تفسير سورة القصص [23-30]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23] .

جاء وهو عطشان محتاج للماء والطعام، ولكن الطعام قد يصبر عليه الإنسان أياماً، أما الماء فلا يستطيع أن يصبر عليه ساعات عند اشتداد العطش واشتداد الحر.

قوله: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ) الورود: الدخول، والمراد البلوغ، أي: بلغ البئر التي تستقي منها قبائل مدين في أرض مدين.

لما وصل إلى البئر أخذ كفايته من الماء، ورأى ازدحاماً من الشباب الأقوياء من الرعاة للغنم في سقي غنمهم وقطعانهم، وأخذهم الماء لبيوتهم، ورأى امرأتين خلف الناس، بعيدتين عن الناس، تذودان غنمهما وتدفعانها وتحبسانها؛ لكي لا تختلط بغنم الغير فتضيع عليهما، ولا تستطيعان المزاحمة مع الرجال، أولاً: لأنهما أضعف من الرجال.. ثانياً: لأنه لا يليق بالمرأة أن تُزاحم الرجال، فهما تنتظران أن يذهب هؤلاء ثم تستقيان، وقد يطول ذلك اليوم بكماله إلى العصر أو المغرب.

قوله: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاس) أي: وجد على ماء مدين جماعة من الناس.

قوله: (يَسْقُونَ) أي: يشربون ويسقون أغنامهم، ويأخذون الماء لدورهم للسقيا.

قوله: (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَان) ووجد خلف الناس امرأتين تدفعان وتحبسان أغنامهما على ألا تختلط بأغنام أولئك.

فوقف ونظر ذلك المنظر، وكأنه أشفق على هاتين المرأتين أن تكونا في هذا العذاب أمام هذه الجماعة من الرجال الذين لا يهتمون إلا بأنفسهم، ولا يقدّمونهما لا شفقة لأنوثتهما، ولا خشية على ضعفهما، وإذا بموسى يتقدم ويسألهما: ما خطبكما؟ لم أنتما خلف هؤلاء؟ ولم أنتما في هذه المشقة؟

(قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) أي: لا نستطيع السعي لسقي أغنامنا (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) أي: حتى يذهب الرعاء وينتهوا من السقي، ونبقى وحدنا دون زحام، ودون مقاتلة مع الرجال والشباب.

والرعاء: جمع راع كتاجر جمعه تجار، والمعنى: لا نستطيع سقي أغنامنا حتى يذهب هؤلاء، ويرجعوا عن السقي ويعودوا إلى مكانهم، عند ذلك نجد المكان فارغاً، والبئر ليس عليها ازدحام، فنسقي أغنامنا.

واعتذرا فقالا: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) بمعنى: هما ليستا بمتزوجتين، ولا رجال لهما يقومون مقامهما، وليس لهما أخ يقوم بمثل هذا، وأبوهما الذي سيفعل هذا رجل كبير عاجز عن السقي والرعي، وعاجز عن خدمة داره وبناته.

وإذا بموسى عليه السلام يشفق عليهما ويسعى لخدمتهما طلباً للأجر والثواب، وشفقة ذاتية من شخصه، وهذه المرحلة الثالثة من حياة موسى؛ وكانت المرحلة الأولى التي قصها الله علينا مرحلة ولادته ورضاعه ونشأته عند فرعون، وكانت المرحلة الثانية كبره وخروجه للشوارع والأسواق، وقتله للقبطي، والمحاولة الثانية لقتل قبطي آخر، وإذا به يترك القصر ويقول: لن أكون ظهيراً ولا مساعداً للمجرمين بعد اليوم، فينذر ويخوّف من مؤمن آل فرعون بأن يترك البلد ويخرج، وإلا فـفرعون والأقباط قاتلوه، فترك مصر وخرج هائماً على وجهه لم يسبق قبل أنه ترك أمه وترك أخواته وقومه، وخرج على وجهه لا يدري أين يذهب.

