تفسير سورة القصص [47-54]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:47].

أي: لولا أنه لم يسبق أن أرسلنا للعرب رسولاً ونذيراً نتيجة ما قدمت أيديهم من معاص وذنوب وشرك وكفر وظلم لعاجلناهم بالعقوبة، هذا هو جواب (لولا) المفهوم من سياق الكلام.

أي: لولا أن يصيب العرب ممن لم ينذروا قبل برسالة أو هداية مصيبة أو بلية أو كارثة تجعلهم كمثل السابقين من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم هود.

وذكر الأيدي لأن أغلب الظلم والطغيان والجبروت يكون باليد، وليس المقصود بما قدمت أيديهم فقط، وإنما بما قدمت أنفسهم نطقاً باللسان أو اعتقاداً بالجنان أو عملاً بالجوارح.

قال تعالى: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [القصص:47].

فيعاجلوا بالعقوبة فيصيحوا: فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ [القصص:47] أي: يا ربنا عجلت لنا العقوبة في شيء نجهله ولا نعلمه، فنحن لا نعرف كيف نعبدك وندين لك؟ ومن الذي يعلمنا؟ فلم ترسل لنا نبياً، ولله الحجة البالغة، وما أرسل الرسل مبشرين ومنذرين إلا لتكون الحجة له على البشر، وقد قال ربنا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].

قال تعالى: فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:47].

وهذا لو أن الله عجل لهم العقوبة، ولكنه لم يفعل؛ لتبقى الحجة له جل جلاله، ولكي لا يقولوا هذا ويعتذروا به، فإذا عوقبوا لا يقولون: هلا يا ربنا! أرسلت لنا رسولاً كما أرسلته للأمم السابقة والقرون الماضية.

قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا [القصص:48].

أي: فلما جاءهم الحق من الله جل جلاله وأرسل لهم آخر الأنبياء النبي الخاتم الشامل العام بشيراً ونذيراً، كما قال الله: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا [القصص:48] وفي قراءة: (وقالوا ساحران تظاهرا)، وهما قراءتان سبعيتان.

فالله أرسل لهم ما طلبوا وتمنوا بقولهم: هلا أرسلت إلينا رسولاً، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا [القصص:48] والحق هنا: هو النبي صلى الله عليه وسلم، أخذوا يعترضون ويصرون على الكفر، فقالوا: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى [القصص:48] ، أي: لم لم يأت محمد بالمعجزات كما أتى بها موسى؟ ولم لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة؟ ولم لم يأتي بمعجزة العصا ومعجزة اليد ولم يفعل ما فعل موسى؟

فإذا بالقوم متنطعون معاندون لا يريدون إيماناً، وإنما يريدون الهزل والحجاج بالباطل والعناد والدوام على الكفر.

فقال لهم ربنا: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [القصص:48].

فالآن يقولون: موسى، وهل آمنوا بموسى من قبل؟ وعرب مكة والجزيرة لا يعرفون عن اليهودية والنصرانية شيئاً، وأنبياء بني إسرائيل لم يرسلوا إليهم، ولكن أرسلوا إلى بني إسرائيل، ولكن عندما ظهر النبي عليه الصلاة والسلام في هذه البطاح المقدسة أرسلوا إلى يهود المدينة، ولم يكن بمكة يهود ولا نصارى، فقالوا: أبلغكم ما يزعم هذا الرجل؟ قالوا: نعم. وقد قرأنا في التوراة وفي الإنجيل أنه سيبعث نبي يكون آخر الأنبياء في آخر الزمان، فعندما سمعوا ذلك وقالوا لهم بأن موسى عليه نزل كتاب عليه، وكان وكان، فأخذوا يقولون: جاءنا محمد بغير ما جاء به موسى، فلم يأت بمعجزة كمعجزة موسى، فقال الله لهم: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [القصص:48].

فما أوتيه موسى من التوراة، هل آمنوا بها؟ وكيف لم يتذكروا الإيمان بالتوراة إلا الآن؟

قال تعالى: قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا [القصص:48] أي: سحر التوراة وسحر القرآن، واعتبروا جواب اليهود تواطؤاً وتعاوناً مع النبي ورسالته عليه الصلاة والسلام، وكان اليهود قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كثرة متضافرين، وكانت لهم السيادة العلمية على الأوس والخزرج في المدينة، ففرحوا بمبعثه، وكانوا يظنون أنه لا يطلبهم أن يؤمنوا به، وأنه إنما جاء لمن لا كتاب له ولم يرسل له نبي من قبل، وقالوا: سنتعاون معه على احتلال الجزيرة وامتلاك العالم، فعاشوا سخفاء إلى أن سبقهم الحق ونبذهم وطردهم وألزمهم بالإيمان، فما آمن منهم مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا ما لا يكاد يعد إلا على الأصابع.

