تفسير آيات الأحكام [53]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

مثل ما يعمله الكافر من خير في الدنيا

فنتكلم في هذا المجلس على قول الله عز وجل: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117] , هذه الآية فيها إشارة إلى عمل الكافر في الدنيا، وأن الله عز وجل لا يتقبله منه, وهذا محل اتفاق عند العلماء ولا خلاف عند أهل الإسلام في ذلك؛ ولأن الله عز وجل لا يتقبل إلا من مسلم, وقد بين الله عز وجل في مواضع عديدة من كتابه العظيم أن الله عز وجل يحبط عمل المشرك ولو أخلص لله عز وجل في أثناء عمله, وأن الله عز وجل لا يتقبل من العمل إلا ما كان طيباً ولو كان العامل في ذلك مسلماً.

وهذا على ما تقدم محل إجماع إذ لا ريب فيه.

ضرب الله عز وجل مثلاً في عمل الكافرين في هذه الدنيا أنه كحال الريح, الريح التي تصيب إما حرثاً أو زرعاً إذا كان فيها برودة شديدة أو كان فيها حرارة، فإنها لا تبقي من ذلك الزرع شيئاً, ولهذا الله عز وجل قد ضرب بعمل المشركين والكافرين بحال الريح التي تصيب الزرع والحرث.

وقول الله عز وجل: (( صِرٌّ )), اختلف العلماء في المراد بذلك, جاء عن عبد الله بن عباس ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير على أن المراد بذلك البرد الشديد, وقيل: البَرَدَ الذي يصاحب المطر والريح في يوم عاصف, فإنها لا تبقي ولا تذر من الزرع شيئاً.

وقيل: إن المراد بذلك النار التي تأتي إلى العمل أو تأتي إلى الزرع أو تأتي إلى رزق الإنسان ومتاعه فتهلكه ولا تبقي منه شيئاً, وهذا إشارة إلى فساد العمل بعد قيامه وإنشائه, فالكافر ينشئ العمل ثم يفسده الله عز وجل عليه بألا ينتفع منه في الآخرة, وأما بالنسبة لانتفاعه في الدنيا فالله عز وجل يعجل للكافرين طيباتهم, وهذا مما لا خلاف فيه عند العلماء.

بين الله سبحانه وتعالى أن سبب عدم قبول الله عز وجل لعمل الكافر حال كفره أن سببه الظلم, وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ [آل عمران:117], والمراد بالظلم هنا الشرك, والظلم إذا أطلق في كلام الله عز وجل فيراد به الكفر, وهذا ظاهر في مواضع عديدة، كما في قول الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82], يعني: بشرك, كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود , وكذلك في قول الله عز وجل على لسان العبد الصالح لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13], والمراد بالظلم، هو: الشرك, وذلك أن أعلى الظلم هو أن يكفر الإنسان بخالقه, والظلم في لغة العرب هو وضع الشيء في غير موضعه.

فإذا وضع الإنسان قلبه في غير موضعه ووضع جوارحه في غير موضعها فيعد ظالماً, والله سبحانه وتعالى حينما بين عدم قبول عمل الكافر في الدنيا لا يعني أنه لا ينتفع من ذلك بعاجله, وإنما الله عز وجل نفى الإثابة عليه في الآخرة, ولهذا نقول: إن العلماء يتفقون على أن الكافر إذا عمل عملاً في الدنيا وهو يشرك بهذا العمل مع الله عز وجل غيره حال ذلك العمل، أن ذلك لا ينفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة, وذلك أن المشركين في الجاهلية ربما وحدوا في بعض أعمالهم وإن كانوا على الشرك, فيعتقون العتاق ويطعمون الطعام ويكرمون الضيف, وربما قصد بعضهم ببعض العمل الله جل وعلا وما أشرك معه غيره.

فأما النوع الأول, وهو: أن يشرك المشرك حال شركه في عمله ذلك غير الله, فهذا لا يقبل منه ذلك, بل إن الله عز وجل لا يقبل من المرائي رياءه ولو كان مسلماً, فإن الكافر إذا أشرك بعمل أو بقول غير الله عز وجل حال شركه وكفره، فإن الله عز وجل لا يعجل له نفع ذلك العمل؛ لأنه ليس بطيب, فيكله الله عز وجل إلى من توجه إليه من معبوديه من صنم أو حجر أو كوكب أو جاه أو سمعة أو رياء أو غير ذلك مما يقصده الناس من عاجل الدنيا.