ولكن من أول مرة قصد أن يذهب إلى أرض مدين وهو لا يعرفها، فسأل ربه جل جلاله أن يهديه إليها، ففعل، وهدي إليها ووصل، وكان أول ما وجد القوم على ماء مدين يسقون الأغنام ووجد بين هؤلاء الرجال امرأتين بكرين لم تتزوجا بعد، ولا أخ لهما، وأبوهما رجل كبير يعجز عن السقي والرعي، وعن خدمة البيت، فالبنتان هاتان هما اللتان تقومان بعمل الرجال، وهي عادة بدوية لا يستغني البدوي عنها وهم في حاجة إليها، وكان هؤلاء في البدو.

وإذا بالله يقول عن موسى: فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] .

قالوا: لم يأكل أياماً وهو على غاية ما يكون من الجوع والحاجة للطعام، كان يأكل أوراق الشجر في الطريق حتى اخضر وجهه، وتعب بدنه، فسقى لهاتين المرأتين حسبة وخدمة.

(ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) أي: ذهب إلى تحت شجرة يستظل بظلها من حر الشمس والصحراء، وللراحة من الكلل والتعب.

وقيل: إنه عندما ذهب للسقي أخذ يدافع الرجال بقوته، ووجد صخرة على فم البئر لا يكاد يُسقى إلا بقلة، وهم يحتفظون بذلك، فجاء إلى الصخرة فحملها قالوا: ويعجز عن حملها الرجال الكثيرون، فحملها كمن يحمل بيده شيئاً خفيفاً، ورمى بها ثم سقى لأغنامهما، ثم صرفهما وعاد مستريحاً تحت الظل، فاستظل بظل الشجرة وقال: يا رب! إني لما أنزلت إليّ من خير، أي: مما أكرمتني من خير وبما أكرمتني من فضل وعلم وحكمة، وأنجيتني من فرعون وظلمه وسلطانه وطغيانه، مع ذلك فأنا فقير.. يقول: أنا جائع فأطعمني يا رب.

يقول تعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25] .

معناه: ذهبتا وقصّتا على أبيهما قصة هذا الرجل الغريب، واستنكر أبوهما أن تأتياه مسرعتين على خلاف عادتهما؛ لأن وقت السقي كان يستغرق منهما اليوم كله، وإذا بهما لم يكادا يغيبان أكثر من ساعة أو ساعتين فعادا والأغنام شاربة ومكتفية، والمياه معهما لسقي البيت فقال لبنتيه: ما خطبكما؟ فأخبرتاه أن رجلاً غريباً صادفنا على فم البئر فسقى لنا وحمل من الصخر ما حمل إلى أن اكتفينا، وذهب يستظل تحت ظل شجرة وهو في أسمال بالية، وفي نعل ممزقة، فصاح لربه يدعوه ويقول: على ما أكرمتني من خير وسعادة أنا فقير يا رب.

وإذا بأبيهما يرسل إحداهما إلى موسى يدعوه: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25] .

بلّغت البنتان أباهما، فأرسل أبوهما إحداهما فجاءت إلى موسى على حياء وخجل قال عمر بن الخطاب : جاءت وعيناها في الأرض، وكمها يستر وجهها قال هذا عمر من أين؟ لعله سمعه من أحد ولم يروه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن نحترم قول عمر ونقول: جاءته إحداهما تمشي على استحياء، فالشأن فيها أن تكون هكذا، جاءت في حياء النساء كما وصفها عمر قال: ليست بولّاجة وخراجة، وليست من النساء اللاتي يتجرأن على الرجال في كلامهم، وفي الأخذ معهم، وفي المفاوضة لهم، جاءت وهي بكر عذراء يغلبها حياؤها، أخذ هذا من قوله تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).