فعندما قال اليهود لقريش ذلك قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا [القصص:48]. أي: القرآن سحر، والتوراة سحر، والقراءة التي فيها: (ساحران تظاهرا) وهي قراءة نافع، أي: الساحر موسى كما قال عنه الكفرة من الفراعنة، ومحمد ساحر، كما كذبوا وزعموا، وحاشا نبينا وموسى من كل ذلك.

قوله: تَظَاهَرَا .

أي: كان بعضهم ظهيراً ومساعداً ومؤيداً ومؤازراً لبعض، فقالوا سحران تظاهرا ثم زادوا فأصروا، وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ [القصص:48] أي: بالتوراة والقرآن وبموسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.

وزعمهم وقولهم: لم لا يكون عند محمد من المعجزات ما عند موسى قول سخيف من عقول سخيفة، وإلا فقد أتى نبينا عليه الصلاة والسلام من المعجزات بما تجاوز وسبق كل الأنبياء السابقين، فما من معجزة أتوا بها إلا وأتى النبي عليه الصلاة والسلام بمثلها وزيادة، وبأكثر منها صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام حدثته الدواب والحيوانات، وشكت إليه الجمال، وشكى إليه الذئب، وحن لفراقه الخشب وهو جامد يابس عندما ترك المنبر الذي كان يخطب عليه في المسجد النبوي، وكثر القليل في يده الذي لم يكن يكفي شخصين أو ثلاثة، فكفى الجيش بما فيهم العشرات والمئات، ونصره الله على عدوه نصراً عزيزاً مؤزراً، وموسى لم يأت من المعجزات إلا بالعصا واليد.

وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد خصصت كتب في معجزاته وخصائصه، ولقد كتب الإمام السيوطي رحمه الله كتاب الخصائص، فتجاوز بها مائتي خصيصة، كلها مما اختص به نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ولم يأت نبي قبل موسى أو بعده بالمعجزة الخالدة العروج إلى السماء من بيت المقدس سماءً سماء إلى سدرة المنتهى إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى، ثم صلى صلى الله عليه وسلم بأرواح جميع الأنبياء، فكان ذلك إشارة بأنه إمامهم وكبيرهم وسيدهم صلى الله عليه وسلم، وهل تحدث موسى وكتابه عن العلوم والمعارف والحقائق الكونية والشرعية والحكمية كما تحدث عنها القرآن الكريم الذي أنزل على نبينا صلوات الله وسلامه عليه؟ ولكن العناد وصعود الران على القلب والخذلان من الله ترك هؤلاء يقولون ذلك.

على أن هذا الذي قالوه قد ذكره أكثر المفسرين عن كفار مكة، وقاله في عصرنا هذا المستشرقون من كفرة اليهود والنصارى والمجوس، وقبل ذلك قالوا: إن محمداً لم تكن معه معجزة، وكرروا كل ما ذكره القرآن عن الكافرين السابقين، وقد قال ذلك الفرس والروم والأحباش وكل ملل الكفر قديماً وحديثاً، والكفر ملة واحدة كما يقال، والواقع ينفي ذلك، والتاريخ المتواتر يذكر من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم ما لم يسبق له نظير من أحد من الأنبياء قط، لا الخليل إبراهيم، ولا الكليم موسى، ولا عيسى، ولا أولي العزم الخمسة من الرسل عليهم جميعاً سلام الله وصلاته.

قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا [القصص:49].

عندما قالوا هذا وتحدوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم في الحقيقة تحدوا ربهم وأساءوا الأدب معه وأنكروا كتابه ونبيه، بل والكتب والأنبياء السابقين جميعاً، فعندما قالوا: التوراة والقرآن سحران، وقالوا: موسى ومحمد ساحران، قال الله لنبيه: قل لهم يا محمد! فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [القصص:49].

أي: يا هؤلاء! إن كانت التوراة والقرآن سحرين ونبياهما ساحرين فأتوا أنتم بكتاب من عند الله وادعوه أن يرسل لكم نبياً إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [القصص:49]، أي: في أنكم تريدون البحث والنقاش والمجادلة لمعرفة الحقائق والوصول إلى التوحيد والإيمان، ولكنهم كذبة فجرة.

قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50].

أي: إن لم يأتوا بكتاب من عند الله هو أكثر هداية ونوراً وبصائر من التوراة والقرآن وأهدى من محمد وموسى عليهما السلام (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) أي: اعلم إنما يتبعون الأهواء، وهي جمع هوىً، أي: النزوات والأغراض والكلام بلا دليل ولا برهان ولا معنىً من عقل ولا نقل، وإنما يحملهم على ذلك الجهل والعناد والإصرار على الكفر.

قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، هل هناك أضل وأكثر ضلالاً وكفراً وشؤماً وعناداً في الكفر والشرك ممن أضله هواه ونطق وسعى به وعاش بالنزوات وبالشهوات وبالباطل والضلال، وكل من ليس مسلماً في الأرض هو هكذا، فكلهم حيوانات عجماء، يعيشون بقراً، والبقر أشرف منهم، وحتى أولئك الذي يوسمون بالعلم والاختراع والفهم والتأليف، قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7]، فهم في غفلة وضلال وكفر وفسوق، والدواب والحيوانات أعقل منهم وأفهم.

قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50] ، أي: اتبع الهوى بغير هاد من كتاب سماوي، أو هاد من نبي مرسل.

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50] الذين لا يريدون الهداية ولا الإيمان، ويأبون إلا الشرك والكفر والعصيان، فيصعد الران على قلوبهم، وينقلب النور الذي في نفوسهم إلى ظلمة، إذا أخرج أحدنا يده لم يكد يراها من ظلمة هؤلاء وكفرهم وشركهم.

قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:51].

الله جل جلاله كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر على الأذى من الله) ، فهو يرزقهم وهم يكفرون به، ويمهلهم وينظرهم السنوات وعشرات السنين، والله يمهل ولا يهمل، فإذا أخذ الكافر لم يفلته، فيأخذ أخذ عزيز مقتدر، قال ربنا في هذه الآية: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ [القصص:51]، وصلنا: تابعنا، فهو أرسل الرسل من قبل على هؤلاء البشر منذ آدم إلى نبينا عليهم الصلاة والسلام، فقد أنزلنا القرآن وتابعنا فيه القول آية بعد آية، وسورة بعد سورة، وكلفنا نبينا وعبدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، فهو يأتي للآية فيفسرها ويؤولها ويشرحها بلغات مختلفة، ويقولها تارة بعبارة، وأخرى بعبارة، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قال الكلمة أعادها ثلاثاً؛ لتفهم عنه، وقد يقرأ الآية ويشرحها سواء في حضر أو في سفر أو في مجلس خاص أو في المسجد النبوي أو في ليل أو في نهار، لا يمل ولا يكل، وكان يقول: (إنما علي البلاغ وليس علي الهداية) ، فالهداية بيد الله والبلاغ علي، فكان لا يكل ولا يمل، والله يقول جل جلاله: وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ [القصص:51]، فوصل القول لكل الخلق والبشر، وتابعه آية بعد آية، ونبياً بعد نبي، وكتاباً بعد كتاب.

قال تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:51]، لعلهم يوماً يعون ويفهمون ويدركون ويقولون: لقد ظلمنا يوماً، وينتهزون حياتهم قبل مماتهم، وشبابهم قبل شيخوختهم، وغناهم قبل فقرهم، وبالتالي حياتهم قبل موتهم، وإلا فإذا وصلت الروح إلى الحلقوم، فلن ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً.

قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:51]، أي: تابع ووصل بعضه ببعض، وجعل بعضه في ذيل بعض، في كل وقت وزمن وعصر، وفي كل كتاب نزل من السماء، ومع كل نبي أرسل من قبل الله جل جلاله، ونبينا صلى الله عليه وسلم كلف بأن يزيد البلاغ والشرح والبيان، وقد فعل صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ [القصص:52].

فطائفة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبأنبيائهم من قبل، وآمنوا بالتوراة والإنجيل، ثم آمنوا بالقرآن، قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [القصص:52]، وهذا يشمل اليهود والنصارى وكلهم بنو إسرائيل.

هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ [القصص:52]، أي: يؤمنون بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم كذلك.

قال تعالى: وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص:53].

