ليلة القدر خير من ألف شهر
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
ليلة القدر خير من ألف شهراللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
إن الزمان يتفاضل بعضه على بعض، كما تتفاضل البقاع والأعمال والأشخاص بعضهم على بعض، فها هي ليلة القدر عدد محدود من الساعات كغيرها من حيث الزمن، لكن سَعة فضل الله ورحمته على عباده، جعلها تُساوي عشرات السنين، فاللهم لك الحمد كثيرًا ولك الشكر كثيرًا كما تُنعم كثيرًا.
فيا إخوتي الكرام، هل لكم في مناسبة تستدركون فيها ما فات من أعماركم؟ هل لكم في ساعات تُضاعف الأعمال فيها أضعافًا كثيرة؟ هل لكم في ليلة إن وافقتموها أخرجتكم من ذنوبكم؟ هل لكم في ليلة هي أفضل من عشرات السنين؟ إنها ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر؟ ليلة القدر خير من ألف شهر، من حُرِم خيرَها فهو المحروم، ولنا مع هذه الليلة الكريمة وقفاتٌ عدة:
الوقفة الأولى: هذه الليلة هي خاصة بهذه الأمة، فضلًا من الله تعالى ورحمة؛ حيث كانت أعمارهم أقصر من أعمار الأمم السابقة، فتفضَّل الله تعالى عليهم بما يلحقون به مَن سبقهم مِن الأمم، فاستثمر أخي الكريم هذا الفضل الرباني أشدَّ ما تستطيعه من الاستثمار، فهي ليست وقتًا طويلًا، هي ليلة من ليال معدودات وتنتهي، فاجتهد في موافقتها، واحرِص عليها من خلال تهيئة الأسباب المعينة، والتخلي عن الظروف الثانوية، فستوفَّق بإذن الله تعالى.
الوقفة الثانية: من بركة هذه الليلة أن الملائكة تَعمُر الأرضَ فيها وتغمُرها، فيتوافد سكان السماء على سكان الأرض من المؤمنين، فتنزل الملائكة وينزل جبريل، يهبطون من السماوات إلى الأرض، ويؤمِّنون على دعاء المسلمين؛ قال الله تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]، فهل هذا الحدث سيُغير فيك إلى همة عالية للتفاعل في تحصيل هذه المكاسب العظيمة؟
الوقفة الثالثة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليُخبر الناس بليلة القدر، فتلاحى رجلان وتشاحنا، فرُفع العلم بها، فلم يُخبرهم، وفي هذا من قُبح المشاحنة ومضرتها وسوئها ما الله به عليم، ولكن إخفاءها لعله خيرٌ من جانب آخر؛ حتى يجتهد الناس في جميع تلك الليالي، فيحصلوا عليها وعلى غيرها، فمن اجتهد ليالي العشر كلها، فإنه قطعًا سيُوفق إليها بإذن الله تعالى، وما أيسر ذلك على مَن وفَّقه الله إليه!
الوقفة الرابعة: إن إحياء هذه الليلة إيمانًا واحتسابًا، هو سبب لمغفرة الذنوب؛ قال عليه الصلاة والسلام: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه)؛ رواه البخاري ومسلم.
إن مغفرة ما سلف من ذنوبك هو مقابل ساعات معدودة خلال هذه الليالي المحدودة، إن هذا لهو الفضل العظيم والربح المبين، مع ما يُكتب لك من أجور مقابل أعمالك في إحياء هذه الليلة، فأنت بين كسب الحسنات وتكفير السيئات.
الوقفة الخامسة: المقصود من إحياء تلك الليلة هو استثمارها بالطاعات، فاجعَل لك برنامجًا إيمانيًّا في تلك الليالي كلها، وحتى لا تمل، اجعله منوعًا، فالصلاة والدعاء والقرآن وسائر الذكر، والتدبر والصدقة وتعظيم الشعائر، وغير ذلك، كلها عبادات جليلة عظيمة، فكن في كل ليلة متنقلًا بين تلك العبادات، مُغلبًا جانب الصلاة؛ لأنها تشمل كثيرًا مما ذُكر، فانتبه لهذا وفَّقك الله.