وكانت مهذّبة فلو قالت له: اذهب معي أنا أدعوك لظن بها السوء ولما استجاب لها، ولكن من أول مرة ذكرت الدعوة وسببها، وإلا كيف يدعوني هذا الرجل وأنا لا أعرفه وهو لا يعرفني وأنا رجل غريب؟! إذاً هذه حيلة من البنت تُريد أن تختلي بالشاب، ولكن لذكائها ذكرت الدعوة وسببها: (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) .

قوله: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) جاء موسى ودخل بيت والد هاتين البنتين، وقص عليه قصته مع فرعون ، وقتله للقبطي وقذفه للنيل وهو لا يزال رضيعاً في أيامه الأولى، وقتل فرعون لفتيان وأطفال بني إسرائيل، وهأنذا بعد ذلك كله قد جئتك (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَص) قال والد البنتين: (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

أي: أنت الآن في غير حكم فرعون ، ولست في أرض مصر، ولا سلطان لهم عليك ولا علينا هنا، ولا على هذه الأرض، فقد نجّاك الله واستجاب دعاءك.

وإذا بالبنتان وقد أراحهما موسى بالأمس عزّ عليهما أن يُترك هذا الغريب جائعاً محتاجاً، وأن تبقيا على سقيهما للأغنام، وهذا الشاب القوي غريب شريد طريد لا أهل له، فلم لا يكون معهما في البيت ومع أبيهما؟

عندما قال ذلك أبوهما لموسى: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25] وإذا بإحداهما تقول: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا [القصص:26].

أي: اقترحت إحداهما: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26].

خافتا أن يذهب عنهما ولا يخدمهما بعد ذلك، وليس في الدار شاب يشتغل ويرعى ويخدم ويسقي، ويقوم بالوالد وبالبنتين، فاقترحت إحداهما على الوالد، وكان هذا من ذكائها وفراستها (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ)، أي: خذه أجيراً ودعه يعمل عندك يسقي غنمك، ويخدم بيتك، ويقوم بدارك، ويكفيك مئونة أهلك، أما نحن فبنتان نعجز عن أن نقوم بما نضطر إليه من رعي وسقي.

(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ): أحسن صفة في الأجير والخادم أن يكون قوياً وأميناً.

وإذا بالوالد يسأل هذه البنت التي عرفت الرجل ووصفته بالقوة والأمانة فقال لها: ومن أين عرفت قوته؟ ومن أين عرفت أمانته؟ قالت: يا أبت عندما أراد أن يسقي لنا دخل في الجموع من الرجال فتفرقعوا وفروا من أمامه وعجزوا أن يجادلوه، وجاء إلى صخرة لا يحملها إلا العشرون من الرجال فأخذها بيد واحدة ورماها بعيداً فهذه قوته، وسقى أغنامنا بأسرع وقت.

قال: والأمانة؟ قالت: عندما أرسلتني إليه وأخذت أقوده لك تقدّمته وإذا بالرياح تلعب بثوبي، فقال لي: يا أمة الله! تعالي خلفي وأشيري إلي بالطريق بصوتكِ أو بأصبعكِ وهذه أمانة ومروءة وعفّة وشهامة.

إذ ذاك اطمأن شعيب واستراحت نفسه، وسُر لاقتراح هذه البنت وأراد من يريحه ويريح بنتيه، وأراد أن يزوج البنتين كذلك ويستريح من مشكلتهما، فيكون قد ضرب عصفورين بحجر، فزوج موسى إحدى البنتين، وأتى بمن يخدمه مع أمانة وقوة، وماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك؟

قال كثيرون: هو شعيب نبي الله الذي ذُكر في القرآن، وأنه أُرسل لأهل مدين، ولكن هذا القول أنكره ابن تيمية وجهّل من قاله، وقال المحققون من المفسّرين مثل قول ابن تيمية ومن بعده - والأمر كما قالوا - شعيب كان بعد لوط بقليل، وموسى كان بعد ذلك بقرون، ولذلك قصص الأنبياء في القرآن تذكر أولاً قصة آدم فقصة نوح فقصة هود فقصة صالح فقصة لوط، ولوط ابن أخي إبراهيم وفي عصره، تنبأ في عصره وكان ما كان من تدمير أرض سدوم في فلسطين، وجعل عاليها سافلها، لما اختصوا به من فواحش ومنكرات والجري وراء الذكران دون النساء، بلية لم تسبق أن كانت قبلهم، كما قص الله تفاصيل ذلك ومضى أكثر من مرة.

