البدعة - ما يصل للميتين باتفاق المسلمين


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين شرع لنا ديناً قويماً وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] .

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: معشر الإخوة الكرام! تقدم أن الابتداع في الإسلام يؤدي إلى سوء الخاتمة للإنسان -نسأل الله حسن الخاتمة، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه- وهذا الأمر -أعني البدعة- قلنا: سنتدارسه ضمن ثلاثة مباحث:

أولها: في تعريف البدعة.

وثانيها: في النصوص المحذرة من البدعة.

وثالثها: في أقسام البدعة.

ولا زلنا نتدارس المبحث الأول إخوتي الكرام ألا وهو تعريف البدعة، وقلت فيما مضى: إن البدعة هي الحدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، وذلك الحدث لا تشهد له نصوص الشريعة الحسان.

إخوتي الكرام! وهذا التعريف السديد الرشيد الذي قرره أئمتنا الكرام ضل نحوه فرقتان من الأنام:

فرقة غلت وأفرطت في تعريف البدعة، فأدخلت فيها ما ليس منها.

وفرقة قصرت وفرطت في تعريف البدعة فألغت البدعة وابتدعت ما شاءت، وعبدت ربها على حسب هواها، وهي تزعم أنها تعبد مولاها.

أما الفرقة الأولى فتقدم معنا مناقشتها ولا زلنا في التحذير منها، قلت: إنهم أهل غلو وشطط، ودين الله بين الغالي والجافي، وهذا الغلو انحصر في أمرين اثنين:

الأمر الأول: حكموا بالبدعة والتضليل على ما شهد له الدليل، وقال به إمام جليل، بل زادوا على هذا ضلالة ثانية: فحكموا بالبدعية على ما صرحت به النصوص الشرعية، بأنه ما راق لعقولهم الردية، وتذاكرنا أمثلةً كثيرةً حكم عليها بالبدعية من قبل هؤلاء السفهاء المبتدعين، ولا تدخل في تعريف البدعة عند أئمتنا الراسخين، وسأختم الكلام على أمر أيضاً يزعم هؤلاء أنه بدعة وليس ببدعة، إنما هو هدىً ورشاد، وهذا الأمر هو إهداء القربات، إهداء الطاعات، إهداء الخيرات والحسنات، إهداء الأعمال الصالحات إلى الأموات.

إخوتي الكرام! مسألة إهداء القربات والطاعات إلى الأموات لها شقان:

الشق الأول منهما عليه اجتماع واتفاق، ولا يخالف فيه إلا أهل الضلال والبدع والأهواء.

والشق الثاني حصل فيه اختلاف وافتراق بين أئمتنا الأتقياء، لكن الراجح ما قرره جمهور العلماء كما سيأتينا إن شاء الله.

وكلامنا سيكون في الأمور المتفق عليها، وأما الأمور المختلف فيها مثل: هل يصح إهداؤها إلى الأموات بعد موتهم، فسأتكلم عليها لاحقاً إن شاء الله.

إخوتي الكرام! قرر أئمتنا الأتقياء أن أربعة أشياء تصل إلى الأموات بعد موتهم، وينتفعون بها في قبورهم عند ربهم بعد رحيلهم ومفارقتهم للحياة الدنيا، وهذه الأمور الأربعة من خالف في شيء منها فهو ضال مبتدع، وكما قلت: عليها الإجماع والاتفاق.

أولها: ما تسبب الإنسان في عمله ووجوده بعد موته.

وثانيها: دعاء المؤمنين واستغفارهم للأموات بعد موتهم.

وثالثها: الحج والعمرة عن الأموات.

ورابعها: قضاء الديون عنهم، والتصدق عنهم.

فهذه الأمور الأربعة تصل إلى الأموات وينتفعون بها بعد موتهم باتفاق علمائنا الكرام.