النوع الثاني: إذا أخلص في عمل عمله وهو مشرك, يعني: من جهة أصله مشرك ولكنه وحد في ذلك العمل, وذلك كالذي ينفق يريد به وجه الله وهو لديه ناقض من نواقض الإيمان, فعمله ذلك لا يرفع؛ لأن الكفر يتحقق بورود شعبة من شعب الكفر بخلاف الإيمان, فإن الإيمان لا يكتمل للإنسان إلا وقد تحقق أصله وتحقق جمهور فرعه.

فالكفر يتحقق بشعبة واحدة، فيكتمل الكفر أعلاه وأدناه, وهذا مما لا خلاف فيه, أما بالنسبة للعقاب يوم القيامة للكافرين, فإن الكفار في ذلك يتفاوتون من جهة العذاب, أما من جهة أحكام الدنيا فإن الكفر في ذلك واحد, وهو ملة واحدة, من ارتكب مكفراً واحداً أو ارتكب اثنين أو ثلاثة كفره في ذلك واحد, وأما بالنسبة لأهل الإسلام والإيمان، لا يكون في ذلك الإيمان واحداً حتى يتحقق أصل الإيمان وجمهور فرعه.

وهذا ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح، قال: ( الإيمان بضع وسبعون أو ستون شعبة, أعلاها: لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) , فإذا تحقق أعلاها, وهو لا إله إلا الله, وتحقق جمهور فرعها, فإنه حينئذ يكتمل الإيمان.

أحوال من تعبد لله خالصاً في بعض الأعمال وهو مشرك

وأما بالنسبة للكفر فورود شعبة واحدة يتحقق الكفر كاملاً, فمن تعبد لله عز وجل خالصاً حال شركه بعمل من الأعمال فهذا على حالين:

الحالة الأولى: أن يسلم بعد ذلك, فإذا أسلم بعد ذلك كتب الله له الأجر السابق مما أخلص ولو كان مشركاً, ويظهر هذا في حديث حكيم بن حزام كما جاء في الصحيح، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! أرأيت أعمالاً كنا نتحنث بها في الجاهلية, ألنا منها شيء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير ) , يعني: ما مضى من خير تريد به وجه الله فإن الله عز وجل يجعله لك ويتقبله منك بعد إسلامك.

الحالة الثانية: ألا يسلم الإنسان فبقي على شركه وكفره, وقد أسلف عملاً خالصاً لله, فهذا يتفق العلماء ويتفق أهل الإسلام على أنه لا ينفعه ذلك في الآخرة, وإنما يعجل له نفعه في الدنيا, وأما ما أشرك فيه حال شركه فلا ينتفع فيه في دنيا ولا أخرى.

أنواع الأعمال التي تصدر من الإنسان

ولهذا نقول: ربما دلت طبائع البشر على عمل البر من غير قصد لله؛ ولهذا نقول: إن الأعمال التي يصدرها الإنسان من أعمال البر هي على نوعين: أعمال يظهر فيها التعبد، فهي لله عز وجل عبودية ولغيره شرك.

النوع الثاني: أعمال لا يظهر فيها محض التعبد, وهذا يكون في كثير من الأعمال، إما إماطة الأذى عن الطريق, وكذلك إغاثة الملهوف ونحو ذلك, فلو أغاث أحد من الناس ملهوفاً ليريد رضا جاره أو رضا أبيه, أو أن يذكر بخير فهذا يحرم الأجر, ولكن لا يلحقه وزر, ولا يكون في ذلك العمل مشركاً؛ لأنه لم يقصد التعبد في هذا.

ولهذا يقع كثير من الناس في هذا الباب ولا يأثمون, وأما ما يقع فيه محض التعبد؛ كالصلاة من السجود أو الركوع والصيام والحج, والذبح والنذر وغير ذلك مما يفعله الإنسان ويظهر فيه التعبد, فإن صرفه لله فهو وحدانية, وإن صرفه لغير الله فهو شرك.

