البدعة - إحساس الميت بالزائرين


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] .

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

أما بعد:

فتقدم معنا أن من صفات الرجال الأكياس أنهم يخافون رب الناس، وهم يتصفون بهذه الصفة الجليلة الكريمة مع كونهم لله يتقون، وإلى عباده يحسنون، وتقدم معنا -إخوتي الكرام- أن هذه الصفة فيهم -أعني: صفة الخوف من ربهم جل وعلا- لها أسباب كثيرة في نفوسهم يمكن أن تجمع في ثلاثة أسباب:

أولها: إجلال الله وتعظيمه.

ثانيها: خوفهم من التفريط في حق ربهم جل وعلا فيما أمروا أو نهوا عنه.

وثالث الأسباب التي تدفعهم للخوف من ربهم جل وعلا: الخوف من سوء الخاتمة.

وتقدم معنا -إخوتي الكرام- أن لسوء الخاتمة سببين:

أولهما: الأمن على الإيمان من الاستلاب، فما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه إلا سلبه وذهب منه.

ثانيهما: اغترار المرء بالحالة الحاضرة وعجبه بما يصدر منه من طاعات قاصرة ناقصة، وغفلته عما فيه من آفات مهلكات وأبرز ذلك ثلاث بليات كما تقدم معنا:

أولها: النفاق، وقد مضى الكلام عليه وعلى ما قبله.

وثانيها: البدعة.

وثالثها: الركون إلى الدنيا.

أما البدعة فسنتدارسها ضمن ثلاثة مباحث:

أولها: في بيان حد البدعة ورسمها وحقيقتها.

وثانيها: في النصوص المحذرة منها.

وثالثها: في بيان أقسام البدعة ووجه كون البدعة سبباً لسوء الخاتمة.

إخوتي الكرام! لا زلنا في المبحث الأول: في بيان رسم البدعة وحدها وضبطها، وقلت: إنها باختصار: حدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مع عدم دلالة نصوص الشرع الحسان على ذلك الفعل المحدث، وأن يزعم الإنسان بما أحدثه أنه يتقرب به إلى الرحمن، هذا هو حد البدعة وهذا رسمها وهذا تعريفها.

إخوتي الكرام! قد ضل في حقيقة البدعة صنفان من الأنام:

صنف غلوا ووسعوا مفهوم البدعة ودائرتها فبدعوا عباد الله الصالحين، وحكموا بالبدعة على ما شهد عليه الدليل القويم، وقال به إمام من أئمة المسلمين.

وقابلهم صنف آخر قصروا وفرطوا فقالوا: لا بدعة ولا ابتداع في الدين: وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

وما من أمر شرعه الله لعباده إلا وللشيطان نحوه نزعتان: نزعة غلو، ونزعة تقصير، لا يبالي الشيطان بأي النزعتين وقع الإنسان.

وكنا -إخوتي الكرام- نناقش الفرقة الأولى التي غلت في مفهوم البدعة ووسعتها فحكمت بالبدعة على ما شهد له الدليل وقال به إمام جليل، بل حكمت بالبدعة -كما تقدم معنا- على ما ورد فيه نص صريح عن نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه، واستعرضت بعض النماذج مما احتمله الدليل وورد به، وحكم به بعض المتطرفين المتشددين الغالين في هذا الحين بأنه بدعة وابتداع في الدين، ومثلت بذلك: بوضع اليمين على الشمال بعد الرفع من الركوع، كما مثلت على ذلك: بصلاة التراويح، وأنها عشرون ركعة ويوتر الإنسان بثلاث، ثم انتقلت إلى الأمر الثالث: ألا وهو قراءة القرآن على الأموات عند القبور، وقلت: إن هذه المسألة لها ثلاثة ذيول:

أولها: تلقين الميت.

ثانيها: تقرير سماع الأموات لما يجري عندهم ورؤيتهم لما يقع حولهم.

وثالثها: إهداء الطاعات والقربات إليهم.

قد مر معنا ما يتعلق بقراءة القرآن عند المقابر، كما مر معنا تلقين الموتى، وفي هذه الموعظة سنتدارس الأمر الثالث -وهو الذيل الثاني للمسألة- ألا وهو: سماع الأموات لما يجري ويقع عندهم وحولهم، وعلمهم بما يقع في ساحتهم، ورؤيتهم لمن يزورهم، واستبشارهم بذلك.