وسأذكرها مفصلةً مقررةً بأدلتها الثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

أما الأمر الأول منها: ما تسبب الإنسان في وجوده وفعله وبقائه بعد موته، فيكتب له أجره ما دام ذلك العمل قائماً يعمل به بعد موته، ولو استمر ذلك العمل إلى يوم القيامة، فالأجور تكتب للإنسان ما دام ذلك العمل مستمراً باقياً، وقد قرر الله هذا في كتابه فقال جل وعلا: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، أي: نكتب ما قدموه من أعمال صالحة أو طالحة، من أعمال حسنة أو سيئة، ونكتب (آثارهم) أي: ما خلفوه من أعمال بعد موتهم يعمل بها بعد انقضاء حياتهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وهذا أحد القولين في تفسير الآية وهو أظهرهما وأوجههما.

والقول الثاني: يدخل في التفسير الأول في ما قدمه الإنسان في حياته ألا وهو: وَآثَارَهُمْ [يس:12] قالوا: هو الأثر والخطا، أي: الذهاب إلى بيوت الله وإلى المساجد في الأرض، فالله يكتب لهم هذه الخطا ويثيبهم عليها، وهذا يدخل فيما قدموه، والآية تدل على القول الثاني وهو الذي قرره أئمتنا المفسرون، ما قدموه من عمل وما خلفوه؛ لأنه يعمل بسببهم، يكتب لهم في الخير وفي الشر، وهذا كقول الله جل وعلا: يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13]، وهذا كقول الله أيضاً: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:5] ، ما قدمته من خير وما أخرته من خير، وما قدمته من شر، وما أخرته من شر.

استمرار الأجر بعد الموت لمن سن سنة حسنة ما دام يُعمل بها

وهذا المعنى الذي دلت عليه الآيات ورد في الأحاديث الكثيرة الصحيحة الصريحة عن خير البريات على نبينا صلوات الله وسلامه، فمن تلك الأحاديث ما ثبت في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة، والحديث رواه الإمام الدارمي في مسنده أيضاً وهو صحيح صحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ). فمن دعا إلى هدى فاهتدى الناس بدعوته، وما دامت هذه الدعوة قائمة وينتفع بها أناس يقرءون كتابه، يسمعون محاضرته، يعملون بنصحه، فإنه يكتب له أجر ذلك ما دام باقياً، والعكس بالعكس، فإذا عمل معصيةً وبقيت هذه المعصية بعد موته والناس يتبعونه فيها من غناء وبلاء وتمثيليات وكفر وغير ذلك، كل هذا يكتب عليه وزره أيضاً، وهذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

وثبت أيضاً في مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة إلا سنن أبي داود ، والحديث رواه الإمام الدارمي أيضاً والبيهقي في السنن الكبرى، والحديث أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيء ).

وصول الأجر إلى الميت بسبب صدقته الجارية أو علمه أو دعاء ولده الصالح

والأحاديث في ذلك كثيرة وفيرة أيضاً، منها ما في المسند والسنن الأربعة إلا سنن ابن ماجه، والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، والبخاري في الأدب المفرد من رواية أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ).

إخوتي الكرام! الأحاديث التي تقرر هذا كثيرة وفيرة منها ما في سنن ابن ماجه أيضاً وصحيح ابن خزيمة ، والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، والحديث إسناده حسن كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، وقد صحح الحديث شيخ الإسلام إمام الأئمة الإمام ابن خزيمة عليهم جميعاً رحمة الله، ولفظ الحديث أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مما يلحق المسلم من حسناته وعمله بعد موته -مما يلحقه مما يكتب له بعد موته- علماً علّمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، ومسجداً بناه، وبيتاً لابن السبيل بناه، ونهراً أجراه، وصدقةً أخرجها من ماله في حال صحته وحياته تلحقه بعد موته ). هذه سبعة أمور من باب التمثيل، أي: ما تسبب الإنسان في فعله من الخيرات والطاعات يكتب له بعد مفارقته هذه الحياة، ولقائه رب الأرض والسماوات.

