البدعة - التشريع لله وحده


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: معشر الإخوة الكرام! تقدم معنا أن المقرر عند أئمة الإسلام أن الابتداع يوجب سوء الخاتمة للإنسان، وكنا نتدارس المبحث الأول من مباحث البدعة الذي دار حول تعريفها وحول بيان ما يتوجب علينا نحو ذلك التعريف القويم المستقيم، ولا زلنا نتدارس هذا الأمر.

تقدم معنا أن البدعة هي: الحدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، ولا تشهد لذلك الحدث نصوص الشرع الحسان.

وهذا التعريف السديد المحكم الرشيد تقدم معنا أنه انحرف عنه فرقتان: فرقة أفرطت فوسعت دائرة البدعة، فوسعت في ذلك دائرة المحظور، وحكمت بالبدعية على ما هو مباح في شرع العزيز الغفور، وربما اشتطت فحكمت بالبدعة والضلال على ما هو مستحب في شريعة ذي العزة والجلال.

والفرقة الثانية: فرطت وقصرت، فألغت البدعة كلها أو بعض صورها، وهي بذلك أباحت ما كرهه الرحمن واستحلت ما هو حرام، والفريقان يلحقهما الملام، فكل منهما أدخل عقله في ما لم يأذن فيه الرحمن، يقول الله جل وعلا في آخر سورة النحل: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:116-117].

قال الإمام ابن كثير عليه رحمات ربنا الجليل في تفسيره عند تفسير هذه الآية في الجزء الثاني صفحة تسعين وخمسمائة: ويدخل في هذا -أي في هذا الوصف فيقول على الله ما لا يعلم، ويدخل عقله في التحليل والتحريم- كل من ابتدع بدعة لم يشهد لها الشرع الحنيف، كما يدخل في هذا كل من حرم ما أحله الله وكل من أحل ما حرمه الله سبحانه وتعالى، فالآية شاملة لهذه الأصناف: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:116-117].

إخوتي الكرام! وتقدم معنا مناقشة الفرقة الأولى وبيان ضلالها وزيغها، واستعرضت كثيراً من الصور في ذلك مما حكموا عليه بالبدعية، وهو جائز أو مستحب في شريعة رب البرية.

وقبل أن ننتقل إلى بيان تقصير وتفريط الفرقة الثانية، أحب أن نتدارس في هذه الموعظة ثلاثة معالم تكون علامات واضحة لنا في الرد على المنحرفين ممن غلوا وممن فرطوا، وهذه المعالم الثلاثة هي ضرورية للإنسان في هذه الحياة ينبغي أن يعلمها وأن يكون على بينة منها.

أولها: التشريع من خصائص الرحمن.

وثانيها: أركان هداية الإنسان.

وثالثها: منزلة الاجتهاد في الإسلام.

فلنتدارس هذه الأمور إخوتي الكرام لنكون على بينة من أمرنا، ولنعرف كيف نرد بعد ذلك على من فرط أو أفرط في شرع ربنا.

التشريع من خصائص الله سبحانه وتعالى، ولا غرو في ذلك ولا عجب، فهو الخالق، والخالق هو المشرع، فهو الذي يعلم ما يصلح عباده سبحانه وتعالى، وهو بهم رؤوف رحيم، بل أرحم بهم من أنفسهم، فشرعه يوافقهم، وهو الذي يضع الأمور في موضعها فهو الحكيم العليم سبحانه وتعالى، وكل من لم يتصف بصفة الخالق فلا يجوز له أن يشرع، فإذا لم تكن خالقاً فلا ينبغي أن تكون آمراً ناهياً، فالآمر الناهي هو الخالق وهو السيد وهو رب العالمين سبحانه وتعالى، ولذلك لا يجوز أن تحكم على أمر بأنه بدعة أو سنة، أو هدى أو ردى، أو حلال أو حرام إلا على حسب شريعة الإسلام كما بين لنا نبينا عليه الصلاة والسلام.

الأدلة على أن التشريع من خصائص الله

إن التشريع من خصائص الله جل وعلا، وكل من نازعه هذه الصفة فقد أشرك به، وجعل نفسه نداً لربه، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا الأمر في كثير من آيات القرآن، وبين أن الخالق هو الذي يشرع سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا في سورة الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:54-56]، فهو سبحانه وتعالى له الخلق والأمر، هو خالق كل شيء، وهو بعد ذلك الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ليهتدي الخلق بهدى خالقهم سبحانه وتعالى.

فالخالق هو الآمر الناهي، وهو المشرع سبحانه وتعالى، وهو الذي يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، وهو بأمور عباده خبير بصير، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

وهكذا قرر الله هذا المعنى في كثير من آيات القرآن، وبين أن الخالق هو الذي ينبغي أن يشرع الأمور والحلال والحرام لعباده من بني الإنسان، يقول الله جل وعلا في سورة الشورى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى:10-12] فالله هو الذي خلق السماوات والأرض على غير مثال سبق، وهو الذي فطرهما، وهو الذي أوجدهما من العدم، وله مقاليد السماوات والأرض وهو خالق كل شيء، إذاً ينبغي أن نحتكم في جميع شئون حياتنا إليه، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10].

وهكذا تقرر كثير من الآيات هذا المعنى وتوضحه، وهو: أن الخالق هو المشرع سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا مقرراً هذا المعنى ومشيراً إليه أيضاً في سورة الرعد: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16].

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الرعد:16] أي: تعبدونهم ويشرعون لكم وتحتكمون إليهم، والحال أنهم: لا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [الرعد:16] أي: الكافر والمؤمن، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [الرعد:16] أي: الحق والباطل، والإسلام والكفر، أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [الرعد:16]، هل هناك من نازع الله في الخلق وشاركه في ذلك فاشتبه عليهم خلقهم بخلق ربهم، ومن أجل ذلك أعطوا صفة التشريع لبعض الخلق؛ لأن هذا البعض خلق شيئاً في هذا الكون؟ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16]، فهذا الخالق المدبر الذي يعلم السر وأخفى هو الذي ينبغي أن يشرع لهذه البشرية ما يسعدها في الحياة وبعد الممات.

حرمة إشراك غير الله في الحكم والتشريع

ولذلك إخوتي الكرام! لا يرضى الله لعباده أن ينازعوه في التشريع كما لا يرضى الله لعباده أن يعبدوا غيره سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا في آخر سورة الكهف: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، ومن أمور العبادة أمر التشريع وأمر الحكم، والله جل وعلا كما أنه لا يرضى أن يشرك في عبادته أحد لا يرضى أن يشرك في حكمه أحد وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا في نفس السورة -أعني: في سورة الكهف- فقال في أوائلها عندما بين مقدار المدة التي لبثها أصحاب الكهف في الكهف: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:25-26]، وقرأ ابن عامر إمام الشام وقراءته متواترة عن نبينا عليه الصلاة والسلام بصيغة النهي وصيغة الخطاب: (ولا يشرك في حكمه أحداً) قرأها: ولا تشرك في حكمه أحداً، فلا تشرك بعبادة الله جل وعلا أحداً.

نعم فالله هو الخالق وهو المشرع سبحانه وتعالى، هو الذي يأمر وينهى، ولا يجوز لبشر أن ينازعه شيئاً من ذلك، وعليه؛ فلا يجوز للإنسان أن يحرك لسانه بأن هذا حلال وهذا حرام، وهذا فضيلة وهذا رذيلة، وهذا حسن وهذا قبيح، إلا على حسب شرع الله جل وعلا الذي بلغه إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن التقنين والتشريع نوع من الحكم، بل هو سنام الحكم، والله لا يشرك في حكمه أحداً، وأمرنا أن لا نشرك في حكمه أحداً، ولذلك بين أئمتنا هذا، وبينوا أن من شرع لغيره فقد جعل نفسه نداً لله واستعبد عباد الله.

إن التشريع فيه استعباد من المشرع لمن يشرع لهم، ولا حرج في أن يشرع الله لعباده ما شاء، ولا غضاضة علينا في ذلك، فهو سيدنا وربنا وخالقنا ونحن عبيده نتذلل له ونفتخر بحكمه، إنما الحرج كل الحرج والغضاضة كل الغضاضة أن يشرع بشر لبشر وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وإلى هذا أشار بعض العلماء فقال:

تغرب لا مستعظماً غير نفسه ولا قابلاً إلا لخالقه حكما

أي: أنت لا تجل إلا نفسك، ليس من باب التعالي على الغير، إنما أنت من باب عزة النفس، ثم بعد ذلك لا تقبلوا حكم أحد، إنما تقبلوا حكم الله.

إخوتي الكرام! لقد قصر الله الحكم عليه، وحصره فيه في كثير من آيات القرآن، فقال ربنا الرحمن في سورة الأنعام آمراً نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]. وقال الله جل وعلا في سورة يوسف مخبراً عن نبيه يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، أنه قال لصاحبي السجن: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:39-40].

وهكذا أخبر الله جل وعلا في نفس هذه السورة عن والد نبي الله يوسف ألا وهو نبي الله يعقوب على نبينا وعليهما صلاة الله وسلامه، فقال لبنيه: لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف:67]، إن الحكم إلا لله سبحانه وتعالى، فهذا محصور فيه ومقصور عليه، وهو الذي يحل ويحرم ما شاء، وهو الذي يشرع لعباده ما شاء، وهو أعلم بمصالحهم، وهو أرحم بهم من أنفسهم، وهو أعلم بما يسعدهم وبما يعزهم في الدنيا وفي الآخرة، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [يوسف:67].

من صرف حق التشريع لغير الله عز وجل فقد جعله لله نداً

اعتبر ربنا جل وعلا أن صرف هذا الحق إلى غيره -أعني حق التشريع وحق التحليل والتحريم وحق الحكم على الشيء بأنه بدعة أو هدى- اعتبر أن صرف هذا الحق إلى غيره يعتبر شركاً به سبحانه وتعالى، فمن فعله فقد جعل نفسه نداً لله، قال الله جل وعلا مشيراً إلى هذا الأمر ومقرراً له: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:30-31].

أحبارهم: علماؤهم، ورهبانهم: عبادهم، فكانوا إذا أحلوا شيئاً أحله الأتباع، وإذا حرموا شيئاً حرمه الأتباع، فجعلوا هؤلاء الأحبار والرهبان أنداداً لذي الجلال والإكرام ينازعونه في التشريع، ثم يطيعونهم بعد ذلك فيما يشرعون.

ثبت في سنن الترمذي والحديث رواه الإمام ابن سعد في الطبقات وعبد بن حميد في مسنده، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير والإمام البيهقي في السنن الكبرى، ورواه ابن جرير في تفسيره، وهكذا رواه أهل الكتب التي تروي التفسير بالأسانيد كالإمام ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهم، والحديث إسناده حسن وله شواهد من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما موقوفاً عليه في تفسير الطبري وسنن البيهقي ، وله شواهد رويت من كلام عبد الله بن عباس ورويت آثار أخرى تشهد له، وكما قلت: إن الحديث حسن، وقد حسنه عدد من أئمتنا منهم شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، ولفظ الحديث: (عن عدي بن حاتم أنه دخل على نبينا عليه الصلاة والسلام وكان عدي من العرب الذين تنصروا في الجاهلية ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية عندما دخل عليه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31] فقال عدي : يا رسول الله! ما عبدوهم)، والآية تقول: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] أي: جعلوهم معبودين أرباباً مع رب العالمين، ومراد عدي بقوله: ما عبدوهم، أي ما سجدوا لهم ولا نذروا لهم ولا صاموا لهم ولا صلوا إليهم.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عدي ! أو ما كانوا يحلون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال فيطيعوهم؟ قال: بلى، قال: هذه عبادتهم )، أي أنهم أعطوهم حق التشريع في الحكم على الأشياء بأنها حلال أو حرام، خير أو شر، رذيلة أو فضيلة، فهذه عبادتهم، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31].

إن التشريع من خصائص الله جل وعلا، وكل من نازعه هذه الصفة فقد أشرك به، وجعل نفسه نداً لربه، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا الأمر في كثير من آيات القرآن، وبين أن الخالق هو الذي يشرع سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا في سورة الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:54-56]، فهو سبحانه وتعالى له الخلق والأمر، هو خالق كل شيء، وهو بعد ذلك الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ليهتدي الخلق بهدى خالقهم سبحانه وتعالى.

فالخالق هو الآمر الناهي، وهو المشرع سبحانه وتعالى، وهو الذي يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، وهو بأمور عباده خبير بصير، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

وهكذا قرر الله هذا المعنى في كثير من آيات القرآن، وبين أن الخالق هو الذي ينبغي أن يشرع الأمور والحلال والحرام لعباده من بني الإنسان، يقول الله جل وعلا في سورة الشورى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى:10-12] فالله هو الذي خلق السماوات والأرض على غير مثال سبق، وهو الذي فطرهما، وهو الذي أوجدهما من العدم، وله مقاليد السماوات والأرض وهو خالق كل شيء، إذاً ينبغي أن نحتكم في جميع شئون حياتنا إليه، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10].