هذه المسألة -كما سيأتينا إخوتي الكرام- وردت بها نصوص صريحة صحيحة، ومع ذلك ترى في هذا الحين من يرفع صوته بلا حياء من رب العالمين، ولا توقير لأئمة المسلمين، فيرمي بالابتداع والبدعة من قال: إن الأموات يسمعون، وإن الأموات يعلمون بحال الزائرين، ويستبشرون بهم ويستأنسون، وهذا أمر غيبي لا دخل فيه لأي عقل بشري، والإنسان إذا أراد أن يتكلم في هذه القضية فإن كان مهتدياً ينبغي أن يحتكم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قرر نبينا عليه الصلاة والسلام سماع الأموات، وعلمهم بمن يزورهم، وفرحهم واستبشارهم بالزائرين في أحاديثه الكثيرة الصحيحة الوفيرة، يمكن أن تجمع تلك الأحاديث إلى ثلاثة أنواع: وفيها ثلاث دلالات انتبهوا لها -إخوتي الكرام- لنكون على بينة من أمرنا، ولنعرف بعد ذلك من المخرف الذي يخرج عن نصوص النبي عليه الصلاة والسلام، ويبدع أئمة الإسلام ومن الذي يلتزم بهذه النصوص ويحتكم إليها.

أما الدلالة الأولى: فقد صرح نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الأموات يسمعون، وأخبرنا أن سماعهم أعظم وأدق من سماع الأحياء، ووردت بذلك النصوص الصحيحة عن خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه.

مخاطبة رسول الله لموتى بدر من المشركين

ورد في مسند الإمام أحمد ، والصحيحين، وسنن النسائي من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، والحديث رواه البخاري من رواية أنس عن أبي طلحة ، ورواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه والنسائي في سننه من رواية أنس عن عمر بن الخطاب ، ورواه الشيخان في صحيحيهما من رواية عبد الله بن عمر ، ورواه الإمام أحمد في المسند بسند رجاله ثقات عن أمنا الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله أمنا عائشة على نبينا وعليها وعلى سائر آل نبينا وصحبه صلوات الله وسلامه، ولفظ الحديث من رواية هؤلاء الصحابة الخمسة الكرام أنس وأبي طلحة وعمر وعبد الله بن عمر وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انتهى من موقعة بدر أقام ثلاثاً ) وكانت هذه عادته عليه صلوات الله وسلامه إذا انتصر على قوم لا يبرح من ذلك المكان مدة ثلاثة أيام؛ لئلا يقال: ضرب وهرب، كما يفعل بعض الناس في هذه الأيام، فليست هذه الشجاعة عند أهل الإيمان، الشجاعة: أن تضرب وأن تثبت وأن تتحدى أهل الأرض بعد ذلك؛ لأنك واثق بالله، وأن الله سينصرك.

وكان نبينا عليه الصلاة والسلام هذه عادته في غزواته إذا مكنه الله ونصره يقيم ثلاثة أيام، فإذا كان بإمكان الخصم أن يعيد الكرة فنحن على استعداد، (أقام ثلاثة أيام -فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه- ثم ركب ناقته وتوجه إلى القتلى فوقف عليهم) وقد قتل سبعون من المشركين في أول موقعة حكم الله بها وفيها بين الموحدين والكافرين، (فوقف عليهم وهو على ناقته المباركة على نبينا صلوات الله وسلامه فقال: يا أبا جهل بن هشام ! يا أمية بن خلف ! يا عتبة بن ربيعة ! يا شيبة بن ربيعة ! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله! تخاطب أقواماً قد جيفوا؟ أنى يجيبون وكيف يسمعون؟) أي: تخاطب أقواماً قد جيفوا بعد ثلاثة أيام وهم على رمال حارة وفوقهم شمس محرقة، ( تخاطب أقواماً قد جيفوا أنى يسمعون وكيف يجيبون؟ ) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يجيبون)، أي: إنهم يسمعون سماعاً أدق من سماعكم، ويروني الآن رؤية أوضح من رؤيتكم، لكن حيل بينهم وبين الكلام الذي يسمعه الأحياء مثلكم، (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يجيبون ). والحديث -كما قلت-: في الصحيحين وغيرهما من رواية خمسة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا حديث صحيح صريح في أن الأموات يسمعون سماعاً يزيد على سماع الأحياء، كما قرر ذلك شيخنا المبارك في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ووسع الكلام في هذه المسألة إلى قرابة خمس وعشرين صفحة في الجزء السادس، فقال: هذا نص صريح صحيح في أن الأموات يسمعون، ولا معارض له، فالقول بموجبه متعين، وهذا الذي قرره شيخ الإسلام الإمام ابن القيم وشيخه الإمام ابن تيمية ، وهو المقرر عند علماء الشريعة الإسلامية، ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ).

إذاً: هذا صريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بأنهم يسمعون ويعلمون ما يجري حولهم.

سماع الميت قرع نعال أصحابه

والحديث الثاني -الذي يقرر هذه الدلالة: تصريح نبينا عليه الصلاة والسلام بسماع الأموات وعلمهم بما يجري حولهم- هو ما رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند، وأخرجه الشيخان في الصحيحين، والإمام النسائي وأبو داود في السنن من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن من رواية البراء بن عازب ، وإسناده صحيح كالشمس.