أما موسى فقد جاء بعدهم بأكثر من أربعمائة عام وتزيد، فادعى بعضهم أن شعيباً بقي حياً هذه المدة الطويلة، وهذه دعوى لا دليل عليها ولا برهان لها، والله هنا ذكر البنتين ولم يذكر أن شعيباً أبوهما، وذكر من قبل شعيباً ولم يذكر أنه صهر موسى، ولا صاحب موسى، ولا شيء من ذلك؛ ولذلك ابن تيمية عندما يذكر ذلك يقول: لا كما تقول الجهلة إن شعيباً نبي الله هو صاحب موسى وهو والد البنتين في قصة فرار موسى من فرعون وطغيانه وزواجه بإحدى بنتيه، والأمر كما قال.

وقيل: هو ابن أخي شعيب وأيضاً هناك كلام آخر.

وقيل: اسمه ترتون ، وقالوا أسماء أخرى.

وعلى كل اعتبار فالقرآن لم يذكر شيئاً من هذا، وفي السنة النبوية لم يصح شيء من هذا، يبقى هذا كلاماً ذُكر من أخبار الإسرائيليات، ولا ثقة بها ولا دليل لقبولها، نقول البنتان وأبوهما ولا نزيد (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) خذه أجيراً، واستخدمه عندك خادماً بأجرة (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) .

قال تعالى: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27].

كانت هذه البنت المقترحة لهذا الاقتراح قد ضربت على الوتر الذي في نفس أبيها، فبادر أبوها بكل إسراع في الحين، وعرض البنتين معاً على موسى ليختار إحداهما كما يريد، فلم يلزمه بالكبيرة قبل الصغيرة ولم يدعه للصغيرة قبل الكبيرة وخيّره قال: هاتان بنتاي أريد أن أزوجك فاختر إحداهما إن شئت، وكانت الأجرة التي طلب ليست مالاً ولكن كانت عملاً، فطلب أن يخدمه ثمان سنوات، فيقوم برعي غنمه وبالخدمة الكاملة له ولزوجه ولبنتيه، ولما تحتاجه الدار.

ثم قال له: أنا أطلب ذلك لمدة ثمان سنين فإن أتممتها عشراً فمن عندك.

(سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ستجدني صهراً صالحاً، وستجد مني ما تقر به عينك، وستجد مالي مالك وداري دارك، وإحدى ابنتي زوجتك، وأنت ستكون كابني.

وماذا يريد موسى الغريب أكثر من ذلك؟ فهو لا يعرف أهلاً ولا داراً، وهو يحتاج إلى الخبز والماء، وعندما وصل إلى والد البنتين عرض طعاماً للأكل قال: لا، نحن قوم لا نبيع ديننا بالدنيا، أنا لا أريد أجراً على ما سقيته لابنتيك، وإنما ذلك احتساب، قال: لم أفعل ذلك أجرة وإنما أفعله كرماً على عادتي وعادة آبائي وأجدادي، وكان أيضاً من بني إسرائيل؛ عند ذلك قال: ألست بجائع؟ قال: بلى، أنا جائع قال: كل إذاً، فأكل، فوجد المنزل والصهر الصالح، وكان من المؤمنين الصالحين.

وإذا بموسى يستجيب بسرعة ويقول: قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [القصص:28] أي: قد استجبت وقبلت، فالأمر بيني وبينك في أن أتم ثمان سنين كما طلبت أو أزيد عليها سنتين، وسأنتظر عون الله وأنظر ما يفعل الله، ولكل إرادة ويفعل الله ما يشاء.