وهكذا تقرر كثير من الآيات هذا المعنى وتوضحه، وهو: أن الخالق هو المشرع سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا مقرراً هذا المعنى ومشيراً إليه أيضاً في سورة الرعد: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16].

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الرعد:16] أي: تعبدونهم ويشرعون لكم وتحتكمون إليهم، والحال أنهم: لا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [الرعد:16] أي: الكافر والمؤمن، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [الرعد:16] أي: الحق والباطل، والإسلام والكفر، أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [الرعد:16]، هل هناك من نازع الله في الخلق وشاركه في ذلك فاشتبه عليهم خلقهم بخلق ربهم، ومن أجل ذلك أعطوا صفة التشريع لبعض الخلق؛ لأن هذا البعض خلق شيئاً في هذا الكون؟ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16]، فهذا الخالق المدبر الذي يعلم السر وأخفى هو الذي ينبغي أن يشرع لهذه البشرية ما يسعدها في الحياة وبعد الممات.

ولذلك إخوتي الكرام! لا يرضى الله لعباده أن ينازعوه في التشريع كما لا يرضى الله لعباده أن يعبدوا غيره سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا في آخر سورة الكهف: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، ومن أمور العبادة أمر التشريع وأمر الحكم، والله جل وعلا كما أنه لا يرضى أن يشرك في عبادته أحد لا يرضى أن يشرك في حكمه أحد وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا في نفس السورة -أعني: في سورة الكهف- فقال في أوائلها عندما بين مقدار المدة التي لبثها أصحاب الكهف في الكهف: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:25-26]، وقرأ ابن عامر إمام الشام وقراءته متواترة عن نبينا عليه الصلاة والسلام بصيغة النهي وصيغة الخطاب: (ولا يشرك في حكمه أحداً) قرأها: ولا تشرك في حكمه أحداً، فلا تشرك بعبادة الله جل وعلا أحداً.

نعم فالله هو الخالق وهو المشرع سبحانه وتعالى، هو الذي يأمر وينهى، ولا يجوز لبشر أن ينازعه شيئاً من ذلك، وعليه؛ فلا يجوز للإنسان أن يحرك لسانه بأن هذا حلال وهذا حرام، وهذا فضيلة وهذا رذيلة، وهذا حسن وهذا قبيح، إلا على حسب شرع الله جل وعلا الذي بلغه إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن التقنين والتشريع نوع من الحكم، بل هو سنام الحكم، والله لا يشرك في حكمه أحداً، وأمرنا أن لا نشرك في حكمه أحداً، ولذلك بين أئمتنا هذا، وبينوا أن من شرع لغيره فقد جعل نفسه نداً لله واستعبد عباد الله.

إن التشريع فيه استعباد من المشرع لمن يشرع لهم، ولا حرج في أن يشرع الله لعباده ما شاء، ولا غضاضة علينا في ذلك، فهو سيدنا وربنا وخالقنا ونحن عبيده نتذلل له ونفتخر بحكمه، إنما الحرج كل الحرج والغضاضة كل الغضاضة أن يشرع بشر لبشر وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وإلى هذا أشار بعض العلماء فقال:

تغرب لا مستعظماً غير نفسه ولا قابلاً إلا لخالقه حكما

أي: أنت لا تجل إلا نفسك، ليس من باب التعالي على الغير، إنما أنت من باب عزة النفس، ثم بعد ذلك لا تقبلوا حكم أحد، إنما تقبلوا حكم الله.

إخوتي الكرام! لقد قصر الله الحكم عليه، وحصره فيه في كثير من آيات القرآن، فقال ربنا الرحمن في سورة الأنعام آمراً نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]. وقال الله جل وعلا في سورة يوسف مخبراً عن نبيه يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، أنه قال لصاحبي السجن: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:39-40].

وهكذا أخبر الله جل وعلا في نفس هذه السورة عن والد نبي الله يوسف ألا وهو نبي الله يعقوب على نبينا وعليهما صلاة الله وسلامه، فقال لبنيه: لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف:67]، إن الحكم إلا لله سبحانه وتعالى، فهذا محصور فيه ومقصور عليه، وهو الذي يحل ويحرم ما شاء، وهو الذي يشرع لعباده ما شاء، وهو أعلم بمصالحهم، وهو أرحم بهم من أنفسهم، وهو أعلم بما يسعدهم وبما يعزهم في الدنيا وفي الآخرة، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [يوسف:67].