وهذا الأمر إخوتي الكرام متفق عليه، لا يخالف فيه إلا أهل البدع والأهواء، وهذه الأعمال كلها من سعي الإنسان وقد تسبب فيها، ولا يشكلن عليك أمر الولد، فالولد هنا من أعظم ثمرات كسبك، وهو حصل بسببك، فأنت تنتفع أيضاً بما يصدر منه من طاعة، وبالدعاء الذي يصدر منه لك، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن أعظم كسب للإنسان هو ولده.

ثبت الحديث بذلك في المسند، والحديث في السنن الأربعة أيضاً، ورواه الإمام البخاري في التاريخ الكبير، ورواه الإمام الدارمي في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى، والإمام الطيالسي في مسنده، والإمام البغوي في شرح السنة من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه، فكلوا من كسب أولادكم ).

وفي رواية: ( إن أفضل ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم )، هذا الأمر الأول ينتفع الإنسان به بعد موته ما وجد من خير بعد موته بسببه يكتب له أجره ما دام ذلك الخير باقياً، ولذلك لما وعى أئمتنا الكرام وسلفنا الكرام هذا الأمر، تنافسوا في فعل الخيرات التي تنفعهم بعد الممات، فأوقفوا الوقوف الكثيرة التي نستظل نحن الآن بظلها من مساجد، ووقفاً على المساجد، ومن دور لرعاية المنقطعين، ومن دور لرعاية طلبة العلم، ومن أوقاف سخية كانت تنفق على ذلك من أجل أن يبقى الأجر للإنسان بعد موته، نعم، كانوا يقدرون الله والدار الآخرة، ويقدمون إلى ما بين أيديهم، وحصلوا ثمرة جهدهم.

وهذا المعنى الذي دلت عليه الآيات ورد في الأحاديث الكثيرة الصحيحة الصريحة عن خير البريات على نبينا صلوات الله وسلامه، فمن تلك الأحاديث ما ثبت في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة، والحديث رواه الإمام الدارمي في مسنده أيضاً وهو صحيح صحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ). فمن دعا إلى هدى فاهتدى الناس بدعوته، وما دامت هذه الدعوة قائمة وينتفع بها أناس يقرءون كتابه، يسمعون محاضرته، يعملون بنصحه، فإنه يكتب له أجر ذلك ما دام باقياً، والعكس بالعكس، فإذا عمل معصيةً وبقيت هذه المعصية بعد موته والناس يتبعونه فيها من غناء وبلاء وتمثيليات وكفر وغير ذلك، كل هذا يكتب عليه وزره أيضاً، وهذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

وثبت أيضاً في مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة إلا سنن أبي داود ، والحديث رواه الإمام الدارمي أيضاً والبيهقي في السنن الكبرى، والحديث أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيء ).

والأحاديث في ذلك كثيرة وفيرة أيضاً، منها ما في المسند والسنن الأربعة إلا سنن ابن ماجه، والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، والبخاري في الأدب المفرد من رواية أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ).

إخوتي الكرام! الأحاديث التي تقرر هذا كثيرة وفيرة منها ما في سنن ابن ماجه أيضاً وصحيح ابن خزيمة ، والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، والحديث إسناده حسن كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، وقد صحح الحديث شيخ الإسلام إمام الأئمة الإمام ابن خزيمة عليهم جميعاً رحمة الله، ولفظ الحديث أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مما يلحق المسلم من حسناته وعمله بعد موته -مما يلحقه مما يكتب له بعد موته- علماً علّمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، ومسجداً بناه، وبيتاً لابن السبيل بناه، ونهراً أجراه، وصدقةً أخرجها من ماله في حال صحته وحياته تلحقه بعد موته ). هذه سبعة أمور من باب التمثيل، أي: ما تسبب الإنسان في فعله من الخيرات والطاعات يكتب له بعد مفارقته هذه الحياة، ولقائه رب الأرض والسماوات.

وهذا الأمر إخوتي الكرام متفق عليه، لا يخالف فيه إلا أهل البدع والأهواء، وهذه الأعمال كلها من سعي الإنسان وقد تسبب فيها، ولا يشكلن عليك أمر الولد، فالولد هنا من أعظم ثمرات كسبك، وهو حصل بسببك، فأنت تنتفع أيضاً بما يصدر منه من طاعة، وبالدعاء الذي يصدر منه لك، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن أعظم كسب للإنسان هو ولده.