وأما ما كان مما دلت عليه طبائع البشر مما يحبونه مما لا يظهر فيه محض التعبد إلا بالقصد، فنقول حينئذٍ: إن هذا الفعل يوكل إلى نية الإنسان إن أخلص لله أُجر, وإن لم يخلص لله عز وجل في ذلك ولم يقصد التعبد حال بذله، فإنه حينئذ يحرم الأجر ولا يلحقه في ذلك وزر, ويكون نصيبه في الدنيا ما ناله من ذكر حسن, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـسفانة ابنة عدي بن حاتم الطائي لما ذكرت أخلاق أبيها في الجاهلية من إكرام الضيف وإقرائه وإغاثة الملهوف، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه, أطلقوها فإن أباها يحب مكارم الأخلاق ) .

فكأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما ذكر مكارم الأخلاق، قال: ( يحب مكارم الأخلاق ) موضع حمد ولو كان كافراً, لكن لو كان ذلك صلاة ليصلي للصنم أو ينذر له أو يذبح له من دون الله سبحانه وتعالى, هل حمد النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، فقال: يحب السجود والركوع لا؛ لأن هذا يظهر فيه محض التعبد, أما بالنسبة لمكارم الأخلاق, إغاثة الملهوف, إكرام الضيف, الإحسان إليه، وغير ذلك من الأخلاق، فهذه إن أحسن فيها وأخلص أجر, وإن لم يحسن في نيته وأراد بذلك الناس فإنه على ما تقدم يحرم الأجر, ولا يلحقه في ذلك وزر.

ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى جعل أعمال الكافرين في الدنيا هباء منثوراً في الآخرة, وأما على ما تقدم ما أخلص فيه لله عز وجل في الدنيا، فإن الله عز وجل يعجل له في الدنيا نعيمه بالرزق وغير ذلك.

والله عز وجل يرزق عباده مؤمنهم وكافرهم؛ لأن هذا مقتضى الربوبية, وأصل الرزق من مقتضيات الربوبية لأن الله عز وجل يرزق البهائم ويرزق الكافر ويرزق المؤمن؛ لأنه هو الذي خلقهم وأوجدهم وتكفل برزقهم.

أما بالنسبة لنعيم الآخرة, فإنه من مقتضيات الألوهية فلا ينعم إلا المسلم والمؤمن، ولا ينعم الكافر.

وسبب الجهل في هذا عند كثير من العامة دعاهم إلى الإلحاد, فترى بعض الناس يقول: إن الله عز وجل يرزق الكافر في الدنيا ويحرم المؤمن.

نقول: إن الله عز وجل تكفل برزق خلقه, وهذا من مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى, فيرزق الطير ويرزق الحشرة, ويرزق بهائم الأنعام, ويرزق الأسماك والبهائم وخشاش الأرض في الأرض، يرزقها الله عز وجل وقد تكفل بها؛ لأنه هو الذي خلقها, ولهذا الله عز وجل سمى نفسه بخير الرازقين, لأنه يرزق الكافر ولو كفر, هذا من جهة الرزق، مع أن لله عز وجل رزقاً خاصاً لأهل الإيمان, ولهذا نقول: إن الرزق والمنع من الله سبحانه وتعالى على نوعين:

رزق ومنع عام, وهذا من مقتضيات الربوبية.

ورزق ومنع خاص, وهذا من مقتضيات الألوهية.

فالله عز وجل يرزق بعض عباده الذين يتعبدون له بسبب إيمانهم, وهذا كما يرزق الله عز وجل الناس بسبب استغفارهم, وينزل عليهم الغيث, ويرزقهم البنين وغير ذلك مما يعجل الله عز وجل لأهل الإيمان من النعيم في الدنيا.

ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى جعل رزق عباده في الدنيا من مقتضيات ربوبيته, هذا من جهة الأصل, وبهذا نعلم أن التباين الذي يكون في الخلق من جهة الصحة والمرض, والفرح والحزن، والفقر والغنى، والأمن والخوف، وغير ذلك أن هذا من جهة الأصل مما يجعله الله سبحانه وتعالى في أصل خلقه, سواء كان ذلك في المسلمين أو كان ذلك في الكافرين. ولهذا كانت ربوبية الله عز وجل لإقامة انتظام الحياة بالعدل, ولهذا قد تستقيم حياة الكافر وهو كافر, يستقيم عيشه وهو كافر؛ لأنه أقام العدل في الدنيا ولو كان كافراً, أما بالنسبة للإسلام فإن الإسلام يقيم الحياة والآخرة, والعدل بلا إسلام يقيم الدنيا ولكنه لا يقيم الآخرة, فبمقدار انحراف الإنسان المسلم في دنياه يكون حينئذٍ نقصه في استقامة الدنيا, فإذا أقام الإسلام كما أمر الله عز وجل فإن الله عز وجل يقيم له الدنيا؛ لأن الإسلام جاء بعدل الدنيا فيما يكون بين الناس, وبالعدل في حق الله عز وجل، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة.

ولهذا يستجيب الله للكافر دعاءه إذا كان مظلوماً ولو على المسلم, كما جاء في حديث أنس في المسند وغيره قال: ( اتق دعوة المظلوم ولو كان كافراً )؛ لأن مقتضى العدل يكون بين الناس لتعلقه بالربوبية, فالله خلقهم ليقيم العدل بينهم سبحانه وتعالى, ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة، قال عليه الصلاة والسلام: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها, وليقتصن الله للشاة القرناء من الشاة الجماء ) .

وقد جاء في الأثر: لو أن جبلاً بغى على جبل أو اعتدى على جبل لدك الله الباغي منهما, فمقتضى العدل ومقتضى ربوبية الله أن يجيب الله دعاء الكافر المظلوم على الظالم ولو كان مسلماً, وهذا مقتضى عدل الله عز وجل, بل يجري حتى في البهائم.

كيفية التخلص من المظالم في الآخرة

وهنا من المسائل المتعلقة في هذا في مسألة الإثابة في الآخرة, الله جل وعلا يجعل الحقوق بين العباد مما يكون بينهم من مظالم ونحو ذلك, إذا لم يكن في ذلك قصاص في الدنيا، فإنه لا بد من الوفاء في الآخرة.

المسلمون إذا تظالموا فيما بينهم ولم يقتصوا الحقوق التي تكون بينهم في الدنيا، فإن الله عز وجل يأخذ من حسنات هذا إلى حسنات هذا, وإن لم يكن لديه حسنات أخذ من سيئاتهم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار, وهذا جاء فيه أحاديث كثيرة كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح قال: ( من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم ), وكذلك في حديث عبد الله بن أنيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، فيناديهم الله عز وجل بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب, فيقول: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه, ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعليه لأحد من النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة. قالوا: كيف وإنا نأتي الله عز وجل حفاة عراة؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: بالحسنات والسيئات ) .

وكذلك ما جاء في الصحيح في حديث المفلس لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( يأتي بأعمال كالجبال, ثم يأتي وقد ضرب هذا ولطم هذا وسفك دم هذا, فيأخذ هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن لم يكن لديه حسنات أخذ من سيئاتهم، فطرحت عليه ثم طرح في النار ) .

هذا في أهل الإسلام, لكن إذا كان بين مسلم وكافر حقوق في الدنيا ولم يكن ثمة قصاص في الدنيا، فكيف تكون الحقوق في الآخرة؟

في ظاهر الحديث في حديث مسلم في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن لم يكن لديه حسنات أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) .

نقول: إن الله سبحانه وتعالى يأخذ من حسنات المؤمن وينزلها في كفة المؤمن الآخر إذا كانت الحقوق بين المسلمين, وإذا كانت بين مسلم وكافر فالله عز وجل عدل, نقول: إذا لم يعط الله عز وجل الكافر حقه في الدنيا من جهة تعجيل عقوبة بالمؤمن، إما بإقامة الحد عليه أو بعقوبة ينزلها الله عز وجل إجابة لدعاء الكافر على المؤمن، فإن الله سبحانه وتعالى يأخذ من حسنات المؤمن. وهل توضع في كفة حسنات الكافر؟

نقول: لا, لأن الله سبحانه وتعالى جعل حسنات المؤمن التي تكون لديه في الآخرة هي من ثمار عمله الصالح, فعمله الصالح لا يصح استقلالاً من الكافر أصلاً, فليس له عمل في الدنيا أو عمله الذي كان في الدنيا وباشره بنفسه ولو كان مخلصاً لله حال عمله ما دام مات على الكفر, فإنه لا ينفعه في الآخرة, فكيف يؤخذ من ثمار غيره وهو لم ينفعه عمله من جهة الأصل, فكيف يكون ذلك؟