ورواه الإمام أحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه، والبزار في مسنده، والطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي هريرة ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، والحديث -كما قلت- من أصح الأحاديث، فهو في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس والبراء بن عازب وأبي هريرة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا وضع الميت في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم ).

وفي رواية المسند وأبي داود من رواية البراء بن عازب : ( إنه ليسمع خفق نعالهم ).

وقد بوب الإمام البخاري على هذا في كتاب الجنائز فقال: باب الميت يسمع خفق النعال. ثم قال: ( فإذا تولى عنه أصحابه أتاه ملكان: منكر ونكير، فيقعدانه، ويقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ -يعني محمداً على نبينا صلوات الله وسلامه- فأما المؤمن فيقول: هو عبد الله ورسوله آمنا به وصدقناه، فيقولان له: هذا مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما معاً، وأما الكافر أو المنافق فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ يقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقولان له: لا دريت، ثم يضربانه بمطرقة معهما بين أذنيه فيصيح صيحةً يسمعه كل شيء إلا الثقلين ).

سبحان ذي العزة والجلال! إذا سمع الميت قرع النعال وخفق النعال ألا يسمع سماع الزائرين؟ ألا يعلم بحالهم ويستبشر بهم عندما يزورونه؟ بلى، ثم بلى.

ورضي الله عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عندما نقل عن عم أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أثراً، واستغرب منه الحاضرون، فعلق عليه بما ستسمعون، والأثر رواه الإمام أحمد في الزهد وعبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق أيضاً، والأثر مروي في سنن سعيد بن منصور ومصنف ابن أبي شيبة ، ورواه أبو الشيخ أيضاً، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره والبيهقي في شعب الإيمان، والطبراني في معجمه الكبير عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو من أئمة التابعين، توفي قبل سنة عشرين ومائة للهجرة، وحديثه في صحيح مسلم والسنن الأربع، فهو إمام ثقة عدل رضا، عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود نقل عن عم أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين أنه قال: إن الجبل لينادي الجبل كل يوم باسمه فيقول له: هل مر بك أحد ذكر الله؟ فإن قال الجبل: نعم، يقول: استبشر وفرح وتطاول بأنه مر عليه أحد ذكر الله عز وجل، نعم وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44] ، فقيل لـعون بن عبد الله بن عتبة : كيف هذا؟ قال: سبحان الله! أيسمعن الزور ولا يسمعن الخير؟ يعني: هذه الجبال والجمادات الأرض والأشجار تسمع الزور ولا تسمع الخير؟ قالوا: وكيف ذاك؟ قال: أما قرأتم قول الله جل وعلا: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:88-95].

فالسماوات تتشقق من هول هذه الكلمة عندما سمعتها، والأرض تتفطر، والجبال تدك وتسوى بالأرض من هول هذه الكلمة أنه لله صاحبة وولداً، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وأنا أقول: هل يسمع الأموات قرع النعال، وخفق الأحذية، ولا يسمعون كلام الزائر: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)؟ ولا يسمعون دعاء الزائر، ولا يرونه، ولا يستبشرون به؟ تعالى الله عما تتوهمون وتقولون علواً كبيراً.

هذه الدلالة الأولى -إخوتي الكرام- وكما قلت: نص صريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الأموات يسمعون سماعاً يزيد على سماع الأحياء.

نعم، إنك لو دخلت على ساحة كبيرة واجتماع كبير وسلمت عليهم فلن يسمع سلامك إلا من كان بجوارك أو في المقدمة، أما الأموات فإذا دخلت باب المقبرة ووصلت إلى أول قبر -مهما امتدت المقابر- وقلت: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين) فلا يوجد ميت في تلك البقعة إلا ويسمع صوتك ويجيبك، ويستبشر بك، ويفرح -كما سيأتينا- ووالله لو كانوا من الأحياء لما سمعوا صوتك.

إذاً: السلطان للروح في عالم البرزخ، وليست مقيدة بكثافة الجسم وقيود الجسم، فتشعر بك، وتسمع سلامك، ولو كانت هذه الروح في بدنها الحي بها لما سمعت سلامك عن بعد، ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم )، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

ورد في مسند الإمام أحمد ، والصحيحين، وسنن النسائي من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، والحديث رواه البخاري من رواية أنس عن أبي طلحة ، ورواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه والنسائي في سننه من رواية أنس عن عمر بن الخطاب ، ورواه الشيخان في صحيحيهما من رواية عبد الله بن عمر ، ورواه الإمام أحمد في المسند بسند رجاله ثقات عن أمنا الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله أمنا عائشة على نبينا وعليها وعلى سائر آل نبينا وصحبه صلوات الله وسلامه، ولفظ الحديث من رواية هؤلاء الصحابة الخمسة الكرام أنس وأبي طلحة وعمر وعبد الله بن عمر وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انتهى من موقعة بدر أقام ثلاثاً ) وكانت هذه عادته عليه صلوات الله وسلامه إذا انتصر على قوم لا يبرح من ذلك المكان مدة ثلاثة أيام؛ لئلا يقال: ضرب وهرب، كما يفعل بعض الناس في هذه الأيام، فليست هذه الشجاعة عند أهل الإيمان، الشجاعة: أن تضرب وأن تثبت وأن تتحدى أهل الأرض بعد ذلك؛ لأنك واثق بالله، وأن الله سينصرك.

وكان نبينا عليه الصلاة والسلام هذه عادته في غزواته إذا مكنه الله ونصره يقيم ثلاثة أيام، فإذا كان بإمكان الخصم أن يعيد الكرة فنحن على استعداد، (أقام ثلاثة أيام -فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه- ثم ركب ناقته وتوجه إلى القتلى فوقف عليهم) وقد قتل سبعون من المشركين في أول موقعة حكم الله بها وفيها بين الموحدين والكافرين، (فوقف عليهم وهو على ناقته المباركة على نبينا صلوات الله وسلامه فقال: يا أبا جهل بن هشام ! يا أمية بن خلف ! يا عتبة بن ربيعة ! يا شيبة بن ربيعة ! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله! تخاطب أقواماً قد جيفوا؟ أنى يجيبون وكيف يسمعون؟) أي: تخاطب أقواماً قد جيفوا بعد ثلاثة أيام وهم على رمال حارة وفوقهم شمس محرقة، ( تخاطب أقواماً قد جيفوا أنى يسمعون وكيف يجيبون؟ ) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يجيبون)، أي: إنهم يسمعون سماعاً أدق من سماعكم، ويروني الآن رؤية أوضح من رؤيتكم، لكن حيل بينهم وبين الكلام الذي يسمعه الأحياء مثلكم، (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يجيبون ). والحديث -كما قلت-: في الصحيحين وغيرهما من رواية خمسة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا حديث صحيح صريح في أن الأموات يسمعون سماعاً يزيد على سماع الأحياء، كما قرر ذلك شيخنا المبارك في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ووسع الكلام في هذه المسألة إلى قرابة خمس وعشرين صفحة في الجزء السادس، فقال: هذا نص صريح صحيح في أن الأموات يسمعون، ولا معارض له، فالقول بموجبه متعين، وهذا الذي قرره شيخ الإسلام الإمام ابن القيم وشيخه الإمام ابن تيمية ، وهو المقرر عند علماء الشريعة الإسلامية، ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ).

إذاً: هذا صريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بأنهم يسمعون ويعلمون ما يجري حولهم.

والحديث الثاني -الذي يقرر هذه الدلالة: تصريح نبينا عليه الصلاة والسلام بسماع الأموات وعلمهم بما يجري حولهم- هو ما رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند، وأخرجه الشيخان في الصحيحين، والإمام النسائي وأبو داود في السنن من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن من رواية البراء بن عازب ، وإسناده صحيح كالشمس.

ورواه الإمام أحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه، والبزار في مسنده، والطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي هريرة ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، والحديث -كما قلت- من أصح الأحاديث، فهو في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس والبراء بن عازب وأبي هريرة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا وضع الميت في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم ).

وفي رواية المسند وأبي داود من رواية البراء بن عازب : ( إنه ليسمع خفق نعالهم ).

وقد بوب الإمام البخاري على هذا في كتاب الجنائز فقال: باب الميت يسمع خفق النعال. ثم قال: ( فإذا تولى عنه أصحابه أتاه ملكان: منكر ونكير، فيقعدانه، ويقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ -يعني محمداً على نبينا صلوات الله وسلامه- فأما المؤمن فيقول: هو عبد الله ورسوله آمنا به وصدقناه، فيقولان له: هذا مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما معاً، وأما الكافر أو المنافق فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ يقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقولان له: لا دريت، ثم يضربانه بمطرقة معهما بين أذنيه فيصيح صيحةً يسمعه كل شيء إلا الثقلين ).

سبحان ذي العزة والجلال! إذا سمع الميت قرع النعال وخفق النعال ألا يسمع سماع الزائرين؟ ألا يعلم بحالهم ويستبشر بهم عندما يزورونه؟ بلى، ثم بلى.