ثبت الحديث بذلك في المسند، والحديث في السنن الأربعة أيضاً، ورواه الإمام البخاري في التاريخ الكبير، ورواه الإمام الدارمي في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى، والإمام الطيالسي في مسنده، والإمام البغوي في شرح السنة من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه، فكلوا من كسب أولادكم ).

وفي رواية: ( إن أفضل ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم )، هذا الأمر الأول ينتفع الإنسان به بعد موته ما وجد من خير بعد موته بسببه يكتب له أجره ما دام ذلك الخير باقياً، ولذلك لما وعى أئمتنا الكرام وسلفنا الكرام هذا الأمر، تنافسوا في فعل الخيرات التي تنفعهم بعد الممات، فأوقفوا الوقوف الكثيرة التي نستظل نحن الآن بظلها من مساجد، ووقفاً على المساجد، ومن دور لرعاية المنقطعين، ومن دور لرعاية طلبة العلم، ومن أوقاف سخية كانت تنفق على ذلك من أجل أن يبقى الأجر للإنسان بعد موته، نعم، كانوا يقدرون الله والدار الآخرة، ويقدمون إلى ما بين أيديهم، وحصلوا ثمرة جهدهم.

الأمر الثاني الذي ينتفع به الإنسان بعد موته: دعاء المؤمنين واستغفارهم له ينتفع به الإنسان بعد موته باتفاق أئمتنا، وقد قرر الله هذا في كتابه، وذكره نبينا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه.

الله جل وعلا يقول في سورة الحشر بعد أن قسم هذه الأمة إلى ثلاثة أقسام: إلى مهاجرين صادقين، وإلى أنصار مفلحين، وإلى من عداهما ممن يأتي بعدهما، نسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه إنه أرحم الراحمين، جاءوا بعد هذين الصنفين المباركين فتأدبوا بأدب الشرع، وما نسوا معروف من سبقهم في إحسانهم إليهم، فكانت ألسنتهم تلهج بالثناء والدعاء لهم في جميع أوقاتهم، يقول الله جل وعلا بعد ذكر المهاجرين والأنصار: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، وهذا الدعاء نافع قطعاً، والله لا يأمرنا بأن ندعو لمن سبقنا وقد مات إذا كان الدعاء لا ينفع.

ورضي الله عن السيد الجليل الشريف الحصيف الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، عندما جاءه أناس من السفهاء من الغوغاء ووقعوا في السلف الصالح، فقال لهم هذا الإمام التقي النقي المبارك رحمة الله ورضوانه عليه: هل أنتم من أهل هذه الآية: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]؟ أي: من المهاجرين والله عناكم بها؟ قالوا: لا. قال: هل أنتم من أهل هذه الآية: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]؟ فنعت الله المهاجرين بالصدق، ونعت الله الأنصار بالفلاح، صادقون ومفلحون، أنتم من أهل هذه الآية؟ قالوا: لا. قال: أما والله إني أشهد أنكم لستم من أهل هذه الآية، ثم تلا: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].

هذا هو الإمام الباقر الذي هو إمام ثقة عدل رضا من أئمة الخير، وأجمعت الأمة على جلالته وتوثيقه وإمامته وخيره وصلاحه، وقد توفي سنة بضع عشرة بعد المائة قيل: سنة أربع عشرة ومائة، وقيل: سنة سبع عشرة ومائة، والعلم عند الله جل وعلا، وحديثه في الكتب الستة في الصحيحين والسنن الأربعة رحمة الله ورضوانه عليهم وعلى أئمة المسلمين أجمعين.

إذاً: هذا هو الدعاء والاستغفار للأموات: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10].

