البدعة - تعذيب الميت ببكاء أهله عليه


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً؛ فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: معشر الإخوة الكرام! تقدم معنا أن البدعة من أسباب سوء الخاتمة عند الإنسان، وهذه البدعة التي يتسبب عنها سوء الخاتمة قلت: إننا سنتدارسها ضمن ثلاثة مباحث:

أولها: في تعريف البدعة.

وثانيها: في النصوص التي حذرتنا من البدعة.

وثالثها: في أقسام البدعة.

ولا زلنا إخوتي الكرام في المبحث الأول من هذه المباحث الثلاثة.

وقلت فيما سبق: إن البدعة هي الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، وهذا الحدث الحاصل لا تشهد له نصوص الشرع الحسان.

وقلت: إن هذا التعريف ضل فيه فرقتان: فرقة غلت في تعريف البدعة وأفرطت؛ فأدخلت في البدعة ما ليس منها، وفرقة فرطت وقصرت في تعريف البدعة فابتدعت في دين الله عز وجل، وزعمت أنها تعبد الله! وهاتان الفرقتان على ضلال، ولا بد من أن نحذر مسلكهما، ونسأل الله أن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه، وأن يحببه إلينا، وأن يرينا الباطل باطلاً وأن يرزقنا اجتنابه، وأن يكرهنا إياه، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! لا زلنا نناقش ونرد على الفرقة الأولى التي وسعت مفهوم البدعة وغلت في ذلك، وقلت: إنها ضلت وانحرفت عن طريقين اثنين بسبب أمرين اثنين:

أولهما: حكمت بالبدعة والتضليل على ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل، بل جاوزت هذا الأمر فحكمت بالبدعة على ما ورد صراحةً بأدلة الشريعة المطهرة الثابتة؛ لأن ذلك لم يرق لعقولهم القاصرة الناقصة! فما وسعهم ذلك؛ فحكموا عليه بالبدعة، وعلى فاعله بالتضليل! ومثلت لذلك بعدة أمثلة ينبغي أن نكون على علم وبينة منها، من هذه الأمثلة ما أشرت إليه سابقاً من وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع كالهيئة التي يكون عليها المصلي قبل الركوع، ومنها صلاة التراويح وأنها عشرون ركعة ويوتر الإنسان بثلاث، ومنها قراءة القرآن على الموتى عند القبور، ومنها تلقين الميت، ومنها: القول بأن الأموات يسمعون ما يجري عندهم، ويعلمون بزيارة الأحياء لهم، ويستبشرون بما يقع عندهم من طاعة، ويتألمون بما يقع في حضرتهم من معصية، وتعرضت عند هذا إلى بيان حكم زيارة النساء للقبور.

وبقي علينا أمر كان في نيتي أن نتدارسه في هذه الموعظة لأختم الكلام على التحذير من أقوال هذه الفرقة، وهذا: القول هو إهداء القربات بأسرها من قربات بدنية ومالية ومركبة إلى الأموات، كان في نيتي أن نتدارس هذا الأمر في هذه الموعظة لكنني سأرجئ الكلام عليه إلى الموعظة الآتية إن شاء الله، وأتكلم في هذه الموعظة على أمر كنت ذكرته في الموعظة الماضية وما تمكنت من الكلام عليه، وهذا الأمر هو حديث صحيح ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، احتمل ستة أمور، كل منها حق مقبول، وقال بجميع هذه الأقوال التي يحتملها الحديث أئمتنا الكرام، السادس منها يدل على مسألتنا التي تدارسناها ألا وهي: سماع الأموات، وسرورهم على ما يجري عندهم من الطاعات، وحزنهم وتألمهم بما يجري عندهم من المخالفات، فلنتابع خطوات البحث في ذلك إخوتي الكرام.

ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أمير المؤمنين الخليفة الراشد الثاني المهدي سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، والحديث ثبت في الصحيحين أيضاً من رواية عبد الله بن عمر ، ومن رواية المغيرة بن شعبة ، والحديث مروي في غير ذلك من دواوين السنة المطهرة عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه )، وفي رواية: ( إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه )، وهذا الحديث احتمل ستة أمور -كما قلت- كلها حق مقبول، وقال بذلك أئمتنا الكرام الفحول، سأوجه هذه الأقوال، وأختمها بالسادس الذي يدل على مسألتنا ألا وهو أن الأموات يسمعون ويفرحون بما يجري عندهم من طاعة، ويحزنون ويتألمون على ما يجري عندهم من معصية.