قوله: قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ [القصص:28] أي: فلا معاتبة ولا محاسبة إن قضيت الثماني حجج فذاك الشرط، وإن زدت سنتين فأصبحت عشراً فذلك فضل مني وليس شرطاً، أيّما الأجلين: أجل الثماني سنوات أو العشر سنوات قوله: (قَضَيْتُ) أي: أتممت.

(فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ) أي: لا يعتدى عليّ بمساءلة ولا بمتابعة ولا بمحاسبة، ثم أشهد الله على النكاح فقال: وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28] أي: الله وكيل عليك في تزويجك إحدى ابنتيك لي، والله وكيل علي أني قبلت واستجبت لخدمتك واستئجارك لي على الثمان سنين أو العشر؛ هذا التزويج والنكاح في الآية أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم من أئمة الاجتهاد تنازعوا في أحكامه نزاعاً طويلاً عريضاً.

هل يصح أن يأتي إنسان فيزوج إنساناً بهذه الطريقة؟ يأتي ببناته ويقول زوجتك بإحداهن، أليس من الضروري تعيين إحداهن ليقع الزواج عليها؟

وهل يمكن أن يتم الاختيار في النكاح ويتم العقد بذلك؟ قالوا جميعاً: لا يتم ذلك، وإن كان يوجد من صنعه وهو أبو البنتين فشريعة من قبلنا ليست شريعة لنا، ولا شرع لنا إلا ما أقرّه الشرع وأكده القرآن، وأكده رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم قالوا: المهر يكون أجراً للبنت أو لأبيها؟ ماذا استفادت البنت؟ ولا بد من المهر للبنت، فالأجرة كانت للأب، وهو سيكون أجيراً للأب، أيصح هذا أو لا يصح؟

وقالوا لم يكن في هذا النكاح شهود، بل كان التزويج بين والد البنتين وبين موسى، لم يحضر في ذلك شهود فيشهدون عليه ويؤكدونه، وإنما أشهدوا الله على ذلك، وجعلوه وكيلاً فهل يصح هذا في شريعة الإسلام؟

نبتدئ بالمؤخرة، قال الشافعي : لا يجوز، وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن يتم زواج بغير عدلين، وقال مالك : يجوز أن يكون ذلك كما فعل والد البنتين؛ لأن هذه معاوضة، والمعاوضة يكفي فيها التسليم فلا حاجة للإشهاد.

لم تذكر الآية هل استشار البنت أم زوجها جبراً؟! وظاهر الآية أنه زوجها بلا اختيار منها ولا موافقة منها؟ قال مالك والشافعي : يجوز تزويج البنت جبراً ولو قالت: لست أرضى، وإن كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (البكر تستأمر وإذنها صماتها، والثيب تُعرب عن نفسها) فلا بد من إذن البنات الأبكار التي لم يسبق لهن زواج، يقال لها: فلان يخطبكِ وصفته كذا وكذا؟ ويقال لها: سكوتك رضاً إن أنتِ سكت اعتبرنا سكوتك موافقة، فإن سكتت فالزواج قد تم، وإن عارضت فلا زواج.

والنبي عليه الصلاة والسلام فسخ نكاح ابنة من الصحابيات أجبرها أبوها على الزواج من شخص بغير رضاها؛ فكان ذلك توكيداً لهذا الحكم مع القول العمل، لكن قالوا: هذا في الصغيرة غير البالغة؛ لأن غير البالغة لا تُعرب ولا رأي لها، والموضوع الكلام فيه طويل.. كل هذا الذي قالوا لا موضوع له ولا معنى، أولاً: الله قص علينا قصتهما وليست قصة كما تحكى الروايات، وإنما أعطانا منها العبرة، فذكر منها ما نحتاج إليه، وألغى الباقي، وفي أول السور ماذا قال تعالى؟

نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ [القصص:3] أي: من بعض قصصه، ومن بعض أخباره، لا أن يحكي لنا القرآن كل الحكايات، ذكر القرآن للقصص لا لأنها قصص، ولكن لأخذ العبرة منها، وهنا لا حاجة إلى التفاصيل ولا إلى ذكر اسم البنتين، حتى سموهما صفوراً وصفراء وأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، وسموا الأب عدة أسماء لا حاجة لذلك.