شفاعة الأحياء الموحدين للأموات بالصلاة عليهم

إخوتي الكرام! إن الدعاء للأموات أعظم من الهدايا للأحياء بكثير، وإذا أهديت لحي هديةً ثمينةً يسر بها فإن الدعاء للميت أعظم من الهدية إلى الحي، وقد شرع الله لنا أن ندعو لإخواننا، فقبل أن نوسد الميت في قبره، وقبل أن نضعه في لحده شرع الله لنا الدعاء والاستغفار له في صلاة الجنازة، وقد شفع الله هذه الأمة بعضهم في بعض، وصلاة الجنازة أول دعاء يقدمه المسلم لهذا الميت، وقد شهد نبينا صلى الله عليه وسلم لهذا الميت بأنه من أهل الخير، وأن ذنوبه تغفر ومن أهل الجنة، إذا صلى عليه المسلمون واستغفروا الله له، فالله سيشفعهم فيه، فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

ثبت في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي والنسائي ، والحديث رواه الإمام البيهقي وأبو داود الطيالسي ، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من ميت يموت من المسلمين فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائةً -إذا بلغوا هذا العدد- كلهم يشفعون له إلا شفعهم الله فيه ).

والحديث أيضاً رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام مسلم في صحيحه، والنسائي في سننه والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أنس بن مالك أيضاً رضي الله عنهم أجمعين، ورواه الإمام ابن ماجه في سننه من رواية أبي هريرة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صلى عليه مائة من المسلمين غفر الله له )، وبمثل رواية ابن ماجه رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وهذا حد أقصى، لكن إذا نزل العدد عن ذلك فرحمة الله واسعة.

أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أيضاً أن من صلى عليه أربعون من المسلمين من أهل التوحيد، لا يشركون بالله المجيد، واستغفروا الله له، وشفعوا له، فالله سيغفر لهذا الميت وسيشفعهم فيه، فهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.

ثبت الحديث بذلك في المسند وصحيح مسلم، والحديث رواه الإمام أبو داود وابن ماجه والبيهقي في السنن الكبرى من رواية كريب مولى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( مات ابن لـعبد الله بن عباس فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين: يا كريب ! اخرج فانظر كم اجتمع له من الناس، فخرج كريب من البيت ونظر إلى الحاضرين الذين جاءوا لتشييع ولد عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، ثم جاء فقال له عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين: يا كريب ! تقول: إنهم أربعون؟ قال: نعم أو يزيدون. قال: أخرجوه، أي: أخرجوا ولدي إلى لحده وقبره، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من ميت يموت فيصلي عليه أربعون من المسلمين لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه )، إذا اكتمل العدد إلى أربعين نرجو لهذا الولد الخير العظيم عند رب العالمين، هذه شفاعة، وهذا دعاء، وهذا استغفار، يحصل من الحي للميت، بل إذا نقص العدد عن ذلك فرحمة الله واسعة بشرط أن يكون عند الناس فقه بكيفية صلاة الجنازة.

فإذا قل العدد عن أربعين، وجعلوا الصفوف ثلاثةً تكمل صفوفهم بملائكة الله الأطهار، ويشفع الله فيه أهل الأرض وأهل السماء، ويرحمه وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

ثبت الحديث بذلك في المسند والسنن الأربع إلا سنن النسائي، والحديث رواه الإمام الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى، من رواية مالك بن هبيرة ، والحديث قد نص شيخ الإسلام الإمام النووي على تحسينه، وتبعه الحافظ ابن حجر في الفتح، وهكذا نص على تحسينه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، وصححه الحاكم وأقره عليه الذهبي ، ولفظ الحديث عن مالك بن هبيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من رجل من المسلمين يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف إلا أوجب ) أي: أوجب الله له الجنة، وأوجب له الله العتق من النار، فكان مالك بن هبيرة رضي الله عنه وأرضاه إذا استقل العدد أي: نقصوا عن أربعين جزأهم ثلاثة صفوف، ثم تقدم بهم فصلى على هذا الميت من المسلمين.