الوقفة السادسة: إن من القواطع في تلك الليلة: الأحاديث الجانبية الكثيرة والاطلاع على وسائل التواصل كثيرًا، خصوصًا للمعتكف، فإنها وأمثالها تسرق الوقت من حيث لا يشعر صاحبه، فالحريص الجاد يُقلل كثيرًا في تلك الليالي من هذه القواطع والموانع للوقت، فإنه ثمين جدًّا.
الوقفة السابعة: معنى كلمة (إيمانًا واحتسابًا) في الحديث في السابق - أن يجعل عمله موافقًا للسنة، وخالصًا لله تعالى، فهما شرطان عظيمان في كل عبادة، فالمرائي والمبتدع ليس لهم حظ مما ذُكر، وفي الحديث القدسي ورد: (تَركتُه وشركَه)، وفي حديث آخر: (وهو للذي أشرك)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ليس عليه أمرنا، فهو رَدٌّ)؛ أي: مردود على صاحبه، فاحرِص على الإخلاص في عباداتك، واجعلها موافقةً للسنة.
الوقفة الثامنة: أخي الكريم، إن الطاعة قد يصحبها نوعٌ من المشقة والتعب، وهذا حاصل، لكني ألفتُ نظرك إلى أن المشقة للطاعة تزول في نهايتها، ويبقى أجرها وثوابها، وكذلك فكِّر في المكاسب قبل أن تُفكِّر في المتاعب، علمًا بأن ما تجده من متاعب وقواطع وموانع، إنما هي ابتلاءات لك، فاعقد العزم على الصبر والعمل، فإن الله تعالى كتب لك حينها الأجر العظيم والثواب الجزيل، فلا تُفرط فيه مقابل حاجات يُمكن تأجيلها أو الاستغناء عنها.
الوقفة التاسعة: استشعر عظمة تلك الليالي وفكِّر في فضلها، وهل ستُدركها مرة أخرى؟ فإن هذا وأمثاله يدفعك إلى المسارعة إلى استثمارها والعمل الدؤوب فيها، خصوصًا إذا علمت أنها ليالي معدودات محدودات.
الوقفة العاشرة: سُميت هذه الليلة ليلة القدر لعِظَمِ قدرها وشرفها، أو لأن الله يُقدر فيها ما يكون خلال السنة، وهذا يُسمى التقدير السنوي؛ قال ابن كثير رحمه الله على قوله تعالى: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4]، قال: أي في ليلة القدر يُنزل الله من اللوح المحفوظ إلى الملائكة أمرَ السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق والمقادير الأخرى.
الوقفة الحادية عشرة: الأرجح في ليلة القدر أنها متنقلة بين ليالِي العشر وليست ليلةً محددة، لكن أرجاها ليلة سبع وعشرين، وقد وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة إحدى وعشرين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسُوها في العشر الأواخر)، وهي في أوتارها آكدُ.
الوقفة الثانية عشرة: اقرأ عن ليلة القدر قبل دخول العشر؛ لتحصل على دافع ذاتي بإذن الله تعالى لاستثمارها ومعرفة فضلها، ولتجمَع بين العلم والعمل.
الوقفة الثالثة عشرة: عليك بالإكثار من الدعاء في تلك الليلة، فهي من أوقات الإجابة ولا تمل ولا تسأم، وكرِّر، ولكن عليك بالجوامع من الأدعية، فإن كل التفاصيل داخلة في جوامع الأدعية، ومن الجوامع قولك: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار).
وأيضًا سؤال الله تعالى الجنةَ وطلب النجاة من النار، ونحو ذلك من الجوامع، فاحفظ شيئًا منها، وكرِّره مرارًا وتكرارًا.