ورضي الله عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عندما نقل عن عم أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أثراً، واستغرب منه الحاضرون، فعلق عليه بما ستسمعون، والأثر رواه الإمام أحمد في الزهد وعبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق أيضاً، والأثر مروي في سنن سعيد بن منصور ومصنف ابن أبي شيبة ، ورواه أبو الشيخ أيضاً، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره والبيهقي في شعب الإيمان، والطبراني في معجمه الكبير عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو من أئمة التابعين، توفي قبل سنة عشرين ومائة للهجرة، وحديثه في صحيح مسلم والسنن الأربع، فهو إمام ثقة عدل رضا، عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود نقل عن عم أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين أنه قال: إن الجبل لينادي الجبل كل يوم باسمه فيقول له: هل مر بك أحد ذكر الله؟ فإن قال الجبل: نعم، يقول: استبشر وفرح وتطاول بأنه مر عليه أحد ذكر الله عز وجل، نعم وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44] ، فقيل لـعون بن عبد الله بن عتبة : كيف هذا؟ قال: سبحان الله! أيسمعن الزور ولا يسمعن الخير؟ يعني: هذه الجبال والجمادات الأرض والأشجار تسمع الزور ولا تسمع الخير؟ قالوا: وكيف ذاك؟ قال: أما قرأتم قول الله جل وعلا: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:88-95].

فالسماوات تتشقق من هول هذه الكلمة عندما سمعتها، والأرض تتفطر، والجبال تدك وتسوى بالأرض من هول هذه الكلمة أنه لله صاحبة وولداً، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وأنا أقول: هل يسمع الأموات قرع النعال، وخفق الأحذية، ولا يسمعون كلام الزائر: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)؟ ولا يسمعون دعاء الزائر، ولا يرونه، ولا يستبشرون به؟ تعالى الله عما تتوهمون وتقولون علواً كبيراً.

هذه الدلالة الأولى -إخوتي الكرام- وكما قلت: نص صريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الأموات يسمعون سماعاً يزيد على سماع الأحياء.

نعم، إنك لو دخلت على ساحة كبيرة واجتماع كبير وسلمت عليهم فلن يسمع سلامك إلا من كان بجوارك أو في المقدمة، أما الأموات فإذا دخلت باب المقبرة ووصلت إلى أول قبر -مهما امتدت المقابر- وقلت: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين) فلا يوجد ميت في تلك البقعة إلا ويسمع صوتك ويجيبك، ويستبشر بك، ويفرح -كما سيأتينا- ووالله لو كانوا من الأحياء لما سمعوا صوتك.

إذاً: السلطان للروح في عالم البرزخ، وليست مقيدة بكثافة الجسم وقيود الجسم، فتشعر بك، وتسمع سلامك، ولو كانت هذه الروح في بدنها الحي بها لما سمعت سلامك عن بعد، ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم )، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

والدلالة الثانية: شرع لنا نبينا صلى الله عليه وسلم زيارة القبور، والزائر يقال له: زائر، والميت يقال له: مزور، وقد رخص لنا نبينا عليه الصلاة والسلام في زيارة الأموات، وندبنا إلى ذلك، وحثنا عليه؛ لما في الزيارة من فوائد وخيرات، فالإنسان يعتبر بالمصير الذي سيصير إليه، ثم يدعو لإخوانه، وهذان أبرز مقصود في زيارة الحي للميت، أن يعتبر ويدعو.

وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ، والحديث رواه أبو داود والنسائي ، وهو صحيح، فهو في صحيح مسلم من رواية بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة ). والحديث روي في المسند والمستدرك وسنن البيهقي من رواية أبي سعيد الخدري .

ورواه الإمام أحمد أيضاً في المسند، والحاكم في المستدرك من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر بالآخرة، ولا تقولوا هجراً ) أي: كلاماً قبيحاً، فلا داعي لنياحة، ولا لاستغاثة بميت، ولا لطلب الحاجات منه، إنما تزور لتعتبر بما ستئول إليه، ثم تدعو لهذا العبد الذي انقطع عمله بما ينفعه في موته كما أذن لنا ربنا وأمرنا به.

إذاً الزائر زائر، والميت مزور، قال شيخ الإسلام الإمام ابن القيم في كتابه الروح، في صفحة خمس إلى صفحة ثمان: وهذا اللفظ -أعني: الزيارة، والزائر زائر، والميت مزور- لا يقال إلا إذا علم المزور بزيارة الحي، وسمع كلامه، وشعر به، واستأنس به، ولا يصح غير هذا البتة في جميع لغات الأمم.

فلا يسمى الإنسان زائراً لمن يزوره إلا إذا علم به المزور وشعر به، وسمع سلامه، أما أنك تزور أمواتاً ويقال: أنت زائر وهو مزور فهذا لا يصح، فلفظ الزيارة عندما أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بزيارة القبور يدل على أن المزور يعلم بحال الزائر، ويسمعه ويستبشر به، ويفرح بزيارته، وهذا الأمر الذي استنبطه أئمتنا وردت فيه نصوص صحيحة صريحة كالشمس، لا يخالف فيها إلا من كان مبتدعاً.