المعنى الأول: تسبب الميت في حصول النياحة عليه

المعنى الأول: الذي يحتمله هذا الحديث الشريف الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام: أن الميت يعذب في الآخرة عند الله عز وجل، إذا تسبب في حصول النياحة والعويل عليه؛ بأن أوصاهم بذلك، وسن لهم هذا الأمر المنكر المبتدع في الدين، وإلى هذا ذهب سيد المسلمين وأمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري عليه رحمة الله، فبوب في صحيحه في كتاب الجنائز باباً يشير به إلى هذا القول الذي ذهب إليه ومال إليه، فقال: باب الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، فإذا لم يكن النوح من سنته فلا يعذب؛ لأن الله يقول: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] .

فقول هذا الإمام المبارك الكريم عليه رحمات رب العالمين هو: أن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، فالمراد بالبكاء هنا النياحة، وهي التي فيها جزع ورفع صوت وتسخط على المقدور، واعتراض على العزيز الغفور الذي قدر الأمور وخلق الخلق وإليه سيئولون، فإذا حصل هذا النوع من البكاء الذي فيه صراخ وعويل واعتراض فهذا هو الذي يحاسب الإنسان عليه ويعاقب بسببه إذا كان من سنته، وأما مطلق البكاء على الميت فلا حرج على الإنسان فيه على الإطلاق؛ لأن هذا من باب الرحمة التي أودعها الله في قلوب الرحماء من خلقه.

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ( اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عن الصحابة أجمعين فاشتد وجعه؛ فذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى عيادته وزيارته، وذهب معه سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود ، وجم غفير من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فلما دخل نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه على سعد بن عبادة وجده وعليه غاشية )، والغاشية تحتمل أمرين كما قرر أئمتنا إما أن المعنى: غشيه أهله وأحاطوا به لشدة وجعه واشتداد كربه، أو غشي عليه وفقد وعيه في تلك الحالة، (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قضى سعد -يعني خرجت روحه وقبض وتوفي-؟ فقالوا: لا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما اقترب منه النبي عليه الصلاة والسلام ونظر إليه استعبر وبكى وذرفت عيناه بالدموع عليه صلوات الله وسلامه، فبكى الصحابة الكرام أجمعون ببكاء نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ألا تسمعون! إن الله لا يعذب -أي لا يؤاخذ- بدمع العين وبحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار النبي إلى لسانه- أو يرحم ) أي: أن البكاء حاصل والأعين تذرف الدمع، والقلب يحزن لفراق الحبيب، فهذا لا لوم عليه لا على الباكي ولا على من يبكي عليه، إنما إذا حصل جزع واعتراض على الله جل وعلا وصراخ وعويل بهذا -وهو اللسان- فالله يعذب أو يرحم سبحانه وتعالى على اللسان، فإما أن يعذب وإما أن يعفو وهو خير الغافرين وأرحم الراحمين.

وقد ثبت في الصحيحين أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ( أن إبراهيم ولد نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه عندما اشتد مرضه ذهب النبي عليه الصلاة والسلام لزيارته مع بعض أصحابه، وكان في فترة الرضاعة)، وقد توفي هذا الغلام المبارك سيدنا إبراهيم بن سيدنا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قبل نبينا عليه الصلاة والسلام بثلاثة أشهر، وهو في فترة الرضاعة (فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام وحمله وشمه عليه صلوات الله وسلامه، ثم ذرفت عيناه بالدمع، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه!)، -أي أنت لا تملك نفسك، ولا تصبر وأنت تأمرنا بالصبر، وأنت تبكي وقد نهيتنا عن الجزع! فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها رحمة )، ثم أتبعها بأخرى، إما بدمعة أخرى تسيل من عينيه المباركتين عليه صلوات الله وسلامه، وإما بجملة أخرى وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون).

وإلى هذا أشار الإمام البخاري عليه رحمة الله فقال: باب الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، ثم محل استنباطه هو آخر الترجمة قال: إذا كان النوح من سنته -من سنته التي جمعها سنن- أي: من طريقته، بضم السين وفتح النون المشددة، وضبط بضم السين المهملة بعدها موحدتان، أي: من سببه، وهما بمعنىً واحد كما حقق أئمتنا شراح الحديث فإذا كان النوح من سنته، أي: من طريقته، وإذا كان النوح من سببه أي: لأجل أنه أوصى أن ينوح أهله عليه، فإذا فعل ذلك عذب عند الله عز وجل، والسبب في ذلك: أنه أوصاهم بمعصية؛ بتسخط على المقدور، واعتراض على العزيز الغفور، (ومن سن سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها من بعده إلى يوم القيامة).

