البدعة - حياة الأنبياء في البرزخ


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] .

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

معشر الإخوة الكرام! تقدم معنا أن أسباب سوء الخاتمة كثيرة متعددة -نسأل الله تعالى حسن الخاتمة بفضله ورحمته- وقلت: إن هذه الأسباب مع كثرتها وتعددها يمكن أن ترجع إلى سببين اثنين:

أولهما: الأمن على الإيمان من الذهاب والفقدان، فمن أمن على إيمانه أن يسلبه سلبه عند موته.

والسبب الثاني من أسباب سوء الخاتمة: اغترار الإنسان بحالته الحاضرة، والغفلة عما فيه من بليات مهلكة مدمرة، والعجب بما يصدر منه من طاعات ناقصة قاصرة.

والبليات التي في الإنسان وتوجب له سوء الخاتمة عند فراق هذه الدار كثيرة، يمكن أن تجمل في ثلاث بلايا:

البلية الأولى: النفاق.

والبلية الثانية: البدعة.

والبلية الثالثة: الركون إلى الدنيا.

وقد تقدم معنا ما يتعلق بالنفاق وما قبله، وشرعنا إخوتي الكرام في مدارسة ما يتعلق بالبدعة، وقلت: سنتدارسها ضمن ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: في تعريف البدعة.

والمرحلة الثانية: في النصوص المنفرة المحذرة من البدعة.

والمرحلة الثالثة: في أقسام البدعة.

ولا زلنا نتدارس المبحث الأول من هذه المباحث الثلاثة في تعريف البدعة، وقد مضى معنا تعريف البدعة فقلت: إن البدعة هي: الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، إذا لم تشهد لذلك نصوص الشرع الحسان، مع زعم المحدث لما أحدثه بأنه يتقرب به إلى الرحمن، فهذا هو حد البدعة ورسمها، وعند هذا الحد والتعريف والضابط تعرضت لأمر ينبغي أن نعيه دائماً لا سيما في هذا الوقت، ألا وهو انحراف كثير من الناس عن هذا التعريف السديد القويم، ففريق اشتطوا وغلوا فأدخلوا في البدعة ما ليس فيها، وفريق أيضاً قصروا وفرطوا فقالوا: لا بدعة في الدين، فابتدعوا من الشرع ما لم يأذن به رب العالمين.

وكل من الفريقين على ضلال، ودين الله بين الغالي والجافي، ولا إفراط ولا تفريط، وكنا نناقش بعض ما زعمه بعض الناس من أنه بدعة ولا ينطبق عليه مفهوم البدعة وحدها ورسمها، وقلت مراراً: كل ما احتمله الدليل، وقال به إمام جليل فلا يجوز أن نحكم عليه بأنه بدعة في شرع اللطيف الخبير سبحانه وتعالى، وضربت لذلك أمثلة، وقلت: إن أهل الشطط في هذه الأيام وسعوا مفهوم البدعة، فما احتمله الدليل وقال به إمام جليل قالوا: إنه بدعة، بل ما صرح به الدليل، وما راق لعقلهم الهزيل قالوا: إنه بدعة، وضربت لذلك أمثلة إخوتي الكرام فيما مر.

وتقدم معنا ما يتعلق بقراءة القرآن على القبور، وما يتعلق بتلقين الميت، وما يتعلق بالقضية الثالثة، ألا وهي أن الموتى يحسون بما يجري حولهم، ويعلمون ويشعرون بمن يزورهم، ويسمعون ما يقال حولهم وعندهم، وتعرض عليهم أعمال قراباتهم بعدهم، ويتزاورون فيما بينهم، فقد تقدم معنا تقرير هذا بأدلته، وفصلت الأدلة على ذلك، وأجملها في هذه الموعظة مختصرةً؛ فقلت: صرح نبينا عليه الصلاة والسلام بذلك كما تقدمت معنا الأحاديث، وأذن لنا بزيارة القبور، ولا يمكن أن نزور جماداً لا يعي ولا يسمع ولا يشعر ولا يحس، وقد صرح نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الميت يعرف من زاره ويرد عليه سلامه.