وقد ورد في معجم الطبراني الكبير من رواية أبي أمامة رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ومعه سبعة نفر، فجزأهم ثلاثة صفوف، فجعل ثلاثة صفاً، واثنين صفاً، واثنين صفاً )، بحيث جعلهم ثلاثة صفوف، ثم تقدمهم وصلى بهم على هذه الجنازة التي توفيت من أجل تحصيل هذا الأجر.

إذاً: ( إذا صلى عليه ثلاثة صفوف أوجب )، و( إذا صلى عليه أربعون شفعهم الله فيه )، و( إذا صلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة غفر الله له وشفع الله المصلين فيه )، هذا كله مما ينتفع به الميت بعد موته من دعاء واستغفار إخوانه.

ترتب الأجر على الصلاة والدعاء للجنازة

إخوتي الكرام! وإذا كان الحي يدعو للميت وينتفع الميت بهذا الأمر العظيم بالدعاء والاستغفار فاعلم أيها العبد المسلم أنه لك جائزة كبيرة عند الله عندما تدعو لإخوانك وتستغفر لهم، لا سيما إذا كانوا موتى وقد انقطع عملهم، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الله يعطي عظيم الأجر لمن يدعو للأموات، ولمن يستغفر لهم، ولمن يصلي عليهم، ويشهد جنازتهم ودفنهم.

ثبت في المسند، والحديث في الكتب الستة في الصحيحين والسنن الأربعة، ورواه الإمام الدارمي في مسنده، والإمام البيهقي في السنن الكبرى، ورواه الإمام ابن الجارود في المنتقى، وغير هؤلاء من أئمة الحديث، والحديث مروي في دواوين السنة، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من شهد جنازةً حتى يصلي عليها كتب له عليها قيراط، ومن شهدها حتى تدفن كتب له قيراطان. قالوا: يا رسول الله وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين ) وفي رواية: ( أصغرهما كجبل أحد )، فأنت عندما تدعو أيضاً للأموات وتستغفر لهم يأتيك خير كثير من الله الجليل، وكما قلت: شفع الله هذه الأمة المرحومة المباركة بعضها في بعض، فالأحياء يستغفرون للأموات، والله يغدق عظيم الأجر بعد ذلك على الأموات وعلى الأحياء، وهو واسع الفضل والمغفرة، فالدعاء والاستغفار ينفع الأموات، وهو لهم بمنزلة الهدايا للأحياء.

إخوتي الكرام! نبينا عليه الصلاة والسلام كما أمرنا بالصلاة على الجنازة أمرنا بعد الصلاة أيضاً أن نقف عند القبر، وأن ندعو للميت، وأن نسأل الله له التثبيت، وهذا كله دعاء ينفع ويقبل عند الله عز وجل.

ثبت الحديث بذلك أيضاً في سنن أبي داود ، والحديث رواه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى، ورواه الإمام البزار والبغوي في شرح السنة، وإسناده صحيح من رواية أمير المؤمنين ذي النورين عثمان رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على شفير القبر عليه صلوات الله وسلامه وقال: استغفروا الله لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل ).

وهكذا شرع لنا أن نزور الأموات، وأن ندعو لهم، وهذا دعاء ينتفعون به.

وتقدم معنا حديث المسند وصحيح مسلم وسنن النسائي وغير ذلك من دواوين السنة، عن أمنا الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وعن سائر المسلمين، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( قلت: يا رسول الله! ماذا أقول إذا زرت القبور؟ قال: قولي: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ).




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
البدعة - عبادة الدعاء والابتداع فيه 3790 استماع
البدعة - زيارة النساء للقبور 3658 استماع
البدعة - الاجتهاد وموقعه من التشريع 3160 استماع
البدعة - الابتداع في الذكر 2822 استماع
البدعة - حياة الأنبياء في البرزخ 2778 استماع
البدعة - عبادة الذكر والابتداع فيه 2678 استماع
البدعة - تعريفها وضوابطها 2604 استماع
البدعة - التشريع لله وحده 2463 استماع
البدعة - إهداء القربات البدنية للأموات 2190 استماع
البدعة - تعذيب الميت ببكاء أهله عليه 2111 استماع