اعتبر ربنا جل وعلا أن صرف هذا الحق إلى غيره -أعني حق التشريع وحق التحليل والتحريم وحق الحكم على الشيء بأنه بدعة أو هدى- اعتبر أن صرف هذا الحق إلى غيره يعتبر شركاً به سبحانه وتعالى، فمن فعله فقد جعل نفسه نداً لله، قال الله جل وعلا مشيراً إلى هذا الأمر ومقرراً له: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:30-31].

أحبارهم: علماؤهم، ورهبانهم: عبادهم، فكانوا إذا أحلوا شيئاً أحله الأتباع، وإذا حرموا شيئاً حرمه الأتباع، فجعلوا هؤلاء الأحبار والرهبان أنداداً لذي الجلال والإكرام ينازعونه في التشريع، ثم يطيعونهم بعد ذلك فيما يشرعون.

ثبت في سنن الترمذي والحديث رواه الإمام ابن سعد في الطبقات وعبد بن حميد في مسنده، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير والإمام البيهقي في السنن الكبرى، ورواه ابن جرير في تفسيره، وهكذا رواه أهل الكتب التي تروي التفسير بالأسانيد كالإمام ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهم، والحديث إسناده حسن وله شواهد من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما موقوفاً عليه في تفسير الطبري وسنن البيهقي ، وله شواهد رويت من كلام عبد الله بن عباس ورويت آثار أخرى تشهد له، وكما قلت: إن الحديث حسن، وقد حسنه عدد من أئمتنا منهم شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، ولفظ الحديث: (عن عدي بن حاتم أنه دخل على نبينا عليه الصلاة والسلام وكان عدي من العرب الذين تنصروا في الجاهلية ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية عندما دخل عليه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31] فقال عدي : يا رسول الله! ما عبدوهم)، والآية تقول: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] أي: جعلوهم معبودين أرباباً مع رب العالمين، ومراد عدي بقوله: ما عبدوهم، أي ما سجدوا لهم ولا نذروا لهم ولا صاموا لهم ولا صلوا إليهم.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عدي ! أو ما كانوا يحلون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال فيطيعوهم؟ قال: بلى، قال: هذه عبادتهم )، أي أنهم أعطوهم حق التشريع في الحكم على الأشياء بأنها حلال أو حرام، خير أو شر، رذيلة أو فضيلة، فهذه عبادتهم، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31].

إخوتي الكرام! إن منازعة الله في التشريع وإطلاق العقل في هذه الحياة ليحكم على الأشياء بأنها حلال أو حرام، فضيلة أو رذيلة، خير أو شر؛ هذا يعتبر شركاً بالله عز وجل، وهذا يعتبر كفراً في الإنسان ويخرجه من دائرة الإسلام.

إخوتي الكرام! عند هذه القضية لابد من بيان أمر يتكلم الناس فيه في هذه الأيام، فلابد من وضع الأمر في موضعه الشرعي.

إن الذي ينحرف عن شرع الله، والذي لا يعمل بحكم الله، له أربعة أحوال: حالة كفر، وحالة بدعة، وحالة معصية، وحالة خطأ، فلنعرف هذه الأمور لنضع كل شيء في موضعه، ولئلا نشتط، ولئلا نقول في دين الله برأينا.

القسم الذي يكون فيه المخالف لحكم الله كافراً

من أعرض عن حكم الله وتركه وانحرف عنه وتحاكم إلى غيره يعتبر كافراً في ستة أحوال، من تلبس بواحدة منها فهو كافر مرتد وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.

الحالة الأولى: أن يرى أن شريعة الإسلام باطلة، وأن القوانين الوضعية والأنظمة البشرية هي أحق من شريعة رب البرية، فمن اتصف بهذا الأمر وجحد أحقية حكم الله ولم ير فيها صلاحاً وفلاحاً لعباد الله فلا شك في كفره وردته وخروجه من الإسلام وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فإذا كان يرى أن شريعة الإسلام لا يصلح أن يحكم بها في هذا الزمان وإنما ينبغي أن نحتكم إلى فلان وفلان فلا شك في كفره.