والأمر الثالث: قلت: ما شرع لنا من سلام نقوله على الأموات هذا يكون في حال مخاطبة من يعقل ويسمع ويدرك ويشعر، ويتنزه الشرع الحكيم أن نخاطب جماداً بهذه الألفاظ: ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ).

هذه القضية دلت عليها النصوص الشرعية، ووجد في هذا العصر من يقول: إن القول بأن الموتى يسمعون ويشعرون ويحسون ويعلمون بمن زارهم بدعة وتخريف، سبحان ربي العظيم!

إخوتي الكرام! إن المؤمنين بعد موتهم في حياة برزخية، والحياة البرزخية لا يعلم كنهها وكيفيتها إلا رب البرية، فنحن نثبت ما أثبتته النصوص الشرعية، ووردت به الآثار السلفية، ونفوض العلم بالكيفية إلى رب البرية جل وعلا، فينبغي أن نقول بذلك، فهذا من باب الإيمان بالغيب، وإدخال العقل في مسائل الغيب من أشنع العيب؛ لأن هذا تطاول على الرب جل وعلا، فإذا أخبرنا من لا ينطق عن الهوى نبينا فداه أنفسنا وآباءنا وأمهاتنا وعليه صلوات وسلام ربنا إذا أخبرنا بهذه القضية وأن الأموات يسمعون ويشعرون بمن يزورهم ويردون عليه السلام فلا كلام لمتكلم بعد كلام نبينا عليه الصلاة والسلام.

إخوتي الكرام! وهذا الأمر إذا ثبت للمؤمنين فهو ثابت عن طريق الأكمل والحياة الأفضل للنبيين بلا شك، ولنبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه من ذلك قسط عظيم، يتناسب بمقامه عند رب العالمين.

وسنتدارس هنا أمرين اثنين يتعلقان بهذا المبحث:

الأمر الأول: فيما يتعلق بأحوال أنبياء الله ورسله على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه في البرزخ، وفي أن ما ثبت للمؤمنين يثبت لهم عن طريق الأكمل والحياة الأفضل، ثم أختم بدفع إشكال تعلق به أهل الفهم المعكوس، وأكثروا بفهمهم المعكوس من الشغب حول ما ثبت من النصوص.

إخوتي الكرام! أما ما يتعلق بالقضية الأولى، فإذا كان المؤمنون -كما تقدم معنا- يحسون في حياتهم البرزخية، ويشعرون بمن زارهم، ويسمعون الكلام الذي يقال عندهم، وتعرض عليهم أعمال قراباتهم بعدهم، ويتزاورون فيما بينهم فإن هذا ثابت عن طريق الأكمل والأفضل والأتم والأحسن لأنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

سلامة أجساد الأنبياء من التغير في القبور

(وقد خص الله تعالى أنبياءه بخصائص كثيرة في الحياة البرزخية كما خصهم في الحياة الدنيوية).

الخصوصية الأولى: أن أبدانهم الشريفة الطاهرة الطيبة المباركة لا تفنى، ولا يمكن لأرض أن تأكل بدن نبي، على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

وأما من عداهم فالأصل أن تأكل الأرض أبدانهم، وإذا أراد الله أن يكرم ولياً من أوليائه وصالحاً من عباده بعدم تسليط الأرض على بدنه فهو على كل شيء قدير، وأما الأنبياء فالأرض لا تأكل أبدانهم باتفاق، وقد ثبت هذا عمن لا ينطق عن الهوى عن نبينا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه.

ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربع إلا سنن الترمذي ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وإسناده صحيح كالشمس، وصححه شيخ الإسلام الإمام النووي ، وهكذا الإمام المنذري والإمام السيوطي وغيرهم من أئمة المسلمين الجهابذة المحدثين، ولفظ الحديث: عن أوس بن أوس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، وفيه تقوم الساعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا: وكيف تعرض عليك صلاتنا -يا رسول الله- وقد أرمت؟ -أي: بليت وتفتتت عظامك وبلي جسدك الشريف- قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء ).

وقد تقدم معنا ما يتعلق بهذا الحديث من قصة وقعت في القرن السادس للهجرة مع ليث الملوك وتقيهم العبد الصالح نور الدين الشهيد محمود زنكي الذي توفي سنة تسع وستين وخمسمائة للهجرة، تقدم معنا قصة طريفة ضمن مباحث النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه.

خلاصتها: أنه عندما جاء بعض النصارى واستوطنوا المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، وأظهروا الإسلام وهم يبطنون الكفران، ثم بدءوا بعد ذلك يحفرون من مكان قريب من جوار مسجد نبينا الحبيب عليه الصلاة والسلام؛ ليصلوا من تحت الأرض في سرداب إلى بدنه الطاهر المبارك عليه صلوات الله وسلامه، فظهر نبينا عليه صلوات الله وسلامه في الرؤيا لهذا الملك العادل الصالح تقي الملوك وليثهم نور الدين الشهيد وقال له: يا محمود ! أنقذني خلصني من هذين، ويشير إلى رجلين بعلامات عرفها هذا العبد الصالح، وكان أميراً في بلاد الشام، ثم نام وهو فزع لا يعلم المراد، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام ثانيةً وهو يقول له: خلصني من هذين، ثم نام الثالثة وهو فزع ولا يعلم المراد، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول: خلصني من هذين، فجمع الشيوخ في وسط الليل قبل أن يطلع الفجر، وعرض عليهم ما رآه، وقالوا: طرأ طارئ في المدينة المنورة -على منورها صلوات الله وسلامه- فينبغي أن تركب لتتحقق من الخبر، فما طلع الفجر ولا أذن الصبح حتى ركب خيله وسار الجيش معه حتى وصل إلى المدينة المنورة -على منورها صلوات الله وسلامه- وأمر بأن يحضر جميع أهل المدينة للقائه، فلم ير الصفة التي رآها في النوم في الرجلين اللذين يطلب نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الأمير الصالح أن يخلصه منهما، فقال: هل بقي أحد؟ قالوا: رجلان مجاوران فقيران مسكينان، قال: علي بهما، فلما دخلا أشار إلى صاحبه فقبض عليهما، ثم حقق معهما، وقد استأجرا داراً قرب مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، ويحفران من الداخل وينقلان التراب في الليل إلى البقيع، ليصلا إلى جسد نبينا الحبيب الشفيع عليه صلوات الله وسلامه، فضرب رقابهما وكر راجعاً إلى بلاد الشام رحمة الله ورضوانه عليه.

إذاً: إخوتي الكرام! الأرض لا تأكل أبدانهم.

عبادة الأنبياء في حياة البرزخ ودليل ذلك

الخصوصية الثانية:أنهم يصلون في قبورهم، ويعبدون ربهم سبحانه وتعالى؛ لأن أعظم نعيم يتنعم به الإنسان في كل حين ذكر رب العالمين، ولذلك يعطي الله أنبياءه التلذذ بذكره في عالم البرزخ كما يعطي ذلك من شاء وأحب من عباده، وأما من دخل الجنة فيتلذذ بذكر الله بعدد أنفاسه، ( يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس )، فهذه أعظم لذة يتلذذ بها المتلذذون؛ ذكر الحي القيوم، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ، فقرة العين تكون عند مناجاة رب الكونين، فكيف يحرم الله أنبياءه منها؟ عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

وقد ثبت هذا عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

ففي مسند أبي يعلى والبزار ، وقال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع: إسناد الحديث ثقات، والحديث رواه البيهقي في كتاب حياة الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، ورواه ابن عدي وابن عساكر والإمام أبو نعيم في تاريخ أصبهان، ورواه ابن منده ، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ).