وقد أشار إلى هذا الأمر نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد والكتب الستة إلا سنن أبي داود من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فـقابيل عندما قتل أخاه المبارك الجليل هابيل، فكل نفس تقتل بعد موت هابيل إلى يوم القيامة ظلماً يتحمل قابيل نصيباً من ذلك القتل والوزر؛ لأنه أول من سن القتل.

نعم عندنا في الشريعة المطهرة من سن خيراً واتبع فيه فله أجره وأجر من عمل به بعده، وهكذا إذا سن وزراً واتبع فيه فعليه وزره ووزر من عمل به بعده.

وقد ثبت هذا في المسند، والحديث رواه البخاري في كتاب الأدب المفرد، والإمام مسلم في صحيحه، وأهل السنن الأربع إلا سنن أبي داود أيضاً، من رواية جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سن في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء )، فهذا هو المعنى الأول لهذا الحديث الثابت في الصحيحين من رواية عمر وابن عمر والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) أي: بما يناح به عليه إذا أوصى بالنوح والاعتراض على الله عز وجل، وهذا المعنى الأول حق، وقواعد الشريعة تقرره، وأئمة الإسلام كلهم يقبلونه.

المعنى الثاني: إذا علم أن من عادة أهله النياحة فلم ينههم في حياته

والمعنى الثاني: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أي: بما ينوح به أهله عليه إذا علم من عادتهم أنهم ينوحون ويبكون ويعترضون على الحي القيوم، وما أوصاهم في حياته أو عند احتضاره بعدم النياحة عليه، وما حذرهم من ذلك وزجرهم عنه، فإذا مات وناحوا عليه فإنه يعذب عند الله عز وجل؛ لأنه عليه إثم المعصية حيث ترك تربية أهله ونصحهم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله جل وعلا يأمرنا أن نتقيه، وأن ننشئ أهلنا على تقواه، يقول جل وعلا في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] ، (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) أي: تعلموا الخير وعلموه، واعملوا به، كما ثبت هذا التفسير عن علي رضي الله عنه في تفسير الطبري ومستدرك الحاكم ، وفي مصنف ابن أبي شيبة وسنن سعيد بن منصور ، وتفسير عبد بن حميد ، والأثر رواه عنه الإمام البيهقي في المدخل، وابن المنذر في تفسيره وغيرهم، إذاً معنى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6] علموا أنفسكم وأهليكم أمور الخير.

وثبت في تفسير عبد بن حميد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، قال: ( علموا أهلكم وأدبوهم )، فأنت مسئول عنهم، فينبغي أن تحذرهم من كل معصية، فإذا حذرتهم وفعلوا ذلك فلا إثم عليك، وإذا لم تحذرهم فقد شاركتهم في تلك المعصية؛ لأنك ما نهيتهم عنها وما زجرتهم عنها.

إذاً هذا هو التأويل الثاني، وهو تأويل أيضاً حق مقبول مبرور؛ لأنه إذا ترك نهي أهله عن هذا المنكر الذي يفعله أهله، فقد شاركهم في ذلك وأقرهم عليه.

وقد أخبرتنا نصوص الشريعة المطهرة: أن الإنسان إذا فرط فيما يجب عليه من نصح وأمر بمعروف ونهي عن منكر يحاسب على ذلك عند الله عز وجل، ولذلك فإن أول من يختصم عند الحق جل وعلا جاران متلاصقان في السكن في هذه الحياة، فأول خصومة تكون بين الخليقة بين يدي الله مع الجيران، عندما يقصر كل جار في نصح جاره، وفي تذكيره، وفي التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وقد أشار إلى هذا نبينا عليه الصلاة والسلام، ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه ابن أبي عاصم وإسناده صحيح، كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح، قال: إلا أبا عشانة ، وهو ثقة، وأبو عشانة اسمه حي بن يؤمن المصري ، توفي سنة ثمان عشرة ومائة للهجرة، وحديثه في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري ، وقد أخرج له أصحاب السنن الأربع إلا الإمام الترمذي عليهم رحمة الله، فالحديث صحيح، ولفظ الحديث من رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أول من يختصم بين يدي الله جل وعلا جاران متجاوران، لا يتناصحان، ولا يتواصيان بالحق، ولا يتواصيان بالصبر )، فالخصومة تقع بينهما أمام الله عز وجل، فإذا كانت الخصومة ستقع بينك وبين جيرانك إذا تركتم النصح فيما بينكم، فمن باب أولى أنك ستتحمل عقوبة أهلك إذا ما نصحتهم وحذرتهم وزجرتهم عن النياحة والبكاء عليك بعد موتك، فهذا هو المعنى الثاني وهو أيضاً حق مقبول مبرور.