فنقول: ليس هذا الفعل من والد البنتين يعد تزويجاً، وإنما هذا عرض، ثم ماذا حدث بعد ذلك لم يذكره الله، وإنما ذكر نعمته وإفضاله وتمننه على موسى أنه لم يتركه، وأنه آواه وهيأ له داراً وبيتاً، وهيأ له زواجاً، وهيأ له بيتاً سيكون سيده بعد هذا الرجل العجوز، أما التفاصيل فلم يذكرها، وهنا العبرة في تحقيق وعد الله لأم موسى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] .

ثم هذا الكلام الذي دار بينهما إنما هو عرض، وليس معناه التزويج، فلو جاء إنسان إلى آخر في لغة إسلامنا وشريعتنا وقال: أنا أريد أن أزوجك ابنتي، هل يعتبر هذا زواجاً؟ هل إذا أشهد عليه يعتبر زواجاً؟ هي إرادة لكن هل نفذ هذه الإرادة أم لم ينفّذها؟ هذا ليس إلا عرضاً، عرض والد البنتين على موسى أن يزوجه إحدى البنتين، وبعد موافقة موسى واختياره لإحداهما سيكون التزويج إذ ذاك بالعين، فليس هناك تزويج بالاختيار، وليس هناك تزويج بلا شهود، وليس هناك تزويج بلا مهر، كل ما ذكر الله أنه ختنه، أما كونه أعطى مهر البنت أو لم يعط فلم يذكر القرآن هذا، والحكم بشيء لم يذكر افتئات على القرآن وما جاء فيه.

وعرض البنت على الرجل الصالح هي سنة المرسلين والسلف الصالحين، وقد عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء أن يتزوجنه فلم يوبّخهن، ولم يلمهن، ولم يتزوجهن.

وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة عندما تأيّمت من زوجها على أبي بكر فسكت، ثم عرضها على عثمان فأباها وامتنع، فلم يكن العرض تزويجاً، وإلا لأصبحت زوجة لـعثمان ، فتبيّن بعد أن أبا بكر لم يجب لأنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يخطب من عمر ابنته الأيّم، وبعد الزواج قال هذا لـعمر قال: يا عمر ! قد أخبرني رسول الله برغبته بالتزويج ببنتك، وما كنت لأقول ذلك فأفشي سر رسول الله، ولو تركها لأخذتها.

أما الزواج بالأجرة فنعم هو وارد في الإسلام، لكن الأجرة للزوجة لا لأبيها، الرجل الذي حضر مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام مع المرأة التي عرضت نفسها على الرسول عليه الصلاة والسلام، فأباها، كان جالساً بمحضره رجل، فلما رأى أن النبي عليه الصلاة والسلام رفضها قال: يا رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها قال: (ما معك؟) قال: لا شيء.. والقصة لها كلام، وليس هذا موضعها، وموضع الشاهد أنه بعد أن عجز حتى عن خاتم من حديد قال: (ما معك من القرآن؟) قال: كذا وكذا.. وعدَّ سوراً من سور القرآن الصغيرة: (قل أعوذ برب الفلق) و(قل هو الله أحد) و(إنا أعطيناك الكوثر) قال: (زوجتكها بما معك من القرآن) أي: يكون مستأجراً لزوجته مقابل تعليمه لها هذه السور.