رد الميت على سلام الزائرين

روى الإمام ابن عبد البر في كتابيه: الاستيعاب والتمهيد، والحديث صححه شيخ الإسلام أبو محمد عبد الحق الإشبيلي ، وهو صاحب كتاب: العاقبة في التذكرة بأمور الموت وأمور الآخرة، وهو صاحب كتاب الجمع بين الصحيحين، وله كتاب في الأحكام: كبرى ووسطى وصغرى، وقد توفي سنة واحدة وثمانين وخمسمائة للهجرة، وهو من أئمة الإسلام الربانيين أبو محمد عبد الحق الإشبيلي الأندلسي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ونقل التصحيح عنه أئمة الإسلام وأقروه، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الرابع والعشرين صفحة واحدة وثلاثين وثلاثمائة، ومنهم الإمام ابن القيم في أول كتابه الروح، ومنهم الإمام السيوطي في كتاب: شرح الصدور في أحوال الموتى وزيارة القبور، ومنهم الإمام القرطبي في كتاب: التذكرة في أمور الآخرة، وغيرهم.

إذاً: فالحديث صحيح، ولفظه من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من أحد يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ).

قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه الروح: وهذا نص صريح في أن الميت يسمع ويعرف من زاره، بل ويرد عليه السلام.

إخوتي الكرام! إن الميت انتقل من دار إلى دار، والدار التي انتقل إليها -دار البرزخ- هي أدق من دار الدنيا بكثير، وموازينها أضبط بكثير، ولذلك يعرف من زاره ويرد عليه السلام، أما كوننا لا نعي ما في تلك الدار فلعدم موافقة موازيننا لتلك الموازين، أما هو فإنه يعلم ما يجري في البرزخ، وما يجري في الحياة الدنيا، ونحن نعلم ما يجري في الحياة الدنيا ولا نعلم ما يجري في البرزخ، فعلمه أدق من علمنا بكثير، فهو يعرفك ويرد عليك السلام.

وثبت في كتاب دلائل النبوة للإمام البيهقي ، والأثر رواه الإمام الحاكم في المستدرك بسند صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قبر مصعب بن عمير بعد موقعة أحد رضي الله عنهم أجمعين فبكى نبينا عليه صلوات الله وسلامه، ثم قال: أشهد أنكم أحياء عند الله عز وجل، ألا فزوروهم، وسلموا عليهم، والذي نفسي بيده لا يزورهم أحد ويسلم عليهم إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة )، وهذا ليس خاصاً في ذلك الوقت بعد قتلهم وانتهاء موقعة أحد، إنما هذا الحكم ثابت إلى يوم القيامة.

أثر في سماع الأحياء الموتى وهم يردون السلام عليهم

روى الإمام الحاكم في المستدرك بإسناد مدني صحيح -كما قال هو ذلك رضي الله عنه وأرضاه- عن عطاف بن خالد ، وهو من العلماء الصالحين صدوق كما نعت بذلك في التقريب، وقد أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، والإمام أبو داود في كتاب القدر، وهو من رجال الترمذي والنسائي في السنن، ينقل عطاف بن خالد عن خالته أنها ( زارت قبور الشهداء -شهداء أحد- فسلمت عليهم فسمعت جواباً لها ورداً لسلامها من قبورهم، يقولون لها: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، تقول: فأخذتني قشعريرة، فقالوا لي -أي: الأموات وهم في قبورهم-: إننا نعرفكم كما يعرف بعضنا بعضاً )، هذا حال الموتى فأنت زائر، والميت مزور.

وقد شرع لنا نبينا عليه الصلاة والسلام زيارة القبور، فهل شرع لنا زيارة جماد لا يعي ولا يفقه ولا يشعر ما يدور حوله؟ لا والله.

ولما رسخ هذا الفهم في أذهان الناس تركوا زيارة المقابر، وانقطعت الخيرات من الأحياء نحو الأموات، ولو علموا أن الأموات يستأنسون بهم عندما يزورونهم لما خلت المقابر من زائر يزورهم ويدعو لهم ليستأنسوا بهم، ويفرحوا بهم عند زيارتهم، ولعل كثيراً من الناس لا يذهبون إلى المقابر إلا إذا مات لهم قريب أو حبيب، وما عدا هذا ليس بينه وبين المقابر صلة، ثم إذا دفن والده أو ولده فكأنه انقطعت صلته به، يا عبد الله! أما تزوره لو كان حياً؟ والله إن زيارته آكد عليك إذا صار ميتاً، لكن هذه المفاهيم الضالة التي وجدت في الأمة -من أن الميت لا يسمع، ولا يعي، ولا يشعر، ولا يستأنس- نفرت الناس عن زيارتهم للموتى بعد موتهم.