المعنى الثالث: إن كان الفعل الذي يبكى عليه لأجله معصية

والمعنى الثالث: قرره أئمتنا أيضاً وهو حق وهو أن معنى الحديث ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، أي: أنه يعذب بنظير ما يبكيه به أهله، إذا كان ذلك الفعل الذي يبكى عليه من أجله معصية لربه جل وعلا، وهذا يجري في كثير من الموتى لا سيما في الرؤساء والزعماء، ولا سيما فيمن يقومون ببعض الأمور العظيمة في هذه الحياة، لكن على غير هدي رب الأرض والسموات، فيثنى على الزعيم إذا مات بأنه وطني، وأنه كان يحرص على مصلحة الوطن، وهذا يزيده بكاءً ويعذب عليه عند الله عز وجل، ويثنى أيضاً على الإنسان بأنه كريم لكنه كان ينفق ماله في معصية رب العالمين! ويثنى على الإنسان بأنه كان يتصف بالشجاعة، لكن ذلك في غير الطاعة! فيموت وقد أثنى عليه الناس ثم تذكروا هذه الأشياء وبكوا عليه بسببها؛ يقولون كان حريصاً على وطنه، كان كريماً، كان شجاعاً، لكن كل هذا على غير شرع الله، فالناس يذكرونه بهذه المآثر على زعمهم ويحزنون عليه ويبكون لفقده بسبب هذه الأشياء، وهو يعذب عليها عند الله عز وجل، وما أكثر ما يقع هذا في هذه الأيام!

ولعلكم تذكرون -إخوتي الكرام- ما تتطاير به الصحف ما بين الحين والحين من تأبين أعداء رب العالمين، والبكاء والنياحة عليهم لما قدموه من مآثر وهي في الحقيقة بلايا ورزايا، فالعبد المخذول قاسم أمين الذي أفضى إلى ما قدم، ونسأل الله أن يحسن ختامنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، عندما نشر البدعة الردية في هذا العصر بدعة تحرير المرأة في كتابه الذي سماه بهذا الاسم! وهكذا في الكتاب الآخر الذي هو أخبث من هذا الكتاب ألا وهو المرأة الجديدة، ودعا إلى السفور والعري والتهتك! إنه دعا إلى معصية ولا شك، لكن أخبث منه وأشر من جاءوا يؤبنونه وينشرون في الصحف العامة صور الرجال وهم يراقصون النساء وهن عاريات كاسيات، ثم يكتب بعد ذلك فوق هذا المشهد ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )، ويكتب بعد هذا الحديث الثاني الذي ذكرته: ( من سن في الإسلام سنةً حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء )!

وأما الحديث الأول: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ) فهو حديث صحيح في المسند وفي كتاب الأدب المفرد للبخاري وفي صحيح مسلم ، وقد أخرجه أهل السنن الأربع إلا سنن ابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهو من أصح الأحاديث، فيرون أن دعوته إلى السفور عمل صالح مقبول مبرور يثاب عليه عند العزيز الغفور! هذا ما يقال في حفلات تأبينه في هذا الحين، وهذا العبد الضال المضل الذي انتقل إلى سجين أخذه الله سنة ست وعشرين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام، أي: صار له قرابة تسعين سنة في الدار الآخرة، ونسأل الله حسن الختام، ولا زال يؤبن ما بين الحين والحين، ويثنى عليه، ويتباكون على ما قدم، إذاً هذا هو المعنى الثالث للحديث: ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ).

فهذان الكتابان اللذان نشرهما: تحرير المرأة، والمرأة الجديدة، يبكى عليه من أجلهما، وكأنه نشر في الأمة مفخرةً، سبحان ربي العظيم! وقد وصل الأمر والشطط ببعض الضالين أنه يقول في حفلات تأبينه أبياتاً من الشعر بعد أن صدرها بالحديثين المتقدمين! يقول:

كنت في الحق للإمام نصيراً والوفي الصفي من أصحابه

ويقصد بالإمام تلميذ جمال الدين الأفغاني ألا وهو محمد عبده .