نعم، كيف يحرمون من هذه اللذة التي يناجون بها الحي القيوم؟

وفي حديث الإسراء الثابت في مسند أحمد وصحيح مسلم وسنن النسائي ، ورواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه، فهو في صحيح مسلم من رواية أنس بن مالك أيضاً رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه قال: ( مررت ليلة أسري بي بموسى وهو قائم يصلي في قبره ). فأبدانهم لا تأكلها الأرض، وهم أحياء بين يدي الله جل وعلا، يصلون له، ويعبدونه، ويتلذذون بعبادته في عالم البرزخ، كما كانوا يتلذذون بعبادته في عالم الحياة الدنيا.

قيام غير الأنبياء بالعبادة في قبورهم والأمثلة على ذلك

إخوتي الكرام! وهذا الذي يحصل للأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه قد يكرم الله به بعض الأولياء، وبعض الأصفياء؛ إذ هو الفعال لما يشاء، وقد أكرم الله كثيراً من الصالحين في هذه الأمة بهذا، فكانوا يصلون في قبورهم، وتسمع قراءة القرآن من قبورهم إذا مر الإنسان بجوارهم.

ثبت في كتاب الزهد للإمام المبجل أحمد بن حنبل ، والأثر رواه ابن سعد في الطبقات، وابن أبي شيبة في مصنفه، والأثر رواه أبو نعيم في الحلية أيضاً، ورواه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير في تهذيب الآثار، والإمام الفسوي في المعرفة والتاريخ، عن التابعي الجليل تلميذ أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، ألا وهو ثابت البناني من مفاتيح الخير، ومن العلماء الربانيين، وممن يستشفى بذكرهم، وتتنور القلوب بطلعتهم، ثابت بن أسلم البناني ، توفي سنة بضع وعشرين بعد المائة من هجرة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، قيل: سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقيل: سبع وعشرين ومائة، وحديثه في الكتب الستة.

فشيخ الإسلام ثابت بن أسلم البناني قال مرةً لـحميد الطويل : يا حميد ! أتعلم أن الله أعطى أحداً الصلاة في قبره غير الأنبياء والمرسلين؟ قال: ما أعلم، وما بلغني هذا. فقال ثابت بن أسلم : اللهم إني أسألك إن أعطيت أحداً من خلقك الصلاة في قبره أن تعطيني ذلك. وكان يدعو بذلك ويلهج به، فلما قبض رحمة الله ورضوانه عليه ودفن في البصرة ما مر أحد بجوار قبره إلا سمع قراءة القرآن من قبر هذا العبد الصالح شيخ الإسلام ثابت بن أسلم البناني .

وهذا الأمر وقع في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام، وعرض عليه فأقره، فاستمعوا له، فقد ثبت في سنن الترمذي ، والحديث رواه الإمام البيهقي في دلائل النبوة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والأثر اختلف حكم الترمذي عليه حسب اختلاف الطبعات التي بين أيدينا، ففي بعض الطبعات: حسن غريب، وفي بعضها: غريب، وفيه يحيى بن عمرو النكري وهو من رجال الترمذي فقط، وقد حكم عليه الحافظ ابن حجر بأنه ضعيف، ولكن الإمام البيهقي في دلائل النبوة بعد أن رواه وقال: انفرد به يحيى بن عمرو النكري قال: يشهد له أثر عبد الله بن مسعود ، وسأبين ما يشهد له من أثر عبد الله بن مسعود ومن غيره مما هو مرفوع إلى نبينا المحمود على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

ولفظ الحديث في سنن الترمذي ودلائل النبوة للإمام البيهقي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ضرب رجل خباءه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام على قبر، وهو لا يدري أنه قبر، فهو في سفر، فضرب خباءه -أي خيمته- ونزل ليستريح، وإذا هذا الخباء نصب على قبر وهو لا يدري أي قبر من قبور الصحابة الذين كانوا يتوفون في بلاد المسلمين وأمصار المسلمين بين مكة والمدينة.

يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فلما ضرب خباءه ونزل سمع قراءة قرآن من القبر، فأصغى، وإذا بقارئ يقرأ سورة الملك تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]، فحول خباءه، وأصغى واستمع له وهو يقرأ سورة الملك بصوت واضح مفهوم، فلما ذهب إلى المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه عرض هذا الصحابي على نبينا عليه الصلاة والسلام ما حصل له، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (هي المانعة، وهي المنجية، تنجيه من عذاب القبر).

والحديث -كما قلت إخوتي الكرام- فيه يحيى بن عمرو النكري ، لكن القسم المرفوع منه ثبت ما يشهد له مرفوعاً وموقوفاً مما له حكم الرفع في آثار كثيرة صحيحة ثابتة شهيرة، منها ما ثبت في المسند والسنن الأربع، والحديث رواه ابن حبان والحاكم في مستدركه، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، وابن الضريس في فضائل القرآن، ورواه ابن مردويه في تفسيره، وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن سورةً من القرآن ثلاثون آيةً شفعت لرجل حتى غفر الله له، هي سورة الملك )، والحديث صحيح، وثبت أيضاً هذا الحديث مرفوعاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام من رواية أخرى من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه.

فقد روى ذلك الإمام الطبراني في معجمه الأوسط والصغير، وإسناده صحيح كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع، والحديث رواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، ورواه الإمام ابن مردويه في تفسيره، وهو حديث صحيح أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( سورة من القرآن ما هي إلا ثلاثون آيةً خاصمت عن صاحبها حتى أدخله الله الجنة، هي سورة الملك ).

فقول نبينا عليه صلوات الله وسلامه في الرواية المتقدمة: ( هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر )، هذا المعنى صحيح ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وأن سورة الملك لها هذه الخصيصة العظيمة الجليلة بأن من واظب على قراءتها لا سيما كما سيأتينا في كل ليلة، وعمل بموجبها، وفهم معناها تنجيه بفضل الله جل وعلا من عذاب القبر، ويدفع عنه عذاب القبر بسببها.

فهذان حديثان صحيحان مرفوعان إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، يشهدان لرواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما المتقدمة.

وكما قلت: روي الأثر موقوفاً كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام الإمام البيهقي ، فقد روي الأثر موقوفاً عن عبد الله بن مسعود في معجم الطبراني الكبير والأوسط، وسنن النسائي ، وتفسير ابن مردويه ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نسمي سورة الملك على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام بالمانعة، تمنع عذاب القبر، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب، والأثر إسناده صحيح عن عبد الله بن مسعود ، وله حكم الرفع إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

وثبت في معجم الطبراني الكبير ومستدرك الحاكم وشعب الإيمان للإمام البيهقي ، ودلائل النبوة للإمام البيهقي وهو الأثر الذي ذكره بعد أثر عبد الله بن عباس وقال: يشهد له، والأثر رواه ابن مردويه في تفسيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أيضاً قال: يؤتى بالرجل في قبره من قبل رجليه -أي تأتي ملائكة العذاب لتباشر تعذيبه من قبل رجليه- فتأتي سورة الملك فتقول: إليكم عنه، فليس لكم إليه سبيل، فقد كانت هاتان الرجلان تقومان عند قراءة سورة الملك عند قراءته في الليل، ثم تأتي بعد ذلك الملائكة من قبل صدر هذا الإنسان المقبور، فيقال: إليك عنه، فإنه كان يقرأ به -أي بصدره- سورة الملك، فتأتي من قبل رأسه، وهكذا من سائر جوانبه، فيقال: إليك عنه، وليس لك إليه سبيل من هذه الجهة، إنه كان يقرأ سورة الملك. قال عبد الله بن مسعود : هي المانعة تمنع عذاب القبر، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب.