فإذاً: هو أجير للمرأة، وهنا في هذه القصة هو أجير لأبيها، والمهور لا يأخذها الآباء ولا الأولياء، وهي منحة للبنت نفسها، فكيف يكون المهر بالأجرة للغير؟

نقول: كذلك هذا شيء والتزويج شيء آخر، ولكن أبا البنتين استأجر موسى أو عرض عليه استئجار واشترط: على أن تأجرني ثماني حجج، لن أزوجك إن وافقت إلا بعد أن تخدمني، هذه الخدمة وهو يريد أن يساكنه، ماذا حدث من بعد؟ ماذا أعطاه من مهر؟ أخذ الكبيرة أو أخذ الصغيرة؟ أيأخذهما معاً؟ لا يمكن، وهو لم يعرضهما عليه معاً: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ [القصص:27] الله لم يقل لنا أنه زوجه كلتيهما! وهذا لا يكون، لأن الأختين لا يجتمعان في عقد واحد، ولا في عصمة واحدة؛ إذاً: لا يمكن الاستدلال بفعل والد البنتين من ختن موسى بحال من الأحوال؛ فهذا الذي ذكره الله عرض وليس تزويجاً.

ووافق موسى على العرض، هذا كل ما حدث، لكن هل أخذ الكبيرة أم الصغيرة؟ القرآن لم يذكره، ولا حاجة لذلك، إذ الحكمة بما أكرم الله به موسى لا في كونه أخذ صغيرة أو كبيرة، على أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي فعله موسى مع ختنه؟ هل خدمه ثمان سنين أو عشراً؟ قال صلى الله عليه وسلم: (آجره أوفاهما وأكملهما) أي: عشر سنوات.

ثم سأله: أتزوج الصغرى أم الكبرى؟ قال: (الصغرى) سألوه صلى الله عليه وسلم، وهذا عن أبي ذر وأبي هريرة وجماعة من الصحابة، من التي أرسلها أبوها إليه عندما جاءته تمشي على استحياء وتقول له: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]؟ في هذه الحالة قالوا: إنها الصغيرة هي التي أرسلها، فرأته فأُعجبت به ووصفته بالقوة والأمانة، ورأى هو منها طاعة وحياءً، فهو تزوج بعد المعرفة والرؤية، النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، والقرآن لم يقله، ولو رواه أحد غير رسول الله عليه الصلاة والسلام لاعتبرناه من الإسرائيليات، على أن الأسانيد في ذلك يصححها البعض، ويطعن فيها البعض.

يقول ربنا جل جلاله حاكياً عن موسى: قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [القصص:28] أي: هذا النكاح بالثمان سنين والعشر (أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ) أي الأجلين، قالوا: (ما) صلة، وهي في الحقيقة تأكيد لهذا (أَيَّمَا الأَجَلَيْن) أي: أجل الثمانية والعشرة (قَضَيْتُ) أي: آجرت نفسي لك (فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ) أي: لا معاتبة، ولا محاسبة، ولا مسئولية، فالثمان لا بد منها، والعشر إفضال وتكرّم، وأنا سأترك هذا من بعد ولا أعد بشيء.

(وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) وكّل الله موسى لا في الزواج وإنما في التأجير؛ لأن الكلام الذي تكلم به موسى هو عن التأجير، وإن كان التأجير شرطاً للنكاح، الله وكيل على أن أفعل معك كل ما أستطيعه، وسأخدمك خدمتي لأبي، وقد وفّى موسى وأحسن.

قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص:29].

خرج موسى سائحاً، أيرجع مصر ومنها فر؟ أيذهب إلى دار مستقلة لم يهيئها الله بعد، كل ما هنالك: قبل أن يذهب أعطاه والد البنتين قطيعاً من الأغنام ليعيش بها، ويجعلها رأس مال للعمل، وذهب في ليلة مظلمة باردة، وأرض مدين وأرض الأردن وفلسطين شديدة البرودة خاصة أيام الشتاء.