نعم، إن قاسم أمين ما نشر ذلك الضلال اللعين إلا بإيحاء من هذا الشيخ، وقد أفضى الشيخ والتلميذ إلى رب العالمين ليلقى كل واحد جزاء سعيه.

كنت في الحق للإمام نصيراً والوفي الصفي من أصحابه

نم هنيئاً فمصر نالت ذرى المجد وفازت بمحضه ولبابه

منك عزم الداعي وفضل المجلي ومن الله ما ترجو من ثوابه

منك عزم الداعي: أي أنت دعوت بعزم إلى هذه الخصلة (تحرير المرأة) وفضل المجلي: أي أنت الذي سبقت إلى هذه الدعوة، ولك أيضاً من الله ما ترجو من ثوابه، سبحان ربي العظيم، والله إن الجاهلية ما كانوا يؤملون أجوراً على جاهليتهم عند رب البرية! وإن الشيطان الغرور ما وصل به الغرور أنه يرجو أجراً على فسقه وضلاله وخبثه عند العزيز الغفور! لكن الناس في هذه الأيام اشتد غرورهم بحيث صاروا يريدون أجوراً على معصيتهم لربهم جل وعلا! ينشر بدعة السفور، والدعوة إلى الإباحية، واختلاط النساء بالرجال -وهو ضلال لا شك- ثم يؤبن بعد ذلك ويبكى عليه بأنه قدم للأمة خيراً! ولن ينقطع عمله عند الله عز وجل! نعم لن ينقطع وزره، وما دامت امرأة تسفر في البلاد الإسلامية فإن هذا الشيطان الرجيم قاسم أمين يتحمل وزرها كما تحمل وزر نشر هذا الكتاب!

إذاً ( الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، أي: بنظير ما يبكيه به أهله مما يعتبر معصيةً لله، وهذا يقع بكثرة، فكم من ضال في هذه الأيام يموت وقد نشر الضلالات في هذه الحياة، ثم تتباكى عليه إذاعات العالم وتحزن! ولعلكم تستحضرون الضالة الخبيثة التي ماتت من سنين وحزن عليها في جميع إذاعات المسلمين، وأنها كانت داعية السلام، وقد قتلت هي وأسرتها وأهل الإجرام من المسلمين في ذلك المكان ما لو جمعت دماؤهم لسال منها نهر عظيم! ثم بعد ذلك يقال عنها: إنها داعية السلام! ثم عند تحريقها -وهذا مما يندى له جبين الإنسان- يجتمع ثلاثة من الضالين، شيخ يقرأ القرآن، وبوذي يقرأ في كتاب بوذه، وهنوكي يقول مراسم الهنادكة عند تحريقها من أجل أن توزع بعد ذلك ذرات جسمها على العالم ليحصل للعالم بركة من هذه الذرات النجسة! والناس يتباكون أيضاً عليها، وقد أراقت من الدماء المسلمين ما لو جمعت تلك دماء لسال منها نهر عظيم، ثم يبكي الناس عليها ويصفونها بأنها داعية السلام!

نعم، صدق نبينا عليه الصلاة والسلام: ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، نعم يبكون عليها لهذه الخصال التي فيها وهي تعذب عند الله من أجلها، وهذا معنى ثالث حق قرره أئمتنا وقواعد الشرع تقرره وتدل عليه.

المعنى الرابع: أن التعذيب ببكاء الأهل خاص بالكافر

والمعنى الرابع: ذهبت إليه أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهو حق لا غبار عليه، لكن سأنبه على ما في قولها مما ينبغي أن نكون على وعي به، تقول أمنا عائشة عندما حدثها عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين: ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، يعذب ببكاء الحي عليه، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما حدث بهذا، لكنه قال: إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، ثم قالت: حسبكم القرآن، قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] ، وقالت رضي الله عنها وأرضاها: يرحم الله عمر ! إن النبي عليه الصلاة والسلام ما حدث بهذا، وكانت رضي الله عنها تقول إذا حاجها ابن عباس وقال: حدث بهذا عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام كانت تقول: والله إنكم لا تحدثون عن كاذبين مكذبين، لكن السمع يخطئ، إن النبي صلى الله عليه وسلم مر على يهودية وأهلها يبكون عليها وهي ميتة؛ فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب، وكانت تقول أيضاً: (يغفر الله لـأبي عبد الرحمن -يعني ابن عمر - أما والله إنه لم يكذب لكنه أخطأ أو نسي، مر النبي صلى الله عليه وسلم على يهودي ميت وأهله يبكون عليه فقال عليه الصلاة والسلام: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه).