وإذا يتلى عليهم القرآن وقد تلاه عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم آمنوا به وأعلنوا إيمانهم وقالوا: قد كنا مؤمنين به من قبل أن نراك ونسمعك، وقبل رسالتك والكتاب المنزل عليك وقد آمن من اليهود عبد الله بن سلام وجماعة معدودين على اليد، وآمن سلمان الفارسي وتميم الداري وكانا نصرانيين، وآمن جماعة من أرض جيزان، وآمن ملك الحبشة فأسلم هؤلاء، وكانوا من أهل الكتاب، وقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: وجدنا صفتك، وكنا مؤمنين بك من قبل، وكنا مسلمين من قبل، ووجدنا اسمك يا محمد! وكتابك في كتبنا، وتحدثت إلينا أنبياؤنا عنك، وبشرونا بظهورك وبالوقت الذي ستظهر فيه في جبال مكة، وأنك ستظهر في آخر الزمان، ولذلك بمجرد أن ظهرت وطابقنا صفتك مع ما نعلمه من التوراة والإنجيل وجدنا الصفة تامة منطبقة عليك، فآمنا، وكنا من قبل نؤمن بأنك آت، وأنك مرسل، فآمنا بك وبالكتاب الذي سينزل إليك.

ولذلك عندما سمعوا القرآن وسمعوا عيسى يقول كما تلا القرآن: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، فهذا الوصف وجد في الإنجيل وفي التوراة، وبعض العلماء من الهنود له كتاب طبع أكثر من مرة جمع فيه النصوص من التوراة ومن الإنجيل ومن الزبور كما هي اليوم، وهي كلها تؤكد بشارة الله للقوم من قبل بظهور نبي في آخر الزمان، وصف بالحمد وبراكب الجمل، ولا يوجد في الأنبياء من اسمه محمد، أو أحمد، أو محمود إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، على أن عيسى قد سماه وقال: أحمد، وأولئك حاولوا التحريف والتغيير، ولكن هيهات، فقد كانت الآيات في ذلك كثيرة، فحرفوا البعض وبقي الكثير مما يؤكد رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الديار المقدسة.

وجاء في الإنجيل وفي التوراة: أنه سيظهر في جبال فاران، وجبال فاران هي جبال مكة، وقد وصف براكب الجمل، ولم يركب الجمل إلا هو عليه الصلاة والسلام، فلم يكن في بني إسرائيل ولا في أرض بابل والعراق التي ظهر فيها إبراهيم خليل الله عليه السلام جمال، ولكن الجمال عرفت في جزيرة العرب، وعرف العرب بها فهي صفة لازمة، فلم تكن هناك طيارات ولا سيارات ولا صواريخ ولا بواخر بحرية، وما كان إلا الجمل، ولذلك كان يسمى سفينة الصحراء، فكما يسافر الناس في البحار على السفن فإنهم يرحلون في البراري على الجمال.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص:54].

فهؤلاء الذين آمنوا بالقرآن وبالمنزل عليه نبينا عليه الصلاة والسلام قبل بروزه وبما جاء به كانوا في حقيقتهم قد آمنوا بكتابهم، وكتابهم اشتمل على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبالقرآن، ولذلك قالوا: كنا من قبله مسلمين، أي: قبل ظهور القرآن وظهور نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن التوراة والإنجيل بشرا به.

ولذلك يقول نبينا عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى).

وعندما بشر الأقوام به قال: يأتي من بعدي رسول اسمه أحمد، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157] وهي صفات ونعوت لا تنطبق إلا على نبينا عليه الصلاة والسلام، وتلك الشدائد والحديد والأغلال الذي كان في شريعة موسى وعيسى عليهما السلام، أزيل ورفع كله، وجاء الإسلام بالجسد والروح، وجاء بالمادة كما جاء بالروح، وقال لنا: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32].

وعلمنا أن نقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة:201]، فلم يحرم دنيا، ولكنه جمع لنا بين الدين والدنيا، وأمرنا أن نطلبهما معاً، بما لا يفسد خلقاً ولا ديناً، ولا يهتك عرضاً، ولا يأكل مالاً، والدين لا بد منه، وهو معنا، ففي الصباح وفي الزوال وفي العصر وفي المغرب وفي العشاء نصلي لله، ونناجيه ونسجد بين يديه، ونخاطبه في الصلاة خطاب المفرد الذي زالت بيننا وبينه الكلف، فنقول له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ونقول له: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من السجود، فقمن أن يستجاب لكم).