الوقفة الرابعة عشرة: لا تنسَ في صلاتك وقراءتك أن تسأل الله تعالى عند آية الوعد وتستعيذ عند آية الوعيد، فإن هذا من مظان الإجابة، فإنك ستقرأ كثيرًا وتسمع من إمامك كثيرًا، فاسأل الله تعالى، واستعِذ ولا تغفل.
الوقفة الخامسة عشرة: تأمل كثيرًا ما حجم الأرباح لو أدركت تلك الليلة مجتهدًا فيها، وتأمل أيضًا حجم الخسارة لو فاتتْ عليك تلك الليلة! فقارِن بين مَن أدركها ومن أهملها، فستجد الفرق كبيرًا والبون شاسعًا في الربح والخسارة، لكن الذين أدركوها زالتْ أتعابهم وحصلوا الخير العظيم، بخلاف من أهملوها فقد فاتت عليهم فرصةٌ أخروية عظيمة، وهنيئًا لمن أدركها وتقبَّل الله منهم.
الوقفة السادسة عشرة: يعجُم لسانك ويحتار عقلُك عندما تفكِّر في ثوابها، فألف شهر مقابل سويعاتٍ معدودةٍ تقضيها في عبادة الله، مع ما يحصل لك من السكينة والطمأنينة والانشراح، فهل يُفرِّط في هذا إلا محروم.
الوقفة السابعة عشرة: عندما تتحدث لغة الأرقام، فنقول في عملية حسابية سريعة: إن مجموع ليالي العشر هو ما يُقارب في الساعات تسعين ساعة، وأما مجموع ألف شهر من الساعات، فهو ما يزيد على 720,000 ساعة، فقارِن بين هذا وهذا، قارن بين العمل والجزاء؛ ذلك أن فضل الله تعالى عظيم وجزيل، وهل يُفرط هذا في هذا إلا محروم؟
الوقفة الثامنة عشرة: اجعَل شعارك في هذه العشر المباركات: (الصبر وحُسن الاستثمار)، فإن الصبر على كُلفته ومرارته إلا أن عاقبته أحلى من العسل، فما نجح قوم بعد توفيق الله تعالى إلا بالصبر والتحمل، فإن كل إنجاز إنما خلفه صبرٌ وعزيمة، فاصبِر واستثمِر، وهي أيام تُعد بأصابع اليدين!
الوقفة التاسعة عشرة: علينا أن نوصي أولادنا صغارًا وكبارًا على القيام مع الإمام حتى ينصرف طوال العشر، لعلهم يوافقون تلك الليلة، فمن قام مع الإمام حتى ينصرف، كُتب له قيام ليلة، فإنهم قد لا يُدركون أجر وثواب القيام ولا يصبرون عليه، فما أقل أن نجعل من برنامجهم في العشر الصلاة مع الإمام حتى ينصرف!
الوقفة العشرون: قد يتساهل البعض في ليالِ الأشفاع، بحجة أن ليلة القدر في الأوتار وهذا يجب ألا يكون؛ لأنها تكون في الأوتار باعتبار ما مضى، لكنها قد تكون في الأشفاع باعتبار ما بقي، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتاسعة تبقى لسابعة تبقى)، فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك في ليالي الأشفاع، وتكون ليلة اثنتين وعشرين هي تاسعة تبقى، وهكذا كما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فعلينا جميعًا الاجتهاد في هذه العشر كلها، لعلنا نُصيب تلك الليلة المباركة، وليُقوِّ كلٌّ منا عزيمة الآخر على الجد والاجتهاد، وإياك أن يتسلل إليك الشيطان بالكسل والتسويف والتباطؤ، فإن الكسل يجرُّ بعضه بعضًا، فاحذَر هذا التكاسل والتسويف، واترُك مصاحبة اللاهين والغافلين، نسأل الله أن يجعلنا من الموفَّقين لها ولغيرها من الصالحات، وإلى حلقة أخرى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد و على آله وأصحابه أجمعين.