما أراد، قل: فمن يهديه من بعد الله، وإن قال: أراد الله هدايته وعجز لم يقدر على هدايته! فقل: لا يشك أحداً أنك كفرت بالله العظيم، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، قدر فلم يرد أو أراد فلم يقدر حدد الجواب، إن قال: قدر على هداية الكفار، لكن لم يرد هدايتهم كل ذلك لحكمةٍ يعلمها ولا نعلمها سبحانه وتعالى، فقل: فمن يستطيع أن يهدي من لم يرد الله هدايته؟ وإذا قال: أراد فلم يقدر! أعوذ بالله من هذا، فهذا هو الكفر البواح، أراد الله هداية الكفار لكن عجز وهم غلبوه وكفروا، فلا يشك أحدٌ أن قائل هذا كفر بالله العظيم.

هذا هو قول المعتزلة، وهذا باختصار الرد عليهم وإبطال كلامهم، وإذا أردتم أن تنظروا المناظرة التي جرت بين أبي إسحاق الإسفراييني وبين القاضي عبد الجبار فانظروها في طبقات الشافعية الكبرى، في الجزء الرابع صفحة واحدة وستين ومائتين، وانظروها في مجموع الفتاوى للإمام ابن تيمية في الجزء الثامن عشر صفحة أربعين ومائة، وانظروها في فتح الباري في الجزء الثالث عشر صفحة واحد وخمسين وأربعمائة، وذكرها شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عليه رحمة الله في دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب.