Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

البدعة - تعريفها وضوابطها


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

معشر الإخوة المؤمنين! من صفات المهتدين أنهم يخشون رب العالمين، وهم الذين يعمرون بيوت الله جل وعلا في هذه الحياة، وقد نعتهم الله بأنهم رجال، ووصفهم بأربع خصال: لا تلهيهم البيوع والتجارات، ويعظمون رب الأرض والسماوات، ويشفقون على المخلوقات، ويخافون الله ويستعدون للقائه في يوم تشخص فيه القلوب والأبصار: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].

وصفة الخوف فيهم كنا نتدارسها إخوتي الكرام! وكنا نتدارس أسباب خوفهم من ربهم، وقلت: إن أسباب خوف المكلفين من رب العالمين كثيرة متعددة، يمكن أن نجملها في ثلاثة أسباب:

أولها: إجلال الله وتعظيمه.

وثانيها: الخشية من التفريط في حق الله جل وعلا، وقد مضى الكلام على هذين السببين، وشرعنا في مدارسة السبب الثالث ألا وهو: خوف سوء الخاتمة، وقلت: لسوء الخاتمة أسباب كثيرة أيضاً، يمكن أن تجمل في أمرين اثنين:

أولهما: الأمن على الإيمان من الذهاب والفقدان، فمن أمن على إيمانه سلبه عند موته.

والأمر الثاني: الاغترار بالحالة الحاضرة، والعجب بما يصدر من الإنسان أو من المرء من طاعات ناقصة قاصرة، والغفلة عما في المكلف من آفات مهلكات، وأبرز ذلك ثلاث بلايا مرزيات:

أولها: النفاق.

وثانيها: البدعة.

وثالثها: الركون إلى الدنيا.

وقد مضى الكلام على السبب الأول من أسباب سوء الخاتمة، كما مضى الكلام على البلية الأولى من السبب الثاني من أسباب سوء الخاتمة، ألا وهي النفاق في موعظتين ماضيتين، وسنتدارس في هذه الموعظة البلية الثانية من أسباب سوء الخاتمة ألا وهي البدعة.

إخوتي الكرام! وسنتدارس هذه الرزية ضمن ثلاثة أمور:

أولها: تعريف البدعة.

وثانيها: التحذير منها والتنفير عنها.

وثالثها: أقسام البدعة.

ثم بعد ذلك أبين وجه كون البدعة سبباً لسوء الخاتمة، إما بأن يختم له على الكفر نسأل الله تعالى العافية، وإما بأن يختم للإنسان إذا تلبس بالبدعة على الزيغ والضلال.

أما المبحث الأول من هذه المباحث الثلاثة ألا وهو: تعريف البدعة.

البدعة في اللغة: هي ما أحدث على غير مثال، شيءٌ جديد، شيءٌ حادث لا مثيل له في القديم، يقال له بدعة، هذا هو التعريف اللغوي للفظ البدعة.

فقوله: (ما أحدث على غير مثال)، أي: على غير شيء يشبهه، إنما هذا مخترع جديد، سواء كان ذلك المحدث محموداً أو مذموماً يتعلق بأمر الدنيا أو بأمر الدين، فكل حادث لا مثيل له ولا شبيه في الزمن القديم يقال له بدعة.

معنى قوله تعالى: (بديع السماوات والأرض

ولوجود هذا المعنى في لفظ البدعة -أعني: أن الشيء الذي لا نظير له ولا مثيل- أطلق هذا اللفظ من مادة: بَدَعَ، وأطلق هذا اللفظ على الله جل وعلا، وأنه يتسمى بذلك سبحانه وتعالى، فهو الذي لا نظير له ولا مثيل، وهو الذي يبتدئ المخلوقات من غير مثال سبق، وعلى غير مثال سبق، ولذلك سمى نفسه بأنه بديع السموات والأرض سبحانه وتعالى، قال جل وعلا: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:116-117].

ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا في سورة الأنعام: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام:100-102].

فقوله: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:101]، أي: هو المنفرد في هذا الكون في سماواته وأرضه بأنه لا مثيل له ولا شبيه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، هو المنفرد الذي لا مثال له: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهو الذي خلق السماوات والأرض على غير مثال سبق، وعلى غير صورة تقدمت، فهو المنفرد في هذا الكون فلا نظير له، وهو الخالق في هذا الكون، وهو الخالق لهذا الكون من غير مثال سبق، وهو الذي يخلق الشيء من غير مادة، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون.

إذاً: فيه هذا المعنى ألا وهو الشيء الذي لا مثيل له ولا نظير، فالله لا مثيل له ولا نظير، ويخلق خلقاً ليس لخلقه أيضاً شبيه ولا نظير ولا مثيل سبحانه وتعالى.

معنى قوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل

ولملاحظة هذا المعنى في لفظ البدعة استعملت مادة هذه الكلمة بَدَعَ في النبي عليه الصلاة والسلام، قال جل وعلا في سورة الأحقاف آمراً نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:9].

وقوله: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، يحتمل أمرين اثنين كل منهما مراد: قل ما كنت بدعاً بمعنى اسم المفعول أي: مُبتَدَعاً مخترعاً لا مثيل لي في هذه الحياة، فالله قد أرسل قبلي رسلاً كثيرين، وما أنا إلا حلقة في سلسلة طويلة عدد أفرادها مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، جمَّاً غفيراً كلهم أنبياء الله ورسله، ويدعون إلى توحيده جل وعلا، فلست بشيء مخترع، لست بشيء حادث لا مثيل لي، إنما أنا على شاكلة من سبقني، فنبينا عليه صلوات الله وسلامه ليس بأول رسول إلى أهل الأرض، فقد أرسل الله قبله رسلاً كثيرين متعددين.

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة في الحديث الثابت في المسند والصحيحين من رواية أبي هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه من رواية أبي سعيد الخدري ، ورواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه من رواية أبي بن كعب رضوان الله عليهم أجمعين عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأجملها وأحسنها إلا موضع لبنة في زاوية من زواياها، فجعل الناس يدخلون الدار ويقولون: ما أجملها! وما أحسنها! لولا موضع هذه اللبنة، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ).

إذاً قوله: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، أي: لست بشيء مخترع جديد لا مثيل لي ولا نظير، فقد تقدمني رسل كثيرون يدعون إلى عبادة الحي القيوم.

والمعنى الثاني: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، بصيغة اسم الفاعل، قل ما كنت مُبتَدعاً مخترعاً دعوة ما دعا إليها أنبياء الله ورسله قبلي، فما دعوتكم إلا لما دعا إليه أنبياء الله ورسله، فالله أمرني وأمر من قبلي بتوحيده وعبادته وحده لا شريك له: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

ففي هذه الدعوة التي بلَّغتها لست بمبتدع، ولست بمنشئ شيئاً جديداً، إنما أنا أقرر ما أتى به أنبياء الله ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

وهذا المعنى أيضاً الذي تحتمله الآية الكريمة أشار إليه نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأنبياء إخوة لعلاَّت أمهاتهم شتى ودينهم واحد )، أي: هم نحو تبليغ رسالاتهم التي أمروا بتبليغها كالإخوة لأب في انتسابهم، أبوهم واحد ونسبتهم واحدة، وهكذا أنبياء الله دينهم واحد ونسبتهم واحدة: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].

نعم، تختلف بعد ذلك فروع هذه الرسالات كما يختلف الإخوة لأب في الأمهات، فالأمهات متعددة، وفروع أنبياء الله ورسله مختلفة، لكن أصل الدين واحد: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13].

إذاً قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، أي: ما كنت مُبتَدَعاً مخترعاً لا مثيل لي، وما كنت مُبتَدِعاً دعوة ما بلَّغها من قبلي: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف:9].

معنى قوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها

وهكذا استعملت هذه المادة أيضاً فيما اخترعه بنو إسرائيل من عبادة لم يأذن بها ربنا الجليل، فقال جل وعلا: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:26-27]، وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27]، نُصبَت بفعل محذوف يفسره المذكور، وليست معطوفة على معمول قوله: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً [الحديد:27]، أي: ما جعل الله هذا في قلوبهم ولا شرعه لهم ولا أمرهم به، إنما جعل في قلوبهم رأفة ورحمة، وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، أي: اخترعوها وأنشئوها وما أمروا بها: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27].

والاستثناء بعد ذلك: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27]، أي: ما يكون منقطعا: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، لكن هم اخترعوا تلك الرَّهبانية وهي الابتعاد عن ملاذ الحياة، وعدم الاغترار بالنساء والزوجات: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، لكن هم ابتدعوا ذلك واخترعوه تقرباً إلى الله جل وعلا على حسب زعمهم: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، ثم ما وفوا بما ابتدعوه وبما اخترعوه وبما قصدوه: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:27].

وهذا أظهر القولين في تفسير هذه الآية، والآية تحتمل قولاً آخر وهي أن يعود: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27]، على قوله: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، ويصبح التقدير ما كتبنا عليهم الرهبانية إلا ابتغاء رضوان الله، وهذا الذي كتب كان بعد أن ألزموا أنفسهم بهذه العبادة، فشرعها الله لهم وأجاز لهم الترهب طلباً لرضوانه، لكن هذا بعد أن شددوا فشدَّد عليهم.

روي في سنن أبي داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه، والأثر في إسناده سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وقد انفرد الإمام الترمذي بإخراج حديثه، وهو مقبول كما قال عنه الحافظ في التقريب، وقد وثقه ابن حبان، ولفظ الحديث عن أنس رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا تشدِّدوا فيشدَّدَ عليكم؛ فإن من قبلكم شددوا فشدّد عليهم، فانظروا إليهم في الصوامع وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27] )، شددوا فشدد عليهم، وعليه: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27]، بعد أن شَدَّدوا على أنفسهم شدد عليهم وكتب ذلك عليهم.

الشاهد في الآية الكريمة إخوتي الكرام: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27]، أي: اخترعوها، هذا هو معنى البدعة في لغة العرب: ما أحدث على غير مثال سبق، سواء كان محموداً أو مذموماً في أمر الدين وفي أمر الدنيا.

تعريف البدعة في الاصطلاح الشرعي

وأما البدعة في الاصطلاح الشرعي وهي محل بحثنا فهي: ما أحدث في دين رب العالمين مما لا يدل عليه دليل مستقيم.

وعبارات أئمتنا الكرام المهتدين تدور حول هذا المعنى: أحدث في دين الله تعالى لأجل أن يتقرب به الناس إلى الله، ولا يوجد دليل يدل على هذا.

والإمام الغزالي عليه رحمة الله في كتابه الإحياء عرف البدعة في عدة أماكن من كتابه بعدة تعريفات تعود إلى هذا، فقال: البدعة: ما تضاد سنة ثابتة وتراغمها، أي: تقابلها وتعارضها وترفعها وتزيلها، فهذا هو حد البدعة وهذا هو رسمها، ويمكن أن يقال في تعريف البدعة أيضاً بتعريف جامع فنقول: البدعة: هي الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، ولا يدل على ذلك دليل من أدلة الشرع الحسان، ويزعم الإنسان بذلك الحدث التقرب به إلى الرحمن.

وهذه البدعة المخترعة في الدين التي لا يشهد عليها دليل قويم لا تكون إلا مذمومة باطلة، والعامل بها مذموم ضالّ مبتدع، وعليها يتنزَّل ما ثبت في المسند والسنن الأربع إلا سنن النسائي، والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وسيأتينا الحديث بطوله عند التنفير من البدع والتحذير منها.

ومحل الشاهد في الحديث من رواية العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة )، والحديث ثابت في المسند وصحيح مسلم وسنن ابن ماجه وسنن النسائي من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيما كان يقوله نبينا عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة وسيأتينا لفظ الحديث بطوله أيضاً، ولفظ الحديث من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة )، وزاد الإمام النسائي في سننه بإسناد صحيح: ( وكل ضلالة في النار ).

فالمحدث في دين الله ليتقرب به الإنسان إلى الله لا يكون إلا ضلالة بالتعريف المتقدم، ما أحدث في دين الله مما لا يشهد له دليل ومما لا أصل له في الدين.

الفرق التي ضلت في مفهوم البدعة

إخوتي الكرام! نحو تعريف البدعة ينبغي أن نقف وقفة مع فرقتين اثنتين حصلت للأمة منهما بلاء وشر مستطير: أما الفرقة الأولى: فقد وسعت مفهوم البدعة لتدخل فيها ما لا ينطبق عليها.

وأما الفرقة الثانية: فقد ضيقت مفهوم البدعة وقالت: لا بدعة في الإسلام، وكل ما يفعله الإنسان ويريد به وجه الرحمن فهو مشروع من الخيرات الحسان.

أما الفرقة الأولى: فقد تشدَّدت وغلت وأفرطت.