وعليه كأن أمنا عائشة رضي الله عنها تريد أن تقول: إن هذا الوعيد لمعين معلوم، وهو اليهودي واليهودية، وينسحب ذلك الوصف وذلك الحكم على من اتصف بذلك الوصف الملعون، فكل من مات على الكفر فإنه يعذب عند بكاء أهله عليه، فكأنها تريد أن تقول: هذا ورد من النبي عليه الصلاة والسلام في حق كافر.

ولا شك في صحة ما تقوله أمنا عائشة رضي الله عنها، وعليه فالباء هنا تحتمل أمرين كما قرر أئمتنا: إما أن تكون للحال، أي: أن الميت يعذب حال بكاء أهله عليه، والسبب في ذلك -كما قرر أئمتنا- أن الكافر عندما يقبر يشتد حزن أهله عليه كما هو الحال في جميع المقبورين، فأعظم ما يكون الحزن عليهم من قبل أهلهم عند دفنهم؛ لأنه قطعت الآن أخبارهم ورؤيتهم، ولن يحصل بعد ذلك اتصال بينهم، فأعظم الحسرة في الأحياء والبكاء عندهم يكون عند الدفن، وهو عند الدفن يحاسب على عمله ويعذب على سعيه، وعليه فمعنى ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، يعني: عند بكاء أهله عليه، وحال بكاء أهله عليه يعذب على أعماله ويحاسب على ذلك.

ويمكن أن يخرج أيضاً على التفسير الذي ذكرته أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها عندما قالت أيضاً: ( إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه )، أن تكون الباء سببية، وأن الله يزيد الكافر عذاباً إلى عذابه عندما يبكي عليه أهله؛ لأنه فرط في حق نفسه وفي حق أهله؛ فما اهتدى ولا أرشد أهله إلى الهداية، وكما قلت: لا غبار على هذا القول، وأن الكافر يعذب ببكاء أهله عليه عند بكاء أهله عليه؛ لأنه تسبب في ضياع نفسه وضياع أهله فيعذب على الأمرين، لكن إذا ثبت هذا في حق الكافر، وأن الله يزيده عذاباً إلى عذابه كما قالت هي رضي الله عنها وأرضاها؛ لأنه ضيع نفسه وضيع أهله، فما المانع أن يحصل هذا في حق المؤمن الذي فرط في حق نفسه وفي حق أهله، وتقدم معنى: إذا أوصى بالبكاء والنياحة أنه يعذب إذا علم هذا من سنتهم وطريقتهم وما نهاهم ونصحهم.

إذاً ما الداعي لإنكار هذا والحديث قد ثبت؟! وكون بعض الوقائع التي قيل فيها الحديث من كونه قيل في يهودي أو في يهودية لا يخصص هذا عموم الحديث الذي قيل في غير اليهودي واليهودية، وعليه فاعتراض أمنا عائشة رضي الله عنها على عمر وعبد الله بن عمر وعلى من روى هذا الحديث، مردود، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.

نعم تأويل هذا الحديث بما أولته حق مقبول، وحكايتها للحديث بما نقلته ( أن النبي عليه الصلاة والسلام مر أحياناً على يهودي ويهودية وأهلهما يبكون عليهما، فقال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، لا يمنع أن يخص هذا الحكم باليهودي واليهودية، والعلم عند الله جل وعلا.

فإذاً هنا نقول: لا مانع أيضاً أن يكون هذا في كافر معلوم، وينسحب الحكم إلى كل من اتصف بوصفه المذموم، فكل من أمر بالنياحة عليه أو ما حذر أهله من النياحة عليه فيعذب في قبره، وعند ربه، هذه معان أربع وكلها حق.