(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ) أي الأجل قضى موسى؟ القرآن لم يذكر؛ لأن الموضوع ليس موضوع قصة بتفاصيلها، العبرة أخذت، والحكمة أخذت، وهذه التفاصيل والزوائد لا حاجة إليها، وإن كان النبي - زيادة في العلم - عليه الصلاة والسلام قال: (قضى أكمل الأجل) وأوفى الأجل: عشر سنوات.

قوله: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِه) أي: أخرج أهله معه، ومعنى هذا: أن الزوج له الحق أن يذهب بزوجته حيث شاء، لا حق لها في الامتناع، ولا حق لأوليائها أن يمنعوها، فهو قد ترك ختنه وداره، وليس ملزماً بخدمته إلى الأبد.

قوله: (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) آنس: انتبه واستأنس وشعر (مِنْ جَانِبِ الطُّور) أي: جبل الطور في سيناء أو قرب سيناء، ماذا وجد؟ شعر بنار من بعيد، وكان موسى ضالاً، ضاعت عليه الطريق، وهو لا يعرفها، وكانت امرأته في غاية ما يكون من البرد والقشعريرة، وكان هو كذلك، لكن الرجل يصبر أكثر مما تصبر المرأة؛ فعندما رأى النار شعر بها واستأنس.

(قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي: أقيموا وانتظروني، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) أنا رأيت ناراً من بعيد (لَعَلِّي) يرجو ويطمع (آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ) أي: من يدلني على الطريق، ويدلني على أي الدروب سأسلك، أأقيم هنا أو أقيم بعيداً؟ ضائع! (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّار) جمرة من النار مشتعلة (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) وتصطلون: تستدفئون فيذهب ما بكم من برد وقشعريرة، وهذه المرحلة الثالثة والأخيرة، مرحلة الانتقال من بيت ختنه بعد أن تزوج وولد له، فهو الآن يذهب لسعادته ولتحقيق وعد الله لأمه، فرأى هذه النار، وهو في الحقيقة رأى نوراً فاختلط عليه النار بالنور.

قال تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30] .

ذهب موسى إلى النار ليأتي بها أو بخبر منها، وإذا به عندما وصل إلى شاطئ الوادي الأيمن، أي: الذي على يمينه والوادي: الطريق بين الجبلين، والشاطئ: الجانب، لما وصل إلى هذا الجانب في البقعة المباركة التي تباركت بكلام الله لموسى، وتجلي الله عليها لموسى، وبكون موسى فيها نبئ وأُرسل، وفيها كُلّم ومنها أخذ لقب كليم الله.

قوله: (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَة) كان النداء من الشجرة، وقالوا عن الشجرة: هي سمرة، وهي عوسج، وكل هذا أيضاً كلام لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن لم يذكره، ونقول ما قال ربنا: هي شجرة، نودي من هذه الشجرة التي هي على الشاطئ الأيمن في البقعة المقدّسة.

قوله: (أَنْ يَا مُوسَى) نودي باسمه (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) قالوا: هذه الشجرة كانت خضراء يانعة، وهي تشتعل نوراً بما ظنه موسى ناراً؛ وليس هو ناراً ولكنه النور، كيف سمع هذا الكلام؟ فعلماء الكلام والأشاعرة والماتريدية والمعتزلة أكثرهم قال فلسفات يونانية ما أنزل الله بها من سلطان، ولا دليل عليها من قرآن، ولا حجة عليها من سنة الرسول سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول ما قال الإمام مالك عندما جاءه من يسأله في مثل هذه الآيات المتشابهة فقال له: يا أبا عبد الله ! يقول ربنا: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق مالك ملياً وعدّ هذا السؤال غير وارد، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، أين أنت يا شرطي؟ أخرج هذا من المسجد.

سأل سؤال البدعة؛ لأن ربنا في ذاته لا يُعلم، فكل ما خطر ببالك فربنا مخالف له، عقولنا لا تتصور ذلك، عقولنا الحادثة لا تتكيف ولا تتصور ذات الله، فالحادث لن يستطيع أن يعيش بتصور القديم الذي لا أول له.