وأما الفرقة الثانية: فقد قصِّرت وأجحفت وفرطت، ودين الله بين الغالي والجافي.

وإذا كان الأمر كذلك فلابد -إخوتي الكرام- من معالجة هذه القضية ومناقشة هاتين الفرقتين اللتين تفسدان في أمة نبينا عليه الصلاة والسلام، فريق عن طريق الإفراط وفريق عن طريق التفريط.

أما الفرقة الأولى التي أفرطت وأدخلت في البدعة ما لا يدخل فيها ولا ينطبق التعريف عليها، فأفرطت من وجهين اثنين:

الأول: حكمت على أشياء بالبدعة وقد قام عليها الدليل، وقال بها إمام جليل؛ وما احتملته أدلته الشريعة المطهرة وقاله أئمتنا البررة فلا يحكم عليه بالبدعية والتضليل إلا خبيث ضلّيل.

والوجه الثاني: الحكم على أمور بالبدعية وقد قامت عليها نصوص صريحة شرعية.

إذاً الصورة الأولى: أدلة شرعية احتملت هذا الفعل، فخرج عن كونه بدعة مع احتمال الدليل له وقال به عدد من أئمتنا، لكن ما راعى احتمال الدليل له ولا اعتبر أقوال أئمتنا نحوه، وبدأ يصول ويجول على أمة نبينا عليه الصلاة والسلام ويبدع الكبير والصغير، ويرد على المتقدم والمتأخر.

والصورة الثانية: أفعال قامت الأدلة الشرعية على مشروعيتها، لكن ذلك الدليل ما قبله صاحب العقل الهزيل؛ لما عمل حوله من قال وقيل، وقال: هذا الفعل بدعة، ولا بد -إخوتي الكرام- من التمثيل ليتضح الأمر.

ولوجود هذا المعنى في لفظ البدعة -أعني: أن الشيء الذي لا نظير له ولا مثيل- أطلق هذا اللفظ من مادة: بَدَعَ، وأطلق هذا اللفظ على الله جل وعلا، وأنه يتسمى بذلك سبحانه وتعالى، فهو الذي لا نظير له ولا مثيل، وهو الذي يبتدئ المخلوقات من غير مثال سبق، وعلى غير مثال سبق، ولذلك سمى نفسه بأنه بديع السموات والأرض سبحانه وتعالى، قال جل وعلا: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:116-117].

ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا في سورة الأنعام: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام:100-102].

فقوله: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:101]، أي: هو المنفرد في هذا الكون في سماواته وأرضه بأنه لا مثيل له ولا شبيه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، هو المنفرد الذي لا مثال له: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهو الذي خلق السماوات والأرض على غير مثال سبق، وعلى غير صورة تقدمت، فهو المنفرد في هذا الكون فلا نظير له، وهو الخالق في هذا الكون، وهو الخالق لهذا الكون من غير مثال سبق، وهو الذي يخلق الشيء من غير مادة، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون.

إذاً: فيه هذا المعنى ألا وهو الشيء الذي لا مثيل له ولا نظير، فالله لا مثيل له ولا نظير، ويخلق خلقاً ليس لخلقه أيضاً شبيه ولا نظير ولا مثيل سبحانه وتعالى.

ولملاحظة هذا المعنى في لفظ البدعة استعملت مادة هذه الكلمة بَدَعَ في النبي عليه الصلاة والسلام، قال جل وعلا في سورة الأحقاف آمراً نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:9].

وقوله: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، يحتمل أمرين اثنين كل منهما مراد: قل ما كنت بدعاً بمعنى اسم المفعول أي: مُبتَدَعاً مخترعاً لا مثيل لي في هذه الحياة، فالله قد أرسل قبلي رسلاً كثيرين، وما أنا إلا حلقة في سلسلة طويلة عدد أفرادها مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، جمَّاً غفيراً كلهم أنبياء الله ورسله، ويدعون إلى توحيده جل وعلا، فلست بشيء مخترع، لست بشيء حادث لا مثيل لي، إنما أنا على شاكلة من سبقني، فنبينا عليه صلوات الله وسلامه ليس بأول رسول إلى أهل الأرض، فقد أرسل الله قبله رسلاً كثيرين متعددين.

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة في الحديث الثابت في المسند والصحيحين من رواية أبي هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه من رواية أبي سعيد الخدري ، ورواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه من رواية أبي بن كعب رضوان الله عليهم أجمعين عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأجملها وأحسنها إلا موضع لبنة في زاوية من زواياها، فجعل الناس يدخلون الدار ويقولون: ما أجملها! وما أحسنها! لولا موضع هذه اللبنة، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ).

إذاً قوله: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، أي: لست بشيء مخترع جديد لا مثيل لي ولا نظير، فقد تقدمني رسل كثيرون يدعون إلى عبادة الحي القيوم.

والمعنى الثاني: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، بصيغة اسم الفاعل، قل ما كنت مُبتَدعاً مخترعاً دعوة ما دعا إليها أنبياء الله ورسله قبلي، فما دعوتكم إلا لما دعا إليه أنبياء الله ورسله، فالله أمرني وأمر من قبلي بتوحيده وعبادته وحده لا شريك له: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

ففي هذه الدعوة التي بلَّغتها لست بمبتدع، ولست بمنشئ شيئاً جديداً، إنما أنا أقرر ما أتى به أنبياء الله ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

وهذا المعنى أيضاً الذي تحتمله الآية الكريمة أشار إليه نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأنبياء إخوة لعلاَّت أمهاتهم شتى ودينهم واحد )، أي: هم نحو تبليغ رسالاتهم التي أمروا بتبليغها كالإخوة لأب في انتسابهم، أبوهم واحد ونسبتهم واحدة، وهكذا أنبياء الله دينهم واحد ونسبتهم واحدة: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].

نعم، تختلف بعد ذلك فروع هذه الرسالات كما يختلف الإخوة لأب في الأمهات، فالأمهات متعددة، وفروع أنبياء الله ورسله مختلفة، لكن أصل الدين واحد: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13].

إذاً قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، أي: ما كنت مُبتَدَعاً مخترعاً لا مثيل لي، وما كنت مُبتَدِعاً دعوة ما بلَّغها من قبلي: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف:9].

وهكذا استعملت هذه المادة أيضاً فيما اخترعه بنو إسرائيل من عبادة لم يأذن بها ربنا الجليل، فقال جل وعلا: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:26-27]، وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27]، نُصبَت بفعل محذوف يفسره المذكور، وليست معطوفة على معمول قوله: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً [الحديد:27]، أي: ما جعل الله هذا في قلوبهم ولا شرعه لهم ولا أمرهم به، إنما جعل في قلوبهم رأفة ورحمة، وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، أي: اخترعوها وأنشئوها وما أمروا بها: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27].

والاستثناء بعد ذلك: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27]، أي: ما يكون منقطعا: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، لكن هم اخترعوا تلك الرَّهبانية وهي الابتعاد عن ملاذ الحياة، وعدم الاغترار بالنساء والزوجات: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، لكن هم ابتدعوا ذلك واخترعوه تقرباً إلى الله جل وعلا على حسب زعمهم: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، ثم ما وفوا بما ابتدعوه وبما اخترعوه وبما قصدوه: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:27].

وهذا أظهر القولين في تفسير هذه الآية، والآية تحتمل قولاً آخر وهي أن يعود: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27]، على قوله: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، ويصبح التقدير ما كتبنا عليهم الرهبانية إلا ابتغاء رضوان الله، وهذا الذي كتب كان بعد أن ألزموا أنفسهم بهذه العبادة، فشرعها الله لهم وأجاز لهم الترهب طلباً لرضوانه، لكن هذا بعد أن شددوا فشدَّد عليهم.

روي في سنن أبي داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه، والأثر في إسناده سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وقد انفرد الإمام الترمذي بإخراج حديثه، وهو مقبول كما قال عنه الحافظ في التقريب، وقد وثقه ابن حبان، ولفظ الحديث عن أنس رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا تشدِّدوا فيشدَّدَ عليكم؛ فإن من قبلكم شددوا فشدّد عليهم، فانظروا إليهم في الصوامع وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27] )، شددوا فشدد عليهم، وعليه: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27]، بعد أن شَدَّدوا على أنفسهم شدد عليهم وكتب ذلك عليهم.

الشاهد في الآية الكريمة إخوتي الكرام: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27]، أي: اخترعوها، هذا هو معنى البدعة في لغة العرب: ما أحدث على غير مثال سبق، سواء كان محموداً أو مذموماً في أمر الدين وفي أمر الدنيا.