خطب ومحاضرات
تفسير سورة محمد [1-3]
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فنشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة القتال، وهي المسماة بسورة محمد صلى الله عليه وسلم، وتسمى سورة الذين كفروا، جاء في الأسباب إنها بدأت بقوله تعالى: والَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:1]. أما تسميتها باسم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فلما فيها من أن الإيمان بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم متفرقاً أعظم من الإيمان بما نزِّل مجموعاً على جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وتسمى بسورة القتال؛ لدلالتها على ارتفاع حرمة نفوس الكفار المانعة من قتالهم، فلا حرمة لهم عن قتالهم، وأيضاً سميت بسورة القتال لما ذكر فيها من أحكام القتال، وكثرة فوائده. وهي مدنية في قول ابن عباس ذكره النحاس ، وقال الماوردي : مدنية في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة ، فإنهما قالا: إنها مدنية إلا آيةً منها نزلت عليه بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزناً عليه، فنزل عليه قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد:13]. وقد غلط الثعلبي حيث قال: إنها -أي: السورة- مكية، فهذا قول غريب. وروى ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت في المدينة سورة الذين كفروا، أي: سورة محمد صلى الله عليه وسلم. وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهم في المغرب: (( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ))). وآيها ثمان وثلاثون آية، وقيل: تسع وثلاثون، ومثل هذا الاختلاف في عدد الآيات لا يعني اختلافاً في ألفاظ الآيات، فهي نفس الألفاظ، فبعض الآيات قد يرى بعض العلماء مثلاً أنها آية كاملة، والبعض يرى أنها جزء آية، وليس يمنع هذا الاختلاف في عدد ألفاظ السورة، وإنما في موضع الآية.
فقوله تعالى: (( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ )). قال ابن عباس ومجاهد : (( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، هم أهل مكة. (كفروا) أي: بتوحيد الله، (وصدوا) أنفسهم والمؤمنين عن دين الله -وهو: الإسلام- بنهيهم عن الدخول فيه، فصدوا أنفسهم بعد الإيمان، وصدوا غيرهم بنهيهم عن الدخول في دين الإسلام. فـ(( الَّذِينَ كَفَرُوا ))، أي: جحدوا توحيد الله وعبدوا غيره، (( وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، أي: أعرضوا وامتنعوا عن الإقرار لله بالوحدانية، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، أو صدوا غيرهم عن ذلك فهذا هو تفسير القاسمي لقوله تعالى: (( وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )). أي: أن الفعل (صدَّ) إما أنه فعل لازم، وإما أنه متعد، فإذا قلنا: إنه لازم، فمعنى (صدوا) أي: أعرضوا، وتقول مثلاً: فصد عني، أي: فأعرض عني، وإذا قلنا إنه متعد فالصد هنا بمعنى المنع، فالكافر يصد عن سبيل الله، أي: أنه يمنع الآخرين وينهاهم عن الدخول في دين الله عز وجل، وسيأتي تفصيل ذلك. وقال الضحاك : (( وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )) أي: عن بيت الله بمنع قاصديه. وقيل: هم أهل الكتاب. والاسم الموصول في قوله: (( الَّذِينَ كَفَرُوا )) مبتدأ، والخبر قوله تعالى: (( أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ )). وقد حقق العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى معنى هذه الآية الكريمة في تفصيل كثير جداً لا نحتاجه في القرآن الكريم؛ ولذلك نحن نقف معكم هذه الوقفة، يقول رحمه الله: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (( وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، قال بعضهم: هو من الصدود؛ لأن صد في الآية لازمة. وقال بعضهم: ليس من الصدود، وإنما هو من الصد؛ لأن صد في الآية متعدية، وعليه فالمفعول محذوف، أي: صدوا غيرهم عن سبيل الله، وهو الدخول في الإسلام. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وهذا القول الأخير هو الصواب؛ لأنه على القول بأن صد لازمة، فإن ذلك يكون تكراراً، فصد يعني: أعرض هو عن الإسلام ولم يدخل فيه بنفسه، فيكون الفعل هنا صد من الصدود وهو الإعراض، فيكون تكراراً مع قوله: (( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، يعني: صد عن سبيل الله يكون توكيداً بكفروا، والتكرار عامة يكون للتوكيد؛ لأن الكفر هو أعظم أنواع الصدود أي: الإعراض عن سبيل الله. أما على القول: بأن صد متعدية فلا تكرار؛ لأن المعنى: أنهم ضالون في أنفسهم، مضلون لغيرهم بصدهم إياهم عن سبيل الله، فهذا مثل قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]. فإذا حملنا الحياة الطيبة على أنها الآخرة، وقوله: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ ... [النحل:97] في الآخرة فإنه يكون توكيداً، لكن ممكن أيضاً أن يكون المعنى: (( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً )) هذا في الدنيا، (( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ )) في الآخرة، فيكون على هذه الحال تأسيساً، وهو الأولى، فاللفظ إذا دار بين التأكيد والتأسيس وجب حمله على التأسيس إلا بدليل يجب الرجوع إليه. فالأرجح في قوله هنا: (( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )) -والله تعالى أعلم- أن (صد) متعدية، والمعنى: أنهم كفروا في أنفسهم، وكانوا نشطين في دعوة غيرهم للبقاء على هذا الكفر، ونهوا الناس عن الدخول في دين الله، فالراجح إذاً هو حملها على التأسيس لا التوكيد. (( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ))، للمفسرين أقوال في تفسير قوله تعالى: (( أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ))، قال القاسمي : أي: جعلها على غير هدى ورشاد. وقال الضحاك : (( أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ )) أي: أبطل كيدهم ومكرهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم. وقيل: معنى (( أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ )) أي: أبطل ما عملوه في حال كفرهم مما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق، فهم في حالة كفرهم كانوا يفعلون بعض الأعمال من مكارم الأخلاق، كصلة الأرحام، وفك الأسارى، وحسن الجوار، وغير ذلك، فهذه الأعمال باعتبار أنها غير مبنية على العقيدة الصحيحة فإنها تحبط، ولا تستعظم في الآخرة، ولم يجعل الله لها جزاءً ولا ثواباً، كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، فأعمالهم لا تنفعهم في الآخرة. وقيل: (( أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ )) أي: أبطلها، وقيل: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق. يقول العلامة الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: (( أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ))، أي: أبطل ثوابها، فما عمله الكافر من حسن في الدنيا، كقرى الضيف، وبر الوالدين، وحمى الجار، وصلة الرحم، والتنفيس عن المكروب فإنه يبطل يوم القيامة ويضمحل، ولا يكون له أثر، كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وهذا هو الصواب في معنى الآية. لكن ينبغي أن ننتبه إلى أمر مهم جداً في القراءة، فنحن نقول: (( أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ )) أي: أبطل ثوابها في الآخرة، فالكافر إذا عمل شيئاً من هذه الأعمال الحسنة فإنه يثاب عليها في الدنيا إذا شاء الله له ذلك، فالمجال الوحيد في أن يثاب على ما عمل هو: أن يثاب عليها في الدنيا فقط، وذلك بإيساع الرزق والصحة، وغير ذلك من الأمور في الدنيا، وأما في الآخرة فلا يثاب الكافر على عمل عمله وقد قدم على الله كافراً به، فلابد من العقيدة الصحيحة، وأما في الدنيا فقد يثاب بإذن الله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18].
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ [محمد:2]. فبعد أن ذكر الكافرين أتبعهم بذكر المؤمنين، قال: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))، و(الذين) صيغة عموم، فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ولا يمنع من ذلك خصوص سببها. فقد قيل: إنها نزلت في الأنصار، وقيل: في أناس من قريش، وقيل: في مؤمني أهل الكتاب، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )) أي: آمنت قلوبهم وسرائرهم، وانقادت جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم. قوله: (( وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ))، وهذا من عطف الخاص على العام، فـ(آمنوا) في أول الآية عام، ثم ذكر الخاص بعد ذلك: (( وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ))، صلى الله عليه وسلم، فهذا عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم. أي: (والذين آمنوا) إيماناً عاماً بكل ما ينبغي الإيمان به، لكن هناك إيمان خاص بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الإيمان بما نزّل على محمد، وهو شرط في صحة الإيمان، وإذا لم يأتوا بهذا الشرط حبط كل عملهم، فبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم غلقت جميع الأبواب المؤدية إلى الجنة، ولم يبق إلا باب وطريق واحد وهو اتباع ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فمن لم يؤمن بمحمد عليه السلام بعد بعثته كان من أهل النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)، وهذه إشارة إلى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم. قال الشوكاني رحمه الله: وخص سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله، تنبيهاً على شرفه وعلو مكانته. أي: مع أن الإيمان بمحمد داخل في قوله: (والذين آمنوا)، لكن خُصّ بالذكر لينبه على شرفه وعلو مكانته. قوله: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) هذه جملة معترضة بين المبتدأ وهو: ((والذين آمنوا)) وبين خبره وهو ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)). قوله: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ))، قال الشوكاني : معنى كونه الحق أنه الناسخ لما قبله. قوله: ((مِنْ رَبِّهِمْ))، في محل نصب على الحال. قال القرطبي : يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم. وقيل: إن القرآن هو الحق من ربهم، فقد نسخ به ما قبلهم. قوله: (( كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ )) أي: السيئات التي عملوها فيما مضى، فإنه غفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح. قوله: (( وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ )) قيل: شأنهم، أو أمورهم، أو حالهم، والمعاني الثلاثة متقاربة، وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بالإيمان. وحكى النقاش : أن المعنى: (( وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ )) أي: أصلح نياتهم، وهو على هذا التأويل محمول على صلاح دينه، يعني: بعض العلماء قالوا: إنها متأولة، أصلح بالهم أي: أصلح ما يتعلق بدنياهم، كذلك قلنا: بأنه الشأن أو الأمور أو الحال. وقال الشوكاني : قيل: ومعنى (( وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ )) أي: عصمهم من المعاصي في حياتهم، وأرشدهم إلى أعمال الخير، وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال، وقد جاء في حديث تشميت العاطس: (يهديكم الله ويصلح بالكم) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة . ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )) أي: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم. قوله: (( وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ )) أي: بما أنزل الله به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما خصه بالذكر مع دخوله فيما قبله تعظيماً لشأنه؛ لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به، إذ يفيد بعطفه أنه أعظم أركانه في إفراده بالذكر، وقد تأكد ذلك بالجملة الاعتراضية وهي قوله: (( وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ))؛ لتبين شرف وعظم مكانة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إليه: (وهو الحق) أي: الثابت بالواقع ونفس الأمر، (( كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ )) أي: ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الفسق والمعاصي، فالتكفير هو التغطية، ومنه كفرت البذرة إذا غطيتها بالتراب، فالمقصود: أن الإيمان والعمل الصالح ستر وغطى على ما كان منه من الكفر والمعاصي؛ لنزوعهم عنها وتوبتهم، (وأصلح بالهم) أي: حالهم وشأنهم وعملهم في الدنيا بالتأييد والتوفيق. قال الشهاب : البال يكون معناه الحال والشأن، وقد يَخَصّ بالشأن العظيم، كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: (كل أمر ذي بال) (ذي بال) أي: ذي شأن عظيم. ويتجوَّز به عن القلب. أي: قد يستعمل استعمالاً مجازياً بمعنى القلب، ولو فسر البال هنا بالقلب لكان المعنى حسناً أيضاً، (( كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ )) أي: أصلح قلوبهم. وقد فسره النسفي بالفكر؛ لأنه إذا صلح قلبه وفكره صلحت عقيدته وأعماله. وقال ابن جرير (البال) كالمصدر مثل الشأن، لا يعرف منه جمع، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة الفعل، فإذا جمعوه قالوا: بالاً، بالاً. وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: (وأصلح بالهم) أي: أصلح لهم شأنهم وحالهم إصلاحاً لا فساد معه. وما ذكره الله جل وعلا هنا في أول هذه السورة الكريمة من أنه يبطل أعمال الكافرين، ويبقي أعمال المؤمنين جاء موضحاً في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا [هود:15]، تأملوا الظرف (فيها)، فالهاء تعود إلى الحياة الدنيا، أي: لا يجازَون إلا في الدنيا؛ ولذلك صح في الحديث: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر) فالدنيا هي المكان الوحيد الذي يثاب فيه على ما عمل من الأعمال الحسنة، فيوجد من التقاة من يعمل أعمالاً حسنة كبر الوالدين، وصدق الحديث، والوفاء بالوعد، والإحسان إلى الفقراء، فهذا قد يحصل من الكافر، فيثاب عليها في الدنيا فقط، بشرط أن يشاء الله ذلك. قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15] أي: في الدنيا فقط. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا [هود:16] أي: في الآخرة، وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16]. وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20]. وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:23-24]. وقال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]، وقال تعالى في سورة الأحقاف: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20]. قوله تعالى: ((وأضل أعمالهم)) أصله من الضلال، وهو بمعنى: الغيبة والاضمحلال، فالشيء إذا غاب فقد ضل، وليس مأخوذاً من الضالة، فهذا كقوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24]. قوله تعالى: (( وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ))، قال ابن كثير : هو عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود:17]. وقوله تعالى: (( وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ )) جملة اعتراضية تتضمن شهادة الله بأن هذا القرآن المنزل على هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله، كما قال تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الأنعام:66]، فالله يشهد لنبيه بأنه على الحق: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:79]، وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [الحاقة:50-51]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [يونس:108]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170].