والحالة الثانية: أن يرى أحقية حكم الله بالحكم وأن شريعة الله حق وصواب، لكنه يقول: إن نظامنا الوضعي أيضاً حق وصواب ولا مانع أن نحكم به، ونظامنا يساوي شرع ربنا؛ فلا شك في كفر هذا وردته وخروجه من الإسلام أيضاً.

والحالة الثالثة: أن يقول: إن شرع الله حق وصواب ولا يجحد أحقيته ومنزلته ومكانته ويقول: إن التشريعات الوضعية والأحكام البشرية دونه في المنزلة والرتبة؛ لكن مع ذلك يجوز أن نحتكم إليها، فمن فعل ذلك أيضاً وأباح الاحتكام إلى غير شريعة الله فلا شك أيضاً في كفره.

الحالة الرابعة: أن يقول: إن شريعة الله حق وصواب، لكن قوانين البشر فيها صواب وفلاح وخير أكثر من شريعة الله -وهي تقابل الصورة الثالثة- ولذلك نحتكم إليها، فلا شك أيضاً في كفره وردته.

والحالة الخامسة: أن يقول: شريعة الله حق وصواب وفيها هدى ونور، لكنه يستخف بها ويستهزئ بها ويعارضها مع علمه بما فيها من خير ونور؛ فلا شك في كفره وردته أيضاً.

والحالة السادسة: أن يقول: شريعة الله فيها حق وصواب لكنه يعرض عنها ولا يبالي بها، وحاله كما قال الله جل وعلا: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقال: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48]، فهو يعرض عن الاحتكام إلى شريعة الرحمن وكأنه يرى أن هذه الحياة لا شريعة فيها لرب الأرض والسماوات، فمن اتصف بشيء من ذلك فلا شك في كفره وردته.

والخلاصة:

الحالة الأولى: يجحد أحقية حكم الله ولا يرى في شريعة الله خيراً ورشداً وصواباً.

الحالة الثانية: أن يقول: إن شريعة الله فيها حق وصواب ولا يجحد أحقيتها لكنه يقول: إن شرائعنا تساويها ويجوز الاحتكام إليها.

الحالة الثالثة: أن يقول: شريعة الله حق وصواب وهي أعلى من تشريعاتنا الوضيعة، لكن يجوز أن نحكم بالتشريعات الوضعية.

الحالة الرابعة: أن يقول: شريعة الله حق وصواب لكن الصواب في تشريعاتنا وأنظمتنا أكثر مما هو موجود في شريعة ربنا.

الحالة الخامسة: أن يقول: شريعة الله حق وصواب لكنه يستخف بها ويجحدها ويستهزئ بها.

والحالة السادسة: أن يقول: يعرض عنها ولا يبالي بها.

فمن اتصف بشيء من ذلك فقد نازع الله جل وعلا في ربوبيته وألوهيته، وجعل نفسه نداً لله، وفرض نفسه على عباد الله، ولذلك من اتصف بشيء من ذلك فلا شك في كفره وردته وخروجه من دين ربه.

ولا يقولن قائل: إن بعض التشريعات الوضعية ليس بينها وبين الإسلام اختلاف كثير، وعليه؛ لا مانع من أن نأخذ بها.

إن من يقول هذا -كما قلت- خارج من دين الإسلام.

إن كثرة الفروق بين شريعة الخالق والمخلوق مانعة للمسلم من أن يأخذ بالتشريع الوضعي، وإن قلة الفروق عنده تعتبر أمنع مانع وأكبر حاجز؛ لأنه إذا قلت الفروق بين التشريعات الوضعية وتشريعات رب البرية فعلام إذاً نعرض عن تشريعات ربنا ويقبل بعضنا على تشريعات بعضنا؟ إن قلة الفروق ليست مبررة للأخذ بالتشريعات الوضعية، إنما تكون أمنع عند الإنسان من الأخذ بهذه التشريعات الوضعية؛ لأن قلة الفروق تدل على أننا لا نبالي بشريعة ربنا، وتدل أيضاً على أنه لا داعي إذاً للأخذ بذلك التشريع مع قلة الفروق، وإذا انتفت الفروق كما يتوهم بعض الناس بين الشريعة الإسلامية والتشريعات الوضعية فالأخذ بالتشريعات البشرية في ذلك الوقت كفر صريح، وارتداد قبيح، وإذا لم يكن هناك فارق بين شرع الله وشرع المخلوق، فعلام انتسبت إلى شرع المخلوق ولم تأخذ بشرع الخالق سبحانه وتعالى؟

ولا يقولن قائل: لا فارق بينهما، نقول: ما الداعي لهذا التشويش والإعراض عن شرع الله الجليل إذا لم يكن هناك فارق بين التشريع الرباني والتشريع الوضعي.

إن كثرة الفروق -كما قلت- تمنع المسلم من أن يترك دين ربه ليأخذ بشرع غيره، وإن قلة الفروق تعتبر عنده من أكبر الموانع بل أمنع مانع؛ لأنه لا داع إذاً للأخذ بغير شريعة الله؛ ولأنه في هذه الحالة يدل أخذه بغير شريعة الله على عدم مبالاته بشريعة الله.

ولو قدر أن الفروق قد انعدمت فالأخذ بالتشريع الوضعي في هذا الوقت كفر بواح وردة صريحة؛ لأنه لا مبرر للأخذ بذلك إذا انتفت الفروق إلا كراهية الانتساب إلى الإسلام.

يقول بعضهم: هذا حكم إسلامي لا نريده، وهذا تشريع وضعي وهذا كهذا، لكنا ننسب أنفسنا إلى التشريعات البشرية ولا نريد أن نأخذ بتشريعات رب البرية. هذا كله دافعه إذاً كره للإسلام ومحادة لذي الجلال والإكرام.

إذاً: هذه هي الحالة الأولى: من انحرف فيها عن حكم الله ولم يأخذ بشريعة الله فلا شك في كفره ضمن هذه الأحوال الستة.

القسم الذي يكون فيه المخالف لحكم الله مبتدعاً

أن يكون المنحرف عن حكم الله مبتدعاً زائغاً كما هو بحثنا في حال البدعة، ويكون هذا فيمن انحرف عن شريعة الله بنوع تأويل، لشبهة عنده، وهذا التأويل وهذه الشبهة مرفوضان لا يعتبران في شريعة الإسلام، وهو في حال انحرافه عن شريعة ربه لما عنده من شبهة وتأويل يعظم الله الجليل، ففي هذه الحالة يعتبر مبتدعاً زائغاً ضالاً ولا يحكم عليه بالكفر؛ لأنه ترك حكم الله لشبهة عنده، ولتأويل قام في نفسه لكنه معظم لله، عابد له، وانحرف بعد ذلك عن شريعة الله لتأويل ولشبهة، وهذان الأمران -التأويل والشبهة- لا يعتبران في الإسلام، وعليه؛ فهو ملوم، وهو من عداد المبتدعين الزائغين عند الحي القيوم.

القسم الذي يكون فيه المخالف لحكم الله عاصياً

أن يعتبر الخروج عن حكم الله معصية وفسقاً، وهو في حال من انحرف عن حكم الله لا جحوداً له -كما تقدم معنا- ولا ما يلحق بذلك من الأحوال الأخرى، ولا تركه لشبهة وتأويل، إنما تركه لغلبة شهوة عليه، غلبته شهوته فترك حكم الله وعصى الله ولم يحتكم إليه، أو حكم بغيره من باب إيثار الدنيا على الآخرة دون أن يتصف بالحالة الأولى ودون أن يكون عنده تأويل؛ فهذا فاسق عاص، أمره إلى الله جل وعلا: إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

القسم الذي يكون فيه المخالف لحكم الله مخطئاً

أن يعتبر الخروج عن حكم الله خطأً، ولا يقال لفاعله: صاحب خطيئة، إنما يقال: هو معذور وخطؤه مغفور وهو مأجور عند العزيز الغفور، وهذا يكون فيمن استوفت فيه شروط الاجتهاد من أئمة الهدى والرشاد ثم اجتهد في أمر شرعي فخالف اجتهاده نصاً شرعياً، فنقول: إنه خطأ، والله يغفر له ويثيبه على اجتهاده ورحمته واسعة كما يأتينا تفصيل هذا عند المعلم الثالث في بيان الاجتهاد في الإسلام.

فالخروج عن حكم الله تارة يعتبر كفراً، وتارة بدعة، وتارة فسقاً، وتارة خطأً لا خطيئة فيه على صاحبه.

فمن نازع الله في التشريع واستحل ذلك ورأى أن تشريعه ينبغي أن يحكم بين الناس، وأن تشريع الله لا يصلح أن يكون حكماً بين عباده فلا شك في كفره وردته.

سبحان ربي العظيم! لا يشرك ربنا في حكمه أحداً، وأمرنا أن لا نشرك في حكمه وفي عبادته أحداً.