إذاً: هذه كرامة يمكن أن يكرم الله جل وعلا بها غير أنبيائه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فيمكن لكثير من الصالحين أن يصلوا في قبورهم، وأن يتلذذوا بذكر ربهم جل وعلا.

إخوتي الكرام! وبالنسبة لسورة الملك فإنه يستحب للإنسان أن يقرأها في كل ليلة، والذي أدركت عليه الشيوخ الصالحين أنهم يوصون تلاميذهم وأصحابهم بقراءتها في كل ليلة، وهذا -كما قلت- مأثور عن الصحابة الكرام، وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.

وشيخ الإسلام الإمام ابن رجب الحنبلي في كتاب أهوال القبور في صفحة ثمان وستين قال: إن الله جل وعلا قد يكرم في البرزخ بعض عباده وأحبابه وأوليائه بالصلاة وقراءة القرآن، وليس هذا من باب العبادة التي يثاب عليها الإنسان، فالثواب قد انقطع لهذا الإنسان بواسطة عمله؛ لأن عمله انقطع في دار التكليف، وإنما هذه الصلاة وهذه العبادة من باب النعيم الذي يكرم الله به عباده المؤمنين، فهذا نعيم، كما أنه يجعل قبورهم روضةً من رياض الجنة يتلذذون حتى يبعثون، كذلك أيضاً يجعلهم يتنعمون بالصلاة، وبذكر الله جل وعلا حتى يلاقوا ربهم، فهذا من باب النعيم، لا من باب العبادة التي يقومون بها، ويثابون عليها كما هو الحال في الحياة الدنيا.

وهذا -كما قلت إخوتي الكرام- يذكره شيخ الإسلام الإمام ابن رجب الحنبلي الذي توفي سنة خمس وتسعين وسبعمائة، وهو من تلاميذ شيخ الإسلام الإمام ابن قيم الجوزية عليهم جميعاً رحمات رب البرية.

إذاً: الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه لا تأكل الأرض أبدانهم، وهم أحياء في قبورهم يصلون ويعبدون الحي القيوم.

(وقد خص الله تعالى أنبياءه بخصائص كثيرة في الحياة البرزخية كما خصهم في الحياة الدنيوية).

الخصوصية الأولى: أن أبدانهم الشريفة الطاهرة الطيبة المباركة لا تفنى، ولا يمكن لأرض أن تأكل بدن نبي، على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

وأما من عداهم فالأصل أن تأكل الأرض أبدانهم، وإذا أراد الله أن يكرم ولياً من أوليائه وصالحاً من عباده بعدم تسليط الأرض على بدنه فهو على كل شيء قدير، وأما الأنبياء فالأرض لا تأكل أبدانهم باتفاق، وقد ثبت هذا عمن لا ينطق عن الهوى عن نبينا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه.

ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربع إلا سنن الترمذي ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وإسناده صحيح كالشمس، وصححه شيخ الإسلام الإمام النووي ، وهكذا الإمام المنذري والإمام السيوطي وغيرهم من أئمة المسلمين الجهابذة المحدثين، ولفظ الحديث: عن أوس بن أوس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، وفيه تقوم الساعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا: وكيف تعرض عليك صلاتنا -يا رسول الله- وقد أرمت؟ -أي: بليت وتفتتت عظامك وبلي جسدك الشريف- قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء ).

وقد تقدم معنا ما يتعلق بهذا الحديث من قصة وقعت في القرن السادس للهجرة مع ليث الملوك وتقيهم العبد الصالح نور الدين الشهيد محمود زنكي الذي توفي سنة تسع وستين وخمسمائة للهجرة، تقدم معنا قصة طريفة ضمن مباحث النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه.