عرض أعمال الأحياء على أقاربهم الموتى

إخوتي الكرام! إن الموتى كما أنهم يشعرون بزيارتك، ويسمعون سلامك ويرونك عند زيارتهم، فإن الأمر أدق من ذلك بكثير، فأعمالك تعرض عليهم أينما كنت وهم في قبورهم؛ لأن السلطان للروح، فإذا عملت خيراً استبشروا وفرحوا، وإذا عملت غير ذلك حزنوا ودعوا لك بالهداية وهم أموات في قبورهم، كما أخبرنا عن ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد ، والحديث في إسناده رجل لم يسم كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء الثاني صفحة واحدة وثلاثين وثلاثمائة، والحديث من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً -المعروض خيراً- فرحوا واستبشروا، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا )، وهذا العرض يكون على الصالحين، وعلى المقربين وأصحاب اليمين، وأما من هم في سجين فنسأل الله أن يكفينا شرهم، وألا يجعلنا منهم، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- الذي هو في المسند عن أنس رضي الله عنه -وفي إسناده رجل لم يسم- رواه ابن أبي الدنيا ، والطبراني في معجمه الكبير والأوسط من رواية أبي أيوب الأنصاري ، ورواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده من رواية جابر بن عبد الله ، والأسانيد الثلاثة لا تخلو من ضعف -كما قرر أئمتنا- لكنها تعتضد ببعضها.

رأي ابن تيمية في مسألة: عرض الأعمال على الأموات

وقد كان أئمة الإسلام عليهم رحمة الله ورضوانه يقررون هذا بناءً على هذه الآثار، فهذا شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في المجلد الرابع والعشرين صفحة واحدة وثلاثين وثلاثمائة، وقد أفاض في هذا الكتاب، وكرر هذا الكلام في عدد من الصفحات، لكن في هذا المكان سئل عليه رحمة الله عن الأحياء إذا زاروا الأموات هل يعلمون بزيارتهم، وهل يعلمون بالميت إذا مات من قرابتهم أو غيره؟

فأجاب رحمه الله ورضي عنه: الحمد الله، نعم، قد جاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم، وعرض أعمال الأحياء على الأموات، كما روى ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري.

وهذا الأثر في كتاب الزهد والرقائق في صفحة خمسين ومائة، وبعد أن نقله الإمام عبد الله بن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري موقوفاً عليه بين أنه روي مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام كما تقدم معنا في رواية ابن أبي الدنيا ومعجم الطبراني الكبير والأوسط.

يقول الإمام ابن تيمية : ( إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها الرحمة من عباد الله، كما يتلقون البشير في الدنيا، فيقبلون عليه، ويسألونه، فيقول بعضهم لبعض: أنظروا أخاكم يستريح، فإنه كان في كرب شديد، قال: فيقبلون عليه ويسألونه: ما فعل فلان؟ وما فعلت فلانة هل تزوجت؟ فإذا سأل عن الرجل قد مات قبله قال لهم: إنه قد هلك، فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم، وبئست المربية، مات قبلك، وما علمنا به، إذاً: ذهب إلى سجين، قال: فيعرض عليهم أعمالهم فإذا رأوا حسناً فرحوا واستبشروا وقالوا: اللهم هذه نعمتك على عبدك فأتمها عليه، وإن رأوا سوءاً قالوا: اللهم راجع بعبدك ) قال ابن صاعد : رواه ابن سلام الطويل عن ثور بن يزيد فرفعه إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.

قال الإمام ابن تيمية : وأما علم الميت بالحي إذا زاره وسلم عليه ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام )، قال ابن المبارك : ثبت ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، وصححه عبد الحق صاحب الأحكام.

وأما ما أخبر الله به من حياة الشهيد ورزقه، وما جاء في الحديث الصحيح من دخول أرواحهم الجنة فذهبت طوائف إلى أن ذلك مختص بهم دون الصديقين وغيرهم، والصحيح الذي عليه الأئمة وجماهير أهل السنة: أن الحياة والرزق ودخول الأرواح الجنة ليس مختصاً بالشهيد كما دلت على ذلك النصوص الثابتة -ويختص الشهيد بالذكر- يعني: هو الذي ينوه به من أجل حكمة سيذكرها هذا الإمام لكون الظان يظن أنه يموت فينكب عن الجهاد أي: يتأخر ويبتعد، فأخبر بذلك ليزول المانع من الإقدام على الجهاد والشهادة، كما نهى عن قتل الأولاد خشية الإملاق؛ لأنه هو الواقع، وإن كان قتلهم لا يجوز مع عدم خشية الإملاق.

وهذا -كما قلت- يقرره شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية وهو المقرر عند أئمتنا علماء الشريعة الإسلامية.

مواقف من الصحابة في إثبات إحساس الموتى وعرض الأعمال عليهم

وقد روى الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد، والأثر رواه ابن أبي الدنيا أيضاً، ورواه الإمام الأصبهاني في الترغيب والترهيب عن أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، قال: إن أعمال الأحياء تعرض على الأموات فيسرون ويساءون، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من أن يخزى خالي عبد الله بن رواحة من أجلي، اللهم إني أعوذ بك من أن يعرض على خالي عبد الله بن رواحة عمل يمقتني من أجله وهو في قبره.