المعنى الخامس: أن العذاب هو توبيخ الملائكة

والمعنى الخامس: قال أئمتنا: المراد من العذاب هنا ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) توبيخ الملائكة للميت، ومعاتبتهم له، وتقريعهم له، هل هذه الأوصاف فيه، وهذا المعنى حق، وقد دلت عليه نصوص كثيرة صحيحة، كما أن المعاني السابقة حق، فإذا أوصى بالنياحة فإنه يعذب، وإذا علم من حالتهم النياحة وما نهاهم فإنه يعذب، وإذا كان فيه وصف مذموم وبكوا من أجله فإنه يعذب، وإذا كان الميت كافراً وناح أهله عليه فإنه يعذب، فجميع هذه المعاني صحيحة.

فالمعنى الخامس: أنه لم يوص بالنياحة ونهاهم عن البكاء وما بكوا عليه بأمر يعذب به من أجله، وليس هو بكافر، إنما نيح عليه وهو من الصالحين، وقد حذرهم من النياحة؛ فلن يعذب عند الله، إنما لن ينجو من هذه إلا إذا لطف الله به ورحمه؛ فالمراد بالعذاب على هذا القول توبيخ الملائكة له! فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ارفقوا بموتاكم، ولا تزيدوهم غمةً على غمتهم، ومشكلةً إلى مشكلتهم، وشدةً إلى شدتهم، فعندما تبكون عليهم سيوبخون من قبل الملائكة عند البكاء عليهم.

وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وفي سنن الترمذي وابن ماجه وإسناده صحيح كالشمس، من رواية موسى عن أبي موسى ، عن النبي عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( إذا مات الميت وقام باكيه فقال: واجبلاه! واسيداه! بعث الله ملكين يلهزانه ويقولان له: أأنت كذلك؟) ومعنى يلهزانه أي: يضربانه في صدره بقوة، ويقولان له: أأنت كذلك؟! أنت السيد، وأنت الجبل الذي يأوي إليك الناس.

وفي رواية المسند والمستدرك من رواية أبي موسى أيضاً ( أنه إذا قالت النائحة: واعضداه! واناصراه! واكاسياه! جذبه الملك جذبة -أي شده بقوة وعنف- وقال له: أأنت ناصرها؟! أأنت عضدها، أأنت كاسيها؟! )، أي: هل أنت تقوم بهذه الأمور، أو هذه تكفل بها العزيز الغفور الذي تكفل برزق المخلوقات جميعاً؟! وكما قلت: من نيح عليه وما أوصى بالنياحة، وحذرهم منها، وما نيح عليه بفعل يعذب من أجله، وهو ليس بكافر لم يسلم من معاتبة الملائكة وتوبيخهم دون أن يعذب في البرزخ في القبر ودون أن يعذب عند الله في النار، لكن يقال له: أأنت كذلك؟ أأنت فيك هذه الصفات؟! وهذا حقيقةً عذاب للميت وإيلام له، فينبغي على الحي أن يشفق على ميته، وهذا الحديث الثابت كما قلت في هذه الكتب عندما رواه موسى عن أبيه قال له أسيد بن أسيد : انظر ما تحدث يا موسى ! قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] ، فقال له موسى : سبحان الله! والله ما كذبت على أبي موسى ، ولا كذب أبو موسى على النبي عليه الصلاة والسلام! وكأنه يقول: أنت تعترض وأنا نقلت ه

المعنى الأول: الذي يحتمله هذا الحديث الشريف الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام: أن الميت يعذب في الآخرة عند الله عز وجل، إذا تسبب في حصول النياحة والعويل عليه؛ بأن أوصاهم بذلك، وسن لهم هذا الأمر المنكر المبتدع في الدين، وإلى هذا ذهب سيد المسلمين وأمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري عليه رحمة الله، فبوب في صحيحه في كتاب الجنائز باباً يشير به إلى هذا القول الذي ذهب إليه ومال إليه، فقال: باب الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، فإذا لم يكن النوح من سنته فلا يعذب؛ لأن الله يقول: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] .

فقول هذا الإمام المبارك الكريم عليه رحمات رب العالمين هو: أن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، فالمراد بالبكاء هنا النياحة، وهي التي فيها جزع ورفع صوت وتسخط على المقدور، واعتراض على العزيز الغفور الذي قدر الأمور وخلق الخلق وإليه سيئولون، فإذا حصل هذا النوع من البكاء الذي فيه صراخ وعويل واعتراض فهذا هو الذي يحاسب الإنسان عليه ويعاقب بسببه إذا كان من سنته، وأما مطلق البكاء على الميت فلا حرج على الإنسان فيه على الإطلاق؛ لأن هذا من باب الرحمة التي أودعها الله في قلوب الرحماء من خلقه.

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ( اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عن الصحابة أجمعين فاشتد وجعه؛ فذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى عيادته وزيارته، وذهب معه سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود ، وجم غفير من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فلما دخل نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه على سعد بن عبادة وجده وعليه غاشية )، والغاشية تحتمل أمرين كما قرر أئمتنا إما أن المعنى: غشيه أهله وأحاطوا به لشدة وجعه واشتداد كربه، أو غشي عليه وفقد وعيه في تلك الحالة، (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قضى سعد -يعني خرجت روحه وقبض وتوفي-؟ فقالوا: لا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما اقترب منه النبي عليه الصلاة والسلام ونظر إليه استعبر وبكى وذرفت عيناه بالدموع عليه صلوات الله وسلامه، فبكى الصحابة الكرام أجمعون ببكاء نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ألا تسمعون! إن الله لا يعذب -أي لا يؤاخذ- بدمع العين وبحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار النبي إلى لسانه- أو يرحم ) أي: أن البكاء حاصل والأعين تذرف الدمع، والقلب يحزن لفراق الحبيب، فهذا لا لوم عليه لا على الباكي ولا على من يبكي عليه، إنما إذا حصل جزع واعتراض على الله جل وعلا وصراخ وعويل بهذا -وهو اللسان- فالله يعذب أو يرحم سبحانه وتعالى على اللسان، فإما أن يعذب وإما أن يعفو وهو خير الغافرين وأرحم الراحمين.

وقد ثبت في الصحيحين أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ( أن إبراهيم ولد نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه عندما اشتد مرضه ذهب النبي عليه الصلاة والسلام لزيارته مع بعض أصحابه، وكان في فترة الرضاعة)، وقد توفي هذا الغلام المبارك سيدنا إبراهيم بن سيدنا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قبل نبينا عليه الصلاة والسلام بثلاثة أشهر، وهو في فترة الرضاعة (فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام وحمله وشمه عليه صلوات الله وسلامه، ثم ذرفت عيناه بالدمع، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه!)، -أي أنت لا تملك نفسك، ولا تصبر وأنت تأمرنا بالصبر، وأنت تبكي وقد نهيتنا عن الجزع! فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها رحمة )، ثم أتبعها بأخرى، إما بدمعة أخرى تسيل من عينيه المباركتين عليه صلوات الله وسلامه، وإما بجملة أخرى وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون).

وإلى هذا أشار الإمام البخاري عليه رحمة الله فقال: باب الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، ثم محل استنباطه هو آخر الترجمة قال: إذا كان النوح من سنته -من سنته التي جمعها سنن- أي: من طريقته، بضم السين وفتح النون المشددة، وضبط بضم السين المهملة بعدها موحدتان، أي: من سببه، وهما بمعنىً واحد كما حقق أئمتنا شراح الحديث فإذا كان النوح من سنته، أي: من طريقته، وإذا كان النوح من سببه أي: لأجل أنه أوصى أن ينوح أهله عليه، فإذا فعل ذلك عذب عند الله عز وجل، والسبب في ذلك: أنه أوصاهم بمعصية؛ بتسخط على المقدور، واعتراض على العزيز الغفور، (ومن سن سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها من بعده إلى يوم القيامة).

وقد أشار إلى هذا الأمر نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد والكتب الستة إلا سنن أبي داود من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فـقابيل عندما قتل أخاه المبارك الجليل هابيل، فكل نفس تقتل بعد موت هابيل إلى يوم القيامة ظلماً يتحمل قابيل نصيباً من ذلك القتل والوزر؛ لأنه أول من سن القتل.

نعم عندنا في الشريعة المطهرة من سن خيراً واتبع فيه فله أجره وأجر من عمل به بعده، وهكذا إذا سن وزراً واتبع فيه فعليه وزره ووزر من عمل به بعده.

وقد ثبت هذا في المسند، والحديث رواه البخاري في كتاب الأدب المفرد، والإمام مسلم في صحيحه، وأهل السنن الأربع إلا سنن أبي داود أيضاً، من رواية جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سن في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء )، فهذا هو المعنى الأول لهذا الحديث الثابت في الصحيحين من رواية عمر وابن عمر والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) أي: بما يناح به عليه إذا أوصى بالنوح والاعتراض على الله عز وجل، وهذا المعنى الأول حق، وقواعد الشريعة تقرره، وأئمة الإسلام كلهم يقبلونه.