نقول: إن عدل الله عز وجل ماضٍ في هذا, ويكون عدله في ذلك على حالين:

إما أن يؤخذ من سيئات ذلك الكافر من غير كفره، باعتبار أن المؤمن لديه ضده, وهو الإيمان, فيؤخذ من سيئاته ومن معاصيه ونحو ذلك، فتكون حينئذٍ على المسلم، فتنزل حينئذٍ منزلته في الجنة.

وأما إذا كان ليس لديه سيئة إلا الكفر أو على قول من قال: إنهم لا يخاطبون بفروع الشريعة؛ حينئذٍ لا يؤثمون على قول من قال بهذا القول.

وهل يتصور أن الإنسان يكون لديه الكفر ولا يكون لديه ذنب آخر؟

نقول: يتصور على من قال بأنهم لا يخاطبون بالفروع ويتصور فيمن لم يرد إليه البلاغ في الفروع وورد إليه البلاغ في الأصل وهو التوحيد, حينئذٍ يخاطب فيما بلغه الوحي أو الدليل والحجة، وما عدا ذلك فإن الله عز وجل لا يعذب أحداً حتى يبعث رسولاً إليه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] , والعذاب المراد به هو الذي يكون في الآخرة.

أما الحالة الثانية: فيؤخذ من حسنات المؤمن وتطرح عنه لا إلى الكافر، فتكون حينئذٍ مما يجعله الله عز وجل هباء منثوراً؛ لأن من الحسنات من يقدمها الإنسان فتذهب بفعله بنفسه لا أن توضع في غيره, فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً؛ وذلك كحال الإنسان الذي يعمل حسنات كالجبال, فإذا خلا بمحارم الله انتهكها, فيجعلها الله عز وجل له هباءً منثوراً.

ولهذا نقول: إن عدل الله عز وجل ماضٍ في القصاص الذي يكون بعمل الإنسان في الدنيا والآخرة.

مواضع القصاص بين الخلق في الآخرة

ومواضع القصاص بين الخلق في موضعين: موضع قبل الصراط, وموضع بعده.

الموضع الذي يكون قبل الصراط هو لمن أوجب الله عز وجل له النار ابتداءً, فالله عز وجل يحرم على صاحب الجنة أن يدخل الجنة وعليه لأحد من النار حق؛ لأنه لو أخذت من حسناته فربما زادت في حسناته داخل النار وأنقصت من سيئاته فاستوجب دخول الجنة والخروج من النار. فالله عز وجل يقتص الحقوق التي تكون قبل ذلك.

وأما من أوجب الله عز وجل عليه دخول النار من أهل الإيمان, وذلك من أصحاب الكبائر ممن لم يغفر الله عز وجل لهم, فالذي يكون بعد الصراط هو على قنطرة بين الجنة والنار، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( يخرج المؤمنون من النار، فيوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتصون حقوقاً كانت بينهم ), فمن هؤلاء الذين يقتصون حقوقاً كانت بينهم؟

هؤلاء الذين استوجبوا النار بذنوب من حق الله عز وجل لا من حقوق الآدميين, ثم يخرجهم الله عز وجل من النار فيقتصون حقوقاً كانت بينهم لترفع هذا منزلة في الجنة وتضع ذلك منزلة فيها.

ولهذا نقول: إن مواضع الحقوق هي في الآخرة في موضعين:

موضع قبل الصراط, وموضع بعد الصراط, الموضع الذي يكون قبل الصراط لمن دخل النار خالداً فيها أو لمن كان لديه حق ولو كان مؤمناً بينه وبين مؤمن لم يوجب الله عز وجل له دخول النار, فيدخل الجنة من غير ولوج للنار, فيقتص الله عز وجل الحق الذي يكون بينهم, وأما من كان في النار مما أوجبه الله عز وجل له من أهل الإيمان, فإذا خرجوا منها اقتصوا الحقوق التي كانت بينهم؛ لتكون في ذلك رفعة لهم في الجنة, فترفع واحداً وتضع الآخر.