هذا أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، والأثر رواه ابن أبي الدنيا وابن أبي شيبة في مصنفه، والحكيم الترمذي من رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن تفضحني عند عبادة بن الصامت وسعد بن عبادة . أي: عندما تعرض أعمالي عليهما، أعوذ بك أن أفتضح.

إخوتي الكرام! هذا الأمر -أعني: أن الميت المزور يعلم بحال الزائر- مقرر عند أئمتنا كما قلت، وهم يتزاورون فيما بينهم، والآثار في ذلك كثيرة صحيحة وفيرة.

روى الإمام ابن سعد في الطبقات، وأبو نعيم في الحلية أنه التقى صحابيان جليلان مباركان سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم أجمعين فقال أحدهما لصاحبه: إذا مات أحدنا قبل الآخر فليتراء له، قال: ويكون ذلك؟ أي: يقول عبد الله بن سلام لـسلمان : ويكون ذلك؟ قال: نعم، إن روح المؤمن مخلاة تذهب حيث شاءت، وإن روح الكافر في سجين، فلما مات سلمان الفارسي -وكانت وفاته سنة اثنتين وثلاثين للهجرة، وقيل: ثلاث وثلاثين، وقيل: ست وثلاثين، وعبد الله بن سلام توفي سنة ثلاث وأربعين رضوان الله عليهم أجمعين- رآه عبد الله بن سلام بعد موته مشرق الوجه، بهي الصورة يتلألأ النور منه، قال: ما فعل الله بك يا أخي؟! قال: غفر لي ورحمني وأكرمني، قال: بأي شيء توصيني؟ قال: عليك بالتوكل فنعم الشيء التوكل، ونعم الشيء التوكل، ونعم الشيء التوكل.

إذاً: لقد كان هذا مقرراً عند الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

ثبت في المسند وسنن ابن ماجه بسند صحيح كالشمس، عن محمد بن المنكدر -وهو من أئمة التابعين، توفي سنة ثلاثين ومائة للهجرة، وحديثه في الكتب الستة-: ( أنه دخل على جابر بن عبد الله -من أصحاب خير خلق الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه- وهو يموت، فقال: يا جابر ! أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام )، فإذا كان غير هذا فهل يتحمل هذه الأمانة صحابي؟ وهلا أنكر على محمد بن المنكدر وقال له: أنا سأموت ولن أجتمع بالنبي عليه الصلاة والسلام ولا بغيره فكيف تحملني هذه الأمانة، والأثر كما قلت: في المسند وسنن ابن ماجه بسند صحيح.

إذاً: يسن للرجل إذا احتضر وكان صالحاً، وحسن ظنك وعلمت أنه من أهل الخير أن تقول له هذه المقولة: ( أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام )، فإن روحه ستلتقي بروح النبي عليه الصلاة والسلام وبالصحابة الكرام، وبأهل الخير والإحسان.

إخوتي الكرام! إن شعور الميت أدق من شعور الحي وقد كان هذا مقرراً عند سلفنا، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

وثبت في مسند الإمام أحمد ، والأثر في المستدرك، ورواه ابن سعد في الطبقات بسند صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( لما دفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي كنت أضع ثيابي وأقول: ما هو إلا زوجي على نبينا صلوات الله وسلامه، قالت: فلما دفن أبو بكر رضي الله عنه كنت أضع ثيابي وأقول: ما هو إلا زوجي وأبي، فلما دفن عمر رضي الله عنه وأرضاه ما دخلت حجرتي إلا وأنا مشدودة على ثيابي، وما وضعت ثيابي عني حياءً من عمر ).

إذاً: والله إنه يراها كما يراها لو كان حياً في حجرتها، وهذه هي المعاني عند سلفنا، فكانت تستحي منه كما لو كان في الحجرة حياً، فلا تضع ثيابها عنده، هذا هو علم سلفنا، وهذا هو كلام أمنا رضي الله عنها وأرضاها.

ولقد ابتلينا بشرذمة في هذه الأيام إذا قلت لهم: إن الميت يسمع ويعلم من يزوره ويشعر بحاله، ويستأنس به، قالوا: إنك مبتدع وهذه بدعة، فهل كانت أمنا عائشة على بدعة عندما كانت تستحي من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم أجمعين؟ اللهم ألهمنا رشدنا يا أرحم الراحمين.

إخوتي الكرام! هذه دلالة ثانية على أن الأموات يعلمون بحال الزائر، ويسمعونه، ويستبشرون به، وعلمهم بذلك أدق وأضبط وأوسع من علم الحي بكثير.