قال الله تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ [محمد:3]. ((ذلك)): إشارة إلى المذكور من فعله تعالى بالفريقين من مؤمنين وكفار، حيث أضل أعمال الكافرين، وكفر سيئات المؤمنين وأصلح بالهم. قوله: (( وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ )) أي: يسبب لهم الأسباب، فيلحق بكل قوم من الأمثال أشكالاً، قال الزمخشري : فإن قلت: أين ضرْب الأمثال؟ فالجواب: هو في جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين، أو أن المثل في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز المؤمنين. فقوله تعالى: (( ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ )) أي: إنما أبطلنا أعمال الكفار، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شئونهم؛ لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل، (( وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ )) وهو التوحيد والإيمان، (( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ )) أي: يبين لهم مآل أعمالهم، وما يصيرون إليه في معادهم. فالإشارة في قوله تعالى: (ذلك) إشارة إلى ما مر مما أوعد به الكفار، ووعد به المؤمنين، وهو مبتدأ خبره ما بعده، وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره أي: الأمر ذلك، وهذا هو ما يعتمد عليه بعض القراء في مثل هذا الموضع بأنه يجيز الوقف هنا، فلو وقفت هنا بعد كلمة (ذلك) يكون المعنى: الأمر ذلك، ويكون إعرابها: خبر لمبتدأ محذوف، فكأن المعنى قد تم؛ ولذلك جاز الوقوف، وإن وقف عند قوله (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا) أي: الأمر ذلك بسبب أن الذين كفروا اتبعوا الباطل، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم. قوله: (( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ )) الضمير في (أمثالهم) يرجع إلى كلا الفريقين: الذين كفروا، والذين آمنوا. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ )) أي: ذلك المذكور من إضلال أعمال الكفار، أي: إبطالها واضمحلالها، وبقاء ثواب أعمال المؤمنين، وتكفير سيئاتهم، وإصلاح حالهم كله واقع بسبب أن الكفار اتبعوا الباطل، ومن اتبع الباطل فعمله باطل، والزائل المضمحل تسميه العرب باطلاً، وضده الحق، وقد سبق هذا مراراً في أثناء تفسير القرآن الكريم الحق الثابت الدائم الباقي، فالباطل معناه: الزائل المضمحل، فقال الله عز وجل هنا: (( ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ )) أي: الزائل ومضمحل، (( وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ))، وبسبب أن الذين آمنوا اتبعوا الحق، ومتبع الحق أعماله حق، فهي ثابتة باقية وليست زائلة مضمحلة، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن اختلاف الأعمال يستلزم اختلاف الثواب لا يتوهم استواءهما إلا الكافر الجاهل، أي: لا يتوهم استواء المؤمن مع الكافر أو استواء أعمال المؤمن مع أعمال الكافر إلا كافر جاهل، وينبغي أن يستنكر عليه تسويته بين المؤمنين والكافرين، وهذا ما وضحه قوله تبارك وتعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36]، فهذا معناه أنه يستوجب الإنكار عليهم؛ لأن هذا هو الذي فعله الله بهم، ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ)) الذين اتبعوا الحق من ربهم ((كَالْمُجْرِمِينَ)) الذين اتبعوا الباطل؟! لا يستويان، قال تعالى: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:36]. وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28]، وقال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]. قوله تعالى: (( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ )) سبق بيان معناه، وضرب الأمثال يراد منه بيان الشيء بذكر نظيره الذي هو مثل له.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |