البدعة - زيارة النساء للقبور


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهد الله فهو المهتد, ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً, وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير. اللهم لك الحمد كله, ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله, أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين, وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] .

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله, أرسله الله رحمةً للعالمين, فشرح به الصدور, وأنار به العقول, وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين الصادقين المفلحين, وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: معشر الإخوة الكرام! تقدم معنا أن البدعة من أسباب سوء الخاتمة، نسأل الله أن يحسن ختامنا, وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه, إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وهذه الخصلة الردية؛ أعني البدعة، قلت: سنتدارسها ضمن ثلاثة مباحث:

أولها: في تعريفها.

ثانيها: في بيان النصوص المحذرة المنفرة من البدعة.

ثالثها: في أقسام البدعة.

إخوتي الكرام! لا زلنا في المبحث الأول في تعريف البدعة، وقلت: إنها حدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان ولم تشهد بذلك نصوص الكتاب, مع زعم المحدث بما أحدثه أنه يتقرب به إلى ذي الجلال والإكرام.

وهذه البدعة بهذا التعريف وهذا الحد وهذا الضابط -كما قرره أئمتنا الكرام- انحرف نحوه صنفان من الأنام؛ صنف غلوا وأفرطوا فأدخلوا في حد البدعة وضابطها وتعريفها ما ليس منها، وقسم فرطوا فألغوا البدعة وابتدعوا في دين الله عز وجل وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104], ودين الله بين الغالي والجافي, ولا إفراط ولا تفريط، وهاتان الفرقتان لا بد من أن نحذرهما, وأن نحذر من أقوالهما.

وقلنا إخوتي الكرام! في مدارسة غلو الفرقة الأولى أنها وسعت مفهوم البدعة ودائرتها, فحكموا بالبدعة والتضليل على ما احتمله الدليل, وقال به إمام جليل، بل اشتطوا أكثر من ذلك, فحكموا على الفعل بأنه بدعة منكرة مع أنه وردت به صراحة نصوص الشرعية المطهرة.

وذكرت لذلك أمثلة معتبرة منها: ما يتعلق بصلاة التراويح في ليالي رمضان, وأنها عشرون ركعة كما نقل هذا عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه, ووافقه عليها سائر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا هو المقرر عند الجماهير كما تقدم معنا.

ومن ذلك أيضاً وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع كما هو الحال قبل الركوع, فتقدم معنا أن هذه كيفية شرعية, وليست ببدعة ردية.

ومن ذلك أيضاً قراءة القرآن على القبور، وتقدم معنا أنه يتعلق بهذه المسألة ثلاثة أمور:

الأمر الأول: تلقين الميت؛ وقد مر الكلام على ذلك.

الأمر الثاني: إثبات سماع الميت في قبره, وأنه يعلم بمن يزوره ويستأنس به ويفرح بما يجري عنده من طاعة، ويحزن لما يجري عنده من معصية.

والأمر الثالث: إهداء القربات إلى الأموات.

إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمر الثاني وهو سماع الأموات في قبورهم, وعلمهم بمن يزورهم، وتقدم معنا تقرير هذا مبيناً بأدلته الثابتة الواضحة, وكان المتوقع أن ننتقل إلى آخر الأمور؛ ألا وهو إهداء القربات إلى الأموات, لننتقل بعد ذلك إلى مدارسة حال الفرقة الثانية الذين ألغوا البدعة في الدين, ثم خرفوا ما شاءوا, ونسبوا تخريفهم إلى شريعة رب العالمين.

إخوتي الكرام! سأتكلم هنا عن أمرين اثنين: أمر يتعلق بما مضى, كنت ذكرته من باب الاستطراد لتوضيح حكمه, وقد رغب عدد من الإخوة الكرام في تقريره وبيان أمره, وقد استشكله بعض من سمع هذا الكلام, فلا بد من وضع الأمر في نصابه.

والأمر الثاني: زيادة تقرير في أن الأموات يفرحون بما يجري عندهم من طاعات, ويحزنون ويتألمون بما يقع عندهم من سيئات ومنكرات، وهذا الأمر الثاني ثابت عن نبينا خير البريات عليه صلوات الله وسلامه, فموضوعنا سيدور حول هذين الأمرين.

أما الأمر الأول إخوتي الكرام! يتعلق بزيارة النساء للقبور, وقد كنت ذكرت هذا استطراداً في تقرير سماع الأموات, وأنه شُرِعَ لنا أن نزورهم, وذكرت حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها, وهو حديث صحيحٌ ثابت في المسند وصحيح مسلم وسنن النسائي , عن أمنا الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, أنها قالت لنبينا خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه: ( كيف أقول إذا زرت القبور؟ فقال نبينا البشير النذير المبرور عليه صلوات الله وسلامه قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين, يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )، عند هذا الحديث إخوتي الكرام قلت: إن زيارة القبور للنساء مشروعة جائزة, وبينت باختصار أقوال أئمتنا الأبرار في هذه المسألة, لكن الأمر مع وضوحه استشكله بعض الناس عندما سمعه, ونسأل الله أن يشرح صدورنا للحق, وأن يرزقنا الفهم والعمل بما نفهم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! نزولاً عند رغبة الإخوة الكرام سأذكر ما يتعلق بهذه المسألة؛ وهو الأمر الأول من الأمرين اللذين سنتدارسهما.

الأدلة على نهي النساء عن زيارة القبور

إخوتي الكرام! وردت أحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام تنهى النساء عن زيارة القبور, وتحذرهنَّ من ذلك، من هذه الأحاديث ما ثبت في المسند والسنن الأربع إلا سنن ابن ماجه ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه, والحاكم في مستدركه, ورواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده, والبيهقي في السنن الكبرى, والحديث إسناده حسن, حسنه شيخ الإسلام الإمام الترمذي وغيره عليهم جميعاً رحمة الله.

ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوَّرات القبور, والمتخذين عليها المساجد والسرج ) وهذا الحديث صحيح, والجملة الأولى وردت من رواية أبي هريرة وحسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين.

أما رواية أبي هريرة في لعن نبينا عليه صلوات الله وسلامه لزوَّارات القبور؛ فقد رواها الإمام أحمد في مسنده، والإمام الترمذي في سننه, وهكذا ابن ماجه في السنن, ورواها ابن حبان في صحيحه, وأبو داود الطيالسي في مسنده, والبيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّارات القبور ) .

وأما حديث حسان بن ثابت فهو بمعنى حديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين؛ فقد رواه الإمام أحمد أيضاً في مسنده, وابن ماجه في سننه, والحاكم في مستدركه, وهو أيضاً في مسند أبي داود الطيالسي ، والسنن الكبرى للإمام البيهقي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور ), وهذا الحديث حديث صحيح ثابت من رواية ابن عباس وأبي هريرة وحسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين، لكن هذا الحديث عورض بأحاديث أخرى, فلا بد من التوفيق بين كلام نبينا صلى الله عليه وسلم.

إن نبينا صلوات الله عليه وسلامه نهى النساء كما نهى الرجال في أول الأمر عن زيارة القبور؛ لأن القوم حديثو عهد بشرك وجاهلية, وقلوبهم لم تتعلق على وجه التمام برب البرية؛ فلئلا يزوروا القبور زيارة بدعية شركية نهوا في أول الأمر ذكوراً وإناثاً عن زيارة القبور, ثم رُخص لهم من قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، بل ندبوا إلى ذلك, والدليل على هذا ما ستسمعونه إخوتي الكرام من الأدلة, وما سأعقب أيضاً على هذه الأدلة بفهم كلام أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.

الأدلة على جواز زيارة النساء للقبور

الأحاديث التي تدل على الترخيص والندب والجواز؛ منها: حديث بريدة رضي الله عنه وهو في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي ، ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى, وهو حديث صحيحٌ كما في صحيح مسلم -كما قلت- عن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ).

وتقدم معنا أن سبب الترخيص أنها تذكر بالآخرة, وأنها ترق القلب, وتدمع العين؛ كما ثبت ذلك عن سيد الكونين نبينا عليه صلوات الله وسلامه بقوله: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها, وكنت نهيتكم عن أكل لحم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم, وكنت نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فانبذوا في الأسقية كلها, ولا تشربوا مسكراً ).

والحديث إخوتي الكرام! في صحيح مسلم وغيره, وتأمل هذه الأمور الثلاثة, هل هي خاصة بصنف أو عامة للصنفين؛ أعني: الرجال والنساء؟

بالنسبة للأضاحي نهي المسلمون في أول الأمر أن يدخروا من الأضاحي فوق ثلاث؛ من أجل أن يحصل مساعدة بين المضحين وبين من لا يستطيعون الأضحية، فإذا ضحى الإنسان يباح له أن يأكل من ذبيحته اليوم الأول، والثاني، والثالث، فإذا بقي عنده شيء يحرم عليه أن يأكل منه, وإذا أكل منه فقد عصى الله عز وجل.

وعليه إذاً: يسارع الناس إلى الصدقة ومساعدة من لم يضح، هذا كان في أول الأمر, ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فأمسكوا ما بدا لكم ) أي: إن شئت أن تمسك أضحيتك حولاً كاملاً لتأكل منها في يوم عرفة في السنة الآتية لتبدأ يوم النحر بأضحية أخرى فلا حرج عليك، هذا معنى كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

وهل هذا خاص بالنساء أو بالرجال؟ أو هو شامل للصنفين؟

وهكذا الانتباذ نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين في أول الأمر أن ينتبذوا إلا في أسقية الأدم، والنبيذ يراد به: ثمرات أو حبات من زبيب تلقى في الماء من أجل أن يحلو الماء وأن يعذب طعمه, وكان هذا محبباً إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه وإلى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين, فكانوا إذا وضعوا التمرات أو حبات الزبيب في هذا السقاء يشربون منه في اليوم الأول والثاني والثالث، ثم بعد ذلك يريقونه, وإذا لم يُسكر فيجوز أن يشربوا منه ما شاء الله من فترة وزمن.

لكن في أول الأمر؛ لعلهم حديثو عهد بسكر قد لا يميزون بين الشراب إذا أسكر وبين الشراب الذي لم يُسكر, فنهوا عن الانتباذ إلا في أسقية الأدم, وأسقية الأدم: هي التي تكون من جلد وأدم, ويلف على أفواهها كما وضح ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، وإذا انتبذ الإنسان في أسقية الأدم وهذا الوعاء مربوط على فمه, لو قُدر أن هذا الشراب أسكر فتتمدد فيه الغازات وسينفجر؛ لأنه لا يحتمل، وأما إذا كان الوعاء من خشب أو حجر أو زجاج فيسكر الشراب فيه ولا يتأثر هذا الوعاء بما فيه, فنهوا عن الانتباذ إلا في أسقية الأدم, ثم رُخص لهم أن ينتبذوا في كل وعاء بشرط أن لا يشربوا مسكراً.

والأمور الثلاثة إخوتي الكرام! كما ترون مبتدأة ومقرونة ببعضها في حديث واحد, وبما أنه يجوز للنساء أن يدخرن من الأضاحي فوق ثلاث, ويجوز للنساء أن ينتبذن في الأسقية الأدم وغيرها وأن يشربن من هذا الشراب إذا لم يكن مسكراً, فيجوز للنساء أن يزرن القبور كما يحصل من الرجال تماماً.

فالأمور الثلاثة في حديث واحد: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن أكل لحم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، وكنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء فانتبذوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكراً).

والحديث إخوتي الكرام! نص صريح صحيح في جواز زيارة النساء للقبور؛ ولذلك قال شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر حافظ المغرب في زمنه, وهو كحافظ المشرق في زمانه الخطيب البغدادي , وقد توفيا في سنة واحدة سنة ثلاث وستين وأربعمائة لهجرة نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه. يقول ابن عبد البر : نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن زيارة القبور نهي عام, وترخيصه في زيارة القبور ترخيص عام, وعلى هذا فيجوز للنساء أن يزرن القبور كما يجوز للرجال.

والحديث الثاني ثبت في الصحيحين وسنن البيهقي من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: ( مر نبينا صلى الله عليه وسلم على امرأةٍ تبكي عند قبر, فقال لها عليه صلوات الله وسلامه: يا أمة الله! اتقي الله واصبري. فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي )، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, وقد التمس لها أنس عذراً فقال: لم تعرفه؛ ما عرفت أن من يكلمها هو خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه. لذلك قالت له هذه العبارة: إليك عني -وهذا من تواضعه عليه صلوات الله وسلامه؛ لا يتميز على أصحابه بحيث يخفى عنهم أحياناً, وكان الأعرابي إذا جاء ودخل إلى مجلس النبي صلوات الله عليه وسلامه يقول: أيكم محمد؟ على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه-: ( إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي, ولم تعرفه, فقيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -أتدري من كلمك؟ ولمن قلت: إليك عني؟- فأتت النبي عليه الصلاة والسلام, فوجدت غرابة أخرى لم تجد من يمنعها من الدخول, فقالت: يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم -تعتذر لما جرى منها- لم أعرفك, فقال خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه: إنما الصبر عند الصدمة الأولى ).

والحديث -كما قال أئمتنا- نص صريح صحيحٌ في جواز زيارة النساء للقبور, وقد بوَّب على هذا الحديث سيد المسلمين وأمير المؤمنين في حديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز باباً فقال: باب زيارة القبور.

قال الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله: وتقرير النبي عليه الصلاة والسلام لهذه المرأة في زيارتها وعدم إنكاره عليها زيارتها دليل على أن زيارة القبور مشروعة للنساء كما هي مشروعة للرجال.

وقال الإمام العيني في عمدة القاري في شرح هذا الحديث: يؤخذ منه أن زيارة القبور مشروعة مطلقة للرجال وللنساء.

وكما قلت إخوتي الكرام: الدلالة ظاهرة واضحة صريحة صحيحة، والحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير عند تخريج أحاديث كتاب الجنائز قال: فائدة, ثم ذكر أن هذا الحديث كحديث أمنا عائشة الآتي يدلان على جواز زيارة النساء للقبور.

إذاً: هذا الحديث إخوتي الكرام! صريح صحيح في أن امرأة زارت القبور, والنبي عليه الصلاة والسلام أقرَّها ولم يعترض عليها, وإقراره تشريع وسنة, فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه.

وهذا الأمر وارد في حديث أمنا عائشة رضي الله عنها, وهو ثابت في المسند, وصحيح مسلم وسنن النسائي أنها قالت لنبينا عليه صلوات الله وسلامه: ( كيف أقول إذا زرت القبور؟ فقال نبينا عليه صلوات الله وسلامه قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين, يرحم الله المستقدمين والمستأخرين, وإن شاء الله بكم لاحقون ) .

فهذا سؤال من الصديقة موجه إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه إمام الصادقين، فما أنكر عليها وقال لها: إن زيارة القبور للنساء ليست مشروعة فعلام تسألين عنها؟ لا يحل لك ولأمثالك، وقد كانت أمنا عائشة رضي الله عنها التي باشرت هذا السؤال بنفسها، فسألت نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر عندما كان حياً عليه صلوات الله وسلامه, كانت تطبق ذلك بعد انتقال نبينا صلوات الله عليه وسلامه إلى جوار ربه إلى الرفيق الأعلى, فكانت تزور القبور, وإذا استشكل مستشكل ترد عليه بأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بزيارة القبور بعد أن نهى عنها.

ثبت في مستدرك الحاكم والسنن الكبرى للإمام البيهقي بسند صحيح كالشمس من رواية أبي مليكة وهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة من أئمة التابعين الطيبين, توفي سنة سبع عشرة ومائة, حديثه مخرج في الكتب الستة, وقد أدرك ثلاثين صحابياً وروى عنهم؛ ومنهم أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين.

يقول عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة : ( رأيت أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قادمة من المقابر, فقلت لها: من أين قدمت يا أم المؤمنين؟! قالت: كنت أزور قبر أخي؛ قبر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين, فقال لها عبد الله بن أبي مليكة : أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ أنتم معشر النساء نهيتنَّ عن ذلك فكيف تزرن القبور؟ فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها: يا عبد الله ! إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ثم أمر بها ), والحديث في سنن ابن ماجه مختصراً, وهو عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( ثم رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور ).

فهذه أحاديث كما ترون إخوتي الكرام! متعددة صحيحة صريحة في الدلالة بأن زيارة القبور مشروعة.

التوفيق بين أدلة النهي والإباحة في زيارة النساء للقبور

للتوفيق بين الأحاديث الدالة على الجواز وبين الأحاديث المتقدمة من حديث عبد الله بن عباس وأبي هريرة وحسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين: ( بأن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام لعن زوارات القبور ).

نقول: الجواب من وجهين معتبرين كما كنت أشرت إلى ذلك مختصراً:

الجواب الأول -وهو الذي عليه الجمهور-: أن أحاديث النهي منسوخة؛ كما أن الرجال نهوا عن زيارة القبور ثم نسخ ذلك في حقهم, كذلك النساء نهين عن زيارة القبور ثم نسخ ذلك في حقهنَّ. وهذه أحاديث صريحة صحيحة تدل على هذا.

والجواب الثاني: ذهب إليه الإمام القرطبي , وهو على التنزّل بأن أحاديث النهي بعد أحاديث الترخيص والإباحة, قال رحمة الله ورضوانه عليه -وهو الإمام القرطبي صاحب كتاب المفهم في شرح صحيح مسلم عليهم جميعاً رحمة الله-: إن هذه الأحاديث خاصة في من يكثر الزيارة ويرددها ويكررها, أما من فعل ما بين الحين والحين فزيارتها مشروعة وقربة لرب العالمين.

نعم الرجل يستحب له أن يكثر؛ لأنه في الأصل خارج البيت, وليس في خروجه من البيت مشكلة، أما المرأة فهي قاعدة في البيت فيباح لها أن تخرج لمصلحة شرعية؛ لترق قلبها, ولتدمع عينها, ولتدعو لميتها, وليستأنس بها, لكن هذه المصلحة لا ينبغي أن يترتب عليها مفسدة, فلا ينبغي أن تزور في كل يوم, إنما تزور في كل شهرٍ مرة, في كل سنة مرة، بالصفة الشرعية, فإذا زارت وما ترتب على خروجها مشكلة وردية فأي حرج في ذلك في الشريعة الإسلامية؟

وقد رخص نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام للنساء الزيارة الشرعية, وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الإمام القرطبي يدخل فيه ما قاله بعض أئمتنا؛ قالوا: على التسليم بأن أحاديث النهي بعد أحاديث الترخيص والإباحة فهي محمولة على من زارت القبور وقالت هجراً؛ يعني: زارتها زيارة بدعية شركية فما تقيدت بآداب الشرع في زيارتها, فهي تذم كما أن الرجل يذم.

وعليه: من لم تزر الزيارة الشرعية من النساء كماً أو كيفاً؛ كماً أي: لم تتقيد في ذلك في عدد الزيارات, فينبغي أن تزور في الشهر مرة, أو في السنة مرة, أما أن تخرج كل يوم أو كل أسبوع فهذا ينافي ما أمرها الإسلام به من أن تكون قعيدة بيت لا تكثر الولوج ولا الخروج.

وعلى هذا إذا خالفت هدي الإسلام في كيفية الزيارة فزارت زيارة بدعية شركية فإنها ملعونة.

والأمر الثاني يستوي معها فيه الرجل, فالرجل إذا زار زيارة بدعية شركية فهو ملعون عاصٍ للحي القيوم.

إخوتي الكرام! هذا ما قرره أئمتنا الكرام -شراح كتب السنة- نحو هذه الأحاديث.

آراء فقهاء المذاهب الأربعة في زيارة النساء للقبور

أما أئمتنا الفقهاء رضوان الله عنهم أجمعين فما خرج كلامهم عن ذلك, ولا بد إخوتي الكرام من ذكره لنكون على بينة من أمرنا, وكما قلت مراراً: ما احتمله الدليل، وقال به إمامٌ جليل فقد خرج عن كونه بدعة في شريعة الله الجليل، ثم بعد ذلك أنت ترى هذا أو لا تراه هذا أمرٌ آخر, إنما إياك أن تبدع كيفية يحتملها دليل شرعي, ويقول بها إمام تقي.

ولنذكر إخوتي الكرام! ولنتدارس أقوال أئمتنا الفقهاء على الترتيب الزمني.

أولهم السادة الحنفية: قرروا أن زيارة النساء للقبور مشروعة.

انظروا إخوتي الكرام! مثلاً: رد المحتار على الدر المختار المعروف بحاشية الإمام ابن عابدين عليه وعلى أئمتنا رحمة رب العالمين, في الجزء الثاني صفحة اثنين وأربعين ومائتين يقول: ويندب للنساء زيارة القبور كما يندب للرجال، والأصح دخولهنَّ في الترخيص؛ أي: في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ), فيندب لهنَّ ذلك كما يندب هذا للرجال.