خلاصتها: أنه عندما جاء بعض النصارى واستوطنوا المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، وأظهروا الإسلام وهم يبطنون الكفران، ثم بدءوا بعد ذلك يحفرون من مكان قريب من جوار مسجد نبينا الحبيب عليه الصلاة والسلام؛ ليصلوا من تحت الأرض في سرداب إلى بدنه الطاهر المبارك عليه صلوات الله وسلامه، فظهر نبينا عليه صلوات الله وسلامه في الرؤيا لهذا الملك العادل الصالح تقي الملوك وليثهم نور الدين الشهيد وقال له: يا محمود ! أنقذني خلصني من هذين، ويشير إلى رجلين بعلامات عرفها هذا العبد الصالح، وكان أميراً في بلاد الشام، ثم نام وهو فزع لا يعلم المراد، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام ثانيةً وهو يقول له: خلصني من هذين، ثم نام الثالثة وهو فزع ولا يعلم المراد، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول: خلصني من هذين، فجمع الشيوخ في وسط الليل قبل أن يطلع الفجر، وعرض عليهم ما رآه، وقالوا: طرأ طارئ في المدينة المنورة -على منورها صلوات الله وسلامه- فينبغي أن تركب لتتحقق من الخبر، فما طلع الفجر ولا أذن الصبح حتى ركب خيله وسار الجيش معه حتى وصل إلى المدينة المنورة -على منورها صلوات الله وسلامه- وأمر بأن يحضر جميع أهل المدينة للقائه، فلم ير الصفة التي رآها في النوم في الرجلين اللذين يطلب نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الأمير الصالح أن يخلصه منهما، فقال: هل بقي أحد؟ قالوا: رجلان مجاوران فقيران مسكينان، قال: علي بهما، فلما دخلا أشار إلى صاحبه فقبض عليهما، ثم حقق معهما، وقد استأجرا داراً قرب مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، ويحفران من الداخل وينقلان التراب في الليل إلى البقيع، ليصلا إلى جسد نبينا الحبيب الشفيع عليه صلوات الله وسلامه، فضرب رقابهما وكر راجعاً إلى بلاد الشام رحمة الله ورضوانه عليه.

إذاً: إخوتي الكرام! الأرض لا تأكل أبدانهم.

الخصوصية الثانية:أنهم يصلون في قبورهم، ويعبدون ربهم سبحانه وتعالى؛ لأن أعظم نعيم يتنعم به الإنسان في كل حين ذكر رب العالمين، ولذلك يعطي الله أنبياءه التلذذ بذكره في عالم البرزخ كما يعطي ذلك من شاء وأحب من عباده، وأما من دخل الجنة فيتلذذ بذكر الله بعدد أنفاسه، ( يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس )، فهذه أعظم لذة يتلذذ بها المتلذذون؛ ذكر الحي القيوم، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ، فقرة العين تكون عند مناجاة رب الكونين، فكيف يحرم الله أنبياءه منها؟ عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

وقد ثبت هذا عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

ففي مسند أبي يعلى والبزار ، وقال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع: إسناد الحديث ثقات، والحديث رواه البيهقي في كتاب حياة الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، ورواه ابن عدي وابن عساكر والإمام أبو نعيم في تاريخ أصبهان، ورواه ابن منده ، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ).

نعم، كيف يحرمون من هذه اللذة التي يناجون بها الحي القيوم؟

وفي حديث الإسراء الثابت في مسند أحمد وصحيح مسلم وسنن النسائي ، ورواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه، فهو في صحيح مسلم من رواية أنس بن مالك أيضاً رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه قال: ( مررت ليلة أسري بي بموسى وهو قائم يصلي في قبره ). فأبدانهم لا تأكلها الأرض، وهم أحياء بين يدي الله جل وعلا، يصلون له، ويعبدونه، ويتلذذون بعبادته في عالم البرزخ، كما كانوا يتلذذون بعبادته في عالم الحياة الدنيا.