فأقرب حالة بين العبد ومولاه هو هذا السجود، الذي نضع فيه الجباه والأنوف والركب والكفين ذليلة لله، وخضوعاً وتوحيداً له، ولا يليق أن يكون شيء من ذلك لأحد من الخلق، لا لنبي مرسل ولا لصحابي ولا تابعي.

ولما أراد معاذ بن جبل أن يسجد للنبي صلى الله عليه وسلم حيث رأى الروم تسجد لأباطرتهم منعه وقال: (لا يجوز السجود إلا الله، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها) ، فلم يأمره ولم يأذن له.

وقال: (لو كنت آمراً لأمرت المرأة)، ولو حرف امتناع لامتناع، فهو لم يأمر وبالتالي فلا سجود، وهكذا شريعتنا جاءت بالتوحيد الخالص وبالعبادة الخالصة لله، التي لا تجوز أن تكون لعبد بشراً كان أو إنساً أو جناً.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [القصص:54].

(أولئك) أي: الطائفة من أهل الكتاب التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ودخلت عليه إلى مكة المكرمة - والسورة مكية - فجاءت إلى مكة فسمعت الحق والوحي وكلام الله وبيان رسول الله عليه الصلاة والسلام، وآمنت بمجرد السماع، ودمعت عيناها، وفاض قلبها إيماناً ورحمة، فأخبروا النبي عليه الصلاة والسلام: إننا قبل لقائك كنا مؤمنين بك؛ لأن كتبنا التوراة والإنجيل بشرت بك ووصفتك وذكرتك، كما جاء في الكتاب المرسل إليك، فنحن قبل ذلك كنا مسلمين ومؤمنين، فقال تعالى: أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ [القصص:54] المرة الأولى لإيمانهم بكتبهم ودينهم السابق، والمرة الثانية لإيمانهم بالنبي اللاحق صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وفي الصحيحين قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: كتابي آمن فهو يؤجر لإيمانه بكتابه ونبيه السابق، ويؤجر لإيمانه بي وبالقرآن الكريم وبالإسلام، وعبد عبد ربه وأطاع سيده يؤجر مرتين، لعبادته لله، ولطاعته لسيده) ، حتى لقد قال أبو هريرة : والله لولا أمي وبرها، ولولا الجهاد وأجره، ولولا الحج وكون الإنسان يخرج منه كيوم ولدته أمه، لعبدت نفسي ولتمنيت أن أكون عبداً؛ لأوجر مرتين، ولكنه لم يفعل؛ لأنه يريد أن يبر بأمه وكان باراً بها، ويريد الحج ويريد ويريد.

قال صلى الله عليه وسلم: (ورجل كانت له أمة فعلمها وأدبها وغذاها وأحسن تربيتها، ثم أعتقها وتزوجها) ، فله أجر على كونه أعتقها وأدبها ورباها، وله الأجر الثاني على كونه بعد ذلك لم يتركها سبهللاً ضائعة، فتزوجها وصانها وحفظها.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص:54] ، صبروا على الدين الأول بما فيه من شدة وبلوى وأغلال وصعوبة، وصبروا على الإيمان بالدين الجديد من جهاد وبذل روح وعطاء وزكاة واجبة ومستحبة ونفقة واجبة، فهم مأجورون أجرين؛ لأنهم صبروا مرتين على الدين القديم والجديد.

قال تعالى: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [القصص:54] أي: يدفعون، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، أي: ادفعوا الحدود.

قال تعالى: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرعد:22]، أي: يدفعون بالحسنة فيفعلونها ويقومون بها ويمحون السيئة والمعصية السابقة والشرك السابق، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) ، أي: إن ارتكبت السيئة عمداً أو جهلاً فحتى تتوب ويغفر لك فأسرع بحسنة بعدها، فعسى تلك الحسنة أن تمحو السيئة، وخالق الناس بخلق حسن، أي: كن معهم خلوقاً ومهذباً ومتحملاً.

قال تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [القصص:54]، فينفقون من أموالهم فرائض وزكوات ونفقات وإحساناًً وصدقات.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة القصص [58-63] 2267 استماع
تفسير سورة القصص [18-22] 2066 استماع
تفسير سورة القصص [64-73] 2006 استماع
تفسير سورة القصص [79-84] 1728 استماع
تفسير سورة القصص [9-17] 1635 استماع
تفسير سورة القصص [1-3] 1627 استماع
تفسير سورة القصص [43-46] 1605 استماع
تفسير سورة القصص [55-57] 1541 استماع
تفسير سورة القصص [29-35] 1425 استماع
تفسير سورة القصص [23-30] 1421 استماع