وبعدهم السادة المالكية رضوان الله عليهم أجمعين؛ كما في حاشية الدسوقي في الجزء الأول صفحة ثماني وثمانين وثلاثمائة, فقد قرر المالكية حكم زيارة النساء للقبور على تفصيل ذكروه فقالوا: تُمنع النساء من زيارة القبور؛ لما يترتب على خروجهن فتنة؛ وهي مأمورة بأن تكون قعيدة البيت: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] وهذا الأمر الأول.

والأمر الثاني: يرخص لهن كما يرخص للرجال.

والثالث: وهو الذي مشى عليه علماء المذهب؛ أعني: مذهب الإمام مالك رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين؛ قالوا بالتفرقة بين الشابة والعجوز الكبيرة، فالشابة تُمنع خشية الافتتان بها, والعجوز الكبيرة يُرخص لها, وعليه فهي دخلت في الترخيص؛ لكن الشابة تُمنع لما يترتب على خروجها من محذور.

إخوتي الكرام! أنا أعجب للناس في هذه الأيام عندما سمحوا لنسائهم وبناتهم بالذهاب إلى الأسواق وإلى المتنزهات, وسمحوا لهن أن يذهبن معهم في الرحلات إلى ما شاء الله من البلاد, ثم بعد ذلك إذا قلت لهم: إذا استصحبت زوجتك إلى المقبرة بعد صلاة الفجر في يوم من الأيام لتذكرها بالمصير الذي تصير إليه؛ ليرق قلبها ولتدمع عينها ولتذكر أصحابها وأقاربها وأحبابها وتدعو لهم ويستأنسوا بها, يقول: أعوذ بالله! هذه بدعة وضلال؛ لكن خروجها للأسواق ذاك حسنة وكمال، نعوذ بالله من فساد العقول في هذه الأيام.

ولذلك إخوتي الكرام! انظروا لقول المالكية يقولون: إن كانت شابة تُمنع, ليس تمنع من المقابر ويرخص لها أن تذهب إلى السوق، هذه قعيدة بيت، وقلت: أشنع من الأسواق في هذه الأيام المدارس التي أحياناً يُدرس فيها نساء لعلهن أخبث من الشيطان الرجيم في الفساد والإفساد, وكل هذا تحملناه نحو بناتنا, ثم بعد ذلك إذا ذكرت زيارة القبور تتمعر وجوهنا, وتشمئز قلوبنا, وعلام هذا الأمر وقد أباحه نبينا عليه صلوات الله وسلامه وقرره أئمتنا؟

وأما السادة الشافعية فالأمر عندهم كما في المجموع شرح المهذب لشيخ الإسلام الإمام النووي في الجزء الخامس صفحة عشرة وثلاثمائة, زيارة القبور عندهم فيها قولان:

القول الأول: مكروهة كراهة تنزيه؛ والسبب في ذلك أن المرأة ينبغي أن تكون مستورة مصونة.

والقول الثاني: وهو الذي رجحه الإمام أبو المحاسن الروياني من أئمة الشافعية الكبار, ونقله عنه الإمام النووي في المجموع قال: يباح لهن ذلك كما يباح للرجال لاستواء الجميع في العلة، يشرع لها أن ترق قلبها, وأن تدمع عينها, وأن تتذكر المصير الذي ستصير إليه كما يشرع هذا في حق الرجل.

وهكذا السادة الحنابلة -وهم آخر المذاهب في الترتيب الزمني- قرروا هذين القولين اللذين قال بهما الشافعية الكرام, ففي المغني مع الشرح الكبير في الجزء الثاني صفحة ثلاثين وأربعمائة يقول الإمام ابن قدامة : وفي زيارة النساء للقبور قولان عن الإمام أبي عبد الله , يعني به: الإمام المبجل أحمد بن حنبل رضوان الله عليهم أجمعين: القول الأول بالكراهة, والقول الثاني بالجواز، وذكر دليل الجواز وختم بالكلام به, وقرره بالأحاديث الصحيحة الصريحة المتقدمة التي ذكرتها.

إذاً: إخوتي الكرام! هذه نصوص أئمتنا الحنفية يجيزون قولاً واحداً, وهو قول للمالكية والشافعية والحنابلة، وتقدم معنا قول شراح الحديث وشراح السنة في الجمع بين الأحاديث, وهذا الذي قاله أئمتنا رضوان الله عليهم, فهل بعد ذلك استنكار لهذا القول؟

إخوتي الكرام! إن هذا الأمر -كما قلت- مقرر عند أئمتنا قاطبة رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، فهذا الإمام عبد الحق أبو محمد -وكنت نقلت عنه عليه رحمة الله بعض النصوص, وقد توفي سنة واحد وثمانين وخمسمائة- يذكر في كتابه العاقبة هذه المسألة فيقول: وكذلك أبيحت زيارة القبور للنساء كما أبيحت للرجال, وأبيح لهنَّ البكاء على القبور كما أبيح للرجال, ثم ذكر حديث أنس المتقدم بأن النبي عليه الصلاة والسلام مر على امرأة وهي تبكي على قبر.

قال الإمام عبد الحق : والحديث صحيح مشهور ذكره مسلم والبخاري وغيرهما، وتقدم معنا أنه في سنن البيهقي وغيره أيضاً, ثم قال الإمام عبد الحق : ولو كان بكاء النساء عند القبور وزيارتهنَّ لها حراماً لنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزجرها زجراً يزجر بمثله من أتى محرماً وارتكب منهياً.

وما روي من النهي عن زيارة القبور للنساء فغير صحيح -يقصد أنه ما ورد نهي بعد الإباحة والترخيص والجواز- والصحيح ما ذكرت لك من الإباحة, إلا أن عمل النساء في خروجهن ما لا يجوز لهن من تبرج أو كلام أو غيره فذاك هو المنهي عنه, وقد أبيح لك أيها الإنسان! مطلقاً رجلاً أو امرأة أن تبكي على قبر ميتك حزناً عليه أو رحمة له مما بين يديه، فإن وجدت لك بكاء فابك, ومع بكائك على ميتك فلا تغفل عن بكائك على نفسك, وعن الفكرة فيما عملته في يومك وأمسك, وفي مآلك عند حلول رمسك؛ يعني: قبرك, بل لو أمكنك أن تجعل بكاءك كله عليك كان الأولى بل والأحمد لك.

إذاً: هذه نصوص -كما قلت- إخوتي الكرام! عن أئمة الإسلام يقرر هذا.

رأي الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في زيارة النساء للقبور

ذهب بعض أئمة الإسلام كالإمام ابن تيمية عليه رحمات الله رب البرية, وهكذا تلميذه ابن قيم الجوزية عليهم جميعاً رحمة الله إلى المنع والكراهة له رغم أن الأمر انتهى, والحجة فيما قرره أئمتنا, إلا أن الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله كتب في ذلك ثلاث عشرة صفحة في مجموع الفتاوى في الجزء الرابع والعشرين من صفحة ثلاث وأربعين وثلاثمائة إلى صفحة ست وخمسين وثلاثمائة يقرر فيها المنع, وهكذا تلميذه ابن قيم الجوزية عندما علق على تهذيب السنن كتب في ذلك أربع صفحات أيضاً في الجزء الرابع من تهذيب السنن, من صفحة سبع وأربعين وثلاثمائة إلى خمسين وثلاثمائة.

وقد ذكر الإمام ابن القيم عليه رحمة الله أدلة على المنع منها ما يقبل ومنها ما لا يقبل, ومن ذلك قال: إن حديث أنس رضي الله عنه الذي تقدم معنا نص صريح في تحريم زيارة النساء للقبور, وما فهم هذا أحد قبله ولا بعده, ولذلك لم يسبقه إلى ذلك أحد, ولا يتبعه عليه أحد, هنا مرفوض سواء ما فهمت وما قلت من الحديث.

قال: إن قول النبي عليه الصلاة والسلام للمرأة: (اتقي الله), يقول: والتقوى هي فعل ما أمر الله, وترك ما نهى الله عنه, وزيارة القبور للنساء منهي عنه, فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لها: لا تزوري القبور.

ثم قال: فقوله: (اصبري), قال: إن الصبر يلزم منه عدم خروجها عن البيت, وعدم بكائها, مما يدل على أن خروجها لزيارة القبور منهي عنه.

أنت تصادر على المطلوب في كلامك, تقول: إن الزيارة منهي عنها؛ ولذلك دخلت ضمن قول رسول الله: (اتقي الله)؛ لأن التقوى فعل المأمور وترك المحذور, قرر ذلك الأمر ثم أثبته على أنه من مقتضيات التقوى ألّا يفعله الإنسان.

إنني أقول ما قاله أئمتنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: إن الزيارة لو كانت غير شرعية لنهى عنها خير البرية عليه صلوات الله وسلامه بلفظ صحيح صريح يدل على المطلوب؛ لقال لها: يا أمة الله! علام تزورين القبور؟ وهذا لا يجوز في حق النساء, أما أن يقول لها: ( اتقي الله واصبري ), فما أنكر عليها الزيارة, إنما يريد أن يذكرها بتقوى الله, وأنه لا داعي للجزع ولا الهلع ولا للنياحة ولا للعويل.

ولذلك عندما جاءت إليه وقالت له: (لم أعرفك) عليه صلوات الله وسلامه, ما قال لها: إنك فعلت منكراً بزيارتك، إنما قال لها: ( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ).

نعم ذهب هذان الإمامان -كما قلت- للمنع من ذلك؛ لكن تقدم معنا قول جمهور أئمتنا, ويمكن أن نقول بعد ذلك باختصار: إن زيارة النساء للقبور احتملها الدليل, وقال بها إمام جليل, فلا يجوز أن نحكم عليها بأنها بدعة ضلالة, وأنها تضليل, فإذا شرح الله صدرك لهذا فاسمح لنسائك أن يزرن, وكن معهن, وإذا لم يشرح الله صدرك لذلك فاضبط لسانك, وقف عند حدك, وهذا الأمر قرره أئمتنا, ودل عليه كلام نبينا عليه صلوات الله وسلامه, فلا ينبغي أن يعترض على فاعله.

إخوتي الكرام! هذا الأمر لا بد من أن يرسخ في أذهاننا في هذا ال

إخوتي الكرام! وردت أحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام تنهى النساء عن زيارة القبور, وتحذرهنَّ من ذلك، من هذه الأحاديث ما ثبت في المسند والسنن الأربع إلا سنن ابن ماجه ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه, والحاكم في مستدركه, ورواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده, والبيهقي في السنن الكبرى, والحديث إسناده حسن, حسنه شيخ الإسلام الإمام الترمذي وغيره عليهم جميعاً رحمة الله.

ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوَّرات القبور, والمتخذين عليها المساجد والسرج ) وهذا الحديث صحيح, والجملة الأولى وردت من رواية أبي هريرة وحسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين.

أما رواية أبي هريرة في لعن نبينا عليه صلوات الله وسلامه لزوَّارات القبور؛ فقد رواها الإمام أحمد في مسنده، والإمام الترمذي في سننه, وهكذا ابن ماجه في السنن, ورواها ابن حبان في صحيحه, وأبو داود الطيالسي في مسنده, والبيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّارات القبور ) .

وأما حديث حسان بن ثابت فهو بمعنى حديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين؛ فقد رواه الإمام أحمد أيضاً في مسنده, وابن ماجه في سننه, والحاكم في مستدركه, وهو أيضاً في مسند أبي داود الطيالسي ، والسنن الكبرى للإمام البيهقي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور ), وهذا الحديث حديث صحيح ثابت من رواية ابن عباس وأبي هريرة وحسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين، لكن هذا الحديث عورض بأحاديث أخرى, فلا بد من التوفيق بين كلام نبينا صلى الله عليه وسلم.

إن نبينا صلوات الله عليه وسلامه نهى النساء كما نهى الرجال في أول الأمر عن زيارة القبور؛ لأن القوم حديثو عهد بشرك وجاهلية, وقلوبهم لم تتعلق على وجه التمام برب البرية؛ فلئلا يزوروا القبور زيارة بدعية شركية نهوا في أول الأمر ذكوراً وإناثاً عن زيارة القبور, ثم رُخص لهم من قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، بل ندبوا إلى ذلك, والدليل على هذا ما ستسمعونه إخوتي الكرام من الأدلة, وما سأعقب أيضاً على هذه الأدلة بفهم كلام أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.

الأحاديث التي تدل على الترخيص والندب والجواز؛ منها: حديث بريدة رضي الله عنه وهو في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي ، ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى, وهو حديث صحيحٌ كما في صحيح مسلم -كما قلت- عن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ).

وتقدم معنا أن سبب الترخيص أنها تذكر بالآخرة, وأنها ترق القلب, وتدمع العين؛ كما ثبت ذلك عن سيد الكونين نبينا عليه صلوات الله وسلامه بقوله: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها, وكنت نهيتكم عن أكل لحم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم, وكنت نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فانبذوا في الأسقية كلها, ولا تشربوا مسكراً ).

والحديث إخوتي الكرام! في صحيح مسلم وغيره, وتأمل هذه الأمور الثلاثة, هل هي خاصة بصنف أو عامة للصنفين؛ أعني: الرجال والنساء؟

بالنسبة للأضاحي نهي المسلمون في أول الأمر أن يدخروا من الأضاحي فوق ثلاث؛ من أجل أن يحصل مساعدة بين المضحين وبين من لا يستطيعون الأضحية، فإذا ضحى الإنسان يباح له أن يأكل من ذبيحته اليوم الأول، والثاني، والثالث، فإذا بقي عنده شيء يحرم عليه أن يأكل منه, وإذا أكل منه فقد عصى الله عز وجل.

وعليه إذاً: يسارع الناس إلى الصدقة ومساعدة من لم يضح، هذا كان في أول الأمر, ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فأمسكوا ما بدا لكم ) أي: إن شئت أن تمسك أضحيتك حولاً كاملاً لتأكل منها في يوم عرفة في السنة الآتية لتبدأ يوم النحر بأضحية أخرى فلا حرج عليك، هذا معنى كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

وهل هذا خاص بالنساء أو بالرجال؟ أو هو شامل للصنفين؟

وهكذا الانتباذ نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين في أول الأمر أن ينتبذوا إلا في أسقية الأدم، والنبيذ يراد به: ثمرات أو حبات من زبيب تلقى في الماء من أجل أن يحلو الماء وأن يعذب طعمه, وكان هذا محبباً إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه وإلى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين, فكانوا إذا وضعوا التمرات أو حبات الزبيب في هذا السقاء يشربون منه في اليوم الأول والثاني والثالث، ثم بعد ذلك يريقونه, وإذا لم يُسكر فيجوز أن يشربوا منه ما شاء الله من فترة وزمن.

لكن في أول الأمر؛ لعلهم حديثو عهد بسكر قد لا يميزون بين الشراب إذا أسكر وبين الشراب الذي لم يُسكر, فنهوا عن الانتباذ إلا في أسقية الأدم, وأسقية الأدم: هي التي تكون من جلد وأدم, ويلف على أفواهها كما وضح ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، وإذا انتبذ الإنسان في أسقية الأدم وهذا الوعاء مربوط على فمه, لو قُدر أن هذا الشراب أسكر فتتمدد فيه الغازات وسينفجر؛ لأنه لا يحتمل، وأما إذا كان الوعاء من خشب أو حجر أو زجاج فيسكر الشراب فيه ولا يتأثر هذا الوعاء بما فيه, فنهوا عن الانتباذ إلا في أسقية الأدم, ثم رُخص لهم أن ينتبذوا في كل وعاء بشرط أن لا يشربوا مسكراً.

والأمور الثلاثة إخوتي الكرام! كما ترون مبتدأة ومقرونة ببعضها في حديث واحد, وبما أنه يجوز للنساء أن يدخرن من الأضاحي فوق ثلاث, ويجوز للنساء أن ينتبذن في الأسقية الأدم وغيرها وأن يشربن من هذا الشراب إذا لم يكن مسكراً, فيجوز للنساء أن يزرن القبور كما يحصل من الرجال تماماً.

فالأمور الثلاثة في حديث واحد: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن أكل لحم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، وكنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء فانتبذوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكراً).

والحديث إخوتي الكرام! نص صريح صحيح في جواز زيارة النساء للقبور؛ ولذلك قال شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر حافظ المغرب في زمنه, وهو كحافظ المشرق في زمانه الخطيب البغدادي , وقد توفيا في سنة واحدة سنة ثلاث وستين وأربعمائة لهجرة نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه. يقول ابن عبد البر : نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن زيارة القبور نهي عام, وترخيصه في زيارة القبور ترخيص عام, وعلى هذا فيجوز للنساء أن يزرن القبور كما يجوز للرجال.

والحديث الثاني ثبت في الصحيحين وسنن البيهقي من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: ( مر نبينا صلى الله عليه وسلم على امرأةٍ تبكي عند قبر, فقال لها عليه صلوات الله وسلامه: يا أمة الله! اتقي الله واصبري. فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي )، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, وقد التمس لها أنس عذراً فقال: لم تعرفه؛ ما عرفت أن من يكلمها هو خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه. لذلك قالت له هذه العبارة: إليك عني -وهذا من تواضعه عليه صلوات الله وسلامه؛ لا يتميز على أصحابه بحيث يخفى عنهم أحياناً, وكان الأعرابي إذا جاء ودخل إلى مجلس النبي صلوات الله عليه وسلامه يقول: أيكم محمد؟ على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه-: ( إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي, ولم تعرفه, فقيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -أتدري من كلمك؟ ولمن قلت: إليك عني؟- فأتت النبي عليه الصلاة والسلام, فوجدت غرابة أخرى لم تجد من يمنعها من الدخول, فقالت: يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم -تعتذر لما جرى منها- لم أعرفك, فقال خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه: إنما الصبر عند الصدمة الأولى ).

والحديث -كما قال أئمتنا- نص صريح صحيحٌ في جواز زيارة النساء للقبور, وقد بوَّب على هذا الحديث سيد المسلمين وأمير المؤمنين في حديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز باباً فقال: باب زيارة القبور.

قال الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله: وتقرير النبي عليه الصلاة والسلام لهذه المرأة في زيارتها وعدم إنكاره عليها زيارتها دليل على أن زيارة القبور مشروعة للنساء كما هي مشروعة للرجال.

وقال الإمام العيني في عمدة القاري في شرح هذا الحديث: يؤخذ منه أن زيارة القبور مشروعة مطلقة للرجال وللنساء.

وكما قلت إخوتي الكرام: الدلالة ظاهرة واضحة صريحة صحيحة، والحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير عند تخريج أحاديث كتاب الجنائز قال: فائدة, ثم ذكر أن هذا الحديث كحديث أمنا عائشة الآتي يدلان على جواز زيارة النساء للقبور.

إذاً: هذا الحديث إخوتي الكرام! صريح صحيح في أن امرأة زارت القبور, والنبي عليه الصلاة والسلام أقرَّها ولم يعترض عليها, وإقراره تشريع وسنة, فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه.

وهذا الأمر وارد في حديث أمنا عائشة رضي الله عنها, وهو ثابت في المسند, وصحيح مسلم وسنن النسائي أنها قالت لنبينا عليه صلوات الله وسلامه: ( كيف أقول إذا زرت القبور؟ فقال نبينا عليه صلوات الله وسلامه قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين, يرحم الله المستقدمين والمستأخرين, وإن شاء الله بكم لاحقون ) .

فهذا سؤال من الصديقة موجه إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه إمام الصادقين، فما أنكر عليها وقال لها: إن زيارة القبور للنساء ليست مشروعة فعلام تسألين عنها؟ لا يحل لك ولأمثالك، وقد كانت أمنا عائشة رضي الله عنها التي باشرت هذا السؤال بنفسها، فسألت نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر عندما كان حياً عليه صلوات الله وسلامه, كانت تطبق ذلك بعد انتقال نبينا صلوات الله عليه وسلامه إلى جوار ربه إلى الرفيق الأعلى, فكانت تزور القبور, وإذا استشكل مستشكل ترد عليه بأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بزيارة القبور بعد أن نهى عنها.

ثبت في مستدرك الحاكم والسنن الكبرى للإمام البيهقي بسند صحيح كالشمس من رواية أبي مليكة وهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة من أئمة التابعين الطيبين, توفي سنة سبع عشرة ومائة, حديثه مخرج في الكتب الستة, وقد أدرك ثلاثين صحابياً وروى عنهم؛ ومنهم أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين.

يقول عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة : ( رأيت أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قادمة من المقابر, فقلت لها: من أين قدمت يا أم المؤمنين؟! قالت: كنت أزور قبر أخي؛ قبر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين, فقال لها عبد الله بن أبي مليكة : أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ أنتم معشر النساء نهيتنَّ عن ذلك فكيف تزرن القبور؟ فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها: يا عبد الله ! إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ثم أمر بها ), والحديث في سنن ابن ماجه مختصراً, وهو عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( ثم رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور ).

فهذه أحاديث كما ترون إخوتي الكرام! متعددة صحيحة صريحة في الدلالة بأن زيارة القبور مشروعة.