أعمال المسلم قبل ردته إذا تاب

وهنا مسألة من مسائل العمل الذي يكون من الكافر مما يخلص الله عز وجل به في الدنيا, وذلك أن المسلم قد يتعبد لله عز وجل في الدنيا بعمل صالح ثم يرتد, ثم يتوب, هل يكتب له ما سلف من عمله أم لا؟ وما تقرب لله عز وجل به مما يجب على الإنسان كالحج, إذا حج الإنسان وهو مسلم ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام, هل يجب عليه أن يأتي بحجة الإسلام, أم تكتب له ما سلف من ماضيه؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين, وقد تقدم معنا الكلام في سورة البقرة في قول الله عز وجل: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [البقرة:217] , فقيد الله عز وجل ذلك بالكفر, فبالموت على الكفر يحبط الله عز وجل عمله, وأما من ارتد ولم يمت وهو كافر فالله عز وجل يتقبل له عمله السابق, ويعيده إليه, وهذا هو الأرجح, لأمور:

منها: أن الله عز وجل قيد ذلك بالموت على الكفر, فقال: (( فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ )), يعني: إذا لم يمت وهو كافر كتب الله له ما سلف من ماضيه.

الأمر الثاني: أن الله عز وجل يتقبل للكافر عمله الذي عمله حال كفره مخلصاً لله إذا دخل الإسلام, كحال حكيم بن حزام , فقد فعل طاعات لله عز وجل مخلصاً حال كفره, فلما أسلم كتبها الله عز وجل له، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) , فكيف بمن يعمل عملاً خالصاً لله وهو مسلم, ثم أشرك ثم رجع إلى الإسلام, أولى بالقبول وأقرب إلى رحمة الله سبحانه وتعالى ممن كان كافراً فتقرب لله سبحانه وتعالى بالطاعة وهو مشرك, ورحمة الله عز وجل أقرب إلى أهل الإيمان من غيرهم. ويُرجع إلى سورة البقرة, فقد تكلمنا عليها هناك بالتفصيل.

فنتكلم في هذا المجلس على قول الله عز وجل: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117] , هذه الآية فيها إشارة إلى عمل الكافر في الدنيا، وأن الله عز وجل لا يتقبله منه, وهذا محل اتفاق عند العلماء ولا خلاف عند أهل الإسلام في ذلك؛ ولأن الله عز وجل لا يتقبل إلا من مسلم, وقد بين الله عز وجل في مواضع عديدة من كتابه العظيم أن الله عز وجل يحبط عمل المشرك ولو أخلص لله عز وجل في أثناء عمله, وأن الله عز وجل لا يتقبل من العمل إلا ما كان طيباً ولو كان العامل في ذلك مسلماً.

وهذا على ما تقدم محل إجماع إذ لا ريب فيه.

ضرب الله عز وجل مثلاً في عمل الكافرين في هذه الدنيا أنه كحال الريح, الريح التي تصيب إما حرثاً أو زرعاً إذا كان فيها برودة شديدة أو كان فيها حرارة، فإنها لا تبقي من ذلك الزرع شيئاً, ولهذا الله عز وجل قد ضرب بعمل المشركين والكافرين بحال الريح التي تصيب الزرع والحرث.

وقول الله عز وجل: (( صِرٌّ )), اختلف العلماء في المراد بذلك, جاء عن عبد الله بن عباس ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير على أن المراد بذلك البرد الشديد, وقيل: البَرَدَ الذي يصاحب المطر والريح في يوم عاصف, فإنها لا تبقي ولا تذر من الزرع شيئاً.

وقيل: إن المراد بذلك النار التي تأتي إلى العمل أو تأتي إلى الزرع أو تأتي إلى رزق الإنسان ومتاعه فتهلكه ولا تبقي منه شيئاً, وهذا إشارة إلى فساد العمل بعد قيامه وإنشائه, فالكافر ينشئ العمل ثم يفسده الله عز وجل عليه بألا ينتفع منه في الآخرة, وأما بالنسبة لانتفاعه في الدنيا فالله عز وجل يعجل للكافرين طيباتهم, وهذا مما لا خلاف فيه عند العلماء.

بين الله سبحانه وتعالى أن سبب عدم قبول الله عز وجل لعمل الكافر حال كفره أن سببه الظلم, وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ [آل عمران:117], والمراد بالظلم هنا الشرك, والظلم إذا أطلق في كلام الله عز وجل فيراد به الكفر, وهذا ظاهر في مواضع عديدة، كما في قول الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82], يعني: بشرك, كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود , وكذلك في قول الله عز وجل على لسان العبد الصالح لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13], والمراد بالظلم، هو: الشرك, وذلك أن أعلى الظلم هو أن يكفر الإنسان بخالقه, والظلم في لغة العرب هو وضع الشيء في غير موضعه.

فإذا وضع الإنسان قلبه في غير موضعه ووضع جوارحه في غير موضعها فيعد ظالماً, والله سبحانه وتعالى حينما بين عدم قبول عمل الكافر في الدنيا لا يعني أنه لا ينتفع من ذلك بعاجله, وإنما الله عز وجل نفى الإثابة عليه في الآخرة, ولهذا نقول: إن العلماء يتفقون على أن الكافر إذا عمل عملاً في الدنيا وهو يشرك بهذا العمل مع الله عز وجل غيره حال ذلك العمل، أن ذلك لا ينفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة, وذلك أن المشركين في الجاهلية ربما وحدوا في بعض أعمالهم وإن كانوا على الشرك, فيعتقون العتاق ويطعمون الطعام ويكرمون الضيف, وربما قصد بعضهم ببعض العمل الله جل وعلا وما أشرك معه غيره.

فأما النوع الأول, وهو: أن يشرك المشرك حال شركه في عمله ذلك غير الله, فهذا لا يقبل منه ذلك, بل إن الله عز وجل لا يقبل من المرائي رياءه ولو كان مسلماً, فإن الكافر إذا أشرك بعمل أو بقول غير الله عز وجل حال شركه وكفره، فإن الله عز وجل لا يعجل له نفع ذلك العمل؛ لأنه ليس بطيب, فيكله الله عز وجل إلى من توجه إليه من معبوديه من صنم أو حجر أو كوكب أو جاه أو سمعة أو رياء أو غير ذلك مما يقصده الناس من عاجل الدنيا.

النوع الثاني: إذا أخلص في عمل عمله وهو مشرك, يعني: من جهة أصله مشرك ولكنه وحد في ذلك العمل, وذلك كالذي ينفق يريد به وجه الله وهو لديه ناقض من نواقض الإيمان, فعمله ذلك لا يرفع؛ لأن الكفر يتحقق بورود شعبة من شعب الكفر بخلاف الإيمان, فإن الإيمان لا يكتمل للإنسان إلا وقد تحقق أصله وتحقق جمهور فرعه.

فالكفر يتحقق بشعبة واحدة، فيكتمل الكفر أعلاه وأدناه, وهذا مما لا خلاف فيه, أما بالنسبة للعقاب يوم القيامة للكافرين, فإن الكفار في ذلك يتفاوتون من جهة العذاب, أما من جهة أحكام الدنيا فإن الكفر في ذلك واحد, وهو ملة واحدة, من ارتكب مكفراً واحداً أو ارتكب اثنين أو ثلاثة كفره في ذلك واحد, وأما بالنسبة لأهل الإسلام والإيمان، لا يكون في ذلك الإيمان واحداً حتى يتحقق أصل الإيمان وجمهور فرعه.

وهذا ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح، قال: ( الإيمان بضع وسبعون أو ستون شعبة, أعلاها: لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) , فإذا تحقق أعلاها, وهو لا إله إلا الله, وتحقق جمهور فرعها, فإنه حينئذ يكتمل الإيمان.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آيات الأحكام [30] 2758 استماع
تفسير آيات الأحكام [48] 2719 استماع
تفسير آيات الأحكام [54] 2520 استماع
تفسير آيات الأحكام [22] 2443 استماع
تفسير آيات الأحكام [58] 2332 استماع
تفسير آيات الأحكام [25] 2313 استماع
تفسير آيات الأحكام [35] 2267 استماع
تفسير آيات الأحكام [5] 2250 استماع
تفسير آيات الأحكام [11] 2212 استماع
تفسير آيات الأحكام [55